أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: حدثني جدي ....\ زياد جيوسي

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    الدولة : رام الله \ فلسطين
    العمر : 69
    المشاركات : 80
    المواضيع : 26
    الردود : 80
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي حدثني جدي ....\ زياد جيوسي

    حدثني جديِ
    زياد جيوسي

    كنت صغيرا كما كنا جميعا صغارا، كنت انتظر عطلة الصيف لكي أذهب وأزور جدي في مخيم الوحدات، يا الله كم كان حنونا ورائعا..هو جدي لأمي شيخ تقي هادئ حنون..كنا نسكن رام الله هذه المدينة الحلم التي تسحر النفوس رغم صغرها..ولكن عشقي لمخيم الوحدات كان كبيرا من خلال حبي لجدي..
    اتذكرتلك السنوات في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وهي أقصى ما يمكن أن تعود إليه ذاكرتي، كنت دوما أندس بجانب جدي وهو يدخن نارجيلته بالتمباك العجمي، وزهرة ياسمين قطفتها جدتي تضعها في زجاجة النارجيلة تتراقص مع كل نفس، جدي كان يسرح بفكره بعيدا، وكنا جميعا نحترم صمته، كان صمته عبادة وحديثه تراتيل من شجن وذكرى، وحين يتكلم كان يتكلم بهدوء.
    كان يحدثني دوما عن الفردوس المفقود، عن يافا وحيفا ومدن فلسطين، كان يعمل سائق قطار من فلسطين إلى العريش، فتأخذه الذكريات إلى تلك الأيام والى بيته الفسيح بإحدى قرى يافا، والى بيارات البرتقال وحقول السمسم وغيرها التي كان يمتلكها، والى رحلاته بين مصر وفلسطين والى ذكريات الثوار والثورة، قال لي ذات مرة كيف كان يهرب السلاح من مصر للثوار، حدثني كيف فرضت الثورة لبس الكوفية التي أصبحت رمزا بدل الطربوش التركي، حدثني عن هجمات شارك فيها أو شارك بها أبناء بلدته والمجاورين دفاعا عن الأرض ِوالوطن..
    كان يقول لي دوما: يا جدي الخير بالنتائج وليس بالبدايات..لم أكن أدرك بصغر سني ما يعتمل بداخل صدره الذي أثقلته السنين ما الحكمة من وراء مقولته، حتى سمعنا يوما من مذياع صغير عن تفجير نفق عيبلون وانطلاقة فتح، كنت اجلس بجانبه وهو ينفث دخان نارجيلته فلمعت عيناه لمعانا غريبا وقال:" تحركوا الشباب" يا جدي..الخير بالنتائج وليس بالبدايات وصمت ولم يتكلم..
    كانت هزيمة حزيران التي شكلت هزة لطفولتي فقد كنت ابلغ من العمر اثنا عشر عاما وبعضا من الشهور، لحقنا بالوالد حين تأكدنا بعد مرحلة قلق كبيرة انه أصبح بعمان، فقد كان عسكريا بقوات الأمن الأردنية وغادرنا صبيحة المعركة إلى بيت لحم للالتحاق بوحدته العسكرية وانسحب مع من انسحبوا، ووصلنا إلى هناك ونحن نحمل لقب نازحين، وبقينا فترة في بيت جدي الذي ما فتئ يكرر مقولته المعتادة، ولكنه كان قد ازداد صمتا وحكمة وبعد نظر، وزادت فترات شرود ذهنه مع نظرات ممزوجة بالألم.
    بدأت البدايات في العمل المسلح وتكاثفت الهجمات ضد قوات الاحتلال، وبدأنا نرى الثوار في أزقة المخيم بسلاحهم وألبستهم المميزة، كان جدي قد عاود الابتسام من جديد ويكرر القول البركة يا جدي في الشباب لكن لا تنسى الخير بالنتائج..
    في بدايات العمل وقبل معركة الكرامة بشهر واحد وكنت قد أصبحت بالثالثة عشرة من العمر التحقت بصفوف الثورة شبلا صغيرا كما كان يطلق علينا، لم أكن بصفوف فتح فمن قام بتنظيمي كان ينتظم لجهة أخرى، ولكن لم نكن نشعر بتلك المرحلة بأية فوارق..كان السباق من يوقع اكبر قدر من الخسائر بصفوف العدو، حتى كانت معركة الكرامة والتي مثلت انطلاقة حقيقية للعمل الثوري..
    تجذرت فتح كقوة أساسية في الساحة الفلسطينية وفرضت نفسها على الشارع وعلى الساحات العربية والدولية كأكبر قوة فلسطينية منظمة ومسلحة، تقود العمل الفلسطيني بكل عنفوان، فحظيت على احترامنا ونحن من فصائل أخرى كما حظيت على احترام العالم.
    أصبح ذكرى الانطلاقة بالنسبة لنا عيد ميلادنا جميعا، الروح التي تبعث الحياة بالجسد، وبقي جدي مراقبا ينفث دخان نارجيلته ويقول مضيفا لما سبق..يارب احمي الشباب من مؤامرات الخونة وتمم على خير..وتواصلت المسيرة التي عاشها قسم كبير من جيلنا بحلوها ومرها، بانتصاراتها وهزائمها من تجربة الأردن إلى تجربة لبنان، والمسيرة تتأرجح بين ضعف وعنفوان وبقيت فتح تقود القافلة وبقي الأول من كانون الثاني عيد الجميع ورمز انبعاث الأمل..
    في منتصف السبعينات خضت تجربة اعتقالية مريرة امتدت لخمس سنوات من ضمن سلسلة اعتقالات تعرضت لها، بسجن عربي " شقيق " بدون محاكمة ولا معرفة متى يمكن أن تفتح أبواب السجن، وكنا نحرص رغم كل قيود إدارة المعتقل أن نتجمع بباحة السجن في ذكرى الانطلاقة لنحتفل في ظل القيود بالانطلاقة ونغني سويا..فدائي فدائي فدائي يا ارضي وأرض الجدود، هذا النشيد الذي أصبح سلامنا الوطني، ونهتف بصوت واحد بغض النظر عن تعددية أبناء الفصائل.." فتح الثورة إحنا حماها دمي ودم أولادي فداها.." وبالتأكيد أن العديد ممن زالوا على قيد الحياة ممن تشاركنا وإياهم فترات الاعتقال وعادوا للوطن ما زالوا يذكرون تلك التجربة الرائعة بوحدتنا وانتمائنا جميعا لذكرى الانطلاقة..
    ولعل من شر البلية ما يضحك أنني ما زلت أناضل منذ تسع سنوات ومنذ عودتي للوطن لتثبيت فترة نضالي تلك وفترات اعتقالي، وسنوات سجني كجزء من تاريخي العملي ( النضالي ) بلا جدوى، أمام اصطدامي بمزاجيات غريبة وعجيبة وفصائلية ضيقة شطبت تاريخنا من عام 1968 إلى عام 1985 وكأنه كان نسيا منسيا..
    أثناء تلك السنوات العجاف وبعد اجتياح جنوب لبنان عام 1978 وبعد استشهاد أحد اقرب أصدقائي، زارني جدي بالسجن وكان بوضع صحي متعب لا يسمح له بتكرار الزيارات ولا الوقوف خلف شبك الزيارة المذل، قال لي جدي بعد أن هنأني باستشهاد صديقي..الخير والبركة فيكم انتم الشباب ..لكن يا جدي لا تنسى ما كنت أقوله لك دوما..الخير بالنتائج وليس بالمقدمات.. وتحدث عن ذكريات فلسطين وقال لي إن تحررت البلاد يوما يا جدي وأنت على قيد الحياة لا تنسى أن تزور يافا وشط العجمي وتذكرني هناك..فقلت له يا جدي سنزورها أنت وأنا سويا، فأبتسم ولم يعقب على شيء سوى تلك اللمعة الغامضة بعينيه، فقد كانت عيناه تقولان الكثير ولعل أهم ما قرأت بعينيه القلق الغامض كما شعرت انه يودعني، ولم أره بعدها..فقد توفي قبل أن يحقق حلمه بالعودة إلى ثرى الوطن ولم يتحقق حلمه بأن يدفن في رحاب الأقصى كما كان يحلم، وحققت له وصيته وزرت يافا غير المحررة وقرأت على روحه الفاتحة هناك على شط العجمي.


    ومرت السنوات وتواصلت المسيرة وتواصلت سنة اثر أخرى احتفالات الانطلاقة وعيد انبعاث طائر الفينيق من قلب الرماد، حتى عدت للوطن ضمن من عادوا لأجد نفسي في وطني بلا هوية محصورا في مدينتي الساحرة رام الله بلا أدنى قدرة على الحركة، متألما لما آلت إليه الأمور من تأسيس سلطة إلى اجتياحات متكررة إلى قوافل من الشهداء تليها قوافل أخرى ومواكب بلا عدد من الأسرى في جانب، وفي جانب آخر هناك انتهازيون ولصوص كل همهم وأد حلم الثورة وتدمير الحلم الجميل الذي كنا نحلم به ودفعنا دمنا وأجمل سنوات عمرنا بالتشرد والسجون والقمع من أجله..
    وها أنا اليوم أجول بشوارع رام الله وأزقتها، أرى الجدران مغطاة بصور الشهداء والأسرى، أتنشق عبق ياسمين رام الله وأتأمل ما تبقى لنا من بيوتها القديمة، وأذكر جدي وزهرة الياسمين تتراقص بأرجيلته، وانتظر عيد الانطلاقة وهو يقترب منا من جديد، وأستعيد الذكريات واستعد لفرحة عيد الانطلاقة بعد أن خط الشيب مفارقي وأصبحت حرا منذ عشرة سنوات من قيود الفصائل وتجربتها، ولا يتبقى لي سوى هذه الذكرى فهي ميلادي، فأترحم على جدي وأقول: صدقت يا جدي..الخير بالنتائج وليس بالبدايات ..ولكن هل كانت هذه هي النتائج التي نحلم بها ؟؟
    رام الله \ فلسطين
    31\12\2005

    زياد جيوسي
    عضو لجنة العلاقات الدولية في
    اتحاد كتاب الانترنت العرب
    http://www.maktoobblog.com/ziadjayyosi1955
    http://www.arab-ewriters.com/jayosi

  2. #2
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    المشاركات : 3,415
    المواضيع : 107
    الردود : 3415
    المعدل اليومي : 0.50

    افتراضي

    بعد أن خط الشيب مفارقي وأصبحت حرا منذ عشرة سنوات من قيود الفصائل وتجربتها، ولا يتبقى لي سوى هذه الذكرى فهي ميلادي، فأترحم على جدي وأقول: صدقت يا جدي..الخير بالنتائج وليس بالبدايات ..ولكن هل كانت هذه هي النتائج التي نحلم بها ؟؟
    رام الله \ فلسطين
    31\12\2005
    أستاذ / زياد جيوشي

    وأنا أقول
    ما مات حق وراءه مطالب .
    دمت أخي الفاضل وحقق الله لنا ما نتمنى ونصبو ...

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    الدولة : رام الله \ فلسطين
    العمر : 69
    المشاركات : 80
    المواضيع : 26
    الردود : 80
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبلة محمد زقزوق
    بعد أن خط الشيب مفارقي وأصبحت حرا منذ عشرة سنوات من قيود الفصائل وتجربتها، ولا يتبقى لي سوى هذه الذكرى فهي ميلادي، فأترحم على جدي وأقول: صدقت يا جدي..الخير بالنتائج وليس بالبدايات ..ولكن هل كانت هذه هي النتائج التي نحلم بها ؟؟
    رام الله \ فلسطين
    31\12\2005
    أستاذ / زياد جيوشي

    وأنا أقول
    ما مات حق وراءه مطالب .
    دمت أخي الفاضل وحقق الله لنا ما نتمنى ونصبو ...
    ولا تموت الحقوق يا عبلة
    هذه ارض الرباط الى يوم الدين...
    وما هدفت اليه بنصي هو الاشارة لمواقع الخلل التي تعتري المسيرة
    مع الاشارة للجانب المشرق بالشهداء الذين يواصلون الدرب
    شكرا لاطلالتك على ما خطه قلمي
    زياد جيوسي

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    الثورة نجاحها ليس بالسهل ولن تنتهي وينتصر أهل الحق في يوم أو يومين لاسيما هناك عوامل كثيرة تقف بشكل معاكس وتخاذل أخوتنا المسلمين يزيد الموقف ذلا وإهانة لكرامة المسلم , وصدق من قال أنَّ العبرة بالخواتيم
    قصة قوية عميقة تحرك أحاسيس القارئ
    تقديري

المواضيع المتشابهه

  1. ايتها الغائبة..تعالي \ زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 11-06-2006, 10:42 PM
  2. أأعزي نفسي أم أعزيك\زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 31-08-2005, 12:09 PM
  3. يلالان \زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 29-05-2005, 10:14 PM
  4. منذر جوابره"بقاء" اشراقة مبدعة\زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 22-05-2005, 08:23 PM
  5. كوثر الزين.. شاهد على العصر الحجري\ زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-04-2005, 07:22 PM