بســم الله الرحمــن الرحيــم
الرسالــة الثانيــة
يمامتي البيضـاء،
"ومما أهاجَ الوجدَ مني والبُكا --- وميضٌ بأعلى الرقمتيْن يلوحُ "
هاأنذي كما وعدتُكِ، أهرعُ إليكِ مرةً أخرى وإلى أوراقي وقلمي، والقلبُ قد نحلَتْ أشجاره، وسقطتْ أوراقُه، والبحـرُ هدهدني بين جرحَيْه معاً لأُزْهِـر، فأزهرتُ ملحاً..أعلم أنني ربما تأخرتُ عليكِ الليلةَ قليلا ، ولكنني كنتُ أنتـظرُ رحيلَ الشمس إلى بيـت مغربها، كي أبوح لكِ دونَ أن تحرقنا غيرتُها..لقدْ توعّدَتْ بنفيي عنكِ إنْ كتبتُ لكِ مرة أخرى، ولكنني لن أتخلى عنكِ حتى وإن فارقتْني أنفاسي، هكذا كان العهـدُ قبـلَ البدء، وسيبقى..
حسنا، لقد أحكمتُ إغلاقَ ذكرياتي جيداً، ووضعتُ أقفالَ الصمت ببواباتِها المتقنـة صُنعاً وجرحاً، كي نبدأ الرحلة، سأنتظركِ كما اتفقنا بأول محطةٍ للحلم، تلك التي تقع على ضفافِ نهرِ القمر..لكنني لاأريدُ أن أعرّضَكِ لغضب قبيلـِك، خصوصا حين وصَلَتني هذه الرسالةُ هذا الصباح من أرض اليمام، وجدتها على مكتبي ومعها وردة، وقد جاء فيهـا:
"بسم الله الرحمـن الرحيم
توأَمَ أحلامنا،
علمنا أن اليمامةَ البيضاء التي عاشتْ معكِ منذ نعومةِ جرحك، فصرتُما روحاً واحدةً ستصحبُكِ إلى قبيلتنا حين ينتصفُ حلمُ القمــر، ولكننا لانخفيكِ سراّ بأننا نخشى ما سيترتّبُ على قدومكِ من أخطــار..لقد سمعنا كثيرا عن عالمكم، سمعنا عن الحروب الكثيرة التي حصدتْ أرواحا وأوطانا، وعصفتْ بأبريـاء لم يرتكبـوا ذنبـا ولاجريـرة، سمعنا بظلم الإنسان لأخيه الإنسان، عن خيانة الصديق لصديقه، والإلفِ لأليفِه، عن خيانـة رسالةِ الإنسانية والقيم النبيـلة، سمعنا عن اغتيال أحلام الشباب نهـاراً، وعن سقوطِ القلوبِ قهـراً، سمعنا عن مملكـة الورد التي تحطّمتْ حصونها وقلاعُها، حسداً من عند أنفسهم.. سمعنا عن الزيف الذي تسلّل إلى مسامّ تعاملاتكم فيما بين بعضكم البعـض، سمعنا وشهِدنا أيضاً، والقائمــةُ طويلــة..ونحنُ جعلنا السلام لنا وطناً ولغةً وهديلاً، وقد زرعناه بأحداقنـا قبلَ حدائقنـا فأثمرَ وأينع، وصار لنا شجرةً نستظلّ بظلّها، ونسكنُ جذورَها، ونحرسُ عشّاقَها، وندّخِرُ فاكهتَها لفصولِ الشتاء..انظري عبر تاريخنا الطويل، هل سمعتِ يوماً أننا شدوْنَا لغيرالسلام والمحبة؟؟ هل سمعتِ يوماً أننا ظلمنا أحدا؟؟ أو ضرّجنا أحلامَ محبّينا بالنزف والألم؟؟؟
تظنّينَ أنكِ في مأمنٍ من هجمةٍ محتملة ومفاجئة، لجرحٍ أعشى أو لـحزنٍ أتلع أو لليلٍ قاسٍ لايرحم؟؟ أو أنكِ قد أمِنْتِ، بنعاس الشمس ورحيلها عن أطلال الليل، تلصُّصَ ذكرى مرّة أو شوكةٍ من أشواكِ عالمكم؟؟؟ إنكِ كما اتُّهِمتِ بالقمـر فيما قبـل ومازلتِ، فأنتِ متهمـةٌ بنـا أيضا، وقد صرتِ الآن منَّا ولستِ منهم..ولذلكَ سينتهزون أية فرصة سانحةٍ كي يُفنـوكِ ويدمروا عالمنا الجميــل المحبَّ للسلام والأمان..وكوني متأكدةً بأنّ الزمان المـرّ سيتعلّق بأهدابكِ، أو سيختبِئُ بجيبك خفيةً، وأنتِ تستظلين بطوق يمامتكِ البيضـاء، قادمـةً إلى أرضنـا سراّ..
إننا نحبــكِ مقدارَ حبكِ لنا، ونرحب بكِ بأرضنا، ولكنّ خوفَنا على رسالة السلام التي اضطلعْنا بها خدمةً للبشرية جمعاء، وعلى قيمنا التي تخفق بصدورنا، وقد نقشناها على النبض والوريــد، لنعيد بها للورد عطـرَه، ولليتيم بسمتَه، وللأرملةِ ملامحَها، وللوطنِ هديلَـه، وللحلم حلمَه، خوفنا هذا هو الذي كتب لكِ هذا الخطـاب..لكِ أن تنظري في الأمـر، وسننتظـر قـراركِ..
التوقيــع: "فإنْ كنتُ قد أزمعتُ عنكِ ركائبي --- فشوقي وودي ليس فيه رحيــلُ" "
انتهى نص الخطاب..
يمامتي البيضاء، هذا نصُّ الرسالـة كاملاً، حزنتُ كثيراً لأن عالمي لايشبه عالمكم، كم كنتُ أتمنى أن يكون الحال على غير ماهو عليه، ولكن قدّر الله وماشاء فعـل، ولكنني ما أحببتُ أن ترشفوا كؤوس اليأس، ولا أن تهجروا مرافئَ الحلم بغــدٍ أبيضَ وأخضرَ وأجمــل..صدقيني، بالرغم من كل مايضرّجُ عالمي، إلاّ أن الشمسَ الحانية ستنثرُ نورها الدافئ الحنون، وستضمّدُ كلَّ القلوب والأوطان والقيم المعذّبة، لتحرسها من سارقي الأحلام..
حسنا سأترككِ الآن، لأن النجمة الأولى أخبرَتني بأن الشمس تستعدّ للنهوض من قسوتها، وقد أحسّت بشوق حروفي للسفر إلى أرضك..سأعـودُ إليكِ، لأُعلِمَكِ بقراري وبردّي، سأعـود إليـكِ، في موعدنا نفسه، حين تقتربُ الشمسُ بحقائبها من مينـاء الغروب، لأكتبَ لكِ خطابـاً آخــرَ ..فانتظريني...