ذات فرح غبرت حروف تاريخه، مررت بالجدول المسحور، فاستوقفني فرخ سنونو شاك اعتداء فرخ بومة عليه إذ نزع منه دميته الجميلة... هبتْ علي نسمة "معتصمية" دفعت بي لنصرة السنونو المظلوم دون شطط، فأصلحت ذات بين الفرخين وراحا يلعبان معا، بينما ألفتُ التردد على مكاني قربهما فصرت أغتديه كل تورد شفق... وكان أن جاءتْ بنت حواء زائرة لمخبإ الحور تمر باحتشام دون أن تلقي التحية . ولما أقفلت عائدة من شأنها، وقع من بين يديها فص ثمين في غفلة منها. فلملمت هامتي وجريت في أثرها مناديا إياها بصوتي المبحوح :« ياكريمة! هذا فص لك يحن لمكانه بين يديك » لكنها غابت بين الخمائل المورقة يتبعها عبق عطرها الذائب على أيدي النسمات المتضاحكة هزءا من سذاجتي.
وبعد حزمة أحزان وعقدة آلام عرفت مسكنها - وليتني ما عرفته!- فجئتها غداة قرح فلم أظفر بلقياها، ولكن حيزبونا قابلتني بما يقابل الصياد طريدة شردت من صياد غيره مستجيرة بالنار من الرمضاء... تبدت خبيرة بألوان المجاملات وأساليب الاستدراج ، وأملت على عيني غشاوة نسجتها الشهامة والنخوة وعلى مسمعي ترددت نبرات من نغمة " الكردي" بكل ما فيها من شجو، وألبستني تاج "سيف ابن ذي يزن" و منطقتني سيف "عنترة العبسي" ولقنتني ترديد المعلقات بأكملها، حتى حسدني الحمل الودود على حلة الأسد التي ألبستني إياها تلك الحيزبون...وبعد موت وحياة، وجدتُني أغالب خيوطا تطوقني من كل زاوية ببيت عنكبوت؛ لا متناهية سدت علي منافذ إبصار الشفق الوردي، وكبلت كل حواسي عشرين موتا وعشرين حياة، ظلّت خلالها بنت حواء تتظاهر بالإشفاق عليّ وبمواساتي في تلك الحال التي لم يُعرف مثيلٌ لها أي من ساكني الجدول المسحور ...
ولما كان الجرح قد أخذ في القلب عمقه، وبدأ النزف يتمرّد على حنكة الأساة، نبت على كتفيّ جناحان مكّناني من التحليق فوق البحيرة الدامية إسوة بالحمام الزاجل الذي يحمل إليك رسائلي. غادرت الديار وما كنت وقتئذ أحس الحنين للون الثرى ولا لأشجار الصفصاف، وسكن الأرق أجفاني بعد حين أخذت التعابير في حلقي تشيخ معانيها وقُصّ جناحي في أودية الضجيج المنسية ، حيث تفرّدت ببلواي ولم يعد وادي الجمود يرخي جناحي للريح سوى مرة كل اثني عشر قهرا! أطوف بعدها على أوكار غطى ذكرياتي فيها الألم وكحّل جفنها السّهاد بمراود الأنين ... وكلما آويت للعش ألفيت فراخي الزّغب على ضيم يصبحون ويمسون على كدر مكبوت يزيد حيرتي حيرة ويستفز شفاه جرحي النازف . لم يراودني شك في طبع بنت حواء "المشفقة" ولم ينتبه حذري لما يجري في كل الجداول المسحورة على ألسنة الحكماء من وصايا وحكايا لسيرة بنات حواء !
ثم تشكلت الصورة بكل ألوانها لقصة بنت حواء " المشفقة" غداة حزن، وانطلقت منها ريح نتنة أطبقت على أرجاء الحي وبدت أنياب ذئبة تنمو على فكيها ونبت حول جفنيها فطر غريب لا عهد لأحد به. فخرجت على قومها في شكل ممسوخ مخيف تنكر له كل سكان الجدول. طرت العنادل وخنقت ما تبقّى من زهرات النرجس فأتت على كل خيوط الأماني الحسان تنقض المغزول منها وتبدد المنفوش حتى عصفت بالعش بمن كان فيه .
لست أدري كيف بُعثتْ في عزمي بعض حكمة "لقمان " حين بدأت أعالج سفيني الآخذ في الاستسلام لعاصفة تلاطمت أمواجها فوق قنن الجبال، وكنت أشدّ على شفاه جرحي إبقاء على قلب كاد يفلت من حلقي ويهرب من بين فكيّ المطبقين!
زِغْتُ عن قواعد وادي الجمود فأهدر دمي، وعدتُ أرتق جوانب العش المهلهلة لسبعة أحران طالت طول الأبد ... غير أن العاصفة أخذت تهدأ قليلا وطابت الريح وبدأ جناحاي يجبر كسرهما . ومرة حاولتُ التحليق فوق البحيرة فأمسك بي مجال وادي الجمود وردّني مكبلا لأدغال الضجة الخانقة حيث أنا الآن . ثم كان الفجر الجميل يرسم وجه الأمل بريشته الناعمة بمهارة على وجه زمن عبوس بدت تدب فيه الحياة، يوم عرفت ناديك وسألتك عني فوجدتك تعرفين عني أكثر مما أعرف عني. وتآخت حروفنا وكتبتِ لي وكتبتُ لك وأفرغتِ من أحزانك في أحزاني وطرزت بالورد لون صباحاتي وأقمت لك صفحة في ديوان شمس بيتي فكنت شمسا بسمت لها زهراتي وأطل الأمل...