الحمد لله وكفي وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد....
تتمة لموضوع هل الاشباع غاية

أما الخوف من القتل في سبيل الله ، فهذا الأصل أن يكون أمنية وطلباً عند المسلم ، لا أن يكون عذراً للتقاعس عن العمل لدين الله ، ذلك العمل العظيم .


قال رسول الله : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله " رواه الحاكم . وقال : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " رواه ابن ماجه والترمذي .

ثم إن الموت أمر حتمي لكل مخلوق وليس لكل إنسان فحسب ، سيموت كل مخلوق حتى ملك الموت نفسه سيموت ، وسينادي رب العزة : لمن الملك اليوم ، فلا يجيب أحد ، فيجيب الرب بنفسه لله الواحد القهار ، كما نقل الشوكاني عن الحسن ) لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(غافر: من الآية16) .

والموت عدا عن أنه أمر حتمي )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:57) ،)كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:26-27) ، فهو أمر مقدر بميعاد لا يتخلف أبداً ، مهما حاول المخلوق دفعه )أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(النساء: من الآية78) ، )قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11) ، )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة:8) .
أما عن الميعاد الذي لا يتخلف ، : )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل:61) ، و : )وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف:34) ، و : )قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس:49)، و : )وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً )(آل عمران: من الآية145) .
وما دام الأمر كذلك فلتكن ميتتنا في سبيل الله، ورحم الله سيدنا خالد بن الوليد ، سيف الله المسلول فقد مات على فراشه وليس في جسده موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح ، فلا نامت أعين الجبناء . ورحم الله سيدنا على بن أبي طالب عندما كان يقول في المعارك ، في أي يوم من الموت أفر ، يوم قُدر أم يوم لا قُدر ، فيوم لا قدر لا مفر منه ويوم قدّر من المقدور لا ينجو الحَذِر .

أما الخوف من السجن والاستهزاء ، فإن الإنسان في سبيل أشياء دنيوية يتحمل أكثر من ذلك ، فلو قيل له نسجنك سنة وتصبر عليها وتأخذ مقابلها عشرة آلاف دينار ذهباً أو عشرون ألف دينار ، فسيوافق مؤملاً نفسه بالنتيجة النهائية ، ولو قيل لآخر يستهزئ بك الناس عاماً ، ثم تصير بعدها رئيساً عليهم تحكمهم ، ولك من القوة والمال ما لك ، فسيوافق مؤملاً نفسه بالنتيجة النهائية .
أما عند دين الله والتضحية من أجله ولو بالانفاق في سبيل ذلك أو السجن أو الاستهزاء ، سيأتي الشيطان للإنسان شارحاً له وحارفه عن المنهج المنجي عند الله ، مذكره بأهله وأولاده وزوجته وأمه وأقاربه ووظيفته و..... ، وهذه هي الفتنة ، الفتنة

عن الدين من أجل الدنيا .وهذه هي الفتنة بمعنى الإختبار )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) ، ومن الفتنة كما يقول صاحب الظلال : " فتنة الأهل وألاحباء الذين يخشى عليهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعاً ، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم وينادونه باسم الحب والقرابة واتقاء الله في الرحم ... وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير ... وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ... ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً " .

وإنه من المعلوم عند الفقهاء أن التهديد بالسجن أو السجن أو الاستهداء ليس برخصة لترك فرض من أعظم فروض الإسلام ، جعله الله مدار الكون وقضية القضايا وهو الحكم بما أنزل الله .


إن كلمة التوحيد ، لا إله إلا الله يجب أن يفهما المسلم فهماً صحيحاً ، كي يعمل بمقتضاها العمل الصحيح المبرئ للذمة أمام الله تعالى يوم يقف بين يديه وحيداً مجرداً من أحوال الدنيا من أهل وأموال وجاه وقوة و ...
: )يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ) (الشعراء:88)
: )يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (عبس:34-36) .

وليس المطلوب هو النطق فقط بكلمة التوحيد ، لأنه حتى النبي عندما كان يقول لقريش قولوا كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ، كان المقصود ليس مجرد القول بها إنما الإقرار بها والإقرار بها يعني العمل بمقتضاها ، لذلك رفضت قريشاً أن تقول هذه الكلمة .
فلا إله إلا الله تعني لا معبود بحق إلا الله وذلك يعني توحيد الله بالعبادة وليس توحيده باللسان فقط ، وعبادة الله وحده لا شريك له لا تكون فقط على صعيد الفرد فقط بل على صعيد المجتمع ، بل ويجب أن تكون على صعيد العالم كله
)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) لأن الله ليس إله إنسان دون إنسان أو مخلوق دون مخلوق .

ولأن عبادة الله تعني طاعته في كل أوامره ونواهيه ، وأوامر الله ونواهيه لا تقتصر على النواحي الفردية فقط مثل الأخلاق والصلاة والزكاة وإنما تتجاوز ذلك إلى أنظمة المجتمع جميعاً ، ففي شؤون الاقتصاد يجب أن يسيّر المسلمون حياتهم حسب أحكام النظام الاقتصادي الاسلامي ، وفي شؤون الحكم يجب أن يكون نظام الحكم هو نظام الحكم الذي فرضه الإسلام وهو نظام الخلافة ، وفي شؤون علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل يجب أن يسيّر المسلمون حياتهم حسب أحكام النظام الاجتماعي الاسلامي ، وعلى صعيد العلاقات الدولية يجب أن يسير المسلمون حسب أحكام السياسة الخارجية في الإسلام

فيكون حمل الإسلام للعالم عن طريق الجهاد في سبيل الله ، وعلى صعيد التعليم والصحة ونظام العقوبات وما شابه ذلك يجب أن يسّير المسلمون حياتهم حسب أحكام الإسلام ، والإسلام فقط .

فالعبودية لله وحده لا شريك له ، تكون باتباع منهجه ومنهجه فقط ، نأخذه بناء على أنه وحي ، مأمورون باتباعه ، وليس بناء على أنه مصلحة ، أو أنه يوافق العصر ، أو لا يخالف بعض ترهات الغرب الكافر كما يزعم البعض .
فالعبودية مثلاً في آية الاستخلاف )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، معناها اتباع شرع الله وإقامته أي تطبيقه .

واتباع هذا المنهج وتطبيقه لا يمكن إلا أن يكون بدولة تطبق الإسلام بأنظمته وتحافظ على عقيدته وتحملها للعالم كقيادة فكرية ، وتحميها من الاعتداء عليها أو محاولة الاساءة إليها ، وحتى الصلاة والتي هي مأمور فيها كل فرد بعينه ، فإنه لا يمكن لها أن توجد في معترك الحياة إلا بوجود الدولة التي تعاقب من لم يدفعه تقواه إلى الصلاة ، وتعاقب من ينكر الصلاة أو يمنعها أو يستهزئ بها ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمعاقبة تارك الصلاة كما أمر بالصلاة .

وكذلك الزكاة فإنه لا يمكن لها أن توجد في معترك الحياة وجوداً حقيقاً كما أراد الله تعالى إلا بوجود دولة تطبق الإسلام ، لأن الله تعالى يقول : )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(التوبة: من الآية103) فالخطاب هنا للنبي بوصفه حاكماً وهو خطاب لجميع حكام المسلمين من بعده ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال في حادثة المرتدين والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ، فالزكاة كان يأخذها الحاكم ويضعها في بيت المال في مصارفها الشرعية . فمن سيعاقب من لم يزكي ؟ أم أن الأمر اختياريٌ ؟!

فالإسلام ليس دعوة فردية ، بل الإسلام دينٌ منه الدولة ،والدولة حكم شرعي من أهم فروض الإسلام .
ولو سألنا أنفسنا لماذا قال الأعرابي الذي سأل سيدنا محمد إلام تدعو يا أخ العرب ؟ فأجابه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : إلى لا إله إلا الله ، فقال الأعرابي : إنها دعوة تخافها الملوك .

لماذا قال الأعرابي ذلك ؟ لأن الأعرابي فهم أن هذه الكلمة تعني تعبيد الناس كل الناس عرباً وعجماً لله ، فهو لم يقل تخافها العرب بل قال تخافها الملوك ، وتعبيد الناس لله تعالى يحتّم تطبيق الإسلام كعقيدة تنبثق عنها أنظمة عملية ، وهذا بدوره يتعارض مع مصالح حكام البلدان ، الذين يسوسون الناس بأهوائهم وحسب مصالحهم ويتحكمون في رقاب العباد ظلماً

وعدواناً ، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله ، ليس فقط للدفاع عن أراضي المسلمين وحياتهم ، بل من أجل كسر الحواجز المادية التي تقف أمام نشر هذا الهدي الرباني وتطبيق الإسلام على الناس ، فيكون هذا التطبيق الحسن للإسلام بمثابة دعوة عملية للذين لم يدخلوا في الإسلام بعد من أهل هذه البلدان ، فالإسلام كما نعلم لا يجبر أحداً على اعتناق عقيدته ، ولكنه يجبر الناس على الخضوع لأحكامه كما أمر الله تعالى ، وفعل رسول الله وصحابته الكرام من بعده ، فيلزم الناس غير المسلمين بالسير في حياتهم حسب أحكام النظام العام الذي يفرضه الإسلام ولكنه لا يجبرهم على العبادات والمطعومات والملبوسات ولكن حسب الآداب العامة التي حددها الإسلام .

والنبي سعى منذ بداية دعوته إلى إيجاد دولة للإسلام تطبق الإسلام تطبيقاً كاملاً شاملاً ، لأنه لا يمكن تطبيق الإسلام كاملاً إلا بوجود دولة للإسلام ، فالإسلام كأي نظام حياة لا يمكن أن يطبق إلا بدولة ، رغم أنه وحي من الله
إلا أنه من يطبقه بشر ، وخصوصاً أن تطبيق الحدود والعقوبات وكثير من الأحكام منوطة فقط بخليفة المسلمين ، وتطبيق الأنظمة منوط بدولة وليس بفرد .

فإيجاد كلمة التوحيد عملياً في الحياة يقتضي أن يكون الإسلام هو المطبق في معترك الحياة بجميع أحكامه دون أي انتقاص أو تأويل وذلك يعني الحكم بما أنزل الله تعالى .
)وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49) ، ) فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(المائدة: من الآية48).
وخطاب الرسول خطابٌ لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به ، وهنا لم يرد دليل ، فيكون خطاب للمسلمين بإقامة الحكم وهذا يعني إقامة دولة للمسلمين جميعاً ، وذلك لأنه لا يمكن تطبيق جميع الإسلام إلا بدولة .

فالعمل لإيجاد دولة الإسلام هو عمل لإيجاد التوحيد في الحياة إيجاداً عملياً كما أراده الله تعالى ، لذلك نسميها دولة التوحيد، وكما أسلفنا فإن قضية التوحيد هي القضية المصيرية الأولى ، هكذا جعلها الله بإرساله جميع الأنبياء والرسل بها ولها ، وهكذا فعل رسولنا عندما اتخذها قضية حياة أو موت ، وليس كأي قضية فقال لعمه : " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق.
وهكذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فقد جعلوا الإسلام مركز تنبههم ، عاشوا به ومن أجله ، قدّموه على الأهل والمال ، بل وبذلوا الدنيا في سبيل الإسلام .