مجرد طفلة
دموع فلسطينية .. تَغَصُّ بها شاعرةٌ مصريةٌ
أشجار البرتقال ..
تبدو من بعيد و وقد فقدت مصدر الحياة ..
جفّت ينابيع المياه ..
لم تعد الطيور تحلق فوق الربى , وتقع على السهول , وتعبث بسكينة الغصون .. لم يعد هناك عشاق يتجولون تحت الأشجار , يتبادلون الأحلام والأسرار والهمسات ..
سارت ببطء على الدرب المعشوشب .. الشمس تتحدر ببطء الى المجهول .. الدموع تنزلق ببطء على الخد الوردي .. أوشكت أن تسمع فى الأفق اصداء ضحكات والدها الميت .. شعرت انها تسير فوق رماد الأمانى المحترقة .. سارت ببطء .. تنهدت ,, نظرت الى السماء , حتى السحابات بدت عبثية .. غرّد عصفور بصوت كئيب .. اهتزت أغصان الأشجار فى ضجر ..سارت بعناء .
فى الإجتماع تناقشوا كثيرا .. ثار البعض .. صرخ البعض ..اوشك البعض على البكاء .. أن يعمل الإنسان ويعمل بلا نتيجة .. أن يغنى دون ان يصغى احد ..أن يمشى فوق الصخور وهو يؤمن بألا وصول .
اقتراحات .. أفكار .. كلمات متناثرة .. اليأس – ذلك السرمدي العنيد – يغلّف الحماس بثوب أصفر مهترئ .
هبوا ان عشرة .. عشرين قتلوا
هبوا ان سيارة .. سيارتين دمرتا
ليس هذا أسلوبا للمناقشة
كل كلبٍ يقتل , يستشهد فى مقابله خمسة
ويغيب فى غياهب السجون عشرون
خمسون
مثلا
بدوا كما لوكانوا يكرهون بعضهم البعض .. يهاجمون كل الأفكار .. يسفهون كل الأحلام ..اوشك اثنان أن يتلاحما ..صرخ رئيس الإجتماع .. ساد صمت كئيب .
كيف يردون على تدمير مدرسة للأطفال .. ماذا يفعلون ازاء أجساد الصغار المتناثرة .. شفاههم الوردية المطبقة على دماء الأوردة المتجمدة .. شعورهم المنحولة .. عيونهم جامدة النظرات زجاجية المآقى .
الى هذه المدرسة كان يذهب أخوها الصغير .. فى الصباح .. فى ذلك الصباح , رفض أن يتناول كل طعام افطاره .. نهرته متظاهرة بالغضب .. راح يسخر منها .. راح يتقافز كالشيطان كما لوكانت شيئا بلا قيمة .. اغتاظت ..همت بضربه .. تظاهر بالفزع وراح يحاول الإختباء تحت المائدة .. ضحكت .. توسلت اليه أن يكمل افطاره .. رفض باصرار .
جذبته من ذراعه بغيظ , وسارت معه فى الدرب المألوف .. بين الأشجار المألوفة .. وأمام المدرسة المألوفة ( المبنى المتكلس والشبابيك المكسورة ) طبعت قبلة على جبينه الوضاء .. ضحك ببراءة .. بدت حزينة .. همت بالإنصراف , جذبها من ذراعها , ووعدها بأن يلتهم كل طعام غدائه .. ابتسمت , وعادت الى الدار .
قدم رئيس الإجتماع نظرية مطولة عن حرب العصابات .. قال بأن القتل ليس وسيلة لإفناء العدو , وانما هو اثبات وجود وحياة , انه رمز لرفض العدم .. صرخ زميل متشنجا ..عشرون طفلا يموتون .. وعشرات يفقدون اجزاء من أجسادهم الغضة .. بكت فتاة بحرقة .. ضرب رئيس الإجتماع المائدة بقبضته القوية , هذا ليس اسلوبا للمناقشة .. راح يشرح اساليب حرب العصابات .
لم تسمع صوت الإنفجار .. كانت فى البستان , تحلم بزهور غير موجودة , وحبيب مفقود , وأب ميت .
صرخت جارتهم العجوز بكلام غير مفهوم .. انطلق عدد من الجيران يجرون بفزع ..أدركت أخيرا أنها يجب أن تجرى .. كانت تريد أن تنام فى ظل زهرة.. كانت تريد ان تحلم بالقمر .. ولكن لامناص .. لابد من الجري .
فوق جثث الأحلام راحت تجرى .. داست على الزهور البيضاء والحمراء والصفراء وراحت تجرى ..
على الطرق المألوفة راحت تجرى ..
تحت الأشجار المألوفة راحت تجرى ..
فى وسط الناس راحت تجرى ..
البقال البدين كان يجرى .. الجارة العجوز .. بائع الفطير الأعرج .. راحوا جميعا يجرون .
توقفوا .. ساد الصمت بغموض .. لم يجسر إنسان على التقدم .. الحوائط يتصاعد منها الدخان ..اذرع الأطفال تبدو كما لو كانت تنادى .. كما لو كانت تتوسل .. اغصن جافة ملتوية تتفجر بصلاة استسقاء دامية .. الأصابع المقطوعة .. الجلود الوردية المتسلخة .. اذرع الأطفال ترتفع الى السماء كما لو كانت تشكو .. كما لو كانت تتعهد بألا تعود الى العناد عند تناول طعام الإفطار .
رئيس الإجتماع يكاد يتوسل طالبا الصمت .. زميل يشرح بعض الأفكار الغامضة .. زميلة بدون وعي تعدل خصلة من شعرها الفاحم .
سألها أحدهم سؤالا , لا تعرف بالضبط هل أجابت أم لا , وإذا كانت فعلت , فماذا قالت ؟
أجساد الأطفال تتثاثر فى يأس ودهشة وعدم تصديق فوق ارضية المدرسة المتربة .. تحركوا بخوف وقلق .. البقال البدين .. الجارة العجوز .. بائع الفطير الأعرج .. اناس كثيرون وصلوا وراحوا يهمهمون .. تسمرت قدماها .. شعرت بأتها عاجزة عن التقدم .
قال رئيس الإجتماع : بدون الهدوء والتعقل لن نصل لشئ ..
تحركت وسط الجموع .. تقدمت نحو باب المدرسة الحديدي .. أذرع الأطفال بدون أصابع .. تبدو عاجزة .. يائسة .. تحركت ببطء .. وفجأة حدث ذلك الشئ .. على السلم الحجري الكبير المؤدى الى المبنى الشاحب , كان يرقد .. شعره الجميل تبعثر بشكل فوضوي ..بدت عيناه هادئتين ..كان فى نظرته تعبير ما عن القرف والتعب ..خداه فقدا لونهما الوردى ..كان وجهه شاحبا .. حاولت أن تنقل قدمها ولو خطوة واحدة .. بدا هذا مستحيلا .. لاحظت ان ذراعه التوى تماما تحت جسده الصغير .. شهقت .. وجدت نفسها تجرى .. تجرى .. تجرى .. أخذته فى احضانها , عدلت من وضع ذراعة الهش .. نطرت فى عينيه بقلق .. شعرت بالخوف .
رئيس الإجتماع يبدو الآن متوترا .. يقول شخص شيئا لا تتبينه .. يصرخ من يطلب الهدوء .. لابد من الإنتقام .. تصرخ صرخة طويلة كأنما تشرخ بها وجه السماء .. تأخذ شقيقها .. حبيبها .. ابنها الصغير فى أحضانها .. يتكاثرون عليها .. البقال البدين , والجارة العجوز , وبائع الفطير الأعرج , يرفعونها .. تصرخ .. يجذبونها .. تصرخ .. يبعدونها .. تصرخ .. يأخذونها الى الخارج .. تفقد الوعي .
سهيلة ..
سهيلة ..
الأصوات تأكل اذنيها ..
لاحظى أخاك حتى أفرغ من غسل هذه الملابس ..
سهيلة ..
لماذا يبكى اخوك ..
سهيلة ..
والدك مريض , ابعدى اخاك ..
سهيلة ..
أبوك مات , خذى اخاك عند الجارة ..
سهيلة ..
اطعمى أخاك ..
سهيلة ..
نظّفى اخاك ..
سهيلة ..
علّمى أخاك ..
سهيلة ..
خذيه .. نزّهيه .. انيميه ..ايقظيه ..
اخوك .. اخوك ..
سيسقط .. سيغرق
سهيلة .. سهيلة
عيناه المتحجرتان تنظران فى أسى
تصرخ ..
يبعدونها ..
رئيس الأجتماع بضرب المائدة بقبضته
تقف فجأة .. يصمتون .. يتحاشون النظر اليها كما لو كانوا يشعرون بالحرج .. رئيس الإجتماع ينظر اليها فى صمت حزين .. تحدق فى عينيه بدهشة .. يبدو عليه الخجل .. تشعر بسنوات عمرها السبع عشرة تتراقص فى بؤبؤي عينيه السوداوين .. وجهه بشكل ما يشبه وجه ابيها عندما قبضوا عليه .. تماسكت وبدأت فى الحديث .. الصمت يرفرف على الغرفة الضيقة .. بدا صوتها غريبا فى أذنيها .. هزت رأسها لتعيد لصوتها رنينه المعتاد ..شعرت انها تتكلم من جوف بئر .. حديثا يسرى فى فضاء الغرفة .. صوتها يتحسس وجوههم , يلمسها برفق , وأخيرا يلسع الأجساد المتوترة بحنان .
ضجة ..
رئيس الإجتماع صامت مندهش ..
ابنة عمها تُعْوِلُ رافضة ..
يصرخ الجميع مستنكرين ..
تُصر ..
ابنة عمها تنقض عليها كمالو كانت تريد ضربها .. تحتضنها بعنف , وتبكى فى هيستيرية .
يشترك الجميع فى مناقشات صاخبة
تقف صامدة فى وجه الضجة.. قديسة طفلة , تتمسك بعقيدتها بإيمان القديسين وعناد الأطفال .
أن يموت الإنسان , ماهو ؟ ان يتجرد فى لحظات معينة , وسمات معينة .. لحظة هينة يعود بعدها لاشيئا , ويصبح بعدها كل شئ .
يسود الصمت .. نوع ما من الصمت .
رئيس الإجتماع يحنى رأسه بحزن .. يتمتم بصوت خفيض :
- ولكنك .. ولكنك مجرد طفلة .. كيف ..
يسود الصمت .. نوع ما من الصمت .
يأمر رئيس الإجتماع احد الموجودين بأن يجهّز لها حزاما ناسفا ..
ينصرفون فى تثاقل ..