قراءة في رواية (الينابيع)
للكاتب جمال جنيد*
بقلم : نزار ب. الزين
( أم رحال ) من سكان الحمة إضطرت مع أسرتها إلى النزوح خلال هزيمة حزيران ؛ و الحمة هي قرية سياحية قامت حول ينابيع معدنية حارة في الوادي الفاصل بين الجولان السورية وتلال إربد الأردنية ، و يمر منها قطار دمشق حيفا ، و فيها تقوم المحطة قبل الأخيرة قبل محطة سمخ المحتلة ؛ و في هذا الوادي نفسه ، دارت معركة اليرموك – فهي أيضان على نهر اليرموك – و هي المعركة التي إنتصر فيها العرب إنتصارا رئيسيا ، إعتبره المؤرخون تحولا هاما في مجرى التاريخ لصاح القبائل العربية إبّان فجر الإسلام .
أما اليوم ، و بعد أربعة عشر قرنا فإن أم رحال تمثل قوافل النزوح التي إبتدأت في النصف الثاني لأربعينيات القرن العشرين ، و لمّا تنتهِ ، في عملية للإنحسار بلغت ذروتها في حزيران عام 1967
*****
تجد النازحة أم رحال نفسها على حين غرَّة وحيدة في مواجهة مسؤولية جسيمة ، فالزوج أُبلغت بإستشهاده في إحدى العمليات الفدائية ، بعد قيل من النزوح .
ثلاثة أفواه من حولها تطلب الأمان من سغب لثلاثة أجساد ترجو إتقاء العراء ، و لات من معين غير ذراعيها اللتان أجرتهما لأحد معامل تعليب الخضار و الفواكه ، في إحدى ضواحي دمشق ؛ لتعيش و فلزات أكبادها على الكفاف من أجرها الضئيل .
ترى هل كانت معاناتها من خلال توفير الإحتياجات الضرورية لأفراد أسرتها و حسب ؟
الفقرة التالية تجيب على السؤال :
<< في ساحة الشهداء ( المرجة ) قرب الفندق الكبير نزلت ، نزلت كانت العربات المحملة ترتص هنا و هناك :
- ماذا سافعل بقية الأسبوع ، إذا اشتريت بضعة كيلات من الفواكه ؟
تساءلت أم رحال سرا ، و رغم الثورة العنيفة الدائرة في داخلها ، كان يبدو عليها الهدوء التام ، إتجهت إلى بائع الموز و إشترت ( كيلو ) واحد ؛ عبرت ( المرجة ) و صعدت إلى شارع النصر ، تراقصت أمامها كلمات الجرائد كأصابع مبتورة :
• الشعب العربي لن يستسلم !
• إسرائيل لن تنسحب إلا بالقوة
- آه ... متى ؟
صاح داخلها ، و كأنها تقدمت بالعمر بضع سنوات في لحظات !
• قوات الطوارئ
- إنني أفكر كثيرا بهذه اللعبة .... إننا نلعب لعبة لا حدود لها ؛ لا حمل و لا ولادة و لا مخاض !... >>
لا حمل ...لا ولادة ...لا مخاض ... لا حرب ...لا سلام ، ضربات في أعقاب ضربات ، تجابه بكلام يتبعه كلام ...لا عودة ...لا إستقرار ..و حجرا الرحى يطحنان .. يعصران ... يرهقان .
صداع يذهب و صداع يعود ئن و بين الصداعين دماغ مثقلة بالمتاعب و الذكريات و الحنين إلى الينابيع .
فالمقطع السابق يمكن إعتباره محور الرواية ؛ و إن شئنا الدقة أكثر ، فهما محوران متوازيان ، متجاوران و متزامنان ، يكشق الأول منهما المهاناة ، و يستقطب الآخر مشاعر الحنين .
*****
يتسلل جمال جنيد لبلوغ غرضيه ، فهو لا يسلط أضواءه عليهما بل يوحي بهما ، إيحاءات من خلال تداعيات قصيرة تنبثق عبر وصف دقيق مفصل للحياة اليومية لأسرة نازحة ، تعيلها إمرأة كادحة مكافحة .
ففي المقطع السابق مثلا ، لم يحدثنا ( الأستاذ جمال ) عن إرهاق أمر رحال في عملها اليومي الشاق ، حيث تقوم بتقشير التفاح و فصل حبات البازلاء أو الفاصولياء ، طيلة ثمانية ساعات يوميا ، تحت إشراف مراقب دأب على ملاحقتها ؛ إنما إكتفى بالإشارة إلى خشونة يديها :
<< كانت يداها تحتك بنسيج ثوبها ، فتنفلت من النسيج الدقيق بصعوبة و كأنها منشّاة :
تبا لقسم الإستلام و التحضير ، لقد جعل يدي كعجوز طاعنة في السن . >>
فبجمل قصيرة كهذه ، نثرها هنا و هناك فوق حقل الرواية ، أكمل لوحة المعاناة ؛ و كذلك فإن بعض تلك الصور لم تخلُ من السخرية المبطنة ، كالهزء من ردود الفعل السخيفة التي إعتدنا أن نجابه بها كوارثنا القومية : << الشعب العربي لن يستسلم ، إسرائيل لن تنسحب إلا بالقوة ... قوات الطوارئ ... إننا نلعب لعبة لا حدود لها ؛ لا حمل و لا ولادة و لا مخاض !.>> و هي العناوين المتكررة في الصفحات في الصفحات الأولى للجرائد العربية اليومية ، لفتت نظر أم رحال أثناء وقفة قصيرة أمام بائع للصحف في أول طلعة شارع رامي ، فعلقت عليها في سرها " آه متى ؟! " عند الحديث عن الإنسحاب ، و " إلى متى هذه اللعبة ؟! " عند الحديث عن قوات الطوارئ .
المؤلف ، لم يتحدث عن النخوة المجمدة في ثلاجات العجزة ، و لا عن الخجل المفقود ، و لا عن السأم المموه بإفتعال قضايا جانبية ، إنما اشار إلى عناوين تزين الصحف بالخط العريض لم تتغير منذ مهزلة جيش الإنقاذ و حتى تشرين المجهض بعد أحلام ( الرائد و القاهر و الظافر ) و بعد مقبرة الوحدة و مجزرة أيلول الأسود و حتى الإنتفاضات المقمعة ... إشارات خفيفة تثير عشرات التداعيات المختتمة دوما بالقهر .
إذاًٍ ، هو يوحي بالفكرة و يترك إستكناه أبعادها لذكاء القارئ .
*****
و يلاحظ أيضا تمكن الكاتب من أمرين :
أولهما ثقافته الإنسانية المتقدمة في المجالات النفسية و الإجتماعية ، حيث يغور بنجاح في أعماق النفس البشرية ، فيصف المشاعر و الإنفعالات من قلق و رغبة مع الإستمرار بلعبة التداعي التي مارسها من ألف الرواية و حتى يائها ؛ و كذلك لم يغفل الروافد الإجتماعية التي تصب برقة في المجرى الروائي ، فتعزز دفقه دونما إضطراب ، فيمس مسا خفيفا مشكلات إستغلال النفوذ ، القوة النقابية ، الأقنعة الإجتماعية ، إستمرار تأثير الغيبيات ، تمنع بعض الفتيات عن زواج الفدائيين أو العسكريين بشكل عام ، مشكلات الجنود الأخلاقية ، إنخفاض مستوى الأجور .
و في الفصل الخاص بأبي رحال نلاحظ قمة التحليل النفسي الإجتماعي :
<< ينتدب أبو رحال و شقيقه مع آخرين إلى عملية فدائية ، يقتل فيها شقيقه ، أما هو فيصاب إصابة بالغة أبقته عدة أشهر في أحد مستشفيات مدينة إربد ؛ يلتبس الأمر على القيادة فتعلن إستشهاده .
يعود إلى دمشق بعد أن تماثل للشفاء و قرب بيته يجد صورة معلقة و تحتها عبارة " الشهيد ابو رحال " ؛ يضطرب ، يتراجع ، يبتعد ، فقد خشي إفتقاد المجد ؛ و يظل مبتعدا مع صراعاته حتى آخر الرواية . >>
<< يمكنه الآن أن يرى إلى أي حد بلغ به السفه ، لقد صنع مجد الشهادة على أكتاف أخيه عبد الله ، فانزوى متخفيا في أزقة دمشق ، يعيش حياة حن إليها منذ زمن ، حياة بعيدة عن مسؤولية العمل و البيت .
و لكن إلى متى . إنه ثمن بخس أن يعتاد على سلخ جلده بينما أطفاله – الذين كان يلمحهم عن بعد دون أن يروه - تخنقهم الفاقة و الحرمان .
ثلاث سنوات مليئة بالشوك ، بالسديم ، بلا فصول .>>
أما الأمر الثاني فهو تمكنه اللغوي : (( ثراء المفردات ، تخير الألفاظ ، تنويع الجمل بين خبر و إنشاء ، العناية بالتفصيلات الصغيرة ، دقة التصوير و تلوينه ، و العناية بابعاده الأربعة ؛ مع بعض النفحات الشاعرية . )):
<< يرف فوق رأسها عصفور تائه ، تمسكه ، ترى عينيه الملتمعتين في الليل ، ثم ترفع يدها و تطوح به بهدوء ، تسمع رفيف جناحيه ، يذهب بعيدا ؛ تحس بغصة .. ذهب و لن تراه .. لن تراه أبدا ؛ ذلك هو الوداع .>>
<< و تسير .. ذلك الحقل يبدو لعينيها و كأنها عرس للورد ، سبائك من عطر ، عن بعد كبير كبير تخل أنفها ، و أضاميم من ألوان كثيرة تشع في الليل ، اللون الأرجواني قاتم في الليل ، إنها ترى بصورة مريحة و واضحة اللون الأبيض ، تقترب و تقترب ؛ إنها الحقيقة .>>
كما يلاحظ في أسلوب التصوير الطابع (الإيكولوجي) أي المقطع العمودي للطبيعة و الحياة ، الشمس ، القمر ، الغروب ، الطير ، الأزهار ، شجيرات الموز ، الكريفون ، الينابيع الكبريتية الحارة ، نهر اليرموك ، الأسماك ، الإنس و الجان ؛ بينما يحدد المقطع العرضي أم رحال و أفراد أسرتها ، و لا يتجاوزه إلا قليلا و من خلالهم .
*****
محور الصراع :
<< كانت هناك فتاة صغيرة ، صغيرة جدا ، قبل أت تصبح أم رحال ، لكن المتاعب إمتلأ بالمتاعب ، هكذا فجأة .
و أشجار الموز و السنديان و البلوط ، و الآبار المعدنية الدافئة ، كلها ذهبت فجأة ، هكذا فجأة ! >>
<< و تذكرت أم رحال أن اليوم الخميس ، و لهذا عليها حس خطاها لقبض ( جمعيتها ) ، أخذ الإحساس بالغثيان يبتعد ، و كثعالب الماء إنسابت إلى يديها خمسون ليرة . >>
<< إفعلي ما تشائين يا أم رحال ، ثم إبتلع ريقه و مد رأسه كزرافة و تابع يقول :
- حتى لو وضعت التفاح دون تقشير فأنا اقبل ، أقبل ذلك منك أنت فقط دون سواك .
قالت له و كأنها تضع سدا لكلماته :
- إذا تحدثت معي هكذا مرة أخرى سأشكوك إلى المدير ! >>
المعاناة و مرارة اليأس :
<< متى ترجع إلينا الحمة ؟ عندما يفتح سمسم الباب ! >>
كانت بركة الماء قرب دوار كفرسوسة تتوسطها نافورة مياه سميكة ، تحب المياه أنى كانت ، تذكرها دوما بالينابيع الدافئة ؛ لقد سمعت كثيرا عن مياه الفيجة و هي في الحمة و تمنت أن تذوقها ، و اليوم تذوقتها مع المرارة ، مع الضياع ، فلم تشعر بنكهتها >>
الحنين :
<< و الينابيع الدافئة ، ألم تكن سيدة الموقف في الحمة ؟ كانت تغمر كل شيء ببخارها العظيم ، تبعث الصحة في أوصال المرضى ، تخلصهم من أحزانهم ، في كل مرة يدخلون إليها كفتاة بكر ، ينعمون ، و يهزهم عنفوان غريب لا حدود له . >>
الحنين و القهر في الحوار القصير التالي:
<< - أنت دوما تذكرين الماضي يا أمي .
= الماضي أجمل من الحاضر يا حسنه ، كنا سعداء في الحمة .
- لكنها ستعود
تصرخ أم رحال دون سابق إنذار :
= متى ؟! اليهود يغتسلون الآن في مياهها الدافئة ، و من المؤكد يوزعون في بقاع الأرض صور ينابيعها الدافئة ، ليجلبوا إليها السياح و مأنها بلادهم أبا عن جد ! >>
الحنين و الذكريات :
<< بيتها في الحمة ، تذهب غليه عبر دروب من رود جوري و قرنفل ، تصعد تلك الدروب في إنعراجات حادة و كثيرة ، تؤكد عمق الجمال هناك ، ثم تنحدر ثم تصعد ، و الحوافي مليئة باعشاب خضراء تصبح في عين الشمس ذات لون بنفسجي ، و عندما تهب عليها ريح ناعمة ، تهتز الحوافي مثل رفيف جفن .
هناك ، في تلك البقعة ، كانت تحس بدفء النبع يحتوي كل كيانها و يطليها بالذهب .>>
<< قرب الشوك و الجبال ، قبل أن يقطع الجميع نهر اليرموك ، و أصوات المدافع تهز الأرض الفسيحة ، و في العمق تضيء ومضات الطلقات و كأنها برق يضيف إلى الشمس إضاءات متتالية ؛ توقف أبو عقيل ، و هز يديه ناحية الحمة و صاح :
- لا بد أن أذهب و آتي بالفراش .
= ستموت إذا ذهبت يا أبي .. ستموت .
قال له أمر رحال :
= الفرش كثيرة عند عمي في إربد .
- لا تخافا ، سأتبع طريق الوادي إلى الحمة ؛ أعتقد أنهم لا يقتلون الشيوخ !
ضحكت آمنة :
= ألم تسمع ما فعلوا في ( قِبية ) ؟
- لكنني لا أحمل سلاحا
= و هل كانوا في قبية يحملون سلاحا ؟
عشر رصاصات إخترقت رأسه و ظهره ، كبا فوق الحمارة ، سال الدم غزيراً حتى نعليه ، و أخذ ينقط مكونا خطين متوازيين على جانبي مسير الحمارة . >>
*****
فالعقدة في ( الينابيع ) تنسج خيوطها حول محوري المعاناة و الحنين ، فالصراع بالتالي صراع نفسي و ليس صراع أحداث ؛ صراع بين مرارة الواقع و أماني الخلاص ، يدور في نفس أم رحال غالبا و في نفس أبي رحال تارة أخرى .
كل واقعة نحفز ذكرى و كل ذكرى تخلق أمنية ، الحنين يغذي الآمال ، و الواقع يصفع الإثنين معا ، فيتولد اليأس و القهر ، و أحيانا تتأجج شرارات الرفض ، رفض الواقع بعاره و خزيه :
<< شياطين كثيرة الآن ، فوق هاتيك التلال تضحك منكم ، لا تحسنون إلا لعق الكلمات المليئة بالروث >>
و تشعل الشرارات الصغيرة تمردات صغيرة ، تمرد أم رحال الذي ينكص بها نحو الماضي العذب فتلتصق به - هذا الموقف يذكرنا بأولئك الذين عجزوا عن صناعة المستقبل فراحوا ينقبون في التراث – و بالطبع فهو إلتصاق هروبي .
أما تمرد ابو رحال و إبنه رحال فقد دفعهما إلى العمل الفدائي .
ثم تومض الشرارة الكبرى فتشعل حرب تشرين :
<< و عندما يضعها في سيارة الإسعاف تصعد معها خالدية . يقول السائق لمعاونه :
- كم الساعة ؟
= الثانية إلا ربعا .
- حركة غير عادية ، لم يعد الجنود اليوم إلى معسكراتهم ، ألم تلاحظوا ؟
تصحو أم رحال على هذا الحوار ، لمنها تظل مغمضة عينيها و الصداع يستمر دوائرا .
يقول المعاون :
= في الظهيرة لا تحدث الحرب !
و فجأة ، ضابط يمد يده لسيارة الإسعاف ، تتوقف ، يقول برقة للسائق :
= أرجو أن توصلني إلى المدينة .
- لا مكان لك إلا بجانب المريضة .
= شكرا لك .
يصعد الضابط ، يجلس صامتا مقابل خالدية ، و تسمع أم رحال صوت تنفسه .>>
تشرين ، ممثلا بالضابط ، تسمع أم رحال صوته ، فتدب فيها الحياة ، الإرادة لم تعد مجرد إسم جامد ، الإرادة نفخت فيها الحياة ، أصبحت ذات روح ، إنها تتنفس إلى جوارها ، العودة باتت وشيكة ، لم يعد مهما أن تعود بشخصها أو لا تعود أبدا ، المهم أن يعود رحال و حسنا ، المهم أن تعمر ينابيع الحمة بأصحابها الشرعيين ، على هذا النحو حلَّ الكاتب الأستاذ جمال جنيد ، عقدة الرواية ، فمتى كانت الذروة ؟
<< عملها المضني في معمل الكنسروة في واد ، بينما إبنها رحال في واد آخر تماما ، لا يفكر إلا بنفسه و لا يهتم بإخوته الصغار ، ، إضافة إلى أنها سمعت من صديقه كامل بأنه يشرب الخمرة في البارات . >>
و كدأبها لم تشكُ و لم تتذمر ، كتمت معاناتها بين جوانحها و مضت إلى كفر سوسة ، في محاولة لحل مشكلة رحال من خطبته المتعثرة .
أمومة صابرة كصبر هذه الأمة ، التي إبتليت بأنانية أفرادها و فئاتها معا .
فإذا كان الإحساس و العجز و رثاء الذات ، ذروة العقدة ؛ فإن تشرين كانت حلها .
و إن أُجْهِض تشرين* مرّة ، فأمامنا تشارين !
[color=CC6600]*****
حوار
مع الأديب جمال جنيد*
حول رواية : الينابيع
أجرى الحوار : نزار ب. الزين*[/color]
س – لا حظت من خلال مطالعتي ل( الينابيع ) معرفتك الوثقى بمنطقة الحمّة المحتلة ، ينابيعها الحارّة ، بساتينها ، تلالها ، آثارها ، و حتى إنسها و جنّها ، و لاحظت أيضا أنها متغلغلة في صميم وجدانك ، و كأنك من أهلها ، بينما تاريخك الشخصي لا يشير أبدا أنك عشت فيها ، فما سر ذلك ؟
ج – قد يكون الخيال أشد إلتصاقا من الواقع ، هذه ناحية فنية بحتة ، إلا أن معرفتي بالحمة جاءت عن طريق أحد أقربائي ، إستمعت إليه طويلا و هو يروي و يروي و يروي عن الحمة حتى بت أعرفها .
س – لقد تناولت قضايا كثيرة خلال إيماءات خفيفة و إيحاءات سريعة ؛ فمثلا أثناء معالجتك لمشاعر القهر و اليأس في أعقاب هزيمة حزيران المشؤومة ، أشرت إلى لعبة الأمم المتحدة ، تلك اللعبة المستمرة منذ نشوئها و حتى اليوم ، تجاه قضيتنا المصيرية ، مع رضوخنا الكامل لتلك اللعبة ، و ذلك كله في سطر واحد : << قوات الطوارئ الدولية ؟ إنني أفكر كثيرا في هذه اللعبة ، لعبة لا حدود لها ، لا حل و لا ولادة و لا مخاض >> كما أشرت عابرا – أيضا - إلى القوة النقابية في سورية : << أيتها البنات ، ستتأخرن ساعة إضافية ، صاحت إحداهن " هناك نقابة ، قال بعد لحظات " هل من معارض ؟ " فرفعن السكاكين و كأن آلاف الأحزمة الضوئية إنثالت إلى قلبه تنغرس فيه ، ثم صحن به : كلنا ! >>
و أشرت أيضا – بسرعة خاطفة - إلى تعلق العامة بالغيبيات خلال حديثك عن إنهيار منطقة أثرية ، و كذلك عن شرارة تشرين من خلال ملاحظتين قصيرتين .
هذه التقنية هل أردت بها تطويرا للنهج الروائي ؟ أم أنها وليدة الضغوط التي يعانيها الفكر بشكل عام ؟
ج – في عصر يلم بالأشياء سريعا ، و الرواية جزء من هذا التسارع ، بحيث لا يمكنها أن تبقى اسيرة الماضي ، بكل ما تملكه من تفصيلات ؛ و لكن ارجو ألا يفهم كلامي بأنه نفي للتفصيلات الروائية ، بيد أنني اريد أن اتحدث بهذا الأسلوب ، لأن القارئ العربي أصبح يفهم كل اللمحات التي أوردتها دون أن أفصلها ، إننا – جميعا – مثقفون سياسيا ، نظرا لطبيعة الأحداث ، لكننا لسنا مثقفين فكريا .
صحيح أننا نعاني ضغوطا فكرية ، لكنها بقايا الماضي ، الذي سيتلاشى شيئا فشيئا ، هذا الماضي الذي يعيش في ذواتنا أكثر مما يمارس علينا .
س – في فهرس عضوية ( إتحاد الكتاب العرب في القطر العربي السوري ) ورد التعريف بك على النحو التالي :<< جمال جنيد من أصل فلسطيني ، من مواليد دمشق 1949 ، درس في دمشق و تخرج من جامعتها عام 1974 مجازا في الآداب و حاملا دبلوم التربية ، بعد ذلك بقليل ، و له رواية ( المبنى ) قبل الينابيع ؛ فهلا حدثتنا عن بداياتك الأدبية ؟
ج – ككل كاتب ، يبدأ بداية مشوشة ، كتبت في الأنواع الأدبية كافة ، شعر ، قصة قصيرة ، رواية ، بدأت بالشعر منذ المرحلة الإبتدائية ، ثم تطور في المرحلة الإعدادية إلى نثر غير مترابط الشخصيات و الأحداث ، ثم جاءت المرحلتان الثانوية فالجامعية فبدأت أكتب بوعي تام ؛ و كان أول من شجعني على الكتابة الروائية الدكتور حسام الخطيب ، و الدكتور محمود موعد ، ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير برحيل أخي محمد فتحي ، الذي كان يدرس في كلية العلوم /جامعة دمشق ، عندئذ عرفت أن الحياة إلى جانب كونها سهلة فهي قاسية جدا ؛ و كان تعبيري عن هذا الحادث في أول رواية لي ( المبنى ) التي صدرت عن إتحاد الكتاب العرب ، و منذ ذلك الوقت و أنا متجه إلى الكتابة الروائية ، و لم يمنعني عملي كمدرس و إلتحاقي بالدراسات العليا ثم سفري إلى السعودية ، لم يمنعني كل ذلك من مواصلة الكتابة يوميا ، لأنني أعتبر حياتي مرهونة بالكتابة .
و قد لعب إتحاد الكتاب العرب في القطر السوري ، الدور الأكبر في ظهور أدبي ، فقد نشر لي الإتحاد أول رواية ( المبنى ) عام 1978 ثم نشر لي الينابيع عام 1980 .
إن مجال النشر بالنسبة لكاتب شاب هو النافذة السحرية ، و الإتحاد المذكور كان نافذتي السحرية .
س – هناك مدرسة في علم النفس ، ترى أن العمليات العقلية تقوم كلها على تداعي الأفكار ، الفكرة تستدعي الفكرة بالتشابه أو التضاد أو الإقتران ، و يطلق عليها اسم ( المدرسة التداعية بريادة هيوم ) و الملاحظ في روايتك ( الينابيع ) إنتهاج نهجها ، فهل أنت على إطلاع بنظريات هذه المدرسة ؟ و هل أنت من أتباعها ؟ و هل تخطط أعمالك الروائية وفق هذا المنهج ؟
ج – الواقع ، لست على إطلاع لنظريات هذه المدرسة ، و لكنني أرى بأن الماضي و الحاضر هو كل ما يملكه الإنسان ، و عندما تستدعي شخصية ( أم رحّال ) مثلا فكأنما استدعي وجودها ، إنها تؤكد ذاتها القديمة دون شروخ ، الماضي بالنسبة لها هو الأمل ، و الحاضر – حاضرها – متعلق بذلك الماضي .
و الرواية بنظري ، عليها أن تقوم بعملية التداعي ، لأن التداعي يؤكد دراسة الشخصية من جميع جوانبها ، إننا بهذا لا نثري شخصية مسطحة أو هوائية ، التداعي يحيط بنا علما بها ، بل يكسوها لحما .
أما إطلاعي على علمي النفس و الإجتماع ، فهو مجرد دراسة عابرة غذيتها بقراءتي للروايات ، من جميع المذاهب ، و يأتي إستبطان النفس و دقة الملاحظة في المقام الأول ، لأن تكويني النفسي له المقام الأول في هذا المجال .
س – كيف جمعت بين طرفي النقيض في شخصية أبي رحال ، بين الأخلاق و اللاأخلاق، هل نحن أمام أسطورة ( دكتور جيكلو المستر هايد ) جديدة ؟ الأخلاق بإنضمامه المخلص إلى العمل الفدائي ؛ و اللاأخلاق بتركه زوجته - وحدها - في مجابهة مسؤوليات الأبناء .
هل تود أن تمس مشكلة الإزدواجية مسا خفيفا – كعادتك في رواية الينابيع – ثم تترك الباقي لتكهنات القارئ ؟ ألا ترى أن الإنفصام الكامل بين الرجل و أسرته ، ثغرة في عملك الروائي ؛ إعذرني لطرح مثل هذا السؤال فأمر أبي رحال حيرني قليلا ..
ج – أبدا ، لسنا أمام أسطورة إزدواج شخصية جديدة ، إنه الإنسان بجميع تناقضاته ؛ فبكل فئاتنا هناك حالات من الإنفلات من المسؤولية ، و هو أمر نسبي لكنه موجود ، و أبو رحال واحد منا .
أما الإنفصام بين الرجل و أسرته ، فيبدو من المنازعات التي كانت تحدث بين أبي رحال و زوجته .
أبو رحال بإختفائه يخوض تجربة لا أكثر ، لكنه يصمم على العودة إلى الطريق الصحيح ألا و هو طريق الكفاح .
س – ظننت أن في أشخاصك بعض رمزية ، فأم رحال هي أمتنا الصابرة ، و أبو رحال هو تناقضاتنا الإجتماعية و السياسية ، و رحال يمثل أنانية قطاع عريض من الجيل الصاعد ، أما التفاعلات الإنسانية إثر إنهيار الآثار ، فهي تعبير عن تخلفنا . ما رايك في ظني هذا ؟ و إذا كان ذلك صحيحا فكيف واءمته مع الخط الواقعي ، أي كيف وفقت بين الواقع و الرمز ؟
ج – لكل قارئ حريته التامة في أن يؤيل أشخاص روايتي كما يشاء ، و لكن أريد أن أقول ، أن الشخصية الروائية ليست تصويرا فوتوغرافيا ، إنها إضافة إلى كونها واقعية فهي فنية ؛ و المواءمة مع الواقع تنبع من التداخلات بين ما يمكن أن يجري في الحياة ، و ما يجب أن يجري ؛ و أرى أن شخصيات روايتي ( الينابيع ) كانت تنبع مما يمكن أن أسميه بالرمز الواضح ، هي تدور في محور واضح ، لكنها تدل على شيء مفهوم ، إنها شخصيات لا تحتمل غموض الرمز ، بل تتطلب الوضوح الرمزي .
س – أزمة الكتاب العربي ، من حيث ندرة قرائه ؛ ماذا تقترح لعلاجها ؟ من المسؤول عن هذه الأزمة ؟ يأس الناس الذي أدى إلى سليتهم ؟ عدم توافق ما يكتب مع إهتماماتهم ؟ طغيان التلفزة و إكتساح ( الفيديو ) ؟ أم إرتفاع سعر الكتاب العربي ؟
ج – العربي بشكل عام ، يتمتع بمقابلة مطرب أو مطربة أكثر من إستمتاعه بقراءة كتاب . أما عن إرتفاع سعر الكتاب ، فإن ثمن علبة السردين إرتفع أيضا ، و لكننا نفضل طعام البطون على طعام العقول ؛ إننا نعيش عصر الإستهلاك و التردي الثقافي !
س – هل على الأديب أن يكون ملتزما ، و ما هي برايك الحدود المعقولة بين الحرية و الإلتزام ؟
ج – بين الإلزام و الإلتزام مسافة شاسعة كما بين السماء و الأرض ، و كثيرا ما نخلط بين الأمرين ؛ و الأديب الحق هو الذي يلتزم دون إلزام ، هنا يبرز الإبداع بشكله الصحيح ، فالإلتزام ينبع من ذات الأديب ، و لا تستطيع قوة أن تلزمه إذا لم يرد ذلك ؛ أما المُلزَمون فلا فلا يمثلون غير أنفسهم . الإلتزام هو الحرية فما دام الأديب يلتزم ذاتيا بقضايا مجتمعه فهو بالتالي ملتزم حر .
س – ما هي تطلعاتك الأدبية ؟
ج – أتطلع إلى وحدة الرؤية الأدبية - أي تكاتف جهود الأدباء – في مواجهة الهجمة الصهيونية المستهدفة بالدرجة الأولى ثقافتنا العربية ، و ذلك بتبيين الزيف الصهيوني و نشر إبداعاتنا في العالم كله ، بهدف شرح القضية الفلسطينية ؛ و أتطلع أيضا لأن ينال الأديب التكريم المادي و المعنوي ، كي لا تكون همومه اليومية عقبة أمام إبداعه .
و أتطلع كذلك ، إلى إتفاق بين إتحادات الكتاب العرب في جميع الأقطار العربية ، يتم بموجبه تبادل الكتاب العربي في البلاد العربية كافة .
-------------------------------------
*أديب فلسطيني يعيش في سوريه
* حرب تشرين أول 1981
--------------------------------
* نزار بهاء الدين الزين
مغترب من أصل سوري
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
الموقع :
www.FreeArabi.com
البريد :
nizarzain@adelphia.net