كما أعتاد كل يوم أن يجلس علي تلك الأريكة في الحديقة العامة مقتبل هذا القصر العتيق, يمني النفس بأن يختلس بضع نظرات لصاحبة هذا القصر, التي داومت منذ أعوام بعيده الجلوس خلف تلك النافذة التي تطل علي حديقتها الغنّاء, ويداوم هو علي الجلوس كل يوم في نفس الموعد فلا تفارق عيناه تلك الشرفة ولا تلك الشجرة الفارعة الأفنان و كان يرقب تلك الشجرة من بدء شموخها, وهي تنحني من الرياح في كل خريف حتي يعتريها من الوهن ما يجعلها تتكأ علي هذا السور القديم, وكأنهاعجوزٌيحتضروكأن أفنانها قد تحولت لأزرعٍ تستند بهما علي إحدي الشرفات, تنتظر حين يحين الرحيل, ومع كل يوم كانت تتحامل علي هذا السور القديم, و قد أصابه من الوهن ما أصابه, ولا يقوى أن يتحمل ما أبلاه من طول السنين, ويعود ليرمق تلك النافذة, وكأنه ينتظر من يأذن له بالإنصراف, ولكن هذا الصباح كان مختلف عن سابقيه,!!!
فقد أستأثر به صوتُ ملائكي, وكأن به يشدو علي أنغام الحفيف المنبعث من ذاك الشجر الكثيف وتغاريد العصافير, مازال هذا الصوت يشدو وكأنهاأغاريد, وكأنها هاتفٌ يدعوه من بعيد, فأعادت عليه الآلام والحنين كأنها فتحت جرحُُ فشلت أن تداويه السنين ليستعيد ذكريات هذا القصر العتيق عندما خط ظهره السوط في يوم عصيب لمجرد أن قدماه قد زلفت لتعتلي بعض درجات سلم بيت الباشا الكبير وتذكر كم ناله من إهانة وتحكيروخرج منه موقنا بأنه لن يعيد يوما قدماه لتعبر أبوابه أو حتي البسانين ولم يشعر إلا بقدميه تقتاده إلي هذا القصر العتيق, فغدا يعبر بوابته الشاهقة, ويخترق بساتينه الغناء, وأشجاره العاليه ,كأنها ترقص إحتفالا به, كانت تتراقص متناغمة مع نسمات الهواء, ملتفة كأنها أسوارٌ عاليه لتحجب عن القصر ضجيج الحياة, وحين توقف أدرك بأنه قبالة باب القصر, فأخذ يتذكر تفاصيله من أصدافٍ ومشربياتٍ ودلاياتٍ تتساقط عليها أشعة الشمس فتشعلها جمالً, كل هذا وهو لا يعرف ما الذي يدفعه لذلك هل هو الشوق والحنين لهذا البيت العتيق؟, أم هي محاولة لدحر الإنكسار؟ فإرتفعت يديه محاولةً أن تقرع الباب متمنيا في أعماقة ألا يشعر به النادل فيستل نفسه هاربَ, ولكن غالباً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن, وسرعان ما تبادر لسمعه أصوات تلك الزراجين والأقفال كأنها بوابة يحرصها سجان, وبدأ يتحرك هذا الباب الضخم للوراء كما لو أنه يفتح مجلداَ من أرشيف الذكريات, تنطوي أوراقه سريعا كأنها السحاب في مهب الرياح, وبدأ في إسترجاع تلك الذكريات, وإستفاق من شاردته علي صوت النادل ،
النادل : نعم سيدي من تقصد.......................................... .......... هو : صاحبة هذا القصر العتيق ....................................
النادل : من أنت .................................................. ....
هو : صديق قديم.......................................... .............
النادل : تفضل سيدي وأشار إلية بأن يتبعه.......................................
كانت عيناه شاردتان, تتنقل علي كل بقعة في تلك الطرقة الطويلة بارضيتها الرخاميه,ويعتليها سجادها الإيراني, وأثاثها الفرنسي وقناديلها وزخارفها المحلاه بها الجدران العاليه, فتمتد وتمتد حتي تصل حوافها لتنطوي علي مقرنصاتٍ صنعت خصيصا لهذا القصر, مزجية بألوان الذهب والفسيفساء , ما أمهر الصناع في صنعها, وراحت عيناه تتخطي الواحده تلو الأخري ,وكأنها تتخطي حواجز الخوف وتعلن الإنتصار, وبدا يخطو واثقا مسرعا خلف النادل ليجتاز معه البهو الرئيسي من القصر, لتداعبه أحلام الطفولة حين يفارق الباشا القصر كم كان يعدومهرولا علي الدرج , ليلتقي صاحبته ذات الاعوام الخمسة, وراحت تتقاطع معه الأحلام و الذكريات, وأخذ يهمهم ويتلفت يمنةً ويسارا كأنه يبحث عن شئ لم تراه عيناه بعد, أين هي تلك المدفأه ؟ اين ذلك المقعد الهزاز؟ فتشرد عيناه لتستعيد كم كانت صديقته تحب الجلوس هناك, كم كانت تستعطفه حتي يرتضي أن يأرجحها علي المقعد الهزاز, كم كان حينها يشعر برهبة المكان فقد كان البهو واسع الأرجاء ترتفع جدرانه فتكاد تعانق السحاب يتخلل منها برودة وجفاء, كأنها جدران صمت تعبر جبال من جليد, ويتدلي من سقفها ثريات من زجاج مختلط بالنحاس يعلوه إطار من الذهب الخالص , وإنطفأة شموع الذكريات علي كلمات النادل,
من هنا سيدي... من هنا سيدي !!!
وتأكد أن حيلته لم تنفع فقد كان يقلب عيناه في كل مكان معلنا بها التحدي وأنقضاء زمن الخوف, دون أن يحتسب لهذا اللقاء, إنها هي صاحبة القصر العتيق, تجلس علي هذا الكرسي الذي جلبه أباها معه من أسطنبول, ليمارس من خلاله السلطة والقهر علي الضعفاء, وتذكر كم كان يمقت هذا المقعد عالي الجنبات, وهو مصطف بجوار النافذة ذات الستائر الرخيمة, والتي تكاد تحجب الضوء عن المكان عدا مكان جلوسها, ويسود الصمت أرجاء المكان فهو لا يعرف أمازالت تذكره؟ أمازالت تحبه ؟ وماذا سيقول؟ وماذا ستفعل؟ وتدور به الأسئلة في كل مكان ,في كل زمان, ليعود إلي أذانه ذاك الصوت الملائكي يشدو من جديد ,كأنه يذيب من الشوق جبال الجليد
أيا عاشقَ المستحيل
مالك فيه يوماً سبيل
ُيمنّيِكَ بصبحٍ جميل
وَيأسُركَ في ليلٍ طويل
أيا عاشق المستحيل
وحين إلتفتت إليه وإلتقت عيناه عينها, كأنه إعصار يعصف موجه بآلام السنين, يأجج الشوق واللهيب, يعيد أحلام العاشقين ,يقلب الذكريات من جديد, فتهب.. فتقترب.. فتدنو.. فتلامس أناملها شعره في تهذيب, كأنها تحاول أن تمحو منه خيوط المشيب علها تترجي أن تعيد هذا الشاب الوسيم, تلامس حنايا وجهه وكأنها ترسمه من جديد, تشتعل وتفيض تكاد تنقض ترتوي ظمأ السنين, تتهاوى تترنح كأنها شربت من الخمر المحيط, ترتمي علي صدر كهل حزين, كأنها ترتعد كأنها ترتجف كأنها تمتص دفئ يذيب جليد هذا البيت الكبير, تعتصر عيناها لتملأ كؤوس من الشوق و الحنين, والحزن المرير يحاكيه تقاذف دمعها كأنهاحممُ البركانٌُ من اللهيب, وترسم دموعها منحنيات وجونها لتستقر علي طرف شفاها, كما لو أنها حبة مطر سقطت علي ورقة شجر فتنزلقُ علي طرفها في حيرةٍ من أمرها أتنتظر لتسقي عابر سبيل أم تستعد للرحيل, مازالت سيدة القصر العتيق تتباهي بزيها الأنيق , ينسدل شعرها الذهبي بعد أن أصابه المشيب من رأسها لينحني خلف أذنها فيكتمل أستدارته ليعود فيرتمي علي كتفها, مازالت تمتلك تلك العيون الكحيلة الساحرة تتفتح كعيون المها, ومن الشفاه الياقوت يغار, ومع ذلك لم يعد في العمر كثير, كل هذا كانت ترويه وتحاكيه عيناهما في صمت, لم تنبس شفتاهما, أه سيدتي أمازلتي تعشقين, سيدتي أما كفاكى من الزمان أحزان, أما كفاكى من الهجرهوان, وهدأت العاصفة كأنها كانت تشتاق لهذا المشهد الأخير, لتعود شاردة وهي جالسه علي هذا المقعد الوثير, تنظر إليه في نظرات فاحصه متأمله لتغمض عيناها محتفطة بهذا المشهد الأخير, كأنها كانت تودعه, وكأنها كانت تستعد للرحيل, كأنها كانت تنتظر وصول قطار الخريف, وكان هذا الرجل مذهول لا يعرف ماذا يقول, أيثور أم ينسحب في هدوء, أيبكي أم يتسعد للخروج ,ويتركها لمصيرها المجهول عالقه علي جدار الصمت تنتظر آوان الخريف, فراحت قدماه تعدو نحو الباب تتسارع خطواته كأنه يحاول أن يكسر القيود, يحاول أن يهرب من هذا القصر العتيق, يختنق يترنح يرتطم مع كل ما يقابله في الطريق, ينظر للباب كم هو بعيد, يرتعد يرتجف يصرخ أيها السجان أفتح الباب ..أيها السجان أفتح الباب !!
وما إن وطأت قدماه الدرج خارج الباب حتي تنفس الصعداء, وكانت عنياه تترقرق من الدمع, وما إن تنهد حتي سمع صوت إنهيار عظيم وتكسر جزوع شديد ,فقد إنهار السور القديم وهوي بالشجرة العجوز, لقد أن آوان الخريف, فإتكأ علي عصاه يخترق البساتين ليعبر بوابة القصر العتيق, ويجلس علي الأريكة لينظر إلي تلك الشرفة ليجدها قد أرخت ستائرها, فجلس ينتظر آوان آخر للخريف ..
بقلم
عمرو العمدة