بسـم الله الرحمـن الرحيـم
رسالــة إليكِ
تحيـة قطفتُها من قلبي...
..يسـرى.. يازهرةَ الجلنّار،
وصلتْ رسالتُكِ تضوعُ بـكِ، وجدتُها على مكتبي صباحاً، وقد حملتْها إليّ نسماتُ البحـر الرقيقة، أتعلمين؟ حالما رشفتْ روحي حروفَ خطابكِ رشفا، هرولتُ إلى حديقة الحلم، لأقطف لكِ زهرةَ بنفسج زرعتُها بيدي، زرعتُها منذ صرتُ طالبةً بمدرسة الحلـم، طالبةً لاتقنع بمادون النجوم، أتعلّمُ لغة الحلم وقواعدها، نحوَها وأوزانها، كي لايتهمني أساتذتي بأن أحلامي موغلة في أخطاءِ الشجن النحوية والعروضية..وأنا أخاف على حلمي من أن يكونَ عليـلا...
يسرى، ضعي يدكِ بيدي، وتعاليْ ندخل مملكةَ البحـر العاشق، نناجيه ونحدّثُه، وسيخبـركِ..
سيخبركِ عن زمانٍ انعزل بذاكرته، يقلّمُها من أوجاع السنين، ليزرعها بحقول القمح ذاكرةً أخرى..سيخبـركِ عن حلم بِعُمـر قلبيْنـا، عن عهودٍ لاتُنقَـض ولاتُـداس، منذ طرّزَها الوفاءُ بروحه.. سيخبـركِ عن أسرارنا وحكايانا..لكن انسيْ ذاكرةَ الخوف على الشاطئ! وبلّلي قلبَكِ بابتسامةٍ تكبـركِ، ليصيرَ الغروبُ وطنـاً لّلقـاء..وليحرسنا البحـرُ من جراحٍ مشتّتة على كفي وكفِّك..
يسرى، ماكانت الطبيـعةُ وماكانتْ كل لوحاتها النابضة بالإحساس والحنان صادفةً عنكِ كلما استجرتِ بها، بلْ كانت تطرق بابَ قلبكِ دوماً لتشاطركِ البوح، لتغسلَ كل مخاوفك الصغرى والكبرى، كانت تفعل ذلك خفيةً.. لتحرسكِ سرا من أعين الرقباء، من أعداء الحلم والإحساس..أيتها المرهفة حسّاً، الجميلة روحاً، متى أغلَقَتِ الطبيعةُ شرفاتها في وجه العاشقين؟ متى أوصدتْ بوحها أو سافرتْ بحقائبه بعيداً عن أحبابها؟؟ إنها وهجُ القلوب، زهرةُ الحنان التي تتحدّى قسوةَ العالم، حبيبةُ الحبر والأوراق، توأمُ الأرواح وعطرُها ورسولها...
يسرى، هاهو البحـرُ قد نهض من دفتر مذكراته، منهكَ القلب والذاكرة، هاهو قد فتح لنا بواباتِ بوحه على مصراعيها، هاهو قد شقّ خدوده بدمعتيْن ساخنتيْن..هما كلّ ماأخفاه عناّ، هاهو ثوبُه اللازوردي مبتلٌّ بحبّـات الشوق، فقد كان بانتظارنا منذ كانت عقاربُ قلبه تشيرُ إلى منتصف الحلم، هاهو يدغدغَ أقدامنا برقيق همسه، وينقش حنّاءَ حبه على شغافِ روحَيْنـا.. فكيف بعد هذا كله، لاتهيم الطبيعـةُ بكل عشاقها عشقـا؟؟؟
سنسافر إلى الحلم ومعه، بمراكبِ الطبيعـة، كلما طال ليلُ الغربة، كلما أحدقتْ بنا المخاوف والأحزان، كلما تاقتْ نفوسنا لشموعٍ لايطفئها المطر..دعينا نكمـل معه الطريق، نكمل حياكة آمالنا، زماننا الأبيض بياضَ الثلج، النقي نقاءَ المطر..سأعترفُ لكِ بسرّ، ويقيني أنكِ ستزرعينه بحدائق قلبكِ كي ينبتَ سرّاً، سأعترفُ لكِ.. بأنني نبتتُ على ضفاف الصمت الزلال، فعدتُ من الخزامى أحملُ بحراً وجرحاً، وقد اختفتْ بي جراحُ الشعراء، ولكنني ماغادرتُ كتابَ الحلم يوماً..سأعترف لكِ، بأنني كلما تركتُ زماني ومكاني خلفي وهرعتُ إليه، أُسْتَـرَقُ مني..سأعترفُ لكِ، بأنّني أجمعُ كل الأزمنة والأمكنة وأسرارها، وأجمع لغاتِ الجرح كلها، أضعها بين يديه ليغسلها، فقدْ يخافه زمنُ الخوف ويرحــل..وقد يغادرنا الملحُ قبلَ أن يكمل عمره الثاني..
يسرى، ربما أطلتُ عليكِ الليلة، ولكنها الروح تأبـى الرقادَ وهمسُ النجوم يدغدغها، والشوقُ للقمرالراحل الغائب يفتّتُهـا، وزخّاتُ المطر تختارها لتكون عروسَ البـوح ...
سنكون على موعدٍ آخر، ربما حين يهطلُ الحلم ساعةَ المغيب، أو حينَ يعود إلينا القنديلُ مُضاءً بأحلامه، أو حين تغادر القلوبُ كلها مرافئ القسوة، لتستقبل بحفاوةٍ كلّ العابرين إلى زمنِ الزنبـق، بلا خوفٍ أوأحزان..
ومرة أخرى يبتلّ الورقُ بالزائـرة العنيدة!! وكأن قدَرَ كل خطابٍ يرتّبني بين حروفه، أن يصلَ مبتلاًّ لكل أحبابي!!...لكنني وضعتُ لكِ الوردَ في معطف الحروف، وزرعتُ لكِ بكل سطرٍ شجيراتِ تُوتٍ وحلم..
وختاماً، أبلّغكِ تحايا النجمة الأولى التي لم تغادرني للآن، بالرغم من وصايا جدتها..أبلّغُكِ تحايا البحر الذي مازال ينقشنا على نبضه متحديا قوانينَ مملكته، وتحايا زهرة البنفسج المتكئة على قلمي، أما يمامتي البيضاء، فهي تنتظر أن أعدّ لها طعامَ الإفطار حناناً، كي تقوم من كسلها وتطبعَ على قلبي شكلَ الصباح..وستبعثني إليكِ قريبا لنبحث معاً عن زمنٍ ضـاع...أما القمر، فحينما يعود، أعدكِ أن نجلس إليه معاً، كيْ نعتـرفَ مرة أخرى...