الفنار
أحس ببرد الشتاء القارص بدأ رحلته من جديد .....
أسمع زمهرير الريح تضرب النوافذ والجدران وتعصف بالأشجار تكاد تقتلعها من الجذور .....
والوحدة .....
وحيد فى فنار بحرى بجزيرة صخرية ناتئة .. مقفرة .. مجدبة .. حيث لا صوت إلا اصطدام الأمواج المتكسرة على صخور الشاطئ تتحداها فى عناد أبدي .... وصوت الطائر البحرى يتحدى الصمت ويشق السماء ليضيع مع زئير الرياح ....
وحيد .... وحيد ....
منتهى أمله أن يرى شراعاً من بعيد .... فلا شراع يأتى إليه أبداً .... كل بصره وتمردت عليه عيناه .... ما بالك ترنو للأفق ؟؟ ... أين أنت من الأشرعة والحلام ؟؟ ...
ها أنت تتسكع على صخور الشاطئ المسننة ... تروح وتجئ ... وعيناك مثبتتان على موقع أقدامك ... وتروح تبحث عن الغذاء ... ثم تناجى نجوم السماء إذا ما خلت السماء من السحب والضباب ....
أنظر كيف تضمحل الآمال ؟؟ ... فيصير أقصى ما تأمله نفسك ليلة مقمرة صافية ... خالية من سحب الشتاء المعتمة ...
لا فرق بين يوم ويوم .. أو ليلة وليلة .. كل الليالى متشابهات ... إلا من رياح مخيفة تهب فتكاد تقتلع فنارك فى ليلة شتوية طويلة ... كئيبة ... أو نجوم تتلألأ بعيداً ... بعيداً ... فى أعماق السماء فى ليلة صيفية قصيرة ... ثم بعد ذلك ... أنت هو أنت ... والأشياء هى الأشياء ... هى نفس المنضدة عليها ترقد اوانى الطعام القذرة ... والمقاعد الخشبية المتهالكة التى لن يجلس عليها غيرك ... وهناك المصباح الصدئ ونوره الشاحب المتقطع يبدد روعة الظلام ... وغير بعيد فراشك ينتظر تقلبك عليه كل ليلة ... وهذه الأوراق القديمة ... والثقب اللعين فى الجدار الكئيب ... نافذتك للأفق ... للشراع ...
هى أشياؤك التى تشهد مصرعك كل يوم وكل ليلة ... هى هى ... حتى الحنق عليها والتبرم منها لا تستطيعه ... فأين المفر منها ؟؟ ... ليس إلا صخور الشاطئ المسننة ... والعراء ... والرياح ... والعواصف ... و الأنواء ...
لا تدرى كم مضى من عمرك .؟
ولا ما تبقى ... فلا شئ يهم ...
لك وتلك الأشياء سنوات وسنوات .. طوال .. طوال ..
صرعت فيك كل شئ .. كل شئ ...
قلبك صريع ... نفسك صريعة ... روحك صريعة ... آمالك صرعى ...
هل مازلت تحلم بالشراع ؟؟؟ ...
يأتى إليك من أعماق الليل المظلم ... ويدنو .. حتى يكاد يلامس صخر الشاطئ ويلقى إليك بطوق النجاة ؟؟؟ ....
ينتزعك من فنارك الكئيب ... ويأخذك ... ويأخذك ...
إلى ... ما عدا الفنار ...
عد إلى رشدك أيا الشقى ....
فمن ينير الفنار غيرك ؟؟؟ ...
أنت من يشعل قناديله كى تبتعد السفن والأشرعة عن جزيرتك ...
هذا قدرك ... وهذه هى أشياؤك ..
ستظل أبداُ .. أنت والمنضدة .. والمقاعد ... والمصباح ..
ودع عنك هذا الأمل المستحيل ...
فلن يقترب الشراع ....
راودته الخواطر ثم توجه للنافذه العتيقة ومد بصره منها للأفق العريض ...
يترقب شراعاً يأتى لجزيرته ..... تدفعه أشرعة الأمل ......