تابع ( 7 )
ثانيًا : التحليل الأدبي
أ ـ تمهيد
نوع النص :
القصيدة من الشعر الغنائي الذي يقوم على التعبير عن الحالات الوجدانية من عواطف وانفعالات ؛ فهي تعبِّر عن عواطف الشاعر وانفعالاته حين وجد نفسه فجأة قد بلغ الأربعين من عمره ، وغزا رأسه الشيب ، ووجد أنه لاهٍ عما ينتظره وينتظر البشر جميعاً ، ووجد أن الدنيا لا فائدة من الركون إليها ، فأخذته رعدة وخوف من أن يلقى الله وهو عليه غضبان فلام نفسه وأنبها على تقصيرها ، وقرر أن يتوب إلى الله توبةً نصوحاً ، وأن يعود إليه سبحانه عوداً حميداً .
من جهة أخرى فإن القصيدة من الشعر الديني ، فهي تتحدث عن التوبة إلى الله والعودة إليه ، وعن ذم الدنيا ووجوب تفضيل الآخرة عليها ، كما أنها تدعو للتمسك بالحكمة الإلهية متمثلةً في القرآن الكريم ، والاستعداد للموت وانتهاء الأجل .
من جهة ثالثة فإن القصيدة من شعر الزهد ؛ فهي تذم الدنيا وتدعو للزهد فيها وعدم الركون إليها ، وتبين سوء مآل من يلهثون وراءها ، ويستحبونها على الآخرة .
صاحب النص :
القصيدة للشاعر الدكتور جمال مرسي ، من جمهورية مصر العربية ، بكالوريوس العلوم الطبية البيطرية ، شاعر من الطبقة الأولى ، له ديوان مطبوع بعنوان "غربة" ، وآخر تحت الطبع بعنوان "أصداف البحر ولآلئ الروح". يكتب المقالة والقصة القصيرة وله منشورات عديدة في الصحف والمجلات العربية .
من قصائده : الشاعر جمال مرسي يرثي نفسه ـ عاشت رفح ـ ماذا ستفعل لو غدوتَ وزيرا ـ أبهى قصائد شعري ـ ما كنت محض قصيدة ـ لنا وحدنا قد تغني الطيور ـ الروح ـ من وحي الحج ـ الديك المغرور ـ اللقاء على خارطة الجراح ـ الشيخ يرثي الشيخ ـ القفاز ـ كيف الهروب ـ رمضان هلَّ ـ أتى رمضان يسعى .
العصر والبيئة التي ظهر فيها النص :
نظم الشاعر جمال مرسي قصيدته هذه في خريف عام 2005 م ، أي أنها من الشعر المعاصر . وقد نُظمت في جمهورية مصر العربية ، حيث يميل معظم أفراد الشعب المصري بفطرتهم السليمة إلى التدين ، وإلى خشية الله والخوف من عذابه . كيف لا وفيهم الأزهر الشريف منارة العلم في العالم الإسلامي ، ولديهم العلماء الأجلاء الذين يجوبون أنحاء المعمورة لينشروا العلم الشرعي ومبادئ الدين الحنيف .
مناسبة النص :
قدّم الشاعر جمال مرسي لقصيدته بكلمة يوضح فيها مناسبة القصيدة والداعي إلى نظمها فقال :
" هذه الزهدية كنت قد كتبتها و أنا على أعتاب الأربعين ، فيا تُرى ماذا سأكتب وأنا على مشارف الخمسين
... الله أعلم " .
ب ـ تحليل المضمون تحليلاً أدبياً
الموضوع وأهميته :
تعالج القصيدة قضية في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم ، ألا وهي قضية التوبة ، فقد اهتم بها الإسلام أيما اهتمام . قال تعالى : " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " ، وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نَصوحاً " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مائة مرة " . وما دام المسلم لا يسلم من الخطأ ، فلا بد له من التوبة إلى الله والعودة إليه ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون " .
الأفكار وترابطها :
جاءت أفكار القصيدة مترابطة متآلفة ، في وحدة شعورية واحدة ، تنتقل بك وأنت تطالعها من فكرة إلى أخرى في تسلسل طبيعي رائع .
تبدأ القصيدة بمناداة النفس والطلب منها أن تعود إلى الله وتتوب إليه قبل أن تأتي ساعة النهاية (ب1) ، فقد رأى شاعرنا تلك النفس غارقة في ظلمة الجهالة والمعصية ؛ فتعجب من ذلك واعتبر أن نفسه تريد أن تورده المهالك (ب2) ، ثم إنه قد غزاه الشيب وحلت الشيخوخة محل الشباب ودنت ساعة النهاية فلا بد من التوبة والعودة إلى الله (ب3 ، 4 ، 5) ، هذا بالإضافة إلى أن هذه الدنيا لا أمان لها ، فهي تفتك بمحبيها قبل مبغضيها ( ب 6 ، 7 ، 8 ، 9 ) ، ولا تحقق أمل من يأمل فيها خيراً ( ب10 ، 11 ) . تذكر شاعرنا كل ذلك ، ولكنه وجد نفسه لم تطاوعه ، وتستغرب أن يغير مجرى حياته فيتوب بعد كل تلك الذنوب والمعاصي ، فطلب منها أن لا تستغرب (ب11) وأصبح في شك من أن نفسه هي أيضاً ممن يسفهون أحلامه ويتهمونه بالطيش والجهل (ب13) ،أولئك النفر الذين تشدقوا قائلين بأنه يائس متشائم ( ب14) وأنه لما كبر سنه وزهد في الدنيا ادعى الفضيلة وانقطع عن هذه الدنيا (ب15) ، وقالوا بأنه حبس نفسه في سجن وهمي ، وأنه زجر نفسه عندما عاتبته على أفعاله (ب 16) . ولكن الشاعر ينفي عن نفسه كل هذه التهم ويقول بأنه ذو عقل راجح وتفكير سديد (ب17) ، ويعلل ذلك بأن الله أعطاه حكمة وعلماً أنارا عقله وقلبه فأصبحا كالبدر الساطع الذي يسبي العقول بنوره وجماله وجلاله (ب18 ، 19 ) . ثم يترك الشاعر نفسه التي كان يخاطبها ، ويلتفت إلينا قائلاً بأنه قد عرف حقيقة هذه الدنيا عندما مرت كل تلك الأفكار أمام ناظريه كالشريط السينمائي (ب20) ، فوجد في هذه الدنيا يأكل القوي الضعيف (ب21) وكل شخص فيها يتربص بالآخرين الدوائر (ب22) ، ووجد الكثيرين يلهثون وراء هذه الدنيا فلم يتبع سبيلهم (ب23) ، فقد وجد أن العمر ينتهي في لحظة قصيرة قد تحين في أي وقت (ب24) ، ووجد أن الموت قادم لا محالة (ب25) ، فلم يجد بداً من التوبة إلى الله والعودة إليه (ب26) ، ويا لفرحته عندما وجد ربه يقبل توبته ويغفر زلته ( ي27) ، ولام نفسه وأنبها ووبخها أنه لم تبادر إلى هذه التوبة منذ زمن بعيد .
عمق المعاني :
اتسمت كثير من المعاني في القصيدة بالعمق وعدم السطحية ، كتصويره للدنيا بالطائر الجارح الذي ينقضُّ على فريسته بسرعة فائقة فلا تفلت منه أبداً ، دليلاً على أن الدنيا لا أمان لها وأن مصائبها تأتي بسرعة ولا يفلت منها إنسان ، وكل ذلك أدعى إلى عدم التمسك بها وتفضيلها على الآخرة .
ومن ذلك أيضاً تصويره لمحبي الدنيا بأشخاص يركضون وراء هذه الدنيا ، ولكنهم لم يستطيعوا الظفر بها حتى صاروا يلهثون من شدة التعب ، وهذا يدعو إلى عدم إعطاء الدنيا كل وقتنا وجهدنا على حساب الآخرة
وأنك يا ابن آدم لا تحصل من الدنيا إلا ما قسمه الله لك .
ومن ذلك أيضاً تصويره لنفسه الأمّارة بالسوء وهي ترفض التوبة والعودة إلى الله بإنسان يسير في ظلام دامس فلا يبصر طريقه ولا يهتدي بهدى ، وتصويره للمشقة والعذاب بشراب تستعذبه تلك النفس الأمارة بالسوء ، فتشرب منه وهي في تخبُّطها في ذلك الظلام الدامس . كل ذلك فيه تنفير شديد من عدم التوبة والبقاء في الغي والضلالة ، وتحفيز شديد للتوبة إلى الله والعودة إليه .
سمو المعاني :
دعت القصيدة إلى الكثير من المعاني السامية النبيلة مثل :
1- المسارعة في التوبة إلى الله والعودة إليه .
2- تذكُّر اليوم الآخر والاستعداد له بالأعمال الصالحة .
3- عدم الركون إلى الدنيا والاغترار بزخارفها ومباهجها .
4- أخذ العبرة والعظة مما يحصل مع الآخرين .
5- القناعة والرضا بما قسمه الله لنا من رزق في هذه الدنيا .
6- طلب الهدى من كتاب الله وسنة رسوله وما ورد فيهما من خير وحكمة .
7- شكر الله على مغفرته لذنوبنا وستره لعيوبنا .
شمولية المعاني :