أحدث المشاركات
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 20

الموضوع: غِنَاءُ الأشْيَـاء

  1. #11
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (4)
    (4)
    وهكذا كانت أيام الشاعر المحروم من وصل الحبيبة الغائبة تعود كلها ربيعا جميلا وارف الظلال ، شهيّ الجنىَ ، وحياة صافية عذبة تموج بالسعادة والهناء والفرح .. ولكن ، كل ذلك إلى أجل جدّ قريب ، إذ سرعان ما كانت مظاهر الجمال والسعادة والهناء تزول وتنطوي مخلفة المرار والعذاب والألم ، وسرعان ما كان الربيع ينحسر ليخلفه الخريف بكل بشاعته وقساوته ليملأ سلته بالوعود الكاذبة ، وليقيم من جديد بينه وبينها غابة من سدود !
    وتتجسد هذه الحالة الكئيبة مرة أخرى في قوله : ( ق/ 11)
    آ كل أ ثمارك في قارعة الحلم
    ــ أ يا صاحبة البهجة والعصمة ــ
    تقهرني سطوة عشقك في ليل الصمت
    ( وسجني ، والحراس ، وأقفال الزنزانهْ ) !
    هذا الحلم الذي لم يبخل عليه بالعذاب والألم ، أو قل الحزن والألم الذي يعبث بالحلم :
    الحزن يدحرج حلمي
    حزني يمتدّ على الإسفلت عبيرا
    أ حلم بعصافيرك تجتاز الأسوار
    وتغريد ك يقتحم خوائي
    في منتصف الرغبهْ!
    أ مسك جمرة عشقي
    هذا حبّك في صد ري أثمر !
    وتتجسد حالة التردد بين الحلم والواقع مرة أخرى في قصيدته الرشيقة الماتعة " رجع الصدى " (ق / 9) حيث نراه يشخص واقعه الذي غابت عنه الحبيبة وتبدد من نفسه الحلم ، وخلص لمعاناته وآلامه التي لا تنتهي ، يقول :
    تأ نّقت في ا لحنا يا / حروف شوقي صبا يـــا
    ورحت أ نفخ فيهـــا / في ا لفجر بعضَ شذا يا
    تأ ججت كسعيـــر / ود مد مت لندايــا
    وجرح قلبي يغـفـو / على أ نين بكايـــا
    مرا فئ ا لحلم ولّت / وضاع مني هد ا يـا...
    هكذا كان الصوت يحكي قسوة الواقع ويجسد آلامه المبرحة .. حتى إذا كان الصدى ألفيناه يحكي كل هذا العذاب والمرار والألم بطبيعة الحال ، فما الصدى إلا صورة أخرى مشوهة للصوت بكل آلامه ومعاناته وعذاباته وأحزانه ؛ بل لعله جسّد من الحبيبة الغائبة ما لم يتجسد في الصوت :
    هل كنت أطياف نور / غد ا بد ربي خطـايــا
    أ م كنت نارا بخلدي / لم تُبْق منني بقا يــــا
    أ كنت عاري وحزني / وصوتَ صمت بكايــا
    أ م كنت ميلا دَ قهــر / في صحوتي وسما يــا
    فصرت روحا غريبا / وصار دربي شظايـــا
    ولا يملك الشاعر المحروم إلا أن يظل يحلم بالحبيبة الغائبة " الخضراء" وعودتها لتملأ حياته ونفسه حبا وعشقا وأملا : (ص 24)
    أ ين الصوت الصادح ، صوتك يا خضراء
    عشت أحبك .. وأود دخول حدائقك الوحشيهْ
    لكنك دججت مداخلك السريهْ
    ونوافذ ك الدريهْ
    بجيوش كالنمل
    وسلاح وضجيج
    هذي خيلي تبعدهــا الرهبهْ
    كيف سأقتحم العقبــــهْ ؟!
    ويتولد الأمل من هذا الحرمان ، ويرقب العاشق المتيّم عودة الحبيبة الغائبة التي طال انتظاره لها لتملأ حياته حبا وعشقا وهناءة :
    تأتي فاتنتي الليلهْ
    صاهلة بالحبّ .. ومثقلة بالبوحْ
    تحد ثني عن فتنتها الشرسهْ
    قد حاصرها في الليل البومُ
    أ خفّف عنها .. وأطوّقها في حضنيّ
    يفاجئني نرجسها بالخنجر في الصدر
    وند خل بهو الفرحة منتشيين .. عرايا !
    إ ني نشوانُ .. وجسمك يتفـتّح
    تتدلّى أ ثمارك وعنا قيدك
    هل نستيقظ في الفجر ؟!
    ويظل الشاعر العاشق مشدودا مصلوبا على خشبة الأمل بعودة الحبيبة الغائبة لتملأ حياته أملا وعشقا وسعادة !
    وفي " ورد ة البوح " ( ق/ 23) يُذكّر العاشق الصب صاحبته بوعودها القديمة المعسولة المثقلة بأمل اللقاء كاشفا عن مخاوفه التي تملأ قلبه من هجرها واستمرار غيابها الذي لا يجد له نهاية ، يقول :
    وقلت غد ا تشرقين
    وفي خطوك البرق
    وفي صدرك الشوق
    علم اليقين
    وخلف جدار التوجس أرقب وعدك .. هل تحضرين ؟!
    ولا يملك إلا أن يصور آثار حضورها في نفسه وروحه وحياته فيقول :
    تهلّين كوكبَ عمري
    فيسطع في داخل الكهف نورْ
    وصد ري يقفز
    يبزغ في الظلمات الضياء الحنونْ !
    أما إذا غابت وأوغلت في هجرها وصدها فستكون حياته ونفسه على صورة أخرى لا ينقصها الحزن والكآبة والمرار والعذاب :
    تغيبين كوكبَ عمري
    فيهمس بالحب قلب تعذّب
    يُغرَسُ نصلُـك في الصدر!
    هكذا بدت الحبيبة بالنسبة لشاعرنا العاشق في حالتي الحضور والوصل والغياب والهجر.. ومع ذلك لا يجد هذا العاشق إلا الاندماج أو قل الحلول في كيان الحبيبة محققا التوحد اللانهائي معها :
    أنا الآن صوتك يخترق الخوف
    عطرك يمتشق الحرف
    جرحك .. بوحـك .. عطر السنين !
    .............
    (يتبع)

  2. #12
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (5)
    وما إن تنتهي أو تضمحلّ حالة الحلول والتوحد مرهقا بآلام الخيبة والعذاب حتى يصرخ فيها عسى أن ترحمه وتخفف عنه شيئا من عذاباته ومعاناته :
    أأخرج قلبي ليبصره العالمون
    وصد ري طعينْ ؟!
    وهكذا يتردد الشاعر بين حالات الوصل والهجر ، والاحتمال والعجز دون أن يقرّ له قرار، أو يحقق التوازن المنشود في هذه العلاقة المضطربة التي صورتها قصيدة "فضاءات" (24) ، وقصيدة " العشب الرملي " (26) ..
    وقارئ هذا الديوان يحس غلالة صفيقة من الحزن تغلف أجواءه وتسري في عروق قصائده التي تتلفع بها ، وتنهمر في أنحائه أمواج الحزن ، ويشيع فيها مظاهر الإحساس الحاد بالموت والفناء كآخر محطة على طريق الحزن الطويل!
    وتأمل قصيد ة " إيقاع الموت " (36) لتتبين أقسى صورة من صور الحزن التي كانت تغمر نفس الشاعر حيث يقول :
    هل كان الوقت ربيعا
    إذ أشدو كالبلبل .. مجروحا
    في أنواء الدمع .. وأقعي في ركن الصحراء ؟!
    وأحملق في قاما ت الخوف
    المسكونة بالند ب .. وإيقاع ا لداء
    أ هوي في سرداب الفقد مليّــا
    أ تشبّث بغبار .. وعجيج .. وخواء
    أ ملك فيض الفزع نهارا ...!
    ودائما تحس الشاعر ينغمر في دوامة من الحزن الذي أورثته إياه الحبيبة الغائبة الهاجرة التي ما تكاد تمنّيه بالوصل والحب حتى تفجعه بالهجر والعذاب ، فتختلط في نفسه ووجدانه الأمور فلا يتبين شيئا من حقائقها فيما وراء العذاب والمرار والعناء والألم الذي يمارسه ويقتات منه في كل حين وهو يهوي في سراديب الفقد المعتمة يتشبث بالغبار والعجيج والخواء !
    ويبدو أن هذه الحالة كانت وراء هذه الجلسة التي جلسها في ذلك السرداب المعتم يخوض مكاشفة مع الذات للتحرر من قيود الصمت المطبق الذي يكاد يخنقه ، ونزع الأقنعة التي يتخفى وراءها لكشف الحقيقة التي كانت تحاصره مهما كانت مؤلمة وحادة ، والخروج من " مملكة الروح " (ص 74) .. ولكن السؤال الملحّ : هل يستطيع الخروج والخلاص والتحرر من تلك المملكة التي تقوم على كل تلك الأوراق المتنوعة والمتناقضة :
    ورق يحمل أ وسمة ونيا شين (سيحملها الخونة) ، أخبار تتناقلها الريح ، أطارد
    صوتا تنبت في خضرته الدهشة ....
    ورق يتجذر فيه الرهق ، فيأخذني من نهري كي يلقيني في رمل الصحراء ..
    يحاصرني بالمن وبالسلوى
    فأفقد رعشة طقسي ، ونبوءاتي !
    أم أنه لن يجد أمامه سوى أن ينصب مشنقة للأحزا ن الممتد ة ؟!
    وتتراءى له الحبيبة الهاجرة الغائبة وتبدو "ورد ة من سقر" يتوسل إليها أن توقظ بوحه على جراحه النازفة ليصف ما يعتلج في صدره من حنين وعذاب ..
    ويبدو أن هذه المحاولة التي كانت الواحدة بعد الألف لاسترجاع الحبيبة الغائبة باءت كسابقاتها بالفشل والخيبة فلم يعد أمامه غير المجابهة والمواجهة لنفسه / البحر بكل ما يختزنه من حقد ومرارة وتمرد ورفض :
    يا بحر أ جبني :
    هل كنت سريرا للجسد المتعب .. أ م كنت الداء ؟
    والذلة قعساء ....
    بيرقك المكسور يرفرف في سارية الوحل
    د ماؤك تنزف في شريا ن القلب ..
    وساقيك يزمزم .. والطحلب في الكأس
    وخرافتك الملعونة تكتب خاتمة اللهو
    ربيعك يتأرجح في مشنقة الصوت
    وفي صلصلة الحبس !
    ولم يعد يملك غير الذكريات التي تغمر نفسه وروحه بعد غياب الحبيبة عبر ذلك السرداب المعتم الذي أوى إليه في لحظة المكاشفة .. وتبرز " فاطمة " ـ صاحبة الإهداء ـ كأمل للخلاص من أحزانه وعذاباته ليخاطبها بقوله :
    " أيتها السيد ة الورد ة
    يا أيتها النغمة
    الطالعة جراحا من بحر العشق
    ومن سيمفونبة عزف القلب الكهل .. ومن طول الحرمان
    أيتها السيد ة / الخبز / الشعر /الذاكرة / الماء
    أنا الصحراء
    فكيف تكونين بقيظي شجرة توت وفراشهْ ؟
    وظلالا تمنحني الورد / النبض / الألوان !!
    هكذا كانت تلك الحبيبة بالنسبة لهذا العاشق المدنف .. أما هو فكان الصحراء العطشى القاحلة تنتظر الحبيبة الغائبة لتكون شجرة توت وفراشة وظلالا تمنحه كل مظاهر الحياة والأمل ..
    وهكذا كانت الحبيبة الغائبة أول سطر من أ سفاره الصحراوية التي سيقضي الحياة يسطرها بدماء قلبه وأنسام نفسه وروحه إلى أن تعود إليه أو يقضي الله أمرا كان مفعولا!
    وقد صور الشاعر طرفا من هذا العشق القاتل عبر الأشواق المكية من "مكابدات صفوان بن أمية" عندما طرقه طيف الحبيبة يمنّيه بالحب والهناء الذي طال انتظاره له ، وقد تحقق له عبر هذا الطيف كل ما كانت تتوق إليه نفسه الظامئة ، فاندفع يغني وهو يستقبل طيف الحبيبة :
    خيالك جاء د فّاقا ، أ يا فتانةَ الصوت
    يفاجئني بلفظ أخضر النبرات :
    متى تأتي ؟
    أراكِ بجانبي ألقَيْتِ غُلَّ البُعد والصمتِ
    ويخرج جسمُك الوهاج فجرا في غلالته
    فأهتف: يا خيالَ العاشق المجنون
    كم تهوي بك السكراتُ للموتِ !
    ويلتفت إلى فاطمة التي دلّهته وتيّمته زمانا طويلا دون أن يحصل منها على طائل فيقول :
    أفاطمُ كم هنا أمضيتُ من أعوامْ
    بعيدا عنك
    أ غنّي ـ يائسا ـ وحدي ، على فَنَنِ
    فهــل فاز الغريبُ الصابرُ النهّــامْ
    بتمر الشام .. أ و عنب من اليمن ؟!
    ومع كل هذه الخيبة فهو يقتنع بخيالها الذي طرقه محملا باللهفة والشوق وهو يرحل في أحلام الوصل واللقاء والهناء فيقول :
    خيالُك جاء دفّاقا على متن من الأحلام
    يميل عليّ يمنحني عطــاء الوعدْ
    وليلُ الشعر يحجبني
    ونبضُ الصد ر يؤنسني
    أناملُ ورد ة حمرا .. على أ ذ ني
    هديلُ حمامة يجتاح أ سواري ويمتعني
    فأسهر هائما لمطالع الفجرِ !
    حتى إذا تبدد الحلم ، وغاضت السعادة والهناءة ، وتكشفت له الحقيقة وتبين له الوهم الذي نعم به زمانا ، وأدرك أنه لم يحصل على شيء من بلح الشام أو عنب اليمن ، كرّ يمضغ أوجاعه ويعلك أحزانه ، ويستجمع شوارد أفكاره وهواجسه موقنا بأن لا لقاء بالحبيبة الغائبة في عالم الواقع لما يفصل بينه وبينها من بلاد وحدود وسدود من الشوق والشعر .. ولا يملك إلا أن يهتف لها على البعد شاكيا متوجعا متألما عسى أن يجد عندها صدى يطفئ حرق الشوق والوجد والصبابة :
    وأهتف : يا سنا عمري !
    بعيدا عنك أ مضغ شاردا فكري
    بلاد بيننا : بحران من ليل ومن جمر
    بلاد بيننا : جبلان من شوق ومن شعر !
    ويبقى السؤال الحائر يتردد على شفتيه د ونما جوا ب :
    متــى تأتي ؟
    أراك بجا نبي ألقيتَ غُلَّ القيد والصمتِ " !
    ولا يجد أمامه سوى الكشف والإفصاح عن أثرها البالغ في نفسه ومكانتها في قلبه ، وما يعتلج في أعماقه من أشواق ، وما يتحلّى به من صفات وشيات كرّست ذلك الحب والشوق في أعماقه :
    في حضنك الأكوانُ .. والإيمانُ
    والأشواق تهتف بي : إلى القمر الود يعْ
    في وجهك الصدق الذي لم يستطعه العاشق المذعور
    من رهق الحقيقة .. من نداءات الربيعْ
    ود مي المشرد في حدا ئقك الصبيّة
    صاهلٌ في حمحما ت الشوق يشهد ذاهلا
    أ بصرت حزنَك في الصقيع
    وحللت من نوّي بأرضك مورقَ الخطرات
    لي نبعٌ يحاور أ صلَه وعد اً
    و ذي روحي ، تدحرجُ خطوَها الملتاعَ
    في ثلج المداخل ، أرتقي .. أ شد و ..
    أ تلك جداول الإيمان في عينيك ..
    عذ بُ رحيقك الممزوج بالدم والد موعْ ؟!
    أ م ذي رجا حةُ غصنِك المسكون بالحسن البد يعْ ؟!
    ...........
    (يتبع)

  3. #13
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (6)
    وواضح أننا أمام شاعر مسكون بحب هذه الحبيبة الملهمة التي فجرت في نفسه كل هاتيك المشاعر ونشرت فيها كل تلك الأحاسيس والوجدانات التي تضمخت بالحزن والألم والوجع الكاوي ! ويبدو أن كل هاتيك الأحزان المتأججة في نفس الشاعر كانت وراء تلك القصيدة الرائعة " أ وراق العمر الضائع ؛ أو شموس غاربة " (ق / 31) حيث سجل بعض تلك الأوراق التي ضاعت من عمره وهو يجري لاهثا في أعقاب الحبيبة الغائبة !
    بيد أن الذي يلفت النظر هنا انصرافه عن طيف الحبيبة الذي طرقه بحثا عن الأمن والحب والسعادة والهناء في واحة عمره مخالفا ما درج عليه الشعراء في حسن استقبال طيوف أحبتهم وصواحبهم كلما استبدّ بهم وجع الهجر وألم الفراق والبعد ؛ حتى إذا تأخرت تلك الطيوف أو تأبّت عليهم تصنّعوا حضورها وطروقها في أثناء رحلاتهم المجهدة في مسارب الصحراء الموحشة ليقضوا أمتع اللحظات معهن ، ويطفئوا حُرَق الشوق والصبابة المتأججة في أعماقهم ؛ يقول شاعر الأشياء التي تغني مخاطبا طيف الحبيبة بشيء غير قليل من الصلف والجفاء والقسوة :
    حين أ تاني طيفُ شجيرتها يطلب واحة عمري
    كي يستلقي من غربته الموحشة القحلةِ فوق ضفاف الصيف
    قلت : ا بتعدي عني ! لا أ قدر أ ن أحميَك
    فهذا الليلُ جد ا رٌ يمتدّ بأغوار العمر ! (59)
    وقد يتبادر سؤال : لماذا لا يقدر هذا العاشق على حماية طيف الحبيبة ؟ أما كان يجدر به أن يحسن استقباله ليطفئ شيئا من حرق الصبابة والوجد المشتعلة في نفسه وروحه في غيبة الحبيبة؟ّ
    أم أن ذلك كان أثرا لما أحدثته في نفسه من تباريح الصبابة والوجد بسبب هجرانها له وبعدها عنه مما أفصح عنه في مثل قوله :
    لم تسمعني أ ذناك
    وشدّ تني عيناك اللؤلؤتان
    وألقتني للبحر الغامض
    كان النور الوردي الهادئ في الظلمات يضيء مغارة روحي
    يتفتح ورد ا فوق صخور الشطــآن
    فأبحرت وقلبي
    هاأنذا روح يستجلي حضرتك
    وصوتُك يهمس للبحر
    ( أ حاول أن أستكشف سرّ غموض الطيف ) !
    ويمضي الشاعر في عذاباته التي لا تكاد تنقضي في محاولة يائسة لتضميد جراحات نفسه التي سببتها له الحبيبة الغائبة !
    وربما كان هذا الموقف من الحبيبة الهاجرة ، أو قل الورقة الضائعة من أوراق عمره هي التي استدعت الورقة الضائعة من عمر المتنبي في بلاط كافور حيث فرّط في حبيبته كارها أو غير كاره ، وانطلق يجوب الآفاق بعيدا عنها معرضا نفسه لما تطيق ولما لا تطيق ، جاريا وراء وهم نفسي كبير كانت نتيجته الخيبة والمرار ! هكذا كانت ورقة المتنبي الضائعة التي رصدها شاعر الأشياء التي تغني في هذه التحفة الفنية الرائعة محاولة يائسة للتشفي ، أو تحقيق الشفاء النفسي الذي كان يتوق إليه من أولئك الذين فرطوا فيه ولم يعرفوا حقيقته .. حتى إذا يئس من وعود كافور وأدرك الخيبة التي كانت تنتظره ، استبدّ به الشوق للحبيبة الغائبة في حلب ـ سواء أكانت خولة أم سيف الدولة نفسه دون أن يدري أن الخيبة كانت تنتظره بل لعلها لم تفارقه منذ رحيله!
    وإذا تركنا محور الحب والحزن والعذاب والألم الذي أبدع الشاعر إبداعا مشهودا في تصوير مظاهره وآثاره ، وأفرط فيه إفراطا بالغا انسرب إلى كل كلمة فيه وصبغها بأصباغه القاتمة الكئيبة ، ألفينا محور الهم السياسي الذي كان يضيف إلى همومه السابقة هموما أخرى أو قل ركاما آخر من الهموم التي لا تطاق والتي تأذى بها الشاعر كثيرا ، وعانى منها عناء شديدا انفجر في ثنايا بعض القصائد على نحو ما نجد في القصيدة الحادية عشرة وهو يعتذر للشاعر اليمني عبد الله البردّوني معارضا إحدى قصائده الفخرية ، حيث ألفينا شاعرنا الكبير يخوض لجج الإحساس بالانحطاط وخواء الماضي وهوائية الأمجاد التي صنعها الآباء والأجداد ، وزيف الإنسان العربي المعاصر .. ولم يسع هذا الشاعر الأبيَّ ، الإنسان الرافض لكل هذا الزيف والادعاء والكذب إلا أن يصرخ بأعلى صوته :
    لست من نشل عنترهْ والسيوف المظفّـــرهْ
    ليس لي سـيف خالــد والفتوح المطهّـــرهْ
    ويرصد الصورة القديمة الماجدة عندما كانت قبيلته تصارع الفرس والروم وتجالدهم بندّية ظاهرة ، والصورة الحديثة الكابية التي غدت الأمة العربية فيها دمية للسماسرة وتجار الحروب تعبث بها الخيانات وتسخر منها البيانات التي تموج بها وسائل الإعلام المزيف المأجور.. وليصرخ الشاعر بأعلى صوته قائل : هكذا صارت قبيلتك الماجدة يا عنترة في زمن السقوط والانحلال ! وهكذا صار حفيد عنترة الماجد في عصر الهزيمة والانكسار .. يجرع الخوف ، ويمضغ الخيبة ، ويمارس الرياء والكذب حفاظا على الرمق الذي بقي له من حياة الذل والهوان!!
    أ جرع الخوفَ لـــذّ ةً هاربا من جبــا بــرهْ
    آ كل ا لجبنَ هاذيا خائفا من مؤا مــــرهْ
    مطلع الفجر كــذبة للجموع ا لمخــــــدرهْ
    ضاع أ مس ، انتهى غدي والحكا يا مكـــــــررهْ
    تحت ليل مضرّ ج عشتُـه أ لفَ مجــــزرهْ
    وهكذا سيطر اليأس على هذا الشاعر مما رأى من تبدل الأحوال وتغير الناس وزيف الحقيقة وسيطرة الرياء والدجل !!
    ويبدو أن شاعرنا المنكوب بواقع أمته أو قبيلته المفلسة من الأمجاد القديمة حاول الخروج من أزمته النفسية الخانقة ، ومأساته الوطنية المفجعة ليدخل في تجربة نفسية ، ويعيش أزمة نفسية كاوية عبر تجربة عشق لحبيبة هاجرة غائبة .. وهكذا لم يجد شيئا مما كان يبحث عنه ، ولم يتمكن من الخلاص من أزمته السياسية الخانقة ، ولا استطاع أن يجتاز أزمته العاطفية الخائبة ، فكرّ راجعا يصرخ بأعلى صوته :
    لا جدوى من شعر الشعراءْ
    فلأرجعْ للوحدةِ
    تزد حم الذاكرة بصورة أقدام عارية .. متشققة ..
    وبأرغف خبز في لون الطينِ ..
    وكفٍّ تهوي فوق الكفّ ..
    وإبل تجري في الصحراء !
    وهكذا لم يجد هذا الإنسان المنكوب بواقع أمته الأسود خلاصا في أي شيء وخاصة شعر الشعراء الذي يبدو أنه كان يعوّل عليه كثيرا حتى تكشفت له حقيقته المفجعة ، فقرر العودة إلى الوحدة والعزلة يقتات الذكريات ويلعق الأحزان والآلام والحسرة التي لا تنتهي ، حتى لو كانت تحمل مظاهر وبوادر التغير القادم مع ذلك الصوت البعيد الذي يغمغم بألفاظ لا تكاد تبين :
    هيّــا افتحي الباب للريح .. وانتظري ا لعاصفهْ !
    ولكن هل تأتي العاصفة وأمثال هذا الجنرال الذي لم يمارس الجندية الحقة يوما يتحكم في مصائر الشعوب المنهزمة المنكسرة ؟! ربــمـــا ! :
    فلربّ قريبا نبصر فردا
    من مـئة .. من أ لف .. من مليون .. من مئتي مليون ..
    يتكلم ذات نهار للجنرال ...
    اللابس شارات الجنرالات ..
    ويزهو منتفخا في استعــلاء
    حتى لو لم تبصره قديما جنديا
    في داورية .. في قرية .. في شرق البصرة .. أو سامراء !!
    كذلك كانت للشاعر وقفة أخرى مع مهزلة السلام الرخيص ، أو الاستسلام الحقير الذي انجرفت إليه الأمة العمياء التي قادها تجار السياسة المأجورون .. هنا كانت وقفته مع الرمل / الوطن الذي تبدلت أحواله وأشياؤه فلم تعد كما عهدها بفعل هذا السلام المزيف الذي يملأ النفوس المنهزمة بالوهم والحلم ؛ انظر إليه يخاطب هذا الرمل / الوطن المطحون تحت رحى السلام الكاذب :
    وهذا الذبيح / السلام
    وذلك صوت بياضك في الأفق
    صار إزائي وحيد ا
    يعيش بأفق النيام
    وبيتك يكبر ، عاصفة الوهم تكبر
    تعصف بالحلم مؤذنة بالزوال / الظلام ! ( ص 56)
    أما رسالة الشاعر ودور الشعر في هذه المأساة ، فيتساءل عنها الشاعر منكرا ما ساد صاحبه من صمت فيقول :
    فأين مواسم شعرك يا أيها المتفجّر عشقا
    وهاجسك الصمت والغصص المتخثّر بين فصول الغرام ؟!
    هكذا صار دور الشعر بعد أن تخلى عن رسالته ودوره الوطني تحت وطأة هذا السلام الرخيص حيث عاد يمارس صمته وغصصه المتخثرة بين فصول العشق والغرام !
    وربما تنخرط قصيدة " العنكبوت " في هذا الإطار الرافض لمهزلة السلام الرخيص والاستسلام حيث تخلى الشاعر عن دوره ورسالته ليتصالح مع أجهزة التدمير يخفي مساوئها لائذا بالصمت حينا ، وبالآمال المخدرة أحيانا كثيرة : ( ق/ 5)
    تصالح والعنكبوت
    وأخفى عن الشمس أفكاره السيئات
    تحصّن بالصمت .. مرتديا فضلات السكوت
    وأبصر كيف الممالك تهوي
    وكيف العروش تموت
    وظلّ يخاطبنا والرياح تدوّي
    عن القصر .. والنصر .. والرهبــوتْ !
    فقد تصالح هذا الشاعر وتناسى رسالته ودوره الوطني مع العنكبوت / رمز الخراب والدمار والموت ، وتغاضى عن مساوئه ولاذ بالصمت ، بل انبرى يخدّر الآخرين بأحاديثه الكاذبة عن الآمال والأحلام والطموحات القادمة !
    كذلك امتد ّغناء الشاعر السياسي إلى البوسنة والهرسك في صراعهم مع الصرب والكروات الذين حرصوا على تدمير الوجود الإسلامي في تلك البلاد عبر الرسالة التي كتبها إلى بيجوفيتش حاضا على الصمود والثبات ، ومصورا طرفا من مأساة سراييفو وصمود المسلمين في وجوههم حيث يقول مصورا طرفا من أحوال بيجوفيتش :
    ما زلت تمارس ملحمة صمودك
    لا تعبأ بالخوف .. الموت .. القهر ..
    ما زلت تقاوم .. وتغني للحب
    ما زال يروعك صوت الباطل في ليل القر
    ما زلت تقاوم كالنسر خنازير الصرب !
    .................
    (يتبـــــــــــع)

  4. #14
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (7)
    ويمضي مع أحلامه وهو يرصد خيول محمد الفاتح لتعيد هذه الديار إلى حظيرة الإسلام كما كانت ، وينشر فيها السلام والأمن من جديد .. وهنا يدعوه شاعرنا للاستنجاد بجنود الإسلام لينقذوا تلك البلاد من رجس الصرب والكروات ، ويخلصوا أهلها من المصير الأسود الذي ينتظرهم ، يقول :
    أنت الحادي الصادق
    فاصرخ في جند محمد
    نادِ المجدَ المدبر
    وبقايا أمتك تغطّ أنينا في نومتها
    أيقظها يا صوتَ محمد
    أشعل جمرة شوقك في غضبتها !
    ويلقانا محور الغربة والاغتراب ؛ وهو محور تبدّت آثاره بوضوح وجلاء في أدب هذه المرحلة ، ولم يكفّ الأدباء شعراء وكتّابا عن الحديث عن هذه القضية وطرح سلبياتها وهمومها ورصد آثارها النفسية وغير النفسية على الإنسان والمجتمع على حد سواء .. وهكذا غدت الغربة ظاهرة متميزة من أهم الظواهر التي شهدتها المرحلة وانعكست على أدبها بشكل لافت ..
    وقد حظي ديوان " غناء الأشياء " بوقفات متميزة عند هذه الظاهرة .. ومنها تلك الوقفة التي وقفها الشاعر بين التقويمين : تقويم البحر وتقويم الصحراء وما سادها من حيرة واضطراب نفسي بالغ : ذلك أنه لا يقدر على الرحيل والخلاص من واقع الحياة الكئيب التي يحياها بكل سلبياتها وآلامها المدمرة ، ولا هو يقوى على تشييد أهرام الوهم ومدن الأحلام التي تحقق السعادة المنشودة ؛ يقول : ( ق /
    أأرحل من مدن الصمت المطبق ..
    من مد ن الموت .. إلى البيداء
    أأبني أ هرا م الوهم صباحا .. ظهرا .. ليلا
    هل أ هلك روحي قهرا
    في أزمنة الغرباء / التعســاء ؟!
    ولكن هل يجد هذا الغريب من ينقذه من " لغو الثرثرة الجوفاء ؟!"
    وإذا كانت هذه الحيرة تجسد مظهر الاغتراب عن الوطن وآلامه النفسية المبرحة ، فإن النشيد التاسع من القصيدة /11 أفرده الشاعر لتجسيد معاناته من اغتراب الحبيبة وغيابها عن حياته مخلفة له كمّا هائلا من الآلام والأحزان والأمل الكبير الذي لا يغيض في عودتها ..ولكنه سرعان ما يصطلح مع الواقع ويتحرر من الحلم ليجد الأمل قد خبا وتبدد ، وأيقن أن الحبيبة لن تعود ، فلا يملك سوى أن يسكب عبراته ـ أو قل دمعة أخرى أو لعلها الأخيرة ولكنها بحجم الداء الذي يستكن في أعماقه بسبب غياب الحبيبة الذي لا يبدو لغيابها نهاية ؛ يقول : (ص 27)
    بعيد ا عنك يا خضراء ، عن شعري وأنهاري
    سأجرع وحدتي صبرا ، بجوف الليل
    وأنصب في د مي المسفوك خيما تي .. وخيبا تي
    وأكشف عن عذاباتي بوادي الويل
    وأسأل طيفك الآتي
    عن الشعر الذي قد كان تذكاري
    وجمر هوا ك في نبضات قيثاري
    وحلمك ذلك الموّار بالأضواء والنا ر
    وفي تذكارك العاتي
    تدفقت الرؤى خجلَى
    تنادي فجرك الوضاء
    ( أ يشرق مرة أخرى
    يكاشفني بفاتحة من الطهرِ
    وأطياف من الشعرِ ؟)
    ... ولا يأتي
    فأجلس في غيا هب وحدتي أ بكيك يا خضراء
    وأسفح دمعة أخرى .. بحجم ا لداء !
    وهذا الإحساس الحاد بالغربة والاغتراب تجلت آثاره ومظاهره في قصيدة " العودة " /27 التي تسجل حدث موت أحد الغرباء قبل أن تتهيّأ له فرصة العودة إلى أرض الوطن لتضم رفاته؛ وقد تأثر الشاعر بهذا الحدث المفجع تأثرا بالغا سطّر أبعاده على صفحتها وحمّل سطورها وألفاظها آثاره الكابية الحزينة ، ونفثها لتكون مرثاة لكل الغرباء الذين يموتون بعيدا عن الوطن ، ويحرمون من التصاق أجسادهم بترابه العطري المقدس ، يقول :
    مات الغريب .. ولم يضئ في الليل قنديلا
    ولم يشعل ببسمته شوارعنا الفِســاحْ !
    كانت أنامله .. وريشته الجميلةُ في دياجي الليل
    أنوارا مضمخة بجرح البلبل المسكون بالوجع المبــا حْ
    كانت قصائد ه الحميمة في شوارعنا ـ التي تغفو بآخر ليلها ـ
    تشتاق أ ن يأتي الصباحْ !
    هل كنت أول عاشق يهفو إلى صبح اليمام
    وأنت تسكب في مدامعك الجراحْ ؟!
    هكذا مات الغريب بعيدا عن الوطن والأرض قبل أن يتحقق له أمل العودة ليقضي بعض أيامه في حضن الوطن ، ويلتحم بالأرض التي ينتمي إليها ، وقبل أن يتمكن من نشر ابتساماته العذبة على أهله وذويه الذين طال انتظارهم له وامتدّ شوقهم إليه ولسماع قصائده الحلوة والحميمة التي تجسد الانتماء والتجذر في رحم الأرض والوطن بحجم كل المسافات الشاسعة الفسيحة التي ليس لها آخر!
    بيد أن هذا الموقف المتعاطف من الشاعر مع هذا الغريب وكل الغرباء من بعد ومن قبل يلقى شيئا من الانحسار والانكسار عبر موقف الشاعر من الغربة والاغتراب ؛ ذلك أن هذا الشاعر المسكون بهاجس التغيير والثورة والتمرد والرفض للواقع بكل سلبياته ومساوئه وآلامه التي لا تطاق ينكر على الآخر / الغريب ـ وربما نفسه ـ الهروب وعدم المواجهة والتصدي لواقعه محاولا إقناعه بضرورة المواجهة ورفض الهروب محذرا من عواقبه الوخيمة ، هذا الهروب الذي يمكن أن يوصف بالرحيل على جواد النار حيث يقول : (ق /6)
    أ ترحل في ليا ل يا ئســات بأفرا س ضوامرَ سابـحـــا ت
    ولا حاد هنا ك ولا طريــق وتنهل من كؤوس مذ نبــــا ت
    وقلبُك آ فلٌ والشمس حلــــم أ تشرق بعد موتك في ا لغـداة ؟
    فقد أنكر الشاعر على الآخر عزمه على الرحيل والاغتراب عن الأرض والوطن وقد تجرّد من كل وسائل الأمن والحماية رافضا هذا الرحيل اليائس الذي تغلغل في أعماقه محذرا من مغبة هذا الرحيل وما ينطوي عليه من خيبة وما سيؤول إليه من نهاية مؤسفة وشيكة دون أن يحقق شيئا من أحلامه وأمنيات روحه وطموحات نفسه الظامئة!!
    ويبدو أن هذه التحذيرات والمواعظ آتت أكلها وحققت غايتها وفعلت في نفس الآخر فعلها فعاد إلى رشده وثاب إلى وعيه ، وأدرك خيبة تصرفاته وأيقن بالخسارة الفادحة التي سيجنيها من غربته فشارك الشاعر في موقفه وأخذ ينكر على نفسه ذلك العزم ، فطفق يبكّت نفسه فيقول :
    أأعبر جسرَ أحزاني وأمضي كبرق في ا لليالي ا لدامسا ت؟
    وصوتُ الفجر يهتف يا فؤادي أصِخْ سمعا لضوضاء الحيـــاة
    غدا أشد و ، غدا أشدو وأشدو بأنـغـام ا لحـياة الـبـاسمــات
    وسواء أكان هذا صوتَ الغريب أو العازم على الاغتراب ، أم كان صوت الشاعر المندد بالغربة ، المحذر من مغبتها ، فقد وفق في تسجيل هذه الانكفاءة ويقظة الضمير والاستجابة له والقدرة على تحرير النفس من عبودية المظاهر الزائفة للانخلاع من ربقة الأرض والوطن !
    وهكذا عزف الشاعر / الغريب الآخر عن الاغتراب ، وحقق الاستعلاء على أهواء النفس وملاهي الحياة ، مستجيبا لصوت الحياة / نداء الفجر مؤذنا بميلاد يوم جديد مترع بالأمل والحياة وأنغامها الباسمة ، وعاد ليتشبث بالأرض ويتجذر فيها رافضا الارتحال اليائس !
    وراء ما سبق نجد الشاعر الكبير تناول أغراضا وطرح أفكارا متنوعة ومتعددة في قصائد هذا الديوان مما عرضت له وعنّت عبر تأملاته العميقة ، وكانت تشكل له بالتأكيد هواجس خاصة وهموما لها قيمتها .. ومن تلك الخواطر والأفكار والتأملات ما جاء في قصيدة "حدّ السأم" التي يقول فيها : (ق/12)
    عبرت تُخومَ السنين إلى الأربعين
    وقاربت حدَّ ا لسأمْ
    وفاضت سيول الجنون مع الفجر
    عاثت فلولُ الألمْ
    لمن يُكتَبُ الشعرُ .. والبحرُ ملحٌ أُجاجٌ
    ولا حولَ لي لأقولَ : نعمْ ؟!
    وواضح أن الشاعر هنا يقف عند مرحلة مهمة من مراحل حياته أو عمره وهي "بلوغ الأربعين"، كاشفا ما امتلأت به نفسه وشاع في حياته من مظاهر السأم والملل والقرف وهو يشرف على هذه المرحلة ؛ وواضح أن صاحبنا العزيز يريد أن يصحح نظرة شاعرنا الأكبر القديم "زهير" الذي يقول :
    سئمت تكاليف الحياة ومن يعِشْ ثمانين حولا لا أبا لك يســــأمِ
    فقد بلغ شاعرنا القديم الحكيم حدّ السأم عند بلوغه الثمانين من عمره ـ أي ضعفي مرحلة السأم عند صاحبنا الذي كشف له طرفا من آلامه النفسية المبرحة التي لم يصادف لها نظيرا ولا شبيها ؛ فقد غمرته سيول الألم والجنون والإحباط واليأس وهو لما يجاوز هذه المرحلة المبكرة من عمره! وإذا تفحصنا القرون الخوالي التي تفصل ما بين الشاعرين ، وما حظي به قرننا الكسير من آلام ومصائب وعناء وإحباط وقرف ويأس وسائر مفردات هذا المعجم البشع لم نستغرب سأم شاعرنا العزيز المعاصر ، بل لعل شاعرنا القديم لو تناهى إليه أمر هذا البيت لبكّت نفسه طويلا على ما أبدى من سأم وملل لما وجد من عصره حتى لو كانت أبرز أحداثه حرب داحس والغبراء التي لا تعدل أي وقعة من وقائع هذا العصر النكد ! بل لعلنا لا نسرف في الظن عندما نقرر أن صاحبنا المعاصر أخفى علينا شيئا كثيرا من دوافع سأمه وقرفه وملله الذي تجرعه ولما يجاوز الأربعين من عمره المديد إن شاء الله ، وسطر عليه قبل ذلك بعقود ولا غرو!
    وتلقانا في الديوان قصيدتان أخريان نظمهما وفاء بحق العلاقات الإخوانية التي تربطه ببعض الأصدقاء إحداهما "أنت والشعر" التي نظمها بمناسبة بلوغ صديقه الحميم الشاعر الكبير "بدر بدير" الستين من عمره وخروجه إلى المعاش .. وفيها يعالج قضية المعاش هذه رافضا ما تعارف عليه الناس وتأصل في المجتمع المصري خاصة ـ وغير المصري عامة من مساوئه وآلامه والمعاناة البالغة منه ، مؤكدا أنه بداية حياة جديدة من الخير والعطاء ، مليئة بالسعادة والعمل والفرح والإبداع تلت مرحلة القيود والسجون والعمل الرتيب الممل والروتين القاتل ؛ يقول :
    قد آ ن للشاعر المشتاق تغريد وحان للنغم المقموع ترد يــــد
    وافرحتاه لنسر ظل محتبســــا وصنوُه في سماء الشوق غرّيــد
    قد كسّر القيدَ ،لا عادت سلاسله وعانق الأفقَ من في الشعر محسود
    عيدٌ خروجُـك للآفا ق تيّمهـا حبٌّ لشعرك ؛ أنت الآن مولـو د
    غرِّدْ بشعرك في الدنيا يردده هذا الزمان ، فأنت الشعرُ والعود
    وأما الأخرى فكانت بعنوان " وردتك الأخرى " / ق20 أهداها للشاعر الصديق علي منصور تكشف عن عمق المعاناة والألم الذي كان الصديق يكابده من خلال مأساة الوطن والأمة .. ومما جاء فيها قوله :
    وردتك الأخرى تتفتح جرحا
    في حجم جحيمك يا ابن المنصور
    وتكاشفك الآن .. بالوجع المقهور !
    وفي خماسيات شاعرنا الكبير تلقانا خماسية حملها أمشاجا من العتاب الرقيق أزجاه إلى ثلاثة من لداته وأقرانه الأدباء هو : صابر عبد الدايم وعبد الله شرف وأحمد زلط لأنهم لم يواسوه في محنته ، ولم يقفوا بجانبه ولم يجدهم بجواره عندما افتقدهم ، فصرخ بأعلى صوته عسى أن يجد منهم مجيبا .. ولكن :
    سيرنو بعيد ا يرقب البرق لحظة ويكتب سطرا في حواشي خوافيــهِ
    فأين وجوه الصحب؟ ولّت إلى مدى من البعد قد فرّت، وكانت تواسيه
    ـ التشكيــل الفنّـــي للديوان:
    تُعنَى الدراسة في هذا الجانب بطبيعة الحال بالكشف عن طرف يسير من مظاهر الإبداع التي شاعت في قصائده ووفرها الشاعر فيها .. ونجد أنفسنا مضطرين للاعتذار عن عدم استقصائها لكثرتها وتنوعها واستغراقها كافة قصائده ولا غرو .. فالشاعر ألف النظم ومرن عليه وطاعت له شوارد الإبداع الشعري وملك الطاقات الفنية المتنوعة التي تجسدت في هذا الديوان وفي غيره من شعره الجميل العذب .. ومن نافلة القول التأكيد أن مثل هذه المقالة العجلى لا يمكنها تغطية هذه الجوانب والوفاء بها .. ولذلك سنقف عند شوارد متناثرة من هذه المظاهر الإبداعية الرائعة والماتعة .. ولا يسعنا إلا الاعتذار عن كل تقصير يبدر منا ، ولعلنا نجد فيما يأتي مجالا لتلافي هذا النقص والوفاء بحق هذا الشعر والشاعر علينا إ ن شاء الله !
    وأول ما يمكن / أو نودّ الوقوف عنده في هذا الجانب "منهج الشاعر في النظم"؛ ذلك أن قصائد الديوان امتازت بمنهج دقيق التزمه الشاعر بصورة تكاد تكون شاملة سواء في البناء والطول وفي الأسلوب كذلك .. فأما بالنسبة للبناء والطول ، فقد تفاوتت قصائد الديوان من حيث الطول تفاوتا ملحوظا حيث جاءت على ثلاثة أقسام : الطويلة ؛ وهي التي استغرقت عدة صحائف فقد بلغت قصيدته " أوراق العمر الضائع " أو " شموس غاربة " (رقم 31) خمس عسرة صفحة ، وقد بناها على تسعة أقسام تفاوتت أنصبتها من حيث عدد الصفحات ما بين الصفحة أو قريب منها وبين الصفحات الثلاث .. وطبيعي أن تتفاوت هذه الأقسام بحسب الأفكار التي تنتظمها أو الموضوع الذي تتناوله ومبلغ انفعال الشاعر بها واستجابته له وحرصه على توصيلها للمتلقي ..
    ثم تليها قصيدة "مكابدات صفوان بن أمية" (33)التي جاءت في أربع عشرة صفحة مقسمة إلى اثني عشر قسما يتناول كل منها موضوعا أو فكرة مستقلة .. ثم جاءت قصيدته الحادية عشرة بعنوان " القصيدة " في إحدى عشرة صفحة موزعة على تسعة أقسام أو أناشيد متفاوتة الطول كذلك .. ثم تلتها قصيدة "جلسة السرداب المعتم" _(32) في سبع صحائف موزعة على تسعة أقسام أو مقاطع متفاوتة الطول أيضا .. ثم جاءت قصيدته "رسائل إلى بيجوفيتش" (28) في خمس صحائف بخمس مقاطع .. ووراء هذه القصائد الطوال ثلاث قصائد متوسطة الطول جاء كل منها في زهاء الصفحتين أو تزيد قليلا وهي " غناء الأشياء " (1) ، و" رجع الصدى " (9) و" وردتك الأخرى " (20) .. أما أغلب قصائد الديوان فجاءت في حدود الصفحة ، وقد تنحسر إحداها فتأتي في بضعة أسطر .. (3 ، 5 ، 6، 7 ، 12، 13، 14، 16، 18، 19، 21، 22) وهذه الأخيرة بعنوان "الخوف" لم تستغرق أكثر من بيتين هما :
    الحزن الليلةَ مجنونٌ أيقرّر موتي
    فوق الأعشاب المسكونة ببلاغة صمتي ؟
    وفيما وراء هذه القصائد الحرة والعمودية تلقانا خماسياته السبع التي ختم بها الديوان ، وقد شايع في نظمها لفيفا من الشعراء المعاصرين دأبوا على نظم هذه الخماسيات لتتناول أفكارا محدودة لا تتطلب توسعا أو تفصيلا واستطرادا وتنوعا .. ولذا جاءت هذه الخماسيات تعرض ببساطة ويسر أفكارا محددة ، حتى إذا فرغ منها الشاعر تحوّل إلى غيرها .. وهكذا .. وهذه الخماسيات ليست أكثر من أسلوب في النظم يسعى للإيجاز والاختصار والبعد عن الاستطراد والتفصيل ، ويفرض على الشاعر التوقف عند البيت الخامس ولا يبرحه إلى غيره بصرف النظر عن إمكانية إكماله وإتباعه ببيت أو أبيات أخرى لا تغادر فضاء الفكرة التي يعالجها .. وهذا يعني في رأيي أن هذا التحديد لا يمكن أن يكون دائما أكيدا ودقيقا ولا يتسع لأبيات أخرى ، أو إنقاصها عن الخمسة ..
    ...........
    (يتبع)

  5. #15
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (8)
    وفي الحقيقة إن تأمل الخماسيات ـ لا نعني خماسيات شاعرنا في هذا الديوان وحد ه ، بل سائر الشعراء الذين نظموا هذا الضرب من الشعر أو القصيدة ـ يرفض هذا التحديد القسري الملزم لكونها تقبل الزيادة ولا تضيق بها ، كما لا تنكر النقصان ، ولا تتأبّى عليه ؛ وهذا يجعل " الخماسيات " مجرد أسلوب في النظم يسعى إلى تحديد الفكرة أو الموضوع الذي تتناوله المقطوعة ومعالجتها في حدود العدد المقرر من الأبيات لا أكثر ولا أقل ؛ وهذا يجعل التحديد الخماسي ليس جامعا ولا مانعا ..
    ومهما يكن فقد جاء الطول في قصائد الديوان على اختلافه وتنوعه الشديد نتيجة حتمية ولازمة فرضتها الموضوعات والأفكار التي طرحها فيها ، ومنها ما يتطلّب التفصيل والاتساع ، ومنها ما يتطلب الاختصار والإيجاز.. وهذا ما جعلها تأتي متفاوتة في الطول إلى حد بعيد ..
    وهناك جانب آخر يمثل منهج الشاعر في النظم وشاع في الديوان شيوعا ملحوظا ، وهو انتشار نمط " التساؤل " في قصائده ، حيث حرص الشاعر في هذا الديوان خاصة على طرح التساؤل في قصائده ، وأحيانا تلقانا تساؤلات متعددة ، كما قد يأتي بعضها في بدايات القصائد ، أو في أثنائها ، وقد يختمها به في أحيان أخرى (انظر مثلا : قصائد : 2، 7 ، 14 ، 16، 17، 21، 22، 23 وغيرها ) .. وكما أشرنا فقد تأتي تساؤلاته في بعض الأحيان في بدايات القصائد .. ونسوق بعض النماذج المحدودة لهذه التساؤلات ، وإن كانت العبرة لا تتعلق بمواطن التساؤل ، بل بأهميته والغاية منه بطبيعة الحال .. يقول في قصيدة " تكوين " /21 :
    يا ما نحتي سرّ التكوين وغيما ت جروحي
    كيف تغيبين وتبعد أ شرعتُك عن مرفأ روحي ؟
    أسأل :
    من يذبح طير الرغبة
    من أطلق خفاش الرهبة
    كي يمرق بين العينين
    وطهر شذ ا ك المسفوح ؟
    وقوله من قصيد ة " حكاية النهر " (25) :
    أ ليس في الطريق غير خوذ ة .. وريشة .. وتاج؟
    .... أ تقتل البلاد فارسا يجوب ؟
    .... فقلتُ : من تكون ؟
    ــ أ أنت طلعتي ؟
    ــ أ أنت خمرتي ؟ "
    ومن غير شك ، فظاهرة التساؤل هذه تفصح عن قضايا تعنّي الشاعر ويسعى للبحث عن إجاباتها وأبعادها النفسية والفكرية والفنية ، كما يسعى إلى لفت الأنظار إليها لأهميتها ..
    وتأمل سلسلة التساؤلات التي أودعها قصيدة "أوراق العمر الضائع" أو " شموس غاربة " /31 لتتبين أطرافا من مقاصد الشاعر منها :
    ــ لما ذا يتهددني القحط ؟
    ــ من أنت ؟ ــ أ تعشق جدول ضوء ؟
    ــ لماذا ترتعد الأحلام .. وتخنق صفحتك البيضاء
    وتختلط الألفاظ عذابا في شفتيك ؟
    ــ فكيف أ بوح ؟
    ــ لماذا انقلب القارب في رمل الصحراء ؟
    ــ لماذا ترتسم الآهة في الأفق ؟
    ــ أسأل : أين حمامتك البيضاء ؟
    ... إلخ هذه التساؤلات الماتعة !
    ولو مضينا نستقصي هذه التساؤلات لطال علينا الأمر ونكتفي بما عرضناه منها آملين أن يتأملها الدارسون ويستكنهوا ما انطوت عليه من أفكار وإيحاءات ..
    ـ اللغة / المعجم الشعري في الديوان وصلته بالصورة الفنية :
    لعل من أظهر الخصائص الفنية التي يمتاز بها هذا الديوان خاصة وسائر شعر الدكتور حسين علي محمد تلك الجرأة الفائقة وغير المحدودة على ابتكار وتشكيل الصورة الفنية اللغوية التي تقوم على علاقات مستحدثة ومصنوعة بدقة ومهارة وإحكام .. وقد تفشت هذه الصور أو التشكيلات اللغوية في جوانب الديوان حتى لم تكد تخلو منها قطعة من قصيدة بله قصيدة .. وقارئ الديوان يجد هذه التشكيلات الفنية اللغوية تأتي في أحيان كثيرة متقاطرة متتابعة في القصيدة تجري في نسق رائع بديع يجسد بوضوح مهارة الشاعر واقتداره الفذ في صنع وتشكيل هذا اللون من الصور اللغوية والذي صار بالقطع جزءا أساسيا من تكوينه الشعري أو عبقريته الإبداعية لا يمكنه التخلص منه لو أراد ذلك وقصده أو سعى إليه .. ومع أن هذه الصور أو التشكيلات اللغوية للصورة تروث القصيدة شيئا غير يسير من الغموض والرمزية ومجافاة الوضوح المطلوب في الشعر ، فإنها تحقق قدرا هائلا من الروعة والجمال والمتعة قد يدفع إلى التغاضي عن تلك السلبيات التي تخالطها ويشفع لها ويدفع إلى قبولها والاقتناع بها وتأملها واستكناه ما تختزنه من جمال ومتعة وروعة .. وكما أسلفنا فالشاعر يمتلك بحق قدرة فائقة على تشكيل أو تكوين الصورة الشعرية التي تعتمد على اللغة ، ويتمتع بموهبة فذة قادرة على توليد العلاقات الدقيقة بين العناصر والأشياء .. وتلقانا في قصائد هذا الديوان عشرات الصور الطريفة الماتعة التي بناها بناء لغويا متميزا انتشرت انتشارا واسعا في مختلف جوانبه تستوقف القارئ وتشده إليها ليتحسس شيئا من مظاهر الإبداع والجمال فيها ، وليحقق ضربا واسعا من المتعة والرضا والقبول لها ..
    وسنحاول أن نسرد طائفة محدودة من هذه الصور اللغوية الطريفة لتتبين لنا موهبة الشاعر واقتداره الفذ على تشكيل هذا الضرب من التصوير الفني اللغوي ، ونعتذر عن سردها جميعها على إمتاعها وإبداعها لضيق المجال معتمدين على قدرة القارئ على تحسس مظاهرها الجمالية والكشف عن مواطن الإمتاع والإبداع فيها بما تعكسه من تلك المظاهر في نفسه وتروق ذائقته ..
    فمن هاتيك الصور اللغوية الفنية الطريفة المنتشرة في الديوان : " ربيع النشوة ، جواد الزمن ، عطر اللهفة ، أبواب الدهشة، بياض الدهشة ، وردة البوح ، غابة السدود ، جسر الأحزان ، مرافئ الحلم ، قارعة الحلم ، حروف الشوق ، نارنجة اللهو، احتراف الوحدة ،
    "يشرب كاسرهم آخر قطرات تتدحرج من ساقية العهر الملفوف بأوراق الريح الصرصر " ، أمسك جمرة عشقي ، سلة الأمنيات ، مملكة الصمت ، طير الرغبة ، خفاش الرهبة ، الحون المجنون ، يجوب أرض الملح والعذاب ، صحراء الوقت ، يدحرج طاولة الوقت ، ينزف شوقا ، حدائقك الوحشية ، تأتي فاتنتي صاهلة بالحب ، فتنتها الشرسة ، بهو الفرحة ، ورد الألفة ،" سأجرع وحدتي صبرا بجوف الليل ، وأنصب في دمي المسفوح خيماتي وخيباتي " /27، غياهب وحدتي ، تخوم السنين ، سيول الجنون ، عاثت فلول الألم ، جرح الضياء ، " أينفرج الزمن الوغد ، في سلة الأمنيات " ، وردة من دماء ، عناقيد الجمر، يبلّله الصوت ، يضمخه الشوق ، جدار التوجس ، أسراب الصمت ،
    " حين أتاني طيف شجيرتها يطلب واحة عمري
    كي يستلقي من غربته الموحشة القحلة
    فوق ضفاف الصيف ... فهذا الليل جدار يمتد بأغوار العمر
    إني روح قلق يتحرق في محرقتك .. يهوي " (59)
    يستمطرني الوعد ، جدول ضوء ، جدائل ضوئك ، طيفك مذبوح في فاتحة الوعد ، الليل الموتور، أدغال النفس ، المطر الحارق ، النوق الممتلئة بالرغبة ، أخلع حنجرتي للشمس ، تحمله أفراسك في كثبان الشعر، دوائر وهم ، دوائر حزن تبتلع الأفق ، دمع زجاج ، ثوب محشوّ بالقش ، قلبي طفل أزغب ، وردته المائية ، نافذة القمر، شجر الحزن ، غابة الأحداق ، أمتطي حلمي ، جدائل صوتك المجتاح في أفق السنابل ، بوابتك الرملية ، جراح الرعب ،
    " ضاع الصباح البكر في تهليلها الطينيّ .. في غفو المرائي والخريف الكستنائي البهيج "/69
    يهمس الوعد العقيم ، جدار الأسرار، فصول اللهو ومتن الخيبات ، شهد الأصوات ، ضفاف السبات ، دماء التذكر والصهيل ، سرب العبير، غيوم الوداد ، نبض جدائلك الحبلى ، طقوس الوهم والأرزاء ، سنابل الأوهام ، الوقت الميت ،
    " حشرة وقتك تنخر ذيل طواويس الصمت " (86)
    الوجع المقدس ، صهيل الغيوم ، شريان صمتي ،
    " في وجهك الصدق الذي لم يستطعه العاشق المذعور من رهق الحقيقة ، من نداءات الربيع
    ودمي المشرد في حدائقك الصبية صاهل في حمحمات الشوق " (93)
    جداول الإيمان ، ينهمر الليل على أحناء الروح ... وغير ذلك كثير كثير ..
    ومن هذا الإحصاء السريع لبعض الصور الفنية التي انتشرت في ديوان " غناء الأشياء " يتبين القارئ مبلغ اقتدار الشاعر وتمكنه الضخم من تشكيل الصورة الفنية اللغوية واستحداث التشكيلات اللغوية الفائقة القدرة على الإيحاء وتوصيل الخواطر النفسية والخلجات الغامضة في أثواب زاهية شفافة بالغة الروعة والفتنة .. وهي أثواب كان ينسجها من نسيج اللغة الممتع .. بل إن هذه التشكيلات اللغوية الفنية لم تكن تأتي متناثرة متباعدة في القصيدة في أغلب الأحيان ، بل كانت تأتي متقاطرة متتابعة في نسق فني بديع لتحتل مساحة واضحة من القصيدة تجسد المهارة الفائقة التي يمتلكها الشاعر والقدرة الكبيرة على تشكيل وإبداع تلك الصور .. وتأمل هذا المقطع من قصيدة " القصيدة " ( ص 19) لتتبين شيئا من مظاهر الموهبة المتميزة التي يمتلكها الشاعر في هذا المجال :
    الحزن يد حرج حلمي
    حزني يمتدّ على الإسفلت عبيرا
    أحلم بعصافيرك تجتاز الأسوار
    وتغريد ك يقتحم خوائي في منتصف الرغبة
    أ مسك جمرة عشقي
    هذا حبك في صدري أثمر "!
    أرأيت كيف يشكل الشاعر صوره اللغوية تشكيلا فنيا رائعا يحقق الإمتاع الذي تهفو إليه النفوس الشاعرة ، وتأمل هذه التكوينات اللغوية التي أقامها الشاعر على هذه العلاقات المتخيلة بين الألفاظ : الحزن يدحرج الحلم ، الحزن يمتدّ عبيرا على الإسفلت ، العصافير تجتاز الأسوار، وتغريدها يقتحم خواء روحه الظامئة إلى الحب .. وتأمل تعبير "منتصف الرغبة " وما يوحي به من معان وأطياف وخلجات وخواطر.. وكذلك "جمرة العشق" و"الحب الذي أثمر في صدره".
    ولو مضينا نستعرض هاتيك التشكيلات اللغوية الفنية وما نتج عنها من تصويرات رائعة ماتعة لطال علينا الأمر ، ولربما أحدثنا شيئا غير قليل من الملل والسأم في نفس المتلقي .. ولأن من مقاصدنا توجيه المتلقي ليتحسس شيئا من تلك المظاهر الفنية الرائعة بنفسه ويتذوقها بملكته الفنية لتتحقق له المتعة المنشودة ..
    وعلى هذه الشاكلة تتجسد موهبة الشاعر الكبير الفنان وتتبين أطراف من طاقاته الإبداعية في تشكيل الصورة الفنية التي تتكئ بقوة على اللغة بشكل لافت ومتميز حيث غدا جزءا من عبقريته الشعرية الفذة ..
    ووراء هذا الجانب التصويري اللغوي تلقانا في الديوان طائفة أخرى من التعبيرات اللغوية الخاصة التي حرص عليها الشاعر وأشاعها في جوانب كثيرة من شعره ولم يملّ من ترديدها بين الحين والحين .. ومنها تعبير " بحجم كذا " للدلالة على ضخامة الشيء الذي يتحدث عنه أو يصفه ومبلغ تأثيره النفسي والفني .. ومن ذلك " بحجم الداء "/28 ، 38 ، " بحجم المحيطات والأخيلة " /35، " في حجم جحيمك "/35، " في حجم جحيم النزف " /49، " بحجم الشفقين الأبيض والأسود " /64 ...
    ومن هذه الاستخدامات اللغوية ما يتعلق بالألوان وخصوصا اللون الأخضر الذي احتل مساحة واسعة من الديوان : 24 ، 28، 45، 53، 54، 65، 69، 71 .. ومن غير شك فقد حقق هذا التعبير أو الاستخدام اللغوي إيحاءات رائعة لما تنطوي عليه من تجسيد الحياة والحيوية والبراءة والتفتح والمتعة المنشودة واستقبال الحياة بكثير من الشوق واللهفة والرغبة الفائرة ...
    ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الاستخدام اللوني المتميز "الأخضر" شاع في أدب هذه المرحلة وكثر استخدامهم له في إبداعاتهم الشعرية خاصة ، وكأن هؤلاء الشعراء اصطلحوا عليه ووجدوا فيه طاقات فنية رائعة وممتعة دفعتهم إلى استخدامه بشكل لافت ومتميز..
    وإذا كان شاعرنا يستخدم اللغة هذا الاستخدام المتميز ، ويشكل منها كل تلك الصور الفنية الطريفة الممتعة ، فقد وجدناه يستخدم بعض الألفاظ الأجنبية الشائعة في المجتمع من مثل "الكورال" و"السيمفونية" .. وربما دفع إلى ذلك لما تدل عليه اللفظتان من تشكيل موسيقي وغنائي خاص لا مثيل له في لغة العرب ، وأيضا لا ضرورة في رأينا إلى تعريبهما حتى لا نتورط في جمل وعبارات كثيرة تحوم حول المعنى ولا تصيب منه مقتلا .. فربما كان هذا أسلم بالنسبة لأمثال هذه الألفاظ الدخيلة !
    ومن مظاهر الإبداع الأسلوبي عند الشاعر انتشار ظاهرة الحوار في بعض قصائده .. وربما كانت هذه الظاهرة أثرا من اهتماماته المسرحية بطبيعة الحال ، ثم القصصية حيث شاعت في أعماله تلك شيوعا ملحوظا ..
    ومن نماذج هذه الحواريات ما جاء في النشيد الثامن من " القصيدة " /25 بينه وبين أبيه :
    أبي الآن يطرق بابي ويدخل :
    ـ أين سميحة ؟
    ـ ترجع بعد قليل من الحقل
    ـ ذاك حسين ...
    ـ مضى يتعلم ....
    ومن ذلك ما جاء في هذا المقطع من قصيدة " حكاية النهر " /47 :
    فقلت : من تكون ؟
    فقال : عاشق جدا ول الضياء
    ـ أأنت طلعتي ؟
    يقول : إنني النقاء !ّ!
    ـ أأنت خمرتي ؟
    يقول : إ نني الإناء !!
    وفي القسم الأخير من أوراق العمر الضائع " الخضراء" جاء هذا الحوار بينه وبينها : (72)
    ـ فأين البسمة ؟
    ـ غاضت !
    ــ والأقداح ؟
    ــ سقيناهم !
    ــ والأرض جفاف " !
    وفي الورقة الضائعة من أوراق المتنبي يسجل الشاعر مونولوجا داخليا يحاور فيه المتنبي نفسه وهو يصارع الألم النفسي الباطش في حضرة كافور بعد مغادرته فردوسه المفقودة في حلب وهو يجري على هذا النسق : (62)
    أخلع حنجرتي للشمس ...
    تنتصب الرهبة في المدخل
    ا ستوضح عبد ا يرقبني
    ـ هل أ هرب ؟
    ـ إ ن السيف يحاورني ...
    ـ ما أ قسى حلب الشهباء
    فقد أ قصتني عن محبوبة قلبي ..
    على هذا النحو ظهرت بعض الآثار التي أنتجها الحوار الشعري في بعض قصائده ، وهي آثار قليلة ومحدودة .. ويبدو أن الشاعر اكتفى برصد حواراته التي لا تكاد تتوقف مع نفسه ومع الأشياء من حوله ، وسجل ضيقه وبرمه بها في خماسية " حوار " (106) ونقتطف منها قوله :
    كثرت حواراتي وظِــلُّ حروفها يتصفّح الفزعَ المقيمَ الباقيـا
    حاورت نفسي في الظلام فلم أجد للبُرء نارا، أو بصيصا هاديا
    وإنما ذكرنا هذه الخماسية لأن الشيء بالشيء يذكر وليس لأنها تدور في إطار الحوار الشعري الذي سردنا بعض نماذجه بطبيعة الحال .. فتلك الحوارات شيء وهذا الرصد لحواراته النفسية شيء آخر !
    ............
    (يتبع)

  6. #16
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (9)
    ـ ا لأوزان والقوافـــــي :
    غلبت التفعيلة واحتلت مساحة واسعة جدا من ديوان " غناء الأشياء " وسيطرت على كثير من قصائده حيث استأثرت بزهاء سبع وعشرين قصيدة من قصائده الإحدى والأربعين .. وقد تنوعت التفعيلات التي استخدمها فيها وإن غلبت تفعيلة " الخبب "فعْلن" ، " فعِلن" حتى استأثرت بقريب من نصف هذه القصائد التفعيلية (14 قصيدة )، وجاءت تفعيلة المتقارب " فعولن " في تسع قصائد ، وجاءت " متفاعلن " و " مستفعلن " في قصيدة واحدة فقط لكل منهما .. وهذا يعني أن النمط الموسيقي أو الإيقاعي الذي التزمه الشاعر وغلب على هذا الديوان كان يدور في فضاء الدائرة الخامسة الأخيرة من دوائر الخليل الموسيقية " دائرة المتقارب والمتدارك " ؛ وهذا البناء الموسيقي يقوم على تبادل مواضع الأسباب والأوتاد في التفعيلة لتصبح التفعيلة الأخرى الخاصة بالوزن الآخر: " فعو / " لن " = " لن" / " فعو " ؛ وهذه تساوي : " فا " / " علن " !
    والجدير بالذكر أن هذه التفعيلة غلبت على جزء ضخم من الشعر التفعيلي أو الحر ، وشاعت شيوعا كبيرا عند كثير من الشعراء وراقت لهم ، بل طاعت لهم ولم تتأبّ عليهم واحتملت مشاغباتهم المتعددة واجتراءاتهم الضخمة عليها والتي لا تكاد تحدّ ؛ وهكذا غلبت هذه البنية الموسيقية المتميزة سائر البنى الموسيقية التي شاعت في شعر التفعيلة / الحر أمثال " مستفعلن " ، متفاعلن " ، " مفاعلتن ، مفاعيلن " وغيرها .. ويبدو أن الأذن الموسيقية للشاعر هنا قد تناغمت بشكل لافت مع تفعيلتي المتقارب والخبب تناغما أنساه سائر التفعيلات أو البنى الموسيقية الشائعة عند غيره من الشعراء .. وإن كانت هاتان التفعيلتان قد حظيتا بمكانة مرموقة عند شعراء التفعيلة ..
    كذلك كان من الظواهر الموسيقية اللافتة في " غناء الأشياء " حرص الشاعر على تنويع التفعيلات في إطار القصيدة الواحدة ، وعدم الاكتفاء بتفعيلة واحدة يبني عليها القصيدة كلها من أولها إلى آخرها .. وقد تبدّت هذه الظاهرة في قصيدتين اثنتين من طوال قصائد الديوان هما " أوراق العمر الضائع " (رقم31) حيث استخدم " فعلن " في سبعة مقاطع هي : 1 ـ 4 ، 6 ، 8، 9 ، واستخدم " متْفاعلن " الكامل ـ المضمرة غالبا " مستفعلن " في مقطعين هما 5 ، 7 . أما القصيدة الأخرى فهي " من مكابدات صفوان بن أمية " (رقم 33) التي استخدم فيها " فعلن " الخبب في خمسة مقاطع هي : 2، 3، 4، 6، 7 ، و" مفاعلتن " الوافر في المقطع الأول والحادي عشر ، و" متفاعلن " الكامل في 8، 12، و" مستفعلن " الرجز في المقطع الخامس ، و" فعولن" المتقارب في التاسع والعاشر.. وواضح أن الشاعر هنا يحاول أن ينوّع في تفعيلات القصيدة ما وجد إلى ذلك سبيلا ، بل إن القارئ ليظن أن تنويعه هذا قد يكون ضربا من الترف الموسيقي ولا تدعو إليه داعية ما .. والذي يبدو لنا أن هذا التنويع في البنية الموسيقية للقصيدتين إنما دفعت إليه دوافع فنية وفكرية ولم يكن عشوائيا ؛ فقد دفعت إليه موجات من الأحاسيس الداخلية التي كانت تعتمل في أعماق الشاعر وتوجّه انفعالاته وتتحكم فيها تحكما لم يقو على الانفلات منه فنطلق يصوره ويعبر عنه من خلال هذه البنى الموسيقية المتنوعة .. ومن يتأمل هاتين القصيدتين يدرك مبلغ التدفق الموسيقي أو الإيقاع الذي كان يسيطر عليه في أثناء النظم وبالتالي يحدد نوعية التفعيلة المناسبة أو البنية الموسيقية القادرة على توصيل الفكرة والانفعال ، ومن ثمّ كان يستدعي الألفاظ المناسبة والموحية والمتناغمة مع الإيقاع ، ومن ثم تتضافر جميعا في تحقيق الإيقاع المطلوب أو المناسب ..
    على أنه قد يكون من حقنا ومن حق غيرنا ـ كما يحق للشاعر نفسه الرفض ـ أن يشرد أو يجمح بنا الظن فنزعم أن الشاعر كان يمكنه أن يتخلص من هذا التغيير ويعتمد تفعيلة واحدة يبني عليها القصيدة كلها بكافة مقاطعها ومهما تنوعت الأفكار وتغيرت دون أن يحتاج إلى التنويع فيها ، ودون أن يلحق القصيدة ضيم أو حيف ، أو يجد في نفسه حاجة أو غضاضة من ذلك .. ولنا على ذلك أكبر دليل فيما خلف لنا شعراؤنا الأقدمون من طوال القصائد التي بنيت على وحدة موسيقية واحدة مع تعدد أفكارها وموضوعاتها ما بين الغزل والوصف والفخر والهجاء والصيد والرحلة وغير ذلك .. هذا ما قد نراه ويراه غيرنا في هذه الظاهرة .. ولكن لماذا نحجر على الشاعر ونمنعه من إبداء وجهة نظر أخرى مغايرة لما ألفناه وعهدناه واعتادته ذوائقنا واصطلحت عليه طبائعنا ، إذ ربما كان الشاعر المحدث / الحديث له مبرراته الفنية والذوقية والفكرية المعقولة والمناسبة والمؤيدة لهذا التنويع أو التغيير في البنى الموسيقية لقصيدته ؟! وما علينا نحن عندئذ إلا البحث والتأمل في أنحاء القصيدة ومحاولة الكشف عن أسرار التغيير والتبديل عسى أن ندرك شيئا منها يبرر هذا التصرف في الإيقاع .. وحتى لو لم نحصل على شيء من ذلك فحسبنا احترام وتقدير وجهة النظر الخاصة بالشاعر أو تفسيره وتبريره إلا أمكننا الوصول إليه أو إلى شيء منه .. على أية حال ، لم يكن هذا هو التغيير أو التنويع الوحيد في البنية الموسيقية عند شاعرنا الكبير ، وإنما كان هناك تنويع آخر لعله أكبر من سابقه وهو أننا وجدنا صاحبنا ينوع في إطار القصيدة الواحدة بين ضربي الشعر العمودي التقليدي والتفعيلي الحر، حيث كان في بعض القصائد يحرص على أن يزاوج بين الضربين العمودي والحر ، فيأتي بمقاطع عمودية ومقاطع أخرى حرة .. وفي الحق كان يبدع في هذا وذاك إبداعا مشهودا ، فإذا قرأت المقطع العمودي تمنيت أن تكون القصيدة كلها عمودية ، فإذا انتقلت إلى التفعيلة حمدت الله أنه لم يتركها ولم يستجب لأمنيتك ، بل تمنيت أن يكون نظم القصيدة كلها على هذا البناء الحر .. وهكذا تجسدت براعة الشاعر وعبقريته في هذين التشكيلين الفنيين للقصيدة على السواء دون أن يجحف أحدهما بنظيره .. ومن نماذج هذا التشكيل قصيدته " المعنونة بـ " القصيدة " (رقم 11) التي قسمها تسعة أقسام أو تسعة أناشيد ، كما قسم بعض الأناشيد إلى فقرات أو مقاطع أخرى ، كما نوّع في البناء الإيقاعي أو الموسيقي المقاطع أو التفعيلات .. فقد استعمل " فعلن " في المقاطع 1،3، 5 . وفي هذا النشيد الخامس نوّع في تفغيلات فقراته تنويعا واسعا ، فقد بدأه بتفعيلة الخبب " فعلن " ، حتى إذا تحوّل ينقل حديث الشاعر الذي كان ينشد وقد التفّ من حوله رجال كثير ونساء يستمعون إنشاده غيّر في أوتار قيثارته ليعزف لحنا جديدا يشوبه قدر ظاهر من الحزن والألم دفعه إلى استخدام إيقاع جديد تمثل في تفعيلة " فاعلن " حيث يقول : (ص 22)
    راحل في البلاد / الوها د / الجبال / العراض
    وموتي تكرّس في لهوهنّ
    وبعثي تأجّل في هجرهنّ
    وهذا البياض يحاصر قلبا تعلّق عمرا بهنّ !
    وعندما وقف على الشاعر الثاني وهو ينشد متغزلا ألفاه ينغمر بموجة من الفرح والسعادة واللذة لما أصاب من حبيبته من ثمار الوصل والحب ، غيّر أو أصلح من أوتار قيثارته ليعزف على تفعيلة الكامل " متفاعلن " وما يسودها من سرعة وعجلة وخفة ورشاقة واندفاع فقال :
    وأخذ ت منها قبلة !!
    وفي غمرة هذا الإحساس لم يستطع أن يكبح جماح اندفاعه الموسيقي فمضى يواصل النظم على هذه البنية الموسيقية قائلا :
    كانت حزينهْ
    والبد ر يسبح في الظلام
    تنأى فتبتعد السكينهْ
    والنهد تفاح وسكّر
    وأنا على الطرقات طفل قد تعثّر !
    حتى إذا وقف على الشاعر الثالث ألفاه ثائرا متفجّرا متمردا ورافضا أوهام الشعراء المخدرة ، فاندفع يفضي بالحقيقة التي اقتنع بها مغيرا تفعيلاتهم مستخدما تفعيلة الخبب " فعلن " في قوله :
    لا جدوى
    لا جدوى من شعر الشعراء
    فلأرجع للوحد ة .... إلخ
    بل إننا نجد شاعرنا الكبير الفنان الأصيل يجسد انطلاقة الخيل والوحوش الضارية في قلب الصحراء عبر تفعيلة الخبب " فعلن " في قوله :
    تلك وحوش ضارية وخيول خرجي من ربقتها !
    ثم رجع إلى هذه التفعيلة في النشيدين السادس والسابع .. حتى إذا كان مع النشيد الثامن غيّر تفعيلته إلى " فعولن " لتحكي فصلا من قصة أبيه مع بعض أفراد العائلة وما ألم بهم من أحداث تستدعي مثل هذا التحول وما ينطوي عليه من امتداد وتراخ الذي تحققه " فعولن " :
    أ بي الآن يطرق بابي ويد خل
    يخرج ...
    ـ أين سميحةُ ؟
    ـ ترجع بعد قليل من الحقل .... إلخ
    ومع النشيد التاسع الأخير يستخدم الشاعر " مفاعلتن " لما يشيع فيها من اندفاع يجسد آلام الغربة والخيبة والبعد عن الحبيبة وفقدانها ، يقول :
    بعيدا عنك يا خضراء ، عن شعري وأنهاري
    سأجرع وحدتي صبرا، بجوف الليل
    وأنصب في دمي المسفوك خيماتي وخيباتي
    وأكشف عن عذاباتي بوادي الويل
    وأسأل طيفك الآتي .... إلخ
    على أننا نجد الشاعر الكريم هنا لا يكتفي بهذا التنويع الواسع في تفعيلات القصيدة ، بل يضيف إليها ضربا آخر من التنويع حيث نظم بعض المقاطع فيها على البنية الموسيقية التقليدية أو العمودية ، فقد بنى النشيد الثاني على الكامل في ثلاثة أبيات هي :
    أ لقيتني والنار في كبد ي للعاصف الفتّا ك والمســــد
    أ لقيتني صبحا وقلتِ متى تستنزف الألحان من جسدي
    ا لعازف ا لمجنون أ رّقني والنا زف الغرّيد للأبـــــــد
    وجاء النشيد الرابع منها اعتذارية عارض بها قصيدة للشاعر اليمني عبد الله البردّوني الذي أظهر اعتزازا بالغا بعنترة وأعلن انتماءه إليه ، فجاء صاحبنا ينفي هذا الاعتزاز ، ويسقط عنه الجنسية التي خلعها عليه عنترة في زمن المجد والعزة والأنفة والكبرياء .. وقد جاءت القصيدتان " الأصل والمعارضة " على المجتث " فاعلاتن مستفعلن " وما ينطوي عليه من اندفاع وثورية .. ولا بأس من سرد بعض أبياتها ، وإن مرّت معنا في موضع سابق بطبيعة الحال ، يقول :
    لست من نسل عنترهْ والسيوف المظفّــــرهْ
    ليس لي سيف خالــد والفتوح ا لمطـهّـــرهْ
    وأنا بعدُ جاهــــــل دميــة للسمــاســـرهْ
    والبيانات جمّـــــــة وا لخيانات سافـره
    أ جرع ا لخوفَ لــذّ ة ها ربا من جبا بـــره
    أ شتم ا لليلَ خِلســــــةً أ مدح الكلبَ جمهره !! ...
    كما جاء جزء من النشيد الخامس عموديا في ثلاثة أبيات على وزن الخفيف التام يقول فيها :
    كيف تبد و السماء في عينيــه تتشـظّى على لظى مفرقيــهِ
    وإذا غاب في الود ا د عناق أ ورق ا لشعر في ربا كفّـيــه
    مرّ عمر وظلّ ينزف شوقـــا في هواها، فكيف هانت عليه
    وجاءت قصيدة " رسائل إلى بيجوفيتش " (رقم 2 بعض مقاطعها بناها على التفعيلة ، وبنى بعض مقاطعها الأخرى على الوزن العمودي " وزن المجتث "؛ ومثلها قصيدة " جلسة السرداب المعتم " (رقم 32) التي نوّع في بنيتها الموسيقية بين التفعيلة والوزن العمودي .. فجاءت المقاطع 1، 2، 4، 7، 8 على" فعلن" ، وجاء السادس على" فعولن"، والتاسع على " مفاعلتن "
    في حين جاء المقطعان 3، 5 على وزن المجتث ، وجاء الثالث منهما في ستة أبيات ثنائية القوافي وجاء الخامس في بيتين هما :
    يا نجمةً ليلَ صيف على ضفاف السبا ت
    لا تغلقي ا لبا ب خلفي فأنت قوس الحيـــــاة
    ..................
    (يتبع)

  7. #17
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (10)
    كما تلقانا قصيدة " حدّ السأم "(12) التي بناها الشاعر بناء تفعيليا حرّا مستخدما تفعيلة المتقارب " فعولن " ، ولكنه وزعها على ثمانية أسطار تضمها ثلاثة أبيات مقفاة مختلفة التفاعيل ، جاء الأول من ثماني تفعيلات ، وجاء الثاني في سبع تفعيلات ، ووقع الثالث في تسع تفعيلات ولا بأس ولا غضاضة فيما صنع الشاعر إن كان قاصدا لذلك .. أما إن لم يكن فلنا رأي آخر نستميح الشاعر الكبير في الكشف عنه وإبدائه حيث يمكن للشاعر الكريم أن يبني الأبيات بناء عموديا كاملا على المتقارب التام بتغيير محدود ، أو تعديل طفيف لا يعدو أن يكون هباءة في عين رمداء .. هذا التعديل يلحق البيت الثاني بإضافة كلمة " هناك" ، أو كلمة "بأفقي مثلا بعد كلمة " عاثت " ليصبح البيت على هذا النحو :
    وفاضت سيول الجنون مع الفجــ ـــر عاثت بأفقي فلول الألم
    وأما البيت الثالث فتحذف منه كلمة " أجاج " ليبقى على ثماني تفعيلات .. وواضح أن هذا التعديل ممكن وقد لا يكون به بأس أو يلحقه غضاضة أو ضير ، خاصة وأن كلمة " بأفقي " حققت ـ فيما أعتقد ـ إضافة جيدة للمعنى ، وإن كان استخدام الشاعر كما جاء في الأصل أدق وأجود ، كذلك كلمة " أجاج" تضيف بالقطع أبعادا فنية ومعنوية ظاهرة تجعل التضحية بها مغامرة يجب الحذر من ممارستها ، ويجعل الاستغناء عنها نقصا لا مبرر له فيما وراء البنية الموسيقية العمودية .. وبحسبنا أن نذكر استخدام القرآن لها وحرصه عليها في قوله تعالى:
    ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) الفرقان 53 ..
    وكل هذا قد يجعل التضحية بالبنية الموسيقية العمودية أمرا مقبولا ومعقولا ..
    ومثل هذا التطفل على الشاعر ما يمكن أن يلحق بكلمة "كفيه" في قوله : (ص24)
    وإذا غاب في الود ا د عنا ق أ ورق الشعر في ربا كفّيهِ
    فقد يكون تغيير كلمة " كفّيه " وإبدالها بكلمة " راحتيه " أرشق وأجمل لما فيها من إتمام التفعيلة وسلامتها من التشعيث !
    أما التطفل الأخير الذي نقذفه في هذه العجالة فهو يتعلق بقوله :
    " لِمْ لا تعودي خيالا " (ص 75) وأغلب الظن أنه من أخطاء الطباعة ، وإلا فتغييره ضرورة حتمية وهو تغيير " لا " بـ " لَمْ " ! أما إذا شاء أن يبقيها على ما هي عليه ، فيمكنه تغيير كلمة "خيالا" بكلمة " طيفاً " واستخدام الفعل مرفوعا على الأصل:
    " لم لا تعودين طيفا " ؟!
    وإذا كانت التفعيلة قد شغلت حيزا ضخما من ديوان " غناء الأشياء " ، فقد استطاعت البنية العمودية أن تستأثر بنصيب لا بأس به منه حيث وجدت فيه عشر قصائد ومقطوعات عمودية هي " الرحيل "/6، على الوافر في ستة أبيات ، و" رجع الصدى " /9 على وزن المجتث في أربعة وعشرين بيتا ، و" أنت الشعر" /15 التي نظمها بمناسبة بلوغ الصديق الفاضل الأستاذ بدر بدير الستين من عمره وإحالته على المعاش ، وجاءت على البسيط في أحد عشر بيتا ، ثم كانت هناك سبع خماسيات ألحقها بالديوان ، ثلاث منها جاءت على الطويل (2، 3، 7) ، وثلاث أخرى على الكامل (4، 5، 6) ، ثم واحدة على الوافر وهي الأولى منها ..
    وعلى هذه الشاكلة تبينت لنا أبعاد المنهج الذي التزمه شاعرنا الكبير في بناء قصائد ديوانه الرائع والماتع " غناء الأشياء " ، وهو منهج متعدد المظاهر والجوانب ، كما وقفنا عند ظاهرة التنويع في البنية الموسيقية لبعض قصائده حيث كان يراوح فيها بين التفعيلية والعمودية ، بل أحيانا كان ينوّع في تفعيلاته التي يستخدمها في القصيدة الواحدة ، وحاولنا تبرير هذا الصنيع وألقيناه على عواهنه وعلاته ، ويمكن للقارئ أن يجد شيئا من التبرير لمثل هذا التنويع في البنية الموسيقية أو الإيقاع الذي يقيمه للقصيدة ، ويمارسه بالتأكيد بشيء كثير من الوعي والقصدية .. على إننا لا نؤكد أن ما انتهينا إليه هو ما كان يجول في خاطر الشاعر وهو يمارس هذه التنويعات الموسيقية بطبيعة الحال .. بل لعله في واد ونحن في أودية أخرى سحيقة من الظنون والأوهام .. ولكنها مجرد محاولة لتفسير هذا السلوك الفني ..
    ــ أ ما القافية ، فقد حرص الشاعر الفاضل عليها حرصا بالغا حتى إنه لم يكد يغفل عنها طرفة عين ، أو يتناساها في فقرة واحدة من فقرات قصائده ومقاطعها ، بل كان شديد الالتزام لها في القصيدة التزاما قد يستغرقها استغراقا تاما على نحو ما نجد مثلا في قصيدة "غناء الأشياء" التي بناها على قافية الهمزة.. ومن القصائد المقفاة في الديوان ــ غير العمودية التقليدية التي تفترض القافية ــ تلك التي تحمل الأرقام : 5 ، 8، 10، 12، 13، 16، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 27، 29، 36 . وقد جاءت هذه القصائد موحدة القافية لكل قصيدة منها قافية مستقلة؛ وهناك قصائد أخرى التزم فيها التقفية ولكنه لم يلتزم فيها قافية واحدة بعينها بل تعددت فيها القوافي مع التزام كل مقطع بقافية مستقلة كما نجد في قصيدتيه (17، 1 حيث بنى كلآ منها على قافيتين .. وتلقانا قصيدة " حكاية النهر" (25) التي بناها على عدة قواف ، فتعددت قوافيها بشكل لافت ، حيث بنى كل بيتين أو ثلاثة منها على قافية واحدة مستقلة عن غيرها ؛ وهي تجري على هذا النسق ، وسنكتفي بجزء منها خشية الإطالة :
    في أ ول الطريق كرمة ، سياجْ
    وبعد خطوة ، حديثنا المليء بالبروق واللجاجْ
    وبعد خطوتين أبصر الغمامْ
    يحاصر الرجال بالرعود .. والكلام
    الفأس في رقا بكم
    واليأس في قلوبكم
    وذا أنا مضيت في قناعِ مَن عَبَسْ
    وزادي الأخيرْ
    عرّافةُ الموال ، وانبثاقةُ القبسْ
    وقلت للفرسْ :
    تجوب أ رض الملح والعذاب والخرس
    وتقرع الخطوب
    ( أ تقتل البلادُ فارسا يجوبْ ... ؟! ) ... إ لخ
    وعلى هذا النحو تستمر التقفية في القصيدة وفق نظام دقيق يؤكد حرص الشاعر على القافية كمظهر متميز من مظاهر الإيقاع الموسيقي الجميل في القصيدة ..
    على أننا نجد بعض القصائد في الديوان تجردت من آثار القافية وإن كانت محدودة جدا كما في قصائد ( 7، 14، 30) .. وسنثبت هنا إحداها لنتبين إغفال الشاعر فيها للقافية وهي قصيدة " تساؤل " وهي من أقصر قصائده ـ ونرجو ألا يكون هذا القصر الدافع وراء إهمال القافية فيها :
    ليســت نافورات الدم
    في ميدان التحرير بصنعاء
    أ و ماء سيول زبيد
    أ و غيل الشلالــهْ
    قادرة أ ن تتشبّهَ بمشاعره ا لدفاقــهْ
    من أين يباغتك ــ ا لليلةَ ــ يا فاطمُ بالشعر إذن ؟!
    وإذا كانت هذه القصيدة وتاليتها " امتحان " (14) ، قصيرتين قد لا يتاح للشاعر فيهما التقفية المناسبة ، فقد جاءت القصيدة الثالثة (30) " تجربة للنهر" طويلة إلى حد ما حيث استغرقت زهاء ثلاثين سطرا ، مما يجعلها تستوعب القافية أو تستدعيها إذا أراد الشاعر ذلك ، ولكنه أغفل القافية فيها إغفالا تاما فلا نجد لها فيها أثرا يذكر ..
    بقي من قصائد " غناء الأشياء" مقطوعتان مما يعرف عند المحدثين بقصيدة النثر ، حيث أثبت الشاعر مقطوعتين في خاتمة قصائده الحرة وقبل خماسياته السبع هما "دهاليز" ، و "مرايا "؛ ونحن هنا نختلف مع الشاعر الصديق العزيز ومع سائر الذين يصرون على أن يلحقوا هذا النمط من الإنشاء النثري ــ الجميل ــ بالشعر حتى الحر أو التفعيلي منه ويصرون مرة أخرى على أن يطلقوا عليه مصطلح " الشعر المنثور" أو " قصيد ة النثر" ! لأننا نؤمن أن الشعر شعر ، والنثر ـ مهما كانت درجة فنّيّته وإبداعه وروعته ـ نثر ؛ وفي تقديرنا أن النثر لن يُحَطَّ من قدره أن يظلّ نثرا ، ولن يُرفَعَ من قدره أن يُلحَق بالشعر ما توافرت له خصائصه الفنية الجميلة الممتعة ، وتوافرت له مظاهر الإبداع التي تتوافر في صنوه "الشعر".. ومن نافلة القول أن أبرز ما يتميز به الشعر عن النثر الإيقاع أو البناء الموسيقي الذي يتوافر له منن خلال الأوزان التقليدية العمودية المعروفة ، أو النظام التوشيحي المستحدث على عهد الأندلسيين والمغاربة ، أو النظام التفعيلي المستحدث في هذا العصر .. وغنيّ عن البيان أن هذه الميزة الموسيقية يخلو منها هذا النثر ـ أو قصيدة النثر كما يحلو لهم تسميتها ـ خلوا تاما ؛ وإذن فالخير ـ كل الخير ـ لهم ولنا أن يحشروا هذه المقطوعات الجميلة في حظيرة النثر مستقلة عن نظائرها التي تحشر في دائرة الشعر حتى لا تختلط الأشياء وتنعدم الحواجز والفواصل بين هذه الأنواع ..
    على أن هاتين المقطوعتين اللتين أثبتهما الشاعر الفاضل تمتازان بالتأكيد بكل ما تمتاز به قصائده التفعيلية من روعة الأسلوب وشعرية الأداء وبنية الصورة الفنية اللغوية وجموح الخيال وغير ذلك حيث لا ينقصها شيء من خصائص الإبداع الشعري فيما وراء الوزن والقافية !
    وعلى هذه الشاكلة كانت هذه الجولة التي طوفنا فيها بين أرجاء هذا الديوان البديع " غناء الأشياء" الذي أبدعته عبقرية الشاعر الكبير الأستاذ الدكتور حسين علي محمد إبداعا يحسب له ويضاف إلى إبداعاته الأدبية الأخرى التي أمتعنا بها ، وما زال يبدع ويمتع آملين أن نلتقي دوما بإبداعات الرصينة الماتعة .. وفقه الله وحقق له ما يصبو إليه من إبداع رصين !
    أ.د. خليل أبو ذياب

  8. #18
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    نصوص من ديوان "غناء الأشياء"
    لحسين علي محمد

    (1)
    وردةٌ من دماء

    أقولُ لها:
    زورقي .. موعدي / المُنحنى
    فنافذتي تتسهَّدُ نافِرةً لانتظارِ النِّداءْ
    أأكتشِفُ البحرَ ..
    إذْ يتفضَّضُ لونُ الغُبارْ؟
    وينحدرُ الزَّبدُ / الموجُ
    حتى أُعانِقَ فيكِ غناءَ السماءْ
    وجُرحَ بداياتِ هذا الضِّياءْ
    ( أينفرجُ الزَّمنُ الوغْدُ
    في سلَّةِ الأُمنياتِ
    عنِ الأُفقِ تملؤُهُ وردةٌ من دماءْ ؟ )

    صنعاء 28/9/1986
    (2)
    أنت الشعر

    (إلى الأستاذ الشاعر بدر بدير حسن
    في عيد ميلاده الستين، وخروجه إلى المعاش)
    قدْ آنَ للشاعرِ المُشتاقِ تغريـدُ
    وحانَ للنَّغَـمِ المقْـموعِ ترْديدُ
    وافرْحتاهُ لنَسْرٍ ظلَّ محْتَبَســاً
    وصِنْوُهُ في سماءِ الشَّـرقِ غِرِّيدُ
    قدْ كسَّرَ القيْدَ لا عادتْ سلاسلُهُ
    وعانَقَ الأُفق منْ في الشِّعْرِ محْسودُ
    ما جفَّ بحرُكَ يا منْ ظلَّ مورِدُهُ
    عذباً، وغَنَّتْ لهُ الغِيدُ الأَماليـدُ
    كمْ كنتُ أحبسُ آهاتٍ يفيضُ بها
    صَدْرٌ بحُـبِّكَ مفتـونٌ ومفْؤودُ
    إذْ أنتَ في الأسرِ تبكي كُلَّ شاردةٍ
    يُقصيك عنْها العضاريطُ الرعَاديدُ
    وتكتُمُ النغمَ العـذْبَ الذي فُتِنَتْ
    بسحْرِ ألحانِهِ هذي الأغاريــدُ
    لئنْ بعُدْنا فلمْ نسعَـدْ لمحفلِكُـمْ
    ولمْ نُشارِكْ لبيدٍ دونَها بِيـــدُ
    فإنَّ هذا بياني لنْ يُزاحِمَـــهُ
    في ساحةِ الحبِّ نِدٌّ .. فيهِ تخليدُ
    عيدٌ خروجُكَ للآفاقِ تيَّمَهــا
    حبٌّ لشعرِكَ .. أنت الآنَ موْلودُ
    غرِّدْ بشعرِكَ في الدنيــا يُردِّدُهُ
    هذا الزمانُ، فأنت الشعْرُ والعُودُ

    الرياض 14/12/1994م

    (3)
    الغربان

    الأصفرُ يقتحمُ الذّاكرةَ
    ويعصفُ بالألوانْ
    وجرادٌ يلتهِمُ الجثَّةَ
    في اطْمئنانْ !
    والديدانْ ..
    تلهو بالجسدِ الجيفَهِ
    والغربانْ
    تمتلِكُ الساحةَ
    ...
    قل لي:
    ماذا تصنعٌ بالأوزانْ ؟

    صنعاء 4/6/1986م


    (4)
    جحيم الوردة

    عناقيدُ جمركِ تقذفُ بي في الجحيمْ
    يُراوِدُني الماءُ عنْ غوْرِ عمرٍ رجيمْ
    تقافَزَ
    فوقَ الأسنَّةِ والفِكَرِ الذّاهِلهْ
    أساريرُ روحِكِ
    تحضنُ بين الغمامِ الجراحَ ..
    وعاصفَ شوْقٍ
    بحجْمِ المحيطاتِ والأخيلهْ
    وكنتُ رسمتُكِ بينَ المياهِ
    بنفسجَةً للمُغامرِ
    لمّا يعضُّ السؤالُ نواجِذَهُ
    يلتقي في الطريقِ المُغايِرِ صوتَكِ ..
    يفتتِحُ الزَّلزلَهْ !!
    * *
    وأنتِ ـ كما أنتِ ـ تمتشقينَ الحُسامْ
    ونبضُكِ زقزقةُ الطيرِ، هذا العذابْ
    يُحاصرني البرْقُ
    خاصرةُ الرملِ تهتزُّ، تبعثُني منْ مواتْ
    وآيتُكِ الطيِّبُ المستطابْ
    تمدّدَ ظلُّكِ فوقَ الفراشْ
    يبلِّلُهُ الصوتُ
    والنغماتُ العِذابْ
    وهذا الغمامُ النديُّ / الرُّضابْ
    وأفقُكِ ظلُّ الفراديسِ
    تفتحُ في الليلِ أبوابَها ..
    ...
    هلْ تعودينَ لي في مساءٍ
    يُضمِّخُهُ الشوقُ
    أيتها المهرةُ الصَّاهِلَهْ؟

    صنعاء 3/5/1987

    (5)
    مملكة الصمت

    لهُ الآنَ مملكةُ الصمتِ منذُ ليالْ
    لهُ دفقةُ القلْبِ، والنيلُ فيْضُ الجمالْ
    ...
    لهُ سطْرُها المُتأَلِّقُ عطرًا
    لهُ نبضُها المُتجسِّدُ برقا
    لهُ سُدَّةُ البوْحِ ، والجُرحُ بعضُ احتمالْ !
    ...
    لماذا إذنْ كانَ يذوي وحيداً
    بعيداً
    وهاجسُهُ: الطَّمْيُ، والبرتقالْ
    وصفصافةُ تستحِمُّ على الرَّملِ
    تمسحُ قلبَ المُعنَّى
    بفيْضِ الظِّلالْ ؟!

    صنعاء 9/3/1988

  9. #19
    الصورة الرمزية الشريف المعافى شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    العمر : 54
    المشاركات : 103
    المواضيع : 3
    الردود : 103
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    ياللروعة

    ياللعذوبة

    جميل هذا النص بما فيه من إيقاع ومعاني ومفردات

    بوح رائع

    غناء الاشياء

    بعيون الشاعر ترقص كل المخلوقات عندما يرقص

    بعيون الشاعر تبكي كل المخلوقات عندما يبكي

    وهنا يكمن احساس الشاعر عن غيره ... رائعة من روائعك وليس بمستغرب فالشيئ من معدنه لا يستغرب

    دمت للواحة طائرا مغردا وصقر محلقا في سماء الكلمة السامية

    اخوك

  10. #20
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشريف المعافى مشاهدة المشاركة
    ياللروعة
    ياللعذوبة
    جميل هذا النص بما فيه من إيقاع ومعاني ومفردات
    بوح رائع
    غناء الاشياء
    بعيون الشاعر ترقص كل المخلوقات عندما يرقص
    بعيون الشاعر تبكي كل المخلوقات عندما يبكي
    وهنا يكمن احساس الشاعر عن غيره ... رائعة من روائعك وليس بمستغرب فالشيئ من معدنه لا يستغرب
    دمت للواحة طائرا مغردا وصقر محلقا في سماء الكلمة السامية
    اخوك

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. غناء القبرات
    بواسطة مصطفى بطحيش في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 01-01-2011, 08:38 PM
  2. أأكل أم غناء ؟
    بواسطة محمد الحامدي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04-07-2007, 06:56 PM
  3. يا واحةً غناء
    بواسطة عبد الفتاح الأسودي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 05-11-2006, 03:48 PM
  4. العلاقة بين غناء بوسي سمير وهرمون التستوسترون الملعون !!!
    بواسطة محمد شعبان الموجي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-12-2004, 01:16 AM
  5. من غناء المرأة الفلسطينية لطفلها
    بواسطة ربيحة علان في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30-10-2004, 07:53 PM