إهداء : إلى الشعاع الأخير من أشعة الشمس الساقط نحو أحضان المغيب ..
إلى رفيقة الصبا ( إليزابيث نجيب ) وليته يكفى ..
" تـذكار الماضي " قصة قصيرة
أطنان الكتب السامقة تطالعها عيناه في هدوء .. ثمة نسمات باردة تهب على وجهه أصابته برعدة خفيفة .. شبح ابتسامة هادئة مس شفتيه ، بينما يخلع نظارته الطبية السميكة ليمسح عنها الغبار ... يوم آخر من أيام الشتاء العتيدة في مكتبة المدرسة .. ضاقت حدقتاه في محاولة لاختراق تلك الحُجب الضبابية التي خلَّفها خلعه لنظارته .. سارع بارتداء نظارته فعادت الصورة تتضح كتلفاز ضبط الهوائي الخاص به ... اتسعت ابتسامته فحركت بعض التجاعيد على جانبي فمه ، وأطلت نظرة ساخرة من عينيه الذابلتين من أثر رمد قديم .. أجال بصره في المكتبة ، ووقع على بعض الطلاب يحدوهم حب الثقافة للانهماك في القراءة ، فتطلع إليهم بشواربهم النامية ، ونظراتهم الحالمة تتطلع إلى حياة مليئة بمختلف المسرات ، فازدادت ابتسامته الساخرة اتساعاً .
كالموت انطلق رنين الجرس يعلن انتهاء حياة حصة ، ومولد أخرى في مشفى الحياة المدرسية .. آن أن يترك المكتبة ويذهب ، وبعد دقائق ستلفه نظرات أخرى ما بين معجبة به أو ساخرة منه .
طنين كطنين النحل يدوي في أرجاء الفصل قبل أن يقترب ، وبغتة احتوى الفصل صمت تام ، كصمت العالم حينما تجلى " يهوه " لـ " موسى " على الجبل .. ألقى السلام فجاوبه هدير من الأصوات المخشوشنة والرقيقة .. ابتسم في سخرية مريرة !! ما أمض الذكريات عند تجلى الفوارق .
ضربات الطبشور القوية تخلق عالماً مبهراً على اللوح الخشبي .. العيون تتطلع للرسم في انبهار .. يوماً ما كانت تبهره تلك المصطلحات العجيبة ، وتلك الرسوم المذهلة لجسم الإنسان .. بعض الطلاب راحوا يتحسسون بطونهم ، وكأنما يودون قطع الشك باليقين ... خلع نظارته من جديد ، بينما الطلاب ينقلون تلك المعجزة إلى كراساتهم .. أحدهم أصدر صريراً حانقاً ، وقد زل القلم من يده فاخطأ ، فربت على كتفه مغمغماً أن الأمور على ما يرام .
القلم الأحمر يمارس سلطاته الرهيبة ، صح .. خطأ .. أين التاريخ ؟ .. عدّل من رسمك ، وبعض الخطوط الحمراء لتعديل الرسوم في كراسة ما ..
كوب الشاي الساخن تتصاعد أبخرته في بطء ..مرت سحابة رمادية فانغمدت فيها أشعة الشمس فخفت الضوء .. كالعادة " عزومة مراكبيه " منه على الشاي، فانبعث هدير شاكر خشن مازجه صوت تلامس جدائل الشعر أعقبته " تـؤ " من جناح آخر .. تهادى ضوء الشمس وهو يدلف إلى الفصل من جديد ، فارتشف بضع رشفات من الشاي .. مرت نسمة قوية فحركت أوراق كراسة أمامه ، فتتابعت أوراقها في سرعة .. ألقى نظرة ثم لم يلبث أن دقق النظر .. بعض أبيات شعرية تحكي غرامها بفتاها ، وهي ممزقة ما بين كبرياء الحب أو الاعتراف له .. رفعتْ رأسها حينما جاءها صوت معلمها حانياً متناغماً ، والقلق الأنثوي يكاد يدفع قلبها ليهرب من صدرها .. سألها عما كتبت .. الشفتان المرتجفتان تلهجان بالاعتذار ، فاتسعت ابتسامته الدافئة الحانية توقفها ، وهمس :" قصيدة رائعة ، استمري ".. وأغمض عينيه يخفي رقرقة دمعة .
أحمر وجهه خجلاً ، وذلك الطالب يسأل – في صفاقة – عن ميعاد الدرس .. إنه كالعادة في الموعد المعتاد !! .. كالخلاص يدوي جرس المدرسة ، وكالفيضان اندفع الطلاب يغادرونها ، بينما سار هو في بطء ، وقد احتل عقله شعر الفتاة الركيك ، ابتسم في سخرية وقد تذكر أنه أخذ " علقة سخنة " ذات مرة ، حينما ضُبط بشعر كتبه في ابنة الجيران .
الذكريات تتدفق على رأسه كفيلم يعرض بسرعته القصوى .. الموهبة ، والفن ، والمستقبل الأدبي .. لعمري إنني لا أتفق مع " شوقي " في هذه الكلمة ، إنها " عادية " !! إننا في حاجة إلى ........ " البطيخة " آآآه !! لقد كاد ينسى ، لقد أوصته زوجته بشراء بطيخة .. لا بأس ، بضع جنيهات باقية من نقود آخر درس خصوصي .. يداه تدقان على البطيخة كأصابع طبيب ماهر ، لا .. السعر غال ، ولا يروقني ، حقيقةً لا يمكنني الشراء .. طنين السوق أوشك أن يفقده توازنه ، وبعد مداولات – كمداولات مجلس الأمن - اشتراها .
رائحة الكباب تهب قوية ، فيشعر وكأنه يُلقى من أعلى جبل .. الأفكار الشرائية الخبيثة تتلاعب برأسه ، وأصابعه تعبث بما في جيبه .. اللعنة ، بالكاد هي قروش لا تكفى مواصلات ولده إلى منزله المجاور .
الذكريات تتدافع في رأسه كطلقات المدفع الرشاش .. لا تحزنوا ، حتى وإن كان أدبنا جنيناً، سننفق عليه حتى يشب عن الطوق .. إننا ننهار .. تماسكوا .. أدبنا قائم للأبد ... هم تفرقوا ، وهي تزوجت منذ سنوات !!.
درجات السلم كثيرة كثيرة .. وصل أخيراً ،وقف يلهث ، وقد غمر العرق إبطيه .. فتح الباب ، تقافز الأولاد من حوله .. بعد الغداء التهموا البطيخة ، ثم دخل حجرة نومه .. أخرج ورقة صفراء قديمة مهترئة من جريدة من درج بجوار سريره .. حدق فيها ، ضيق حدقتيه بقدر ما يستطيع ، راوغته الحروف الصغيرة كأنها أفعى ، قرأ اسمه فوق قصيدة منشورة .. بدا له اسمه صغيراً فوق عمله الوحيد الذي نُشر .. تذكار ماضيه الأدبي كله .. التمعت في عينيه الدموع ، وسال المخاط من أنفه ، فمسحه بطرف كم جلبابه .. ابتسم في مرارة ، ودخل لينام ، وغرق في غطيط طويل .
هبـــة عمـــر
أبـريـل 1999م