عدت لموطني ومنبت رأسي ، بعد سنين غربة ؛ قد طال أمدها ، وكنت أظن أن لا عودة بعدها ، ولكن الحنين أعاد الشوق ؛ فمررت مرور العابرين بين الشعاب ، أتلمس رؤية الأحباب ، ولم أكن أظن أن للقدر ميعاد .
فتلاقينا ؛ وانبسطت أسارير الوجد بين جوا نحينا ، فشدتني وألقت بي بظل شجيرة جمعت بيننا يوما ما ، فكانت شاهداً على عظيم تلك المشاعر بيننا ، فرأيتها قد تعالت بل كادت تناطح السماء بوارف أغصانها ، فاغتبطت ؛ وسررت بمجلسنا إليها ، تحت وارف ظلها ، مع من سقتني يوما من شهد الخضاب ؛ فارتوى لها وريد القلب وأتلف . فاسترجعت معها ذكرياتنا ، وشاهدتنا … من شاهدة إياه منذ زمن ، ليوم يسبق آخر لقاءاتنا… قبل أن أزف خبر هجرتي عن بلدتي ، بسبب تعالى عشيرتي وتجبرها بالرأي في الدين وحقوق النسب من عرق بني كل عصب ، فحالوا بيني وبين رغبتي ورغبتها ؛ بحلال الله وسنته .
فعهدت نفسي على الترحال حتى أجد لي دولة أخرى تنعمُ شعابها بحُسن الرأي في الدين والسنة ، دون إسفاف أو إجحاف أو تعالي في حقوق البشر .
لكنها باغتتني بالسؤال ، كي تبعدني عن إجترار الأحزان ؛ وما قد فات .
فقالت : أين نحن منك الآن ؟
فانشق بوجهي الابتسام وأنا أرفع أهداب عيني لعين محدثتي وسائلتي ، مباغتاً إياها بطيف استخفافي بالسؤال ، فجاءت إجابتي قصراً عني كالمتأسفِ من سوء الحال
قائلاً : بعد انفراط العُقد ، وتناثر حباته ، لم يعد لي مكان ، بصحبة أهل ينكرون حقي ، ويستخفون برأيي .
ـ هذا هو حالنا جميعاً أيها الخل المهاجر ، بتباعدك ، جافتنا كل القوافي . هكذا ، تجاوبت وردت سؤالي ؛ وباغتتني بتنهيدة مصحوبة بالرد والإيجاب .
فاهتزت رأسي ذات اليمين ، وذات اليسار ، وكتمت أنفاسي مخافة أن تصرخ بعلو الأندهاش ؛ والتعجب من تجافيها في الرد ... بكلمة حبيب !! ومن حالنا نحن بني الإنسان ، فهل هكذا أصبحنا ! غرباء الديار والأوطان ؟ وسط صحبة كنا فيما مضى نظن أنهم لنا أحباب ، وللمحبة أحق من كل الخلان ؟!
فخرجت عني تنهيدة أسفرت عما يجيبه لسان الحال .
لكني سارعت أتجاوب معها وأحاورها ، كي لا تتركني وتمضي ، وحتى يسفر لقاؤنا عن حقيقة ما آل إليه حالنا ؛ نحن الأحباب .
فحاولت جمع شتات الفكر ، فنظرت إليها بتحدي السؤال ، وما كان التحدي … إلا تحدي الذات .
وحاولت أن أمهد الطريق للعديد من الإستفسارات ، فكان سؤالي إليها غير ما تأمله وآ أمله :
لماذا أنتِ أصبحتِ غريبة الدار والديار ؟ فما أجد لكِ فكر أو عقيدة تسعين لتأكيدهما ونشرهما بين أهلك ؟ غير حب صار مآله مآل الخلان ؟
وظـللت رامياً النظر إليها محدقاً شطر عينيها بتحدي العالمين المستشفين ببواطن النفس ، فلقد رميت ، وما رمى إلا قلبي الموجعِ . فوجدت عبوسا اعتراها ، وكدرِ زان محياها ، فاستبشرت نار الجواب ، فأرخيت جفن الحياء .
ولم أكد ، حتى سمعت صوتها فخنوقاً بالجواب : يا لبئس الحال والترحال ، فإلى أين المفر ؟! فإن كنت أنتَ من ترميني بالجهل ، فلمن سألجأ بعدك ؟! وكان منك صريح هذا الاتهام ! فبالله عليكَ من منا يستطع أن يحيا بلا عقيدة أو فكر ؟ من منا لا يؤمن بالله الواحد الديان ؛ أليست تلك عقيدتنا نحن وأنبياء الله ؟! والفكر أيضا ألم يكن سمة بني الإنسان ، وميزان التوازن لديه بحُسن العقل وفطنة ذو الألباب ، وميزة فرقته عن بهائم الخلق ! يا صديقي لقد تجبرت بالسؤال ، وتناسيت إنك أنت من هاجر وخلف وراءه القلب والدار . إنك بسؤالك هذا قد فرطت حقاً حبات العُقدِ ، وأكثرت من تناثره ؛ وتباعده ! فأرحل ولا تعد … فإذا كان هذا هو حالك الآن ، من تسفيه للعقول ، وإستأثارها ؛ فأذهب حيثما كنت ، ولا تعد ؛ فربما وجدنا بعدك من يجمع حبات العُقدِ ، دون أن يبخس حق أو قدر.
حملت نفسي على قدمي وارتحلت ؛ والألم يعتصرني ، ونبرة التأسف بصوتها تطاردني ، لسوء فكري أمامها . وإدراكي صدق جوابها .
فأسفت لما آل إليه حالنا ؛ ويا لسخرية القدر ؛ فما كان مني طرح السؤال هكذا !؛ فأنا من هاجر لتعنت بني جلدته ، بتسفيههم للرأي ، ولتشددهم وغلوهم في الحكم.
لقد هاجرت أنشد وطن آخر ؛ أعليه بسمو الرأي ، وتمجيد الفكر بالتشاور ، بحُسن العقيدة ، دون إسفاف أو تسفيه للرأي !
وها أنا أقع فيما وقع فيه أسلافي ومع من ؟ !
مع من أحببت ، ولوصالها سعيت .
فأصبحت مطروداً ولست بمهاجر ؛ ويحك يا عقل … أين كنت حين طرحت هذا التساؤل ؟!
فهل يا ترى أصبحت الجاني ؟ بعد أن كنت المجني عليه ؟
تساؤل مازال يراودني ، ويؤرقني ليلي ، ولست أدري هل كنت أستحق حقاً مثل هذا الطرد ؛ ممن أحببت ؟
أجيبوني بجميل الفكر والرد .