هل صحيح أن قلبك ضاع منك؟ وطفقت تبحث عنه وتصطاده كاصطياد أرنب أبيض على مروج خضراء؟ هل صحيح أنك أصبحت قاسياً؟ كئيب النفس مجعد الوجه كورقة ممزقة مهترئة؟
يلومك الناس ولايعلمون عن البحار التي تصطرع بداخلك! يلومك الناس ولايأبهون لأشرعتك الممزقة من رياح الحياة وأنوائها! يلومون ويلومون وكأنههم يريدونك موجةً تترقرق على مسامعهم. ونغمةً تغرد على أذواقهم. ومِهفة تطلق الهواء على وجوههم. وأغنيةً يديرون شريطها كلما حان لهم مزاج زريابيُّ معتق بالنشوة والطرب. يلومك الناس ويتغافلون عن حبك وكرهك. عطشك وريك. فقرك وغناك. علمك وجهلك. حتى إذا طرقت أبواب قلوبهم في حاجاتك وجدت تلك القلوب قد أغلقت وكتبت عليها لوحة "القلوب مغلقة"! وما أشد غرورهم وعُجبهم وأنت تطوف حول تلك الأبواب، تنشد الحنين، وترفع الحداء ولا من مجيب!! حتى إذا تراجعت، وتوقفت كتوقف بندول الساعة انتبهوا! حتى إذا تمردت وسرت عكس عقارب الساعة انتفضوا. حتى إذا تصعلكت وقطعت المجاهل والفيافي انتصبوا في محراب الحسرة والدموع. حتى إذا أدركتك رعشةٌ ووجلٌ. وخوفٌ وزللٌ خررت ساجداً لرب الناس، فنسيت الناس، وأنست برب الناس، وصارت وحدتك جمعاً. وفقرك غنى. وعريك كسوةً. وشعرت بأنس لاتحتويه "الفتوحات" وعزَّ أن يوجد في "الطبقات" أو "عجائب المخلوقات"، وذلك لأنه أدركتك التي أدركت سابقيك!!
قدرك أيها المُبدع أن تكون شفَّافاً كزجاجة الكأس. ناعماً كوردة الجنائن. مثمراً كحبة قمح "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها".
قدرك أيها المبدع أن تعيش بداخلك العوالم. بحارها وأنوارها. طيورها وأحلامها. شموسها وأقمارها. خيولها وغزلانها. وأنت في هذه الحظرة الكونية يظنك الناس متكبراً قاسياً وما دروا أن المعرفة قد سرقتك ونصَّبتك متبتلاً في محرابها. تتأمل الأفكار. وتنشد الأشعار. تأخذك دهشة النص فتفنى فيها وتتواجد، وتتراقص على إيقاع "الكلمات التي ليست كالكلمات" فتغوص في أعماق معانيها، وتبعثر أنفس دررها. حينها ترضى عليك المعرفة فتلبسك تاجها وعباءتها، ترافق أمواتاًً وأحياء. لاتمل حديثهم، ولاتخشى عتابهم، بل يصنعون منك إنساناً غير إنسان. وكائناً معرفياً وفلسفياً غير كائن!
قدرك أيها المبدع أن تكون عظيماً لأن الظروف كلها ضدك. لاترعاك المؤسسات. ولاتتبناك الجمعيات. ولا تُـغدق عليك الأعطيات، وهذه نعمة تتعبد وتتذلل لك فيها طرق الحرية. "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة".
قدرك أيها المبدع أن تكون مقاوماً تنشد لمحمود درويش: "أيها المارون في الكلمات العابرة/ احملوا أسماءكم وانصرفوا/ واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا/ وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة/.. أيها المارون بين الكلمات العابرة/ آن أن تنصرفوا/ وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا/ آن أن تنصرفوا/ ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا/ فلنا في أرضنا مانعملُ/ ولنا الماضي هنا/ ولنا صوت الحياة الاولُ/ ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبلُ/ ولنا الدنيا هنا... والآخرة/ فاخرجوا من أرضنا/ من برنا. من بحرنا/ من قمحنا. من ملحنا. من جرحنا/ من كل شيء، واخرجوا/ من ذكريات الذاكرة".
قدرك أيها المبدعُ أن تجلس على مقهى الحياة. تتأمل حواليك فترى الليل يكنس النهار، ويربتُ الرصيف النائم، يبعثر الأوراق، والعلب الفارغة. وعندما تشرب قهوتك تسقط في حفرة الصحو. يتلبسك الفزع. وتنفض غفوةَ الأحلام وحينها تبدأ تلملم حكايا الأصدقاء الذين كانوا هنا وهناك، وتستعيد الماضي والحاضر والمستقبل في أقل من لحظة، وربما تدرك أنك تدور في متاهة كبيرة لايبددها إلا حراك هذه الطاولة المثقلة بفناجين القهوة وأكوابها، وتسأل نفسك من جديد: هل صحيح أن قلبك ضاع منك؟ هل صحيح أنك أصبحت قاسياً؟؟ هل أنت متكبرٌ؟ ماذا جنيتَ من الطريق الطويل؟ من استفاد من علمك ومعرفتك؟ ماهذا الزمن الذي غزاك وبددك وتركك أبيض الشعر؟ احدودبت همومك، وتدلت ثمارها الكئيبة، وأنت على هذا الرصيف تجتر الآهات، والانتظار يقبرك في مكانك ويكتب: هذا قبر مبدع قتلته الأسئلة!
قدرك أيها المبدع أن تكون مذبوحاً "من الوريد إلى الوريد"، مشرداً من المحيط إلى الخليج، وقلَّما يفهمك أحدُ سوى صديق عزيز تشاطرت معه الصعلكة في يوم من الأيام. واقتسمت وإياه خبز الفكرة، ومرق المعرفة. تبيت أنت وإياه على الطِّوى، تهفهف عليكما نسمات الليل. وتحلمان بمستقبل تغرد فيه للثقافة أطيار. وتقضى فيه للمحبة أوطار. وترفرف أعلام المحبة. وتبددان الحصار والانتظار وروداً وحلوى.
قدرك أيها المبدع أن تتحقق أمنياتك - بإذن الله - فتشرق أيامك ذات الليالي الطويلة. وتطير بك من الشرق إلى الغرب الحمائم. وكأن الشوارع كلها تعرفك وتحييك. والمدن تفتح لك أبوابها وتغليك. وحينها لن تكون ضَجِراً من الإقامة في فنادق الغربة، و(أوتيلات) الحزن، لأن البيوت كلها بيوتك. والأوطان أوطانك. والخلان خلانك. فاهنأ إلى أن يُسقط الموت ُعصا الترحال، ويُطوى صفحات أسفارك، ويغدو سُراك الليليّ كأجمل ماتجملت به الحياة. قدرك أيها المبدعُ أن تكون إنساناً.!
النص السابق للأديب سمير الضامر من السعودية
نشر في صحيفة اليوم يوم الخميس 26 /1 /2006 م
أنتظر رأيكم أحبابي
عطوان الفهمان