واقع الكتّاب : الحقيقة اللّزجة
لما أكتب و لمن أكتب ؟ و أنا غارق في بحر اللامبالاة مثلي مثل أي كاتب أحرقه هول الواقع و اكتوى بجمر تحليل الظواهر القديمة منها و الحديثة ، تمر عليه الأحداث فاجعة موجعة فيطمح أن يكون مؤثرا بعدما كان متأثرا و ثائرا ، أن يكون صمّام أمان و جرس إنذار بعدما كان معلوما بما جرى ويجري ، يخمّر فكرته حتى يتعب العقل و يكاد يصاب بالانهيار جراء البحث عن الأسباب و إيجاد الحلول حتى إذا طزجت الفكرة وظن أنه قد وجد العلاج ، جاءه الإعراض من كل جانب و أصبحت فكرته الطازجة فضلات نتنة تضاف للأفكار الأخرى الموضوعة في سلة النفايات المعنوية ، يصاب تارة بالحزن مصحوبا بالملّل و فقدان المناعة الأدبية إن صح هذا التعبير ، و تارة يزيده ذلك إصرارا على المضي قدما من أجل تثبيت أفكاره و علاجاته ، هو يدري أن المريض دائما تعاف نفسه الدواء المر ، لكن فيه الشفاء ، مهما كره المريض الطبيب الذي يخيط له ما فتح من لحمه يبقى في النهاية في نظره " المحترم " الشريف الذي يلجأ للألم ليستأصل الموت ، من معجزات الله التي اهتديت إليها أن بعض الأشياء المسببة للألم هي التي تبعث الإنسان على الحياة ، هكذا يكون الكاتب و في مؤازرة الكاتب الآخر لما يعتقد يجد الدافع و الحافز الذي به يحيا ، إنه الأكسجين الثاني ...لما أكتب و لمن أكتب ؟ لما ترفع شعارات التصويب و التهذيب على كل ما هو أصيل أو دخيل على حد سواء نافع أو ضار ؟ أنا في اعتقادي كل ما هو موجود مباح أو ممنوع مطلوب من الكاتب معرفته و فهمه و تمحيصه ، يوضع تحت مجهر البصيرة و الفكر لنقول للمجتمع : هنا تكمن الأمراض بفيروسات خطيرة تهدد كياننا و تعمل على قتل الخلايا الدفاعية لمجتمعاتنا ، إن تسليط الضوء على الظواهر و الحوادث و كشف المستور هب مهنة الكاتب ، لا ينتظر إن فعل هذا باقات الورد ترمى عليه كقائد فاتح أو رئيس زائر ، لا ينتظر أن تقدم له الهدايا و يكثر عليه المدح و المديح و عبارات الإجلال و التبجيل و الثناء ، تلك ظاهرة سخيفة مرضّية بحد ذاتها تحتاج لاستعجال دوائها و هي قرينة غالبية الكتاب ، الطموح مشروع في خضم العمل الفكري لكن هذه الحالة يجب أن تكون عرضية لا يجب أن تقترن بسلوكيات الكاتب و أخلاقه ، لا تصبح لصيقة به فيتهم من العامة و الدهماء بأوصاف ذميمة و أسماء قبيحة فيتغير الموقف و المهمة التي وجد من أجلها ، الكاتب يصبح بذاته ظاهرة إعلانية إشهارية لشخصه ، فلا يصدّقه الناس و لا يصدقون أمثاله ، و يذهب المسلم في سلة المجرم كما يقول المثل الشعبي الجزائري ، الكتّاب ليسوا كلّهم على نسيج واحد ، العامة تدرك أن الفضيلة و الرذيلة مزروعة في كل مناخ ومن أدنى المستويات إلى أعلاها، في كل المهن وفي كل الهوايات حتى في الرياضة ، للذي له عقل بصير يدرك الهوة التي بيننا و بين الغرب ، القانون سيّر حياتهم و نظّمها ، ذاك بفضل كتّابهم و فلاسفتهم و مفكّريهم كانوا معول بناء ، ثاروا على الظلم و العبودية ، كانوا مثلا لخاصتهم كما لعامتهم فلحقوا بهم أدركوهم ما تركوهم بل تبعوهم و مجّدوهم و شرّفوهم ، الكتّاب عندنا تركوا برفع التاء و لم يدركوا و لم و لن يشرّفوا إلا إذا استقاموا لأنهم يقولون ثم يميلون و يحيدون فيما يقولون إلا الذين آمنوا بقدسية العطاء و التضحية لأجل غيرهم ، تلك خصلة لم يعد لها وجود بين معظم الكتّاب ، قد يكتب الكتّاب لمال أو لشهرة إسم ، أو لقرع باب ، أو لتحصيل كرسي ، قد يخفون الطمع في الخفاء و يعلنون القدسية في العلن، الكتّاب أمة بذاتها ، لو جمع الكتّاب كلّهم في قرية واحدة لضجر بعضهم بعضا ، و لكثرت الأقاويل و الوشايات و الضغينة و النميمة و لتجدن أكثرهم أحرص البشر على منفعة آنية ، و هدية تحفة ومركب مريح ، لن يبقى صابرا و مرابطا على حدود المبدأ و الاعتقاد إلا الذين هم لا يراءون ولخدمة حقيقة وجودهم يتعبون ....أعتبر أنا من هنا أن الكتابة عبادة لأنها إذا كانت لوجه الله تكون لخدمة الإنسان بعيدة عن مطمع الوصول للسلطة بكل أنواعها ، فلن يغيّر في وجهتها شيء من فتن الدنيا حينها فقط يحترم صاحبها و يلقى له بال وتسكن كلماته من به صمم ، يصير حبه كحب أبنائهم قد يلجئون لمعاداة من عاداه أو قدح في شرفه ، لو دعاهم لحرب لأتبعوه ، هذا النوع تأثيره نافذا على العقول ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة ..لما أكتب و لمن أكتب ؟ بعض الكتاب بدّل جلده بجلد بلد الغرب الذي درس و تعلّم فيه ، حتى أنه تبرأ من أمه و صار يستحي من لباسها الأصيل ، تبرأ من خبز الشعير و كأس الشاي ...لا يأتي إلينا إلا مكابرا لا تحط على أنفه ذبابة و لا بعوضة ، ما كان هذا عند لامارتين و لا مايكل أنجلو و لا كان عند فيكتور هيجو بل أن فيكتور هيجو أوصى أن يدفن في مقبرة الفقراء ، لم يكن هذا عند فيرجاس المدافع عن ثورة الجزائر و لا روزانو العامل من أجل شعب أمريكا ، مصيبتنا متعددة الجوانب حتى في كتابنا ، لمن يكتبون و يطبعون كتاباتهم التي ترمى في المخازن و تباع لتكون لفافة خضر في الدكاكين و الأسواق ، هم ليسوا من صميم شعوبهم ، لا يتبنون طموحات أوطانهم لكنهم يعتقدون أنهم مفخرة بلدانهم ـ انتفاخ القط لا يجعل منه أسدا ـ لمن أكتب و لما أكتب ؟ هنا السؤال الموجّه من فرد المجتمع للكاتب : لمن تكتب و لما تكتب و على ما تكتب ؟ و بين صناع الكتابة للتكسب و التسييس و الرياء و المنفعة و الشيتة السوداء ، إلى كتاب الموقف و الأمانة و التاريخ و العبادة و السجن و المنافي ، ثمة نقاط لا تنتهي و على الكاتب الأبدي أن لا يفتش عن أرشيفه القديم ...لأن هذه الإشكالية تحتاج لحبر كثير و كلام كثير و آراء كثيرة و صدق أحمد أمين لمّا قال : لو أنصف الناس لقومّوا الناس بمقدار كفاحهم لا بمقدار فشلهم و نجاحهم ، فالكتابة عبادة و كفاح ، و أنا لا زلت أحب شرب القهوة المرّة حتى تبقى دودة الكتابة ملازمة لي و مستيقظة ....اللهم أبعد عنا ما يدنينا.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خليل حلاوجي