أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: تضاريس الفقد.. وتشكيل جذور الانتماء

  1. #1
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي تضاريس الفقد.. وتشكيل جذور الانتماء

    لهواة ومحبي النقد الأدبي

    أختكم
    بنت البحر
    ----
    أ.د. صابر عبدالدايم

    أولاً: مدخل إلى تخوم التجربة (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)

    إنَّ الشاعر الدكتور حسين علي محمد يطمح دائماً إلى التجاوز، ويوغل في تتبع الجديد في عالم الفتوحات الشعرية، ونتاجه المتعدد مفعم بثراء التجربة، وبكارة الرؤية، وعزاية الصور، وهذا النتاج يظل شاهداً فنياً يؤكد أن صوت هذا الشاعر من أنقى الأصوات الشعرية في جيل السبعينيات في مصر.. والعالم العربي.. وهو الجيل الذي يمكن أن نطلق عليه "جيل المقاومة" أو "جيل الصدمة"، والشاعر حسين علي محمَّد صوت بارز في هذا الجيل الذي أدمت رؤاه، واغتالت أحلامه (نكسة 1967م)، وما زال مسلسل الاغتيالات مستمراً، ولكن سلاح المقاومة، لا يصدأ إيقاعه، ولا يخبو وهجه، ولا تنطفئ إشعاعاته.

    ويقول د. حلمي القاعود في كتابه: الورد والهالوك: "حسين علي محمد، واحد من أهم شعراء السبعينيات الذين حملوا رؤية صافية نقية، تنبع من فهم واعٍ لهوية الأمة وشخصيتها، وتحركوا من خلال تصور واثق يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي، قارئاً أو مستمعاً، شريكاً في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال".

    ويقدم الشاعر حسين علي محمد في دائرة هذه التضاريس المائجة بالتناقضات والصدمات على كل المستويات شهادته الصامدة، ورؤيته المقاومة في دواوينه المتعددة، ومنها: "شجرة الحلم، والحلم والأسوار، والرحيل على جواد النار، وحدائق الصوت، وغناء الأشياء، والنائي ينفجر بوحاً".

    وتبوح دلالات هذه الكائنات الشعرية التي قدمها الشاعر إلى الوجود الشعري المعاصر بأنفاس المقاومة.. والبحث عن تشكيل جذور الانتماء عبر ثلاثية (الحب، الحرية، الوجود). وقصيدة "تضاريس الفقد" تتصدر أولى تجارب الشاعر في تجسيد هذا الانتماء الذي يبحث عنه ويحاول تشكيله في هذه التجربة التي اتخذ لها وسيلة من وسائل الأداء الشعري وهي الرمز، من خلال العنوان الآخر الذي فسّر التجربة أو حدد إطارها الفني، وهو "خمسة مقاطع من ملحمة عنترة"، والرمز ـ كما يقول د. علي عشري زايد ـ وسيلة إيحائية من أبرز وسائل التصوير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر عبر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبير لغوية، يثري بها لغته الشعرية، ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعره وأحاسيسه وأبعاد رؤيته الشعرية".

    والقصيدة في بنائها تتكئ على توظيف أصداء نفسية عنترة وموقفه من الوجود من خلال قضيته وعالمه الخاص، الذي صارت عبلة "محوراً له". والشاعر هنا لا يجعل من عنترة ضوءاً خارج التجربة، ولكنه تقمَّص هذه الشخصية التراثية، واتحد بها، ونزع عنها ملامحها التراثية وألبسها سمات العصر سلوكاً.. ورؤية ولغة وصوراً، ولم يبق من عنترة الفارس البدوي القديم إلا الصدى الملتهب بالحب، والحلم الفارس الباحث عن الحرية والانعتاق ومعانقة الوجود الحقيقي، والقصيدة في إطار هذه المفارقة تقترب من عنصر "الحكي"، والبناء الروائي، والشاعر جسَّد هذه الدلالة الفنية حين ثبَّت بعض الإشارات الدالة أمام مدخل هذه التضاريس، وقال في إيحاء وإشارة منبئة عن هذا المعمار الفني (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة).

    ولأن شخصية عنترة وأخبارها أشبه بالكائن الأسطوري، وأكثر إثارة للخيال الشعبي، فقد آثر الشاعر أن تكون تجربته بعض مقاطع من هذه الملحمة، ولكنه أعاد الشخصية "عنترة، أو عبلة" للواقع المعاصر.. وأدخل كلاً منهما في بنائه السردي، ونزعته الروائية في تجربته الشعرية.

    وهو هنا يؤكد: أن القصيدة الحديثة ازدادت علاقتها قوة بالاتجاهات الحديثة في الرواية، وبخاصة تلك الاتجاهات التي تركز على العالم الداخلي للأبطال أكثر مما تركز على الأحداث الخارجية، كما يرى ذلك د. صلاح فضل، وبعض النقاد المحدثين في الربط بين فنون التعبير القولية، والفنون الجميلة.

    والقصيدة تبدأ مشاهدها بثلاثة مناظر واقعية تجسِّد سحر الطفولة ومصاحباتها لدورة الزمن في مراحلة المكونة له (صباحاً ـ نهاراً ـ مساءً).

    وهذا المشهد يصوِّر كل معالم الانتماء، وأشواق البحث عن الجذور، ومن المفارقات اللغوية المخادعة أنَّ الشاعر يتجول في تضاريس فقده، ولكنه يجسد نفسيته وحالته الشعرية ويدين واقعه، في محاولة لإزالة كابوس الفقد، وحين يجعل هذه التضاريس مضافة إلى الفقد، فهو يصوِّر حلماً مفزعاً يخشى تحققه، أو واقعاً صادماً لا يتوقع زواله!!

    ولنتأمل الجزء الأول من هذا المشهد:

    كانت "عبلة" في غبش الصبح تطاردني

    تتمنى لو تغلبني

    تحلم.. أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر

    كانت في الصمت الوداع..

    تسقيني سهدي

    بغناء حلو يتقطر فيه العطر

    ويتجوَّل الشاعر في هذه التضاريس مع محبوبته "عبلة" التي تجاوزت بعدها التاريخي، وتحولت إلى رمز لكل جميل فقدناه، وما زلنا نبحث عنه في سراديب الرؤى، ومدار الانكسارات، وصدمات الهزائم، هذا الرمز تتصدر بؤرته التأويلية دلالة "الوطن" وإشعاعات الحرية، وأشواق العودة إلى عصر الفروسية وشموخ القوة.

    فهل يحقق "عنترة العصري" وعوده لعبلة.. ويعود إليها، وقد قهر المستحيل وقدَّم شهادة حريته وميلاده؟.. أم سيظل غارقاً في أحاديثه المستطردة ومساوماته واستسلاماته ومحاوراته وحزن الداجن؟

    والشاعر لا يترك لهذه الإسقاطات الواهمة مجالاً تتحرك فيه أشباحها، ولكنه يلقي في قلب الريح والمواجهة بأحزان الفارس، ويعود للمقاومة، ويعلن تحديه للصحف السوداء، وأبواق العسكر، ويصرخ:

    سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر..

    وأجاهد.. وأقاتل.. حتى أُقتل دون الفجر الأخضر

    وجولة الشاعر في هذه التضاريس تقهر كابوس الفقد، حيث ينطلق الفارس من جديد.. وكأن الرواية "الملحمية" ما زالت تمور بالأحداث والصراعات.. يحكي الشاعر في أسلوب سردي:

    كنت أخب على ظهر الفرس.. ويلسعني البرد وأرمح..

    أدفق في غابات الجوز.. فترشح بالعطر وباللهفة.. تدفئني..

    عبلة لم تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً

    أو تتركني كي يصرعني يأس

    ظلت كالتفاحة تقطر عطراً.. تقطر ضوءاً وبهاء..

    ولكن لم تنته الرواية: فهذه تموجات داخل النفس ترفض الواقع المنكسر، وفي النهاية يلجأ الشاعر إلى الحوار الداخلي ليجسد كيان التجربة ويطلق هذه الصيحة التي تشبه دوي الإنذار وأجراس الخطر، فعبلة ما زالت في مهب الريح.. تحرقها أنوار الصَّهر.

    وهي.. كما يصور الشاعر ـ لن تستسلم.. ولكن

    "تغني كهديل حمام.. ينقر ذاكرتي في أول صحراء الرعب"

    وفجأة يشتعل هذا السؤال الثاقب الذي حرَّك المشاهد كلها من جديد

    "هل يخلعني في الليل القادم.. جنرالات الحرب"؟؟!!

    ثانياً: من ظاهر التشكيل الفني:

    يموج هذا النص بكثير من ظواهر التشكيل الفني.. وفي مقدمتها التشكيل اللغوي، والتشكيل بالصورة، والتشكيل الإيقاعي.

    والتشكيل اللغوي له عدة مداخل، منها: اختيار المفردة الشعرية، وخصوصية تركيب الجملة، وارتباطها بمناخ التجربة، وتجسيدها لأجواء الحس الشعبي أحياناً..

    ومنها: دلالة الأفعال الحركية وارتباطها بالزمن الذي توحي به التجربة إيحاءً نفسياً وليس خارجياً، وكأن كلّ ما يقدمه الشاعر في هذا النص من مفردات وبُنى لغوية، ما هو إلا إشارات وإيحاءات بما يموج في داخل النفس ومسارب الشعور، والمعنى كما قال النقاد القدامى "في بطن الشاعر" أي في وجدانه وضميره.. ويقول أبو تمام مؤكداً هذا المنحى "عليَّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا، ولا يبتعد المتنبي كثيراً عن هذا الأفق التأويلي حين يقول متحدياً:

    أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم

    ويقول "فاليري" نحن نفكر بالألفاظ، ويقول "عبدالقاهر" مؤكداً قيمة النسق في تجلية المعنى، ودور النظم الفني في تجلية الشعور الصادق الصحيح.

    والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب، وكان أبو العلاء يشعر بالرنين والصدى الذي ينطلق كدوائر صوتية كبيرة أو صغيرة من داخل الكلمات، وكان في الوقت نفسه يحس بمواقع الارتطام ويركز عليها وكأنها وقع عصاه، ويتحسس بها الأشياء ثم يسير.. ومن شعر أبي العلاء - كما يرى د. عبده بدوي- يتحقق ما ذهب إليه اللغويون من أن التقارب بين المعاني كثيراً ما يكون وسيلة وعلة للتقارب بين الألفاظ الدالة عليها، ولنتأمل بعض مفردات هذا المقطع وتراكيبه اللغوية، في ضوء هذا المنظور:

    "في غبش الصبح.. تطاردني" ألا يعلن هذا التعبير جمادته اللغوية "غبش الصبح".. عن طبيعة مناخ وزمان التجربة، وهو كذلك يفصح عن نية الشاعر وحيرته، وضبابية الرؤية وهو ما زال في أول الطريق؟

    والشاعر يستعذب الصراع، وتحمل المعاناة، في سبيل إنجاز ما يريد، وجملته الشعرية في صياغتها ومادتها اللغوية (تسقيني سهدي) تصور هذا الإحساس، فالسهد دائماً قرين العذاب والحرمان، ولكنه هنا يروي المحب الولهان الذي تتمنى منه محبوبته أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر بعد الفوز بذلك المحبوب الفارس والتوحد بجذور الانتماء.

    والصور المتخيلة التي يرسمها الشاعر لهذه المحبوبة في ممارساتها الطفولية لا تنفصل عن كيان التجربة ولا عن ملامح الفروسية التي تسيطر عليها، يقول: مصوراً ذلك:

    تتسلل كي تتفقد كهفي

    وحدائقها الفضية تزدان نهاراً.. بقلاع وقباب

    ومساءً: بالصور الزيتية:.. للأحصنة المنطلقة

    بين تلال وسهول.. للنهر..

    ولنتأمل: ماذا وراء هذه المفردات التي يتشكل من تناسقها وتجاورها وتنافرها أحياناً كائن التجربة الشعرية؟! وما هو شكل الإحساس الكامن وراء اختبار القلاع والقباب والأحصنة المنطلقة بين التلال والسهول، والتي لا تصهل في البيداء ولا الطلول.. ولكنها تركض صوب النهر باحثة عن الخصب.. ومصدر الحياة.

    والمشهد الأخير من هذه اللوحة ينقلنا فجأة من تضاريس الفروسية إلى تضاريس الفقد، ومن إيقاع الطفولة الحالم الواثب إلى واقعية يقاوم جهامتها الشاعر حين يصوِّر ما آل إليه أمر هذا الفارس الذي تمور مخيلته بالأحصنة المنطلقة، وبالقلاع والقباب: وها هو ذا فجأة لا يملك إلا ("منضدة تعلوها أتربة.. وعليها عشب الصبر")!

    وداره كما يحكي ("في الركن الأقصى.. من داري المنزوية.. في أطراف الغابة")!

    وإن هذا الإيغال في رسم الحدود المكانية من خلال هذه الألفاظ التي تشبه الأسوار المحكمة، يجسد المفارقة النفسية والمكانية التي تضع الشاعر.. في منطقة التوتر.. والقلق، والصراع، ولنحدِّق في هذه الأوصاف.. وموادها اللغوية التي تكشف عن رفض الشاعر لهذا الواقع الذي تتشكل من قسماته تضاريس الفقد.

    فالركن أقصى.. أي أبعد، والدار منزوية.. والانزواء بعدٌ وعزلة وغربة، والمكان غابة.. ولفظ الغابة يبوح بدلالات متعددة تتآزر كلها في إحكام الحصار حول حلم هذا الفارس الذي يحلم بالحب والحرية والوجود.. والانتماء، ولتكن المقاومة مجسدة في الصبر، وحديقته المثمرة التي تمدّ جفاف هذا الواقع بالرواء.. والأمل ـ حتى لو كان من "عشب الصبر".

    ولنتأمل من جديد كيف شكل الزمن اللغوي جذور الانتماء، وكيف أفصح عن رؤية الشاعر وعن إصراره على المجابهة ورفض التسلط الزاحف عليه من الموروث الذي يلقي عليه بشباكه ورموزه متمثلاً في الركون إلى السائد والمألوف، والحذر الداجن، وغضب الأم وتحكمها، ومحاولاتها التفريق بينه وبين معشوقته، الحقيقة والرمز، وسخرية الأب حيث الغضب يزمجر، ويواجه الابن هذا الفارس العصري.. ويقول في لهجة شعبية ساخرة:

    ماذا ـ يا فالح قالوا ـ في الصحف السوداء؟!!

    وتتجلى المقاومة في هذا الموقف المجابه الواعي

    "سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر"..

    والمشهد الأول في بنائه التكويني يتكون من أربعة جمل شعرية اتبع فيها الشاعر نظام "التدوير الشعري" وتنتهي كل جملة شعرية بقافية متوافقة مع الأخريات (القفر- العطر- النَّهر- الصبر)

    والجمل الثلاث الأولى.. تبدأ بالفعل كانت، وفعل الكينونة هنا يبوح بزمن التجربة، ويعلن عن الخاصية السردية في هذا النص، ولكن هذه الكينونة على الرغم من ماضويتها فهي ليست حركة هاربة من الواقع، وإنما في دائرتها تتحرك الأحداث عبر الأفعال التي تتشكل من مفرداتها جذور الانتماء، وديمومة الصراع، ومشروعية حلم البقاء.

    فالفعل "كانت" في الجملة الشعرية الأولى تتحرك دلالته في شعاب الزمن الآني والمستقبلي من خلال ستة أفعال مضارعة تتوالى راصدة حركة الشخصية المحورية في هذه التجربة، وهي "عبلة" على النسق السردي الآتي الذي يمكن أن يكون جملة شعرية مختزلة أو قصيدة إشارية.. على هذا النحو:

    (كانت عبلة.. تطاردني.. تتمنَّى.. تغلبني.. تحلم.. تبصر نخلاً يثمر).

    والجملة الثانية تبدأ بالفعل كانت.. ويتحرك في دائرتها فعلان مضارعان مرتبطان بالكينونة المتمسكة بجذور الانتماء.. وحقل الحرية (تسقيني بهدي.. بغناء.. يتقطر فيه العطر).

    ومن الجملة الثالثة تتوالى خمسة أفعال آنية ومستقبلية تتحرك وترصد ما يدور من محاولات الوصول إلى الآخر بغية تحقيق الحلم، فهي (تلهث.. تقرص.. تتسلل.. تتفقَّد.. تزدان).

    والجملة الشعرية الرابعة لا تبدأ بالفعل كانت، ولا تحصر داخل الزمن، وإنما يظل الحدث فيها واقعاً مجرداً من الزمن، ولأنه واقع مرفوض جاء تشكيله اللغوي في إطار الجملة الاسمية الممتدة من خلال الأوصاف المتوالية، وخلو هذه الجملة من الأفعال ما عدا الفعل ـ تعلوها ـ يوحي برفض الشاعر لإيقاع هذا الواقع الجامد، ورفضه لثباته الخارجي وسكونيته، ولذلك لا يقدمه الشاعر في سياق "الحكي" وإنما يجيء في قالب الوصف، والدلالة الوظيفية لتنكير "منضدة"، وكذلك تنكير "أتربة" تفصح عن تصادم الشاعر مع هذا الواقع.. ولكنه يصمد ويقاوم.

    وأما اللوحة الثانية.. في هذا النص، وهي كما عنون لها الشاعر "جملة معترضة" فإنها تمثل نقلة مفاجئة، ومواقفاً رافضاً لموقف الاسترخاء الذي يخيم على كل ما يحيط بالشاعر.. وعبلة جزء من تكوينات هذا الجو المحيط والمخبط، والعنوان يجسد اعتراض الشاعر حيث يقدم رؤيته في جملتين شعريتين.. تشكلهما المفارقة الساخرة..

    دوَّت في الأفق طبول الحرب

    وعبلةُ تغفو في نومتها الرعناء..

    والشاعر يستعيد من فن السرد بعض ملامحه الإيقاعية، فهو يحذف كثيراً من التفاصيل، وهو يختصر أحداثاً كثيرة في سطور قليلة، ويقوم بعمليات استبطان لدخائل شخوصه، ويغرق في وصف خواطرها النفسية، وهذه السمات هي بعض مكونات سلم الإيقاع الروائي، وهي (الحذف والاختصار والمشهد والتباطؤ والتوقف)، التي وضحها د. صلاح فضل، ويؤكد كذلك على أن المفارقة لها أهميتها في شعرية السرد، وتعادل في أهميتها وخطورتها الوظيفية نفس الدور الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيد، وذلك لاعتمادها على خاصية جوهرية تتفق مع المجاز، وهي أنها تقول شيئاً وتقصد شيئاً آخر.

    وكلما كانت المفارقة مرهفة ودقيقة كانت أبلغ وأحفل بالشعرية، فالسخرية المباشرة والتهكم الصريح لا يثيران من انتباه المتلقي وحساسيته ما تثيره روح الفكاهة الجميلة العذبة.

    والأفعال في هذه اللوحة "الاعتراضية" تتأرجح بين الماضوية والمضارعية والآنية والمستقبلية، ولكن "الماضوية" ضئيلة.. وهي تتصدر هذه اللوحة (دوَّت في الأفق طبول الحرب)..

    وفي ظل هذا الدوي تتحرك هذه الدلالات الواهمة الفارقة، ويعد ذلك رفضاً من الشاعر لهذا الإغفاء الأرعن الذي أصاب الوطن في كل قطاعاته وشرايينه حتى كانت الهزيمة والاستسلام.

    ولنتأمل مسيرة هذه الأفعال في المشهد الأول من هذه اللوحة "المعترضة":

    "عبلةُ".. تغفو.. تكشف.. تنادي.. تشرق.. تملأ.. تتلألأ.. "في صحراء سمائي السوداء"..

    وفي المشهد الثاني يقاوم الشاعر هذا الإغفاء.. حين يستعد للفعل عبر الحلم الناجز، وعبر تيار الوعي، والارتداد، مستعيراً من تقنيات الرواية بعض آلياتها السردية، ويضع "المونولوج الداخلي" بين قوسين في صيغة استفهامية مفعمة بالشجن والبوح.. محاوراً نفسه (كنت أدبِّج في الليل حداء القافلة.. وأحلم يا عبلة؟؟!)

    وبعد مشهد السماء السوداء يدخل منطقة الحلم المقاوم، فيرسم هذه الصور التعبيرية الحركية (تطارحني الحب.. تشاطرني الحلم.. وعيناها الخضراوان يضيئان دهاليز الدرب)..

    ثم يرتد إلى ذاته.. وفي حوار داخلي، ومناجاة ذاتية يطلق استفهامه الساخر!!

    ثمَّ يصور الشاعر حلمه عبر مشاهد تعبيرية تتكئ على العلاقات اللغوية الجديدة الموحية والمؤثرة، حيث تجسد الهم الجمعي، والإحساس الكلي، وهو يضع إشارات لغوية، وكائنات لفظية، تمثل شفرات تقودنا إلى بؤرة التجربة حيث تتجاوز حدود الذات الفردية وتقتحم آفاق الرؤية الجماعية السابحة في مدارات الوطن، والمقتحمة حلبات الصراع الحضاري، في محاولة فاصلة للخروج من تضاريس الفقد، والتمسك بجذور الانتماء، وعناق لإيقاع الحرية، ولنتأمَّل هذا المشهد الذي تتوالى صوره في إيقاع نفسي داخلي لا يأبه بالتقفية الشكلية مجسداً شكل الحياة في إطارها الحضاري، ودائرة وجودها المنتصر..

    "أحلم يا عبلة.. تشرق شمسك

    يرحل جيش دفاع الأعداء

    وتسطع في أفقي أقمار الشعر/ بريق العشب/ أحاديث الليل/ حنين النسوة/ أوراق الحناء/ زلازل قلبي/ أعناب اليمن/ طيور النورس/ تمر الشام،..

    تضج الذاكرة بأقدام العبرانيات، وأحلام الكنعانيات، وملح المتوسط.. يُغرق سرب فراشات.. عاشق يغني، مثل عصافير الجنَّة للحب!!

    والشفرات اللغوية في التكوين الشعري السابق تقودنا إلى اكتشاف ملامح القضية التي يواصل الشاعر البحث عن معالمها وهو يتجول في تضاريسه.. وهي تكمن في الصراع حول الوجود في عصر لا يعترف إلا بوجود الأقوى.. ومن هذه الشفرات المتناثرة في الفضاء الشعري (حسن دفاع الأعداء- زلازل القلب- أعناب اليمن ـ تمر الشام ـ أقدام العبرانيات ـ أحلام الكنعانيات ـ ملح المتوسط).

    وفي هذه التكوينات اللغوية تطلّ كثير من قضايا العصر برؤوسها.. وهي تتكاثر وتتماوج في وجدان الشاعر، وفي عقله الباطن، وهي دائرة متشابكة الأطراف، متداخلة الرؤى.
    حسبي اللهُ ونعم الوكيل

  2. #2
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    "الحوار وتشكيل الهوية"

    وفي اللوحة الثالثة يصحو الشاعر من حلمه الوجودي، ومن ضجيج الذاكرة إلى تشكيل معالم هويته، وقسمات انتمائه، وفي هذا التشكيل الشعري يبرز عنصر القالب المسرحي.. ليتجسَّد الصراع بين عنترة من جهة.. وبين الأم من جهة أخرى بصفتها صوتاً مثبطاً أو مهادناً، والشاعر هنا لا يجري وراء بريق الرمز التراثي "عنترة"، ولا يغرق في أوهام الماضي مستكيناً إلى ما كان، ولكنه يصوِّر في هذا الحديث فعله المقاوم، وانتماءه الحقيقي، وصوت "الأنا" يعلو، ويتصدر أول مشهد في هذه اللوحة، وهو من أقوى المشاهد تجسيداً للصراع.. والمقاومة..

    أنا يا عبلة من طرْح النهر..

    وقريتنا العاشقة بأطراف الدلتا تنتظرك..

    وتختلط الرومانسية بالواقعية في مزيج من التشكيل المجازي للرؤية الشعرية في هذا المشهد الواعد بالخصوبة والعطاء في ظل احتدام الصراع، ورفض القهر والاستكانة؛ ولنصغ.. ولنتأمل هذا النداء:

    يا مثمرة الوعد.. تعالي: لتفكَّ قيود صبانا.. نسكن في حضن الريح..

    فصولك تثمر باللوز وبالرمان..

    وفي وهج هذا النداء الرومانسي يرتد الشاعر مرة أخرى إلى بوح النفس مازجاً بين الذات والموضوع.. والخاص والعام في إشارات خاطفة كالبرق، ويتعانق حلم الشاعر هنا مع الحلم الأكبر للشاعر "الفيتوري".. فيقول مصوراً ذلك:

    "تستيقظ أفريقيا في أشعار الفيتوري، أسمع وقع خطاها في الأرض المبتلة والشعب.. وعبلةُ تخرج وردتها من شرنقة الحرمان.

    والصراع هنا ينتقل إلى ساحة أخرى بين الابن الفارس والأم الخائفة الحذرة.. ويمتد الصراع إلى طرف ثالث.. وهو "عبلة".. فالأم تصف عبلة بأنها:

    "غانية تعبث في ساحتنا..

    تلك الغابة ليست من قريتنا"..

    وتواجه "عبلة" هذه الاتهامات، ويحتد الصراع فتقول:

    أمك.. تبذر في الجرح الملح

    تخشى من عاصفة أخرى

    وتصرخ الأم: هذي وردة نار فابعد عنها بالحذر الداجن يا ولدي..

    ويصرخ الفارس: الابن

    وحريقٌ يصهل في أعماقي

    عيناها الخضراوان.. بحلم الفجر يموران..

    والشاعر في هذا الحوار وغيره من الأسس الفنية التي كوَّن منها تجربته مثل "العنصر التصويري" يقترب في تصويره لمشاهد القصيدة من عالم "الكاميرا"، فهو حين ينقل المشاهد ويصورها يقوم بمثل ما يقوم به المصور حين يختار الزاوية، وكمية الضوء، ودلالة ما يصوره على ما يمور في وجدانه، ومما يميز الصورة في مثل هذه اللقطات هو التقاطها في حالة الحركة، أو بعبارة أخرى، كما يقول د. عبده بدوي في رصده لهذه القضية في حالة: الفعل المضارع، المهم ألا تكون الصورة راكدة، وإنما تكون في حالة اشتعال بحيث يتوثب الشرر من حولها.

    وفي المشهد الآتي يصوِّر الشاعر وجهاً آخر للصراع، من خلال الحوار ورسم المشاهد الناطقة بكلّ ما يموج به عالم الشعر، وتعدد الأصوات، ورحيل الماضي متمثلاً في الأم، ولكنه يظلّ جاثماً على رؤاه، متحكماً في صورة "الأب"، والصورة الحركية ينطق بها هذا المقطع السردي "من أحزان الفارس"

    عبلة تنظر شوقاً من خلف زجاج يتداخل..

    وتجالس قطتها

    الغضب يزمجر في وجه أبيك وأنت تناور..!!

    ويرتد الشاعر مرة أخرى إلى الزمن النفسي، فعلى الرغم من رحيل أمه فإنَّه يقرّ في حذر وخوف في "مونولوج داخلي".. ويحاور نفسه.. امتداداً لخطابه نفسه.. في مواجهة الأب..

    "ستجيئك في الحلم.. فكيف ستنسى نظرتها"!!

    ثم بعد هذه المحاورة الذاتية التي تعكس موقفه الخارجي.. يكتب بخط أكبر بين قوسين هذا الإعلان الكاشف عن مخاوفه "تغضب أمي".

    وهنا تبرز خاصية جديدة في هذا النص: وهي القراءة البصرية "من خلال التشكيل الكتابي"، وهو ما يقودنا إلى البحث عن الأسرار الكامنة خلف توزيع الكلمات الشعرية على السطور، والتساؤل عن سرّ علامات التعجب، وعلامات التنصيص، ووضع بعض الجمل التي تنبئ عن الحوار الداخلي واسترجاع الأحداث بين قوسين.

    فجملة "تغضب أمي" كتبت بخط أسود أكبر من باقي الخطوط، ووضعت بين قوسين، وذلك التشكيل الكتابي يجسِّد حالة الشاعر.. وموقفه تجاه موقف الأم الرافض، وكأن هذا الرفض في مضمونه يظل محاصراً.. مثل نصّه الشكلي، ووضع بعض الجمل بين الأقواس قد يتجاوز هذا الرفض إلى دلالة أخرى.. مثل العبارات التي تنبع دلالتها من الامتزاج بالحس الشعبي.. ومنها عبارة الأم "يفرجها ربك".

    ومثل إحساس الشاعر بالسكونية والتوقف في كلّ ما حوله من مرائي.. ومواقف: فيقول في مناجاة يغفلها الأسى، ويضع هذه العبارة النموذجية بين قوسين "صمت يملأ أقطار الميدان، ويغتال الأحلام".

    وفي المشهد الثاني يضع إدانته لعبلة بين قوسين، وكأنها إدانة مؤقتة ومحاصرة وليست منطلقة ولا مستمدة؛ لأنَّ الشاعر يطمح إلى الخلاص من هذا الواقع المهادن المخدَّر بوهم الأمان..

    "تكشف عن ساقيها.. عن ثغر في الظلماء يضيء".

    والصور في هذه التجربة ليست صوراً تشبيهية جزئية، ولا صوراً استعارية محدودة، وإنما هي صور "تكوينية.. تركيبية" أقرب إلى "فن اللوحة"، فكل مقطع هو لوحة تصويرية تتكون من عدة مشاهد تتجمع في النهاية لتقدم رؤية فنية تآزر في إنجازها فن التعبير بالقول، وفن التعبير بالفرشاة.. وفن التعبير بالكاميرا.. وغير ذلك من وسائل وأدوات الفنون الجميلة.

    وإذا اجتمع أكثر من نوع واحد من الفنون كان تأثيره أقوى وأكثر تكاملاً، وهذا النهج يكسر الحاجز التقليدي القائم بين الفنون من رسم وتصوير ونحت وموسيقى، وتصوير بالكلمات في التجارب الشعرية.

    ويقسم "ليسنج" الفنون إلى فنون زمانية كالشعر والموسيقى، وفنون مكانية كالنحت والتصوير، لأنَّ التصوير يكوِّن صورة ثابتة، في حين يرسم الشعر سياقاً متحركاً، ولم يثبت فن التصوير والرسم على مكانيته، بل تطور فيما بعد على أثر اختراع الكاميرا السينمائية، وعرف الفن التصويري الصورة المتحركة، وأحب الشعراء منازلة فن التصوير، ورسموا الصورة الشعرية المتحركة، أو أضافوا إلى الصورة الثابتة عنصر الديناميكية، كما يقول د. نعيم حسن اليافي، في كتابه (الشعر والفنون الجميلة)، وميخائيل نعيمة يؤكد هذا المنحى في "تعانق الفنون" وتبادل عناصر التكوين والتشكيل فيما بينها.

    ومن الصور المتحركة في هذه التجربة كذلك هذا المشهد من "أحزان الفارس".. وهو يحاور نفسه.. ويستدعي الصور المتداخلة.. ويجمع أكثر من لقطة في هذا المشهد البائح.. النائح!!

    "أصبحت أخيراً يا فارسها في منتصف الدهشة..

    عند تضاريس الفقد تغني للريح الصَّرصر

    وتسدّ الباب.. كأنك لا تسمع..

    عبلة تنظر شوقاً من خلف زجاج يتداخل..

    وتجالس قطتها

    الغضبُ يزمجر في وجه أبيك.. وأنت تناور..

    والقصيدة مشحونة بصور جزئية غير مألوفة، تعتمد في مجازاتها على الإضافات، والأوصاف، وتراسل الحواس، والاستعارات والكنايات..

    ومنها هذه الصورة: "تسقين سهدي"، فهنا تجسيد للسهد هو نقله من خاصيته المعنوية النفسية إلى تصوّره كائناً محسوساً اكتسب خاصية الذوق والريّ، واكتسب لدى الشاعر دلالة تنأى عن رفضه.. وتدخل في مجال المحبة، وأفق الإرواء، والغناء لم يعد مسموعاً فقط.. ولكنه تجاوز هذه الدلالة المألوفة، وتخلَّق من جديد في لغة الشاعر وطقس تجربته إلى عطر نفاذ، وإلى نغم حلو المذاق، وهنا يمزج الشاعر بين المسموعات والمشمومات والطعوم في سطر شعري واحد مزجاً لا تحسّ فيه بتكلف الصورة، أو تعمد الإغراب في تقديم الجديد

    (تسقيني سهدي.. بغناء حلو.. يتقطَّر فيه العطر)

    وهذا المزج بين المحسوسات وراءه عاطفة ملتهبة أحالت السهد إلى سقيا، والغناء إلى عطر، ومذاق جميل، ومثل هذا النهج الفني في صياغة الصورة التعبيرية عن طريق "تراسل الحواس" هو استجابة لعناصر التكوين الطبيعي، فالطبيعة أم لكل الفنون، تتكامل فيها الحركة المرئية والحركة السمعية اللون والصوت، وكل الظواهر الأخرى، وعندما يتحد الإنسان بالطبيعة، وتتكامل فيه عناصر الحياة بثقافاتها البصرية والسمعية، وارتباطها بالتجاوب العصبي الإنساني، عندما يتم ذلك فإنَّ الإنسان يتمكَّن من الرؤية حتى وهو كفيف، ومن السمع حتى وهو أصم ـ كما كان يسمع "بتهوفن" وهو أصم، ما لا تتمكن أذن أن تسمعه أو تستشفه من جمال.

    يقول "كارلايل" إذا تأملت الشيء ونظرت إليه بعمق وتفحصته فإنك حتماً ستستمتع بموسيقيته، لأن النغم يكمن في قلب طبيعة الأشياء.

    ومن الصور المجازية التي توحي بكثير من الرؤى، وتفتح منافذ للتأويل كثيرة: قول "عبلة":

    رماحك.. في قلبي.. "تشرق في قلبي نافورة عشق"

    تملأ ليلي بنجوم تتلألأ في صحراء سمائي السوداء!!

    ووصف السماء بالسوداء في هذه الصورة يجسد لون الشعور وطبيعة الإحساس.. فالجمع هنا بين الأطراف المتباعدة هو سرّ طرافة الصورة، فنافورة العشق.. صورة عجيبة، ثم كيف تطلع من هذه النافورة نجوم تملأ الليل، وتبدو حلكته، ثم تفاجأ بالصحراء مقترنة بالسماء.. وليس الأرض، وأي صحراء هذي؟؟ وإمعاناً في غرابة الصورة يصف الشاعر السماء بأنها سوداء!!

    إنَّ طبيعة الإحساس، والشوق إلى الخروج من هذا التيه هو الذي أعطى لهذه الصورة جمالها وإيحاءها وتأويلها المتعدد.

    ومن الصور التي تتكئ على الإيحاء والموقف النفسي، وتجميع عناصر المشهد مثل اللوحة المتكاملة هذا المشهد:

    يا مثمرة الوعد تعالي.. لنفك قيود صبانا.. نسكن في حضن الريح..

    فصولك تثمر باللوز وبالرمان".

    والريح ليست مستقراً هادئاً، ولا سكناً آمناً، وإنما ترتبط في الحقيقة والخيال بالعواصف والتدمير، والتغيير، ولكن الشاعر يخالف هذا الإلف السائد ويقول: "نسكن في حضن الريح"، وتأمل دلالة السكن، ودلالة "حضن" وكأن الريح اكتسبت صفة الأمومة، أو صفة المحبوبة بكل أبعاد ملامحها، ويمكن أن ترفض هذه الصورة لو قطعناها من سياقها ومناخها اللغوي والشعوري، ولا بد أن نتأمل النداء بكل متعلقاته في هذه الجملة الشعرية المتلاحمة المكثفة والتي تمثل مراحل متعددة.. فالوعد المثمر لا يتكون إلا بعد فك قيود الصبا، والريح في دورة التكاثر تحمل بذور، وتقوم بدور فاعل في الإخصاب، والتكاثر كما قال تعالى: "وأرسلنا الرياح لواقح"، وإثمار الفصول باللوز ما هو إلا تتويج لهذه المرحلة التكوينية المتكررة.. من الخلق والإيجاد.. والعطاء ومقاومة كل عوامل الفناء والتلاشي.

    ولنتأمل هذا الوصف الشعري للحريق.. ومرسل هذا الخطاب الشعري يصارع ويدافع عن المحبوبة.. وهي "الهوية والوطن".. يقول مصوراً كيانه وواقعه الغاضب:

    "وحريق يصهل في أعماقي"..

    إنَّ هذا التعبير لا يتوافق مع القاعدة المجازية القديمة التي تقول بملاءمة المستعار منه للمستعار له، والتي تؤكد على ضرورة الإصابة في الوصف، فالحريق في ظل الصورة التراثية يلائمه الاشتعال، ولا يلائمه الصهيل، ولكن الصورة الحديثة تجاوزت هذه الحدود الثابتة، وقفزت فوق الأسوار العالية، وتغيرت أو تطورت وظيفتها، فالصورة تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التي يريد الشاعر أن يعبِّر عنها، والصور في الشعر الجديد لا تقف عند مجرَّد التشابه الحسي الملموس، وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة في تشابه الوقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين، كما يقول د. علي عشري زايد.

    وهنا في هذه الصورة لا تغني كلمة أخرى عن الفعل "يصهل" في وصف الحريق.. لأنَّ التجربة ملتحمة بأجواء الفروسية.. والصهيل أحد رموز، وملامح هذه الأجواء، وهي في تشكلها ورؤيتها "بعض مقاطع من ملحمة عنترة".. وهو القائل:

    فازورَّ من وقع القنا بلبانه وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم

    لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي

    والصهيل.. في هذه التجربة، يعطي للحريق بعداً آخر، وهو اشتعال الغضب، وتأجج لهيب الفروسية وليس الدمار.. أو التلاشي.. والخراب الذي تخلفه الحرائق

    ووصف الأم للمحبوبة "عبلة" بأنها "وردة نار" قد يرفضه الحس التقليدي الذي يتطلب التشبيه المألوف، فهي أولى في ظل الإلف اللغوي، أن تكون "قطعة نار"، ولكن نفسية المحب تأبى أن تضيع المحبوبة في هذا القالب، وحطم الشاعر الإلف السائد.. وجمع بين الضدين الورد والنار.. في مفارقة لغوية ونفسية تفسِّر موقفه، وتمسكه بقضيته، في صورة محبوبته التي تتعرض للتشويه والتشكيك في ملامحها.. فهو في نظر البعض.. تقود إلى الهلاك والضياع!!

    ووصف الصحف بأنها سوداء قد يثير القلق، لأن الصحف المرفوضة ذات التوجهات "التشكيكية" توصف بالصفراء، ولكن لو قيل هذا الوصف لانطفأ الإحساس بوهج هذا التعبير، لأن السواد في دلالته يحمل كل تراكمات الظلام.. والهزيمة واليأس والإخفاق.. والاستعباد.

    ولنتأمل هذه الأوصاف التي تنأى المباشرة والإلف في هذه الجملة الشعرية: "حتى أقتل دون الفجر الأخضر"، فالفجر يعلن عن اكتساح الليل، والخضرة تجسِّد ميلاد الحياة والنماء والتجدد؛ وفي حوار داخلي يجسِّد الشاعر قلقه حين يرى وهو في حمأة الصراع والدفاع والاستعداد للشهادة، أنَّ عبلة "ما عادت تصنع من جمر الشوق رماحاً حمراً".

    ويمكن أن نقول إنَّ الشاعر مغرم بالأوصاف ذات الدلالة اللونية، وبعضها له إيحاؤه النفسي، وبعضها يعدّ جسماً غريباً في كيان التجربة.. مثل وصفه للرماح "بأنَّها حمراء"، ولكن هذا الاعتراض لا يجد له مكاناً هنا لأنَّ الوصف مكمل لعناصر التجربة، فالشاعر يجاهد، ويقاتل، ودمه يعطر ساحة المجالدة.. ورماحه تصبغ بدماء أعدائه، وهو مثل فرس عنترة يتسربل بدماء المعتدين الغاصبين.

    ولن يترك الفارس الميدان حتى يُقتل أو ينتصر.. ولكن "عبلة" كما صوَّرتها القصيدة في أحد مشاهد هذا النص "تغفو في نومتها الرعناء"!! وهنا يفصح الشاعر عن مخاوفه فيصرح بأنها استكانت وما عادت تصنع من جمر الشوق رماحاً حمراء.

    والشوق هنا حين يضاف إلى الجمر في إسناد مجازي، فهو يتجاوز دائرة الرومانسية والعزلة والحزن الذاتي ليعانق الألم الغاضب في سبيل الحرية، وإثبات الوجود.. مثلما سجّل عنترة بطولته، وحقق حريته، وانتصر لوجوده وفروسيته، وعزته وكرامته.

    وبعض الصفات يأتي في ختام الأسطر الشعرية.. من أجل القافية.. والصفة لا تؤدي دوراً في سياق التجربة.. ومن ذلك وصف السيف بالصارم.. وقد جاء ذلك الوصف من أجل ضبط إيقاع القافية.. فهي تتوالى هكذا.. في الأسطر الشعرية (العام القادم، الصوت الحازم، السيف الصارم)، وهي أوصاف مألوفة لا تضيف جديداً إلى عالم التجربة.

    وما أجمل هذه اللوحة التصويرية التي تمزج بين مدركات "العطور والطعوم، والمرئيات والأضواء، والبهاء.. الذي يغلف الصورة كلها.. في ضوء منظوره تراسل الحواس"..

    يقول الشاعر واصفاً عبلة (ظلت كالتفاحة تقطر عطراً.. تقطر ضوءاً.. وبهاء).

    وتأمل دلالة الفعل "تقطر" مع دلالته الزمنية الاستمرارية، وهي تبوح بموحيات متعددة، أكثر نفاذاً وتأثيراً من الفعل "تفوح" المناسب للعطر في التعابير الجاهزة المألوفة.

    وتأمل هذه الصورة التي أوحت بأجوائها المفردة الشعرية "أنوار" وليست "نيران" في هذه الجملة "تحرقها أنوار الصهر"، فالإحراق هنا تطهير وتمحيص وميلاد جديد مثل الذهب حين تخلصه النار من الشوائب، فالدلالة الإيحائية لكلمة "أنوار" في صيغتها الجمعية وفي مادتها اللغوية تفسِّر موقف الشاعر المرتبط بهذه المحبوبة التي غفلت حيناً، والتي استكانت ثم استيقظت وهي تكابد.. وتتطهر.. وتحرقها أنوار الصهر.. وكأنها تشكلت من جديد بعد أن "صُهرت".. وتخلصت من كل الشوائب والأوهام.. وما زالت تخوض هذه التجربة الجديدة، فالأنوار تحاصر موسيقاها.. ومعصمها.. وهي ما زالت ترتعش وتستعد خوفاً من الخطر القادم، وهذا الخطر يصوره الشاعر في لوحة تجمع بين المتناقضات:

    (الأمن والخوف، العشب والصحراء، الغناء والرعب، الحصار والمسافات، هديل الحمام والحرب)..

    إنها مكونات التضاريس التي تجول في شعابها الشاعر، ولم تغب عنه أصداء عنترة في سراديبها ومفاوزها، وكأن القصيدة كلها لوحة تكونها مفارقة تصويرية من بدايتها إلى نهايتها، فهي "تبتدئ بالطفولة والصبح والنخل المثمر، وتنتهي بصحراء الرعب، والليل القادم، وجنرالات الحرب".

    ولغة المفارقة ـ كما يقول النقاد ـ وليدة موقف نفسي وعقلي وثقافي معيد، وهي إستراتيجية قول نقدي ساخر، وهي تعبر عن موقف رافض ولكنه تعبير غير مباشر يقوم على التورية كما تقول "سيزا قاسم" في دراستها لعنصر المفارقة في شعر أمل دنقل.

    ويصوِّر الشاعر حسين علي محمد في نهاية تجواله في تضاريس الفقد واقع هذه المحبوبة/الوطن.. والهوية، وفي هذا التصوير تجسيد لحالة الاستنفار المشتعلة، ورصد فني لكل ما يحيط بهذه الأمة من مؤامرات عالمية، وتحركات استعمارية وأطماع صهيونية، وهيمنة استعلائية، وهواجس تغرقنا في سراب العولمة، وأوهام السلام!!

    إنَّ الشاعر يشكل هذه الصورة في نهاية قصيدته تشكيلاً يشخص واقع أمتنا في مواجهة الطوفان القادم:

    "نخرقها أنوار الصهر.. تحاصر موسيقاها، معصمها

    ترتعش على حافة ليل!!

    أمطر في الفجر، واترك للعشب مسافات بيضاء..

    تطرزها "عبلة" بالعشق مليا

    وتغني كهديل حمام..

    ينقر ذاكرتي في أول صحراء الرعب

    (هل يخلعني في الليل القادم.. جنرالات الحرب)!!

    وبعد.. فهذه إحدى روائع الشاعر العربي د. حسين علي محمد.. وهو صوت شعري بارز في حركة الشعر العربي الحديث في مصر.. وأدعو من خلال هذه القراءة النقدية، النقاد إلى تقديم الأصوات الشعرية الجادة إلى جماهير القراء وإلى المشتغلين بالدرس النقدي في المجال الأكاديمي والساحة الإعلامية.. وألا يكتفي الدارسون برصد تجارب الأسماء المشهورة ذات الطغيان الإعلامي.. فبريق الشهرة يخدع الكثيرين.. وهو ظاهرة سرابية تقودنا إلى الضبابية والظمأ، والانكسار، والمجيدون في حقل الإبداع كثيرون.. ولكن إيقاع الحياة لا يعي أصواتهم الجادة.. ولكن صوت الإبداع الفائق باق.. ولا نزال نشارك الشاعر هذا النداء الحضاري الصادق:

    يا مثمرة الوعد تعالى..

    لنفك قيود صبانا، نسكن في حضن الريح..

    فصولك تثمر باللوز وبالرمان..

    تستيقظ أفريقيا في أشعار الفيتوري، أسمع وقع خطاها في الأرض المبتلة والعشب..

    وعبلة تخرج وردتها من شرنقة الحرمان..


    منقوول

    دعواتكم بالخير

    أختكم
    بنت البحر

  3. #3
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    الأخت العزيزة زاهية
    أشكرك على نقل هذه الدراسة الممتعة و التي تضيء على شاعر مجيد من شعرائنا المعاصرين .
    و رغم أنه استحضر عنترة في إسقاط متعمد على واقعنا الراهن فإن تسليط الضوء المباشر على هذا الواقع أجدى و أنفع .
    ثم أسأل : متى سيحتفي النقاد بشعرائنا المعاصرين فأنا لم أسمع بالشاعر حسين علي محمد إلا من خلال هذه الدراسة و قد يكون تقصيرا مني في نبش ديوانه بين رفوف المكتبات ولكنني سألت العديد من أصدقائي الشعراء فأنكروا سماعهم باسمه .
    لطالما طالبت عبر الصحف و المجلات و المواقع بضرورة دراسة شعرائنا المعاصرين الأحياء منهم و الأموات من أجل دراسة المرحلة الأدبية التي نمر بها ؛ فماذا سنقول للأجيال القادمة ؟
    هل سنترك لهم أمر دراسة شعرائنا ؟ هذا إذا وُجد من يهتم للشعر مستقبلا ؟
    دمت في خير و عطاء .

  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    شكراً للأستاذ سعيد أبو نعسة، وشكراً للأستاذة بنت البحر.
    مع تحياتي وتقديري.
    وأطمئ الأستاذ سعيد أبو ملحة أن أنجزت عني رسالة ماجستير في كلية الآداب بجامعة المنصورة، أعدها الباحث السيد القهوجي عن "شعر حسين علي محمد الغنائي: 1977 ـ 2000م)، وتعد رسالة أخرى في كلية البنات (تعدها المعيدة سناء فتحي) عن "الفن القصصي والمسرحي عند الدكتور حسين علي محمد"، وهذه الرسالة سُجلت منذ شهور قلائل، وقد صدرت لي عشرة دواوين شعرية، هي:
    1-السقوط في الليل، القاهرة-دمشق 1977م، ط2، الإسكندرية 1999م.
    2-ثلاثة وجوه على حوائط المدينة، القاهرة 1979م، ط2، الإسكندرية 1999م.
    3-شجرة الحلم، القاهرة 1980م.
    4-أوراق من عام الرمادة، الزقازيق 1980م.
    5-رباعيات، الزقازيق 1982م.
    6-الحلم والأسوار، القاهرة 1984م. ط2، الزقازيق 1996م.
    7-الرحيل على جواد النار، القاهرة 1985م. ط2، الزقازيق 1996م.
    8-حدائق الصوت، الزقازيق 1993م.
    9-غناء الأشياء، الزقازيق 1997م، ط2-القاهرة 2002م.
    10-النائي ينفجر بوحاً، الإسكندرية 2000م.
    مع تحياتي وموداتي.

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    نص القصيدة:
    .............


    تضاريسُ الفقد
    أو خمسة مقاطع من ملحمة عنترة

    شعر: حسين علي محمد
    .........................

    1-طفولة:
    كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
    تتمنَّى لوْ تغلبُني
    تحلُمُ
    أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

    كانت في الصَّمتِ الوادعِ
    تسقيني سُهْدي
    بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
    كانتْ تلهثُ ..
    كيْ تقرِصَ أطرافي
    تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
    وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
    بقلاعٍ وقِبابٍ
    ومساءً
    بالصورِ الزيتيَّةِ
    للأحصنةِ المنطلقةِ
    ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ

    في الركنِ الأقصى
    من داري المنزويةِ
    في أطرافِ الغابةِ
    منضدةٌ تعلوها أتربةُ …
    وعليها عُشبُ الصَّبرْ

    2-جملة معترضة:
    دوَّت في الأُفقِ طبولُ الحربِ
    و"عبلةُ" تغفو
    في نومتِها الرَّعناءِ
    (وتكشفُ عنْ ساقيْها ..
    عنْ ثَغرٍ في الظَّلماءِ يُضيءُ)
    تُنادي: بعدَ ثلاثينَ أتيتُ
    وهذا التوتُ الأبيضُ في كفَّيَّ
    رماحُكَ في قلبي
    تُشرقُ في قلبي نافورةَ عشقٍ
    تملأ ليلي بنجومٍ تتلألأُ في صحراءِ سمائي السوداءِ
    تطارحُني الحبَّ،
    تشاطرُني الحُلمَ
    وعيناها الخضراوانِ كقِنديليْنِ
    يُضيئانِ دهاليزَ الدَّربِ
    (أكُنتُ أُدبِّجُ في الليلِ حُداءَ القافلةِ
    وأحلُمُ يا "عبلةُ"؟)
    تُشرقُ شمسُكِ
    يرحلُ جيشُ دفاعِ الأعداءِ ..
    وتسطعُ في أُفقي أقمارُ الشعرِ / بريقُ العُشبِ / أحاديثُ الليلِ / حنينُ النسوةِ / أوراقُ الحنَّاءِ / زلازلُ قلبي / أعنابُ اليمنِ / طيورُ النَّورسِ / تمْرُ الشامِ …
    تضجُّ الذاكرةُ بأقدامِ العبرانياتِ، وأحلامِ الكنعانيَّاتِ، ومِلحُ المتوسِّطِ يُغرقُ سربَ فراشاتٍ .. عاشَ يُغنِّي ـ مثلَ عصافيرِ الجنةِ ـ للحبْ!

    3-حديث مستطرد عن "عبلة":
    طلعتْ "عبلةُ" من ثبَجِ البحرِ، كبدْرٍ غَسَّلَهُ البَرَدُ،
    أنا يا "عبلةُ" من طرْحِ النهرِ،
    وقريتُنا العاشقةُ بأطرافِ الدلتا تنتظرُكِ،
    عشرةُ أميالٍ أقطعُها نحوكِ، وطريقي عبَّدَهُ خطوي فوقَ الصَّوَّانْ.
    يا مُثمرةَ الوعدِ، تعاليْ لنفُكَّ قيودَ صبانا، نسكُنُ في حضنِ الريحِ، فصولُكِ تثمرُ باللوزِ وبالرُّمَّانْ.
    تستيقظُ أفريقيا في أشعارِ الفيتوري، أسمعُ وقعَ خُطاها في الأرضِ المُبتلَّةِ، والعُشبِ، و"عبلةُ" تخرجُ وردتُها من شرنقةِ الحرمانْ.
    قالت أمي:
    -تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
    غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
    اتركها وابعد عنها!
    أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
    وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
    وصوتُكِ يُشجيني
    وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
    يصرُخُ في أضلاعي
    يُغويني
    بالقولِ الفتَّانْ
    عيناها الخضراوانِ بحُلمِ الفجرِ يمورانْ
    ـ أمُّك تبذرُ في الجرحِ الملحَ
    وتستلقي في دائرةِ الوهمِ الأسيانْ
    تخشى منْ عاصفةٍ أُخرى
    أُمي تصرخُ:
    -هذي وردةُ نارٍ، فابعد عنها بالحذَرِ الدَّاجنِ يا ولدي
    وابعد عن فتنتِها
    وليحفظْكَ الرحمنْ

    4-أحزان الفارس:
    أصبحْتَ أخيراً ـ يا فارسَها ـ في منصف الدهشةِ
    ما عادتْ "عبلةُ" تأتيكَ ظهيرةَ أشواقِ الصيف
    فتغضَّ الطرفِ كسيراً في خوفْ
    عندَ تضاريسِ الفقْدِ تُغنِّي للريحِ الصَّرصرْ
    وتسُدُّ البابَ كأنَّكَ لا تسمعُ،
    يترقرقُ في كأس الظمآنِ الصبرُ
    تُحدِّقُ في وجهِ الموتِ، فأُمُّك ترحلُ
    (ستجيئُكَ في الحُلمِ .. فكيفَ ستنسى نظرتَها؟)
    "عبلةُ" تنظرُ شوقاُ من خلفِ زجاجٍ يتداخلُ،
    وتُجالسُ قطَّتَها
    الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
    ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
    في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
    ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
    (تغضبُ أمي)
    .. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
    وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

    "عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
    تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبخترْ
    ـ "يفرجُها ربُّك"
    .. ضقتُ بتوبيخِ الأمِّ مراراً ..
    لنكوصي المتكرِّرْ

    أقفُ على قارعةِ الحلمِ ..
    أُحاولُ أنْ أُنشِدَ أُغنيتي الأولى !
    (صمتٌ يملؤ أقطارَ الميدانِ، ويغتالُ الأحلامْ)
    ـ ولماذا تتشاءمُ إنْ لمْ أنجحْ هذا العامْ؟
    لا تقلقْ، سأُحاولُ هذا العامَ .. فإنْ لمْ أنجحْ فالعامَ القادمْ
    زمَّ الشفتيْن، وغمغمَ في صوتٍ حازمْ:
    ـ إنْ لم تنجحْ هذا العامَ قٌتِلنا بالسيفِ الصَّارِمْ!

    5-زنابق للرحيل:
    كانتْ ريحٌ في الأفْقِ تهُبُّ
    وكان فضاءُ العالم يتفتَّحُ لزنابقِ عشقٍ تُولَدُ،
    وقصيدةِ حبٍّ بيضاءَ ستسكنُ في ديوانِ الصمتِ الفاتنِ
    كنتُ أخبُّ عل ظهرِ الفرسِ، ويلسعُني البردُ وأرمحُ،
    أدفقُ في غاباتِ الجوْزِ، فترشحُ بالعطْرِ وباللهفةِ
    .. تُدفئُني، فأُحادِثُ نفسي:
    "عبلةُ" لمْ تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً،
    أوْ تستأْسِدُ
    أو تتركُني كيْ يصرعَني يأسي
    ظلَّتْ كالتفاحةِ ـ تقطرُ عطْراً
    تقطرُ ضوءاً وبهاءً ـ
    إذْ تجرعُ كأْسي

    تحرقُها أنوارُ الصَّهْرِ .. تُحاصِرُ موسيقاها، معصمَها
    ترتعشُ على حافَّةِ ليلٍ …
    أُمطِرُ في الفجرِ ، وأترُكُ للعشبِ مسافاتٍ بيضاءَ
    تُطرِّزُها "عبلةُ" بالعشقِ مليا،
    وتُغني ـ كهديلِ حمامٍ
    ينقرُ ذاكرتي في أوّلِ صحراءِ الرُّعبْ ـ
    (هل يخلعُني في الليلِ القادِمِ جنرالاتُ الحربْ؟)

    ديرب نجم 25/2/1984
    ...........................
    من ديوان "الحلم والأسوار"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1984م.

  6. #6
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    ياااااه سبحان الله
    زارتني الآن ومضة ابتسامة مفاجئة
    والحزن مازال يسكن قسماتي
    مايحدث هنا في هذه الصفحة الأدبية الرائعة
    ليس مصادفة وإنما هو ترتيب من رب العالمين
    سأكون سعيدة بجدإثر هذا اللقاء
    الذي لم يتم بعد بين الأدبين المجيدين
    د0سعيد أبو نعسة
    ود0حسين علي محمد
    وهنا الجمال بعينه وقلبه وفكره
    وأترك لكم متابعة اللقاء لننجز من خلاله
    مانطمح إليه في واحة الخير
    واحة الأدب والأدباء0
    أختكما
    بنت البحر

  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    دراسة أخرى عن القصيدة، نشرت في "المجلة الثقافية" ـ السعودية:
    قراءة في ملحمة عنترة بن شداد المصري

    د. إبراهيم بن محمد الشتوي

    (الحلم والأسوار) مجموعة شعرية للشاعر الدكتور حسين علي محمد، تأتي هذه المجموعة بعد عدد من المجموعات، وهو ما يعني أن الشاعر قد استفاد في هذه التجربة من تجارب سابقة، وأن آلامه، وآماله التي كانت توقد مرجل الشعر لديه بعيدة الغور في نفسه شديدة الأثر فيه، ومن هنا فالداء قد استحكم ولا أمل في الشفاء منه وإنما التوصيف والمداواة بالشعر، فهو له وجاء.
    استعار الشاعر عنوان المجموعة من قصيدة أخرى ليست موضوع القراءة، والشاعر حين انتخب هذا العنوان كان يدرك أنه يمثل نبضاً يشيع في أوردة المجموعة كلها، فيبعث الحياة في الجسد، ويحرك الدم في العروق، ولذا فهو يتصل بالقصيدة اتصالا كبيراً.
    القصيدة موضوع القراءة (تضاريس الفقد) وبالرغم من أن هذا العنوان دقيق ودال فإن الشاعر قد اتخذ عنواناً بديلا، أو مصاحباً (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)، وهو هنا يحيل مباشرة إلى الملحمة المشهورة التي امتزج فيها الحب بالفروسية، مع السعي للحرية. إنها قضية واحدة متشابكة: الحب قرار، وإرادة واختيار ولا يكون إلا للحر، وهو أيضاً من صفات الفارس النبيل، ومن هنا فإن هذه القصيدة هي مقاطع من الملحمة التي تتشابك بها هذه المكونات الثلاثة، وتتداخل بشكل جدلي، لا ندري أين نقطة البداية فيها وأين النهاية، فهي تصلح لأن تكون البداية وتصلح أن تكون النهاية. وقد ظلت هذه الملحمة تشتمل على الألم اللانهائي المنبعث من السؤال المفتوح كجرح ينز بالصديد لا يكاد يندمل حتى يعي مرة أخرى: هل نال عنترة حريته وأدرك مراده، أم ظل الحلم يغيب كلما حاول أن يقترب منه، ويبتعد كلما أراد أن يدنو منه. المقولة: (كر يا عنتر وأنت حر) مشهورة، لكن المؤرخين لا يتفقون على مسألة زواج عنترة من حبيبته عبلة، وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الحرية لم تنفعه، ولم تحقق ما كان يريدها من أجله (فهي حرية مع وقف التنفيذ)، ومن هنا فمأساة العبد لم تنته، والحرية لم تكتمل، فما هو إلا مدافع عن القبيلة، وحرماتها في وقت الشدة، وعبد يرعى البهم. هو في العبيد وعليه ما على الأحرار، وهنا ظلت صرخة عنترة تدوي في عقبه من الشعراء.
    في هذا النص لا تختلف القضية ولا المأساة عن تلك المأساة، ومن هنا جاء التخفي وراء دال له فضاءاته التي يحيل إليها، الأمر الذي يكشف مقدار الأسى والحزن الذي تحمله القصيدة، وتسعى للإفصاح عنه في مقاطعها الخمسة. هذه المقاطع تأخذ في ترتيبها نوعاً من الترتيب الزمني المماثل لعمر الإنسان: الطفولة، الشباب، الكهولة، مما ألقى بظلاله على المعاني المطروحة والمتناولة في القصيدة، وعلى موقف الشاعر / عنترة.
    هنا تواشج كبير بين مكونات النص، وثراء كبير فيما يريد أن يقوله، تواشج بين المقاطع بعضها ببعض، وتواشج بين هذه الملحمة، والملحمة الأصل، وتواشج بين اللغة الموظفة، والصور المستخدمة والهم الذي يطبخ في كبد الناص، وأخيراً تواشج بين القصيدة وما آلت إليه وعنوان المجموعة.
    المقطع الأول عنترة مع محبوبته / عبلة يشغلهم ما يشغل الأطفال: اللعب ليس غير، والمفردات التي تعبر في النص عن هذا اللعب لا تكشف أية نظرة حب أو إعجاب أو بدايتهما لدى عبلة تجاه هذا العبد الأفطس، وكل ما نجده قضاء وقت جميل في العبث، واكتشاف هذا المخلوق الغريب الذي يختلف عن شباب القبيلة (تحلم أن تغلبني...تقرص أطرافي) الذي لا يلبث أن ينتهي بانتهاء وقته، وهذا بخلاف ما يجده عنترة حيث يمتد هذا الوقت إلى ما بعد الفراق ليتحول أفكاراً تصيبه بالسهد تبعثها ذكريات أحاديثها الجميلة، وصورة أصابعها الرخصة التي لا تشبه أصابعه التي قرحها شد الحبل وجر الدلاء.
    يبدأ المقطع الثاني وقد استحكم الحب من قلب العبد الأفطس أو الذباب الأزرق كما سماه سيده، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ الوطن / القبيلة والعلاقة بينهما، طبول الحرب تدق من حولهما، هي في نومتها الرعناء لا تبالي به، وهو يطارح السوداء ذات العينين الخضراوين الحب، السوداء هي المقدور عليها، وعينا حبيبته المشتهاة ويقتات الحلم بدحر العدو ونيل الجائزة الكبرى.
    أصبح العبد الأفطس فارس القبيلة في المقطع الثالث، دحر العدو، ونافح عن شرف القبيلة، وهللت أمه بابنها الفحل، وبدأت رحلة البحث عن المرأة التي تليق به، لم تصبح المحبوبة بعيدة المنال، لكن القضية لم تنته، فأمه تحول بينه وبين ما يشتهي، فهي لا تليق بالفارس، هي غانية تعبث..تبحث عن الشهرة، والمال، تريد أن تحصد كفاح الآخرين، لا تستحقه، ولا تستحق حبه، وكفاحه لتحقيق مراده ، فهي التي لم تأبه به زمن الطفولة، ولا زمن الحرب والطعان حين كانت في نومتها الرعناء تكشف عن ساقيها غير مبالية في أن يتعورها عبد الحلاب والصر.
    في المقطع الرابع يصبح العبد الأفطس حلم الفتيات، يطمحن في الاقتران به، وما كان يحلم به تحقق، ولن يعود ليراوده آناء الليل وأطراف النهار، فعبلة تتشبث بفارسها، تلح عليه للزواج بها، وتسوق الحجج، ولكنه لم يعد الحالم الأول، ولا الفقير الكسير الذي يحلم بمعاشرة بنات الأشراف الساكنات في العمق, أصبح عنترة الفوارس المنافح عن القبيلة. والعزة والكرامة هي قضيته، والوطن ليس وطن العسكر، فما عاد حلم الحرية يراوده لأجل أن يحصل على عبلة، أصبحت الحرية هدفا مستقلا، معنى قائما بذاته تبذل لأجلها الروح ويُهجَر الحبيب، فما بقي من الأول شيء كبير، ولا عادت عبلة تلهب أشواقه، ولا رماحها في صدره أشد من رماح الأعداء.
    لكنه برغم ذلك كله لم ينسها، وصورتها تراوده في المقطع الخامس قصيدة حب بيضاء، أو تفاحة تقطر عطراً، فرغم بعده، وصده لا يزال يتذكر صورتها الجميلة الأولى، يتذكر موقفها في زمن الذل، فلم تكن تسقيه الملح, أو تستأسد عليه، ولا يزال يحسها في الأشياء من حوله، يشعر بألمها ويأسى لها، ومن هنا فهو لم يتحرر منها، ومن الحلم بها، ما زال في أسرها، والمعاني التي انحفرت في داخله التي كانت تدل عليها فلم يقض عليها في داخله، ويتغلب عليها حتى ولو قتل الفرسان ومثل بالأجساد، فهو مقيد أسير فيها وفي المعاني التي تحيل إليها: السيادة، وزمن العبودية الأولى، فهاهو يقع في العبودية من جديد ومن هنا فحريته مؤجلة، وتحرره ناقص خديج.
    ومن هنا فإن الشاعر / العبد / عنترة يبحث عن طرق أخرى يحصل فيها على حريته، أو يتحرر عن طريقها، ويخلص من ألمه، وذلك أن يمارس الحرية، في حياته، وأن يرفع صوته بمأساته، ويعلنها أمام الناس، ويقدمها، ويعبر عنها كما يحس بها، وكما ينبغي أن يحس بها الآخرون، وهنا يكون خرج من ألمه، ومارس الحرية بفعله حين عبر عن رأيه بحرية وصدق.
    وهو ما حققه هذا النص حين حطم القيد / السور المحيط بالناص، وتجاوزه، ليبلغ الحلم، بالتعبير عنه، وفي التعبير عنه بحيوية كبيرة تحقيق له، لأن التعبير عن النفس والقضية وإيصالها للآخرين جزء من الحلم. وفي هذه النقطة بالذات تتم التشاكل بين عنترة العبسي، وعنترة المصري فكلاهما يشعران بالألم من قيد العبودية والتسلط، وهما معاً يحلمان بتحقيق حريتهما على أكثر من مستوى. هذه الحرية لا تتحقق إلا عن طريق الشعر / اللغة، حيث يتخذانها طريقاً للتعبير عن آرائهما وما يحسان به، ومن هنا فهما يمارسان حريتهما بالتعبير، وهنا ـ بالتحديد ـ يحسان بحريتهما المفقودة.

    الرياض 5/3/1426هـ

  8. #8
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    وهذه دراسة ثالثة عن القصيدة، نشرت في موقع "لها أون لاين".
    .................................................. ...............

    قراءة في قصيدة «تضاريس الفقد»

    بقلم: علي محمد الغريب
    ..................

    في هذه المقاطع الخمس التي عنونها الشاعر بتضاريس الفقد أو خمسة مقاطع من ملحمة عنترة، يأخذنا في حلم يزخر بالعناصر المتعددة من الإقدام والرهبة، الحب والخوف، من التفاؤل الجامح إلى العودة للنفس ومخاطبتها فيما يشبه العتاب. كل هذا تبوح به القصيدة منذ العنوان "تضاريس الفقد" وكأنما الشاعر يتفقد حلمه ماذا فقد وماذا بقي له منه!
    في المقطع الأول ينقلنا الشاعر إلى التاريخ الذي يستلهم منه هيام الفارس عنترة العبسي بابنة عمه عبلة وحبه لها، ويستخدم عبلة هنا للإشارة إلى الوطن، وعنترة للفارس المحب الذي يبذل الغالي والنفيس فداء لرضاء عبلة "الوطن".
    يستعرض الشاعر في المقطع الأول طفولته وبداية خفوق قلبه بالحب الأول للوطن من خلال شخصية عبلة التي تطارده، في غبش الصبح، وتتمنى لو تغلبه وتحلم أن تراه وقد غرس أرضها نخيلاً وقضى على الأراضي المقفرة، وأحل محلها الحياة والنماء.
    ثم يعرض علاقته بالوطن وافتتانه بحبه فهو في الصمت يسقيه سهده بغنائه الحلو الذي يقطر عطراً، ويلوح له في خياله، في حله وترحاله، فصورة عبلة "الوطن" تقتحم عليه خلواته، وتنتزعه من مساءته وتتراءى له كأن فرساناً آخرين ينافسونه عليها وهم منطلقون على أحصنتهم بين التلال والسهول في طريقهم إلى ـ النهر ـ قلبها! لكنه بالرغم من كل هذا يتمسك بالصبر وبعشبه الأخضر الذي لن يضربه الجفاف، الذي يوقع في نفسه اليأس من الظفر بقلبها.
    بعد هذه العذابات الجميلة في حب عبلة "الوطن" يدهمها الأعداء، وتحل نكسة عام 1967 وعبلة في غفلة من أمرها تنام في رعونة غير منتبهة للمتربصين بها ولا متحوطة لهم، وبعد أن يقع المحظور تنادي فارسها الوفي أن تعالى فهذا التوت الأبيض في كفي أحفظه لك أنت، ورماح حبك مازالت مغروسة في قلبي، فهل تنسى ما كان بيننا من عشق متدفق كماء النافورة لا يتوقف؟
    فيجيبها فيما يشبه العتاب وهو لا يجرؤ على عتابها! أكان يكفيك أن أردد حداء القافلة وأن أحلم بفناء الأعداء دون العمل، هل الحداء وحده يكفي يا عبلة؟ هل كان يكفي أن أحلم ـ فقط ـ بان تشرق شمسك، وأن تسطع أقمار الشعر، وأن نرى بريق العشب، وأن أسمع حنين النسوة، وأرى أوراق الحناء، وأرى وحدة اليمن والشام، والتئام الشمل دون العمل؟ الغناء وحده لا يكفي يا عبلة..
    وهذه إشارة بارعة من الشاعر إلى ما كان يتغنى به السياسيون قبيل نكسة يوليو 1967 بأنهم سيلقون إسرائيل في البحر، وقد اتخذوا لذلك جيوشاً من المغنين والشعراء، ونسوا أن يعدوا الجيش الحقيقي، فكانت النتيجة أن دهم العدو عبلة في غرفة نومها!
    في المقطع الثالث (حديث مستطرد عن عبلة) بين الشاعر كيف خرجت عبلة "الوطن" من محنتها وقد خرجت من عاصفة الحرب كالبدر مغسولة بالبرد، مبرأة من الهزيمة والنقيصة، فالذين هزموا هم الذين راهنوا على كرامتها، ولم يتسلحوا إلا بالشعارات الرنانة، و الأغاني الجوفاء. وهنا يناديها الشاعر بأنني واحد من ملايين العشاق الذي طرحهم نهرك، ولن يحميك ويصونك غيري، فتعالى ننهض من جديد، تعالي ننهض من كبوتنا ونتجاوز الحدود ونوسع أمانينا المقرونة بالعمل فنضم أفريقيا إلى حلمنا السابق بضم اليمن والشام، فتكاد عبلة تستجيب له، وتبذل ما في وسعها ـ على ضعفها ـ وتخرج وردتها، لكن أمه تحذره من لعبة السياسة، ومن إسرافه في أمنياته، فالسياسة كالمرأة اللعوب، دأبت على الخيانة، تأخذ ولا تعطي، تدعوه أمه لأن يرشد أحلامه، ولا ينطلق خلفها دون روية!
    تصطرع في عقل الشاعر وقلبه فكرتان، عبلة وأمه ـ الأم والأب في هذه القصيدة يمثلان السلطة الحاكمة التي لا تسمح بحرية التعبير عن حب الوطن إلا من منظورها هي ـ فيركن إلى الأخيرة متأسفاً على الأولى فيمسك بتلابيبها في ذلك الصباح الذي قرر فيه النأي عنها، ويخبرها بأنه لن ينساها؛ فصوتها يشجيه وحبها حريق يصهل في أعماقه. وبعد أن يتوهم نسيانه السياسة والوطن، تفزعه فكرة تعرض الوطن لعاصفة أخرى كالتي سبقت، ويهم بالنكوص عن وعده لأمه، فيأتيه صوتها محذراً أن هذى وردة من نار فابعد عنها واحذرها، وابتعد عن فتنتها.
    وفي المقطع الرابع (أحزان الفارس) يضعنا الشاعر في مواجهة الفارس الذي تخلي عن فكرته، وركن إلى النأي عن الساسة والوطن والوطنية، فما عادت أشواق عبلة تزوره، ولم تعد تقف أمامه تغني، بل لم يعد بحاجة ليسد الباب كي لا يسمع صوتها الفاتن، وبعد هذه الخواطر تترقرق في قلبه الأشواق، ويصحو حب الوطن الكامن، فهذه الخواطر قد هيجت ذكراه وبعثته من موات، فترقرق الصبر في كأسه الظمآن إلى الوطن، إلى وجه عبلة، يحدق في الكأس فإذا بعبلة تفتح ذراعيها متلهفة، ويحدق في وجه الموت فإذا بأمه ترحل، فيعاوده الحنين ويكاد يعزم على المضي لكن طيف أمه الذي سيزوره في المنام يجعله يتردد.
    يعود فيري عبلة بعين قلبه وخياله، وهي تجالس قطتها، تنتظر فارسها وهو يناور أباه الذي لا يثق في كلام العسكر ولا في صحفهم وأبواقهم، فيجيبه الفارس بأنه سيدافع عن وطنه هو لا وطن العسكر أصحاب الأبواق، سيدافع عن عبلة، سيجاهد ويقاتل حتى يقتل دون الفجر الأخضر الذي لا يبزغ إلا بالدماء! وفي لحظة ما يكاد يفقد الفارس حلمه، فعبلة لم تعد تغرس سهام أشواقها الملتهبة في صدره ولم تعد تتبختر، كما أنه ضاق بتوبيخ أمه عن نكوصه المتكرر.. تتجاذبه الأفكار وهو موزع بين حلمه وواقعه، فيحاول أن بعزي نفسه بأنه إذا أخفق هذا العام فسينجح في العام القادم، فربما تغيرت الظروف للأحسن، لكن صوت قلبه وضميره يأتيه قاطعاً عليه كل الطرق المؤدية إلى التسويف أو التأجيل في حسم: إن لم تنجح هذا العام قتلنا بالسيف.
    وفي المقطع الأخير ـ زنابق للرحيل ـ يعود الشوق والعشق ليعصف بقلب الفارس، لا سيما وهو يرى أن رياح العدو تهب منذرة بشيء ما، فقرر السعي إلى المحبوبة وهو يخب على فرسه في أرض غامضة، ويعاني من أجلها لسع البرد، ويحاول أن يرمح بفرسه في تلك الأرض المجهولة، ليصل إلى محبوبته التي سيجد عندها الدفء، وهو في طريقه إليها يتغلب على تعبه وعلى أحزانه بأن عبلة لم تخدعه، يوماً ما ولم تسقه الملح، بل لم تستأسد عليه، إنها من غير شك لن تتركه في هذه الأرض المجهولة يخب على فرسه على غير هدى، وحين تلوح بروق الأمل في الوصول إليها يستفيق من خيالاته ويتساءل هل يخلي العسكريون بينه وبين وطنه؟ ثم يتركنا بدون إجابة، ليجيب كل منا على نفسه أو يحاول أن يجد إجابة ما، فكلنا فارس وكل الأوطان عبلة.

  9. #9

  10. #10
    الصورة الرمزية الصباح الخالدي قلم متميز
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : InMyHome
    المشاركات : 5,766
    المواضيع : 83
    الردود : 5766
    المعدل اليومي : 0.86

    افتراضي

    حجز مكان في كراسي المتفرجين
    اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

المواضيع المتشابهه

  1. تضاريس للحُبِّ ..
    بواسطة مجذوب العيد المشراوي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 19-05-2009, 11:08 AM
  2. تضاريس
    بواسطة محمود موسى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-06-2008, 01:53 PM
  3. الشهداء وتشكيل الهوية في شعر الانتفاضة
    بواسطة رمضان عمر في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 28-10-2005, 07:06 PM
  4. الشهداء وتشكيل الهوية في شعر الانتفاضة
    بواسطة رمضان عمر في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 17-11-2004, 12:26 AM