..كــــائـــن مـــــــن هــــــواء ..

هذا انا مسجى بين الجموع أراني في الأسفل بلا حراك , أنظر الى جسدي الممدد بينهم .. أمشي بين الخالات والعمات وأخواتي البنات فلا يرون لي طيفا أو خيالا .. تلك أختي دموعها تنهمر بحرقة أحاول ان اكلمها فلا تسمعني’ أمد يدي الى عيونها فتتسرب اليد عبر وجهها مثل السراب أقف أمامها محاولا لفت انتباهها فلا تراني ’ كلهم ينظرون الى الجسد المسجى .. تلك أمي يا حرقتي على دموع أمي أحاول لمسها أمد يدي نحوها فتخترق وجهها مثل الهواء أضمها فأجدني أضم االفراغ أصبحت مثل الهواء لا المس شيئ ولا يلمسني شيئ لم اعد كائنا ملموسا ولا مرئيا ارى الكل والكل لا يراني استطيع أن اطير حتى فوق السحاب اجول أينما شئت لم تعد حدود الجسد ولا حتى حدود الوطن تمنعني عن فضاء الله لم أعد مضطرا للعبور عبر الجمارك وحمل جواز سفر .. هكذا فكرت عندما وجدتني كائنا من هواء .
هاهم أصحابي أمشي بينهم وأمرق في وسطهم فلا يروا مني شيئا ولا يحسون بي أسمع كلامهم عني فأرحل معهم الى ايام الصبى والطفولة .. ويغرق بعضهم في صمت وحزن كبير وبعضهم في بكاء شديد .. ويدير الأخرين وجوههم ينظرون الى الفراغ مشدوهين الى عالم آخر ربما تمنى بعضهم ان يصبح مثلي كائنا من هواء ’ فالأمل مات .. والأحلام صودرت ولم يعد للحياة طعم ولا ذوق كل شيء باهت مثل الموت لقد قتلوا كل شيء حتى الإبتسامة , حينما تصبح بلا أمل وتوصد في الوجوه كل الأبواب يتساوى الموت والحياة ’ هكذا كان بعض أصحابي وكنت مثلهم أعيش الفراغ والقهر نموت ببطء نتلاشى .. نتهاوى .. ننهار مثل بنيان عتيق نساه الزمن كل يوم تسقط منه طوبة كل يوم ينهار منه طرف من جدار حتى يصبح مجرد ركام .
أمضي بين الوجوه سائرا أتفحص الحزن بينهم ولا أحد منهم أحس بوجودي او مروري .. أمر بين الكل لألج غرفتي فأجدها مرتبة كما عهدتها .. كما تركتها من قبل... تلفازي .. البوم صوري .. خزانة الملابس .. بناطيل الجنز التي أحبها مطوية بانتظام على رفوف الخزانة ,سجادة الصلاة لازالت مبسوطة كما تركتها , أغراضي لازالت مرتبة كما أحب واشتهي .. ما أعظم أمي حتى في هذه الظروف لم تنس ترتيب غرفتي
هاهو مصحفي الصغير كما تركته لازال مفتوحا عل صورة الأنفال ..
وحدها كتبي وقصصي مبعثرة بلا ترتيب ’ لقد ملت أمي من ترتيبها كلما رتبت منها جزءا بعثرت ما بقي من أجزاء فتمل أمي من الترتيب فتترك كل شيء على حاله ’ تلك فوضة كنت أخلفها أتعارك مع كتبي أغوص في التاريخ مع الفاتيحين أجول الأصقاع مع البحارين , هذه الكتب التي حملتني الى كل الدنيا وأنا في مكاني بل أوقفت زمني ورحلت بي الى أزمان غابرة هاهي اليوم بدوني وحيدة مرمية موزعة على أركان الغرفة ومبعثرة على الرفوف من لكِ بعدي يا كتبي ؟
مشيت بين المشيعين خلف جنازتي منهم الباكون ومنهم الصامتون ومنهم الذين لا يعبأون ومنهم الذي يسير بلا حس أو شعور جاء من أجل ما يراه هو واجبا وجب تأديته .... وفيهم الذي أعرفه والذي لا أعرفه ربما جاءوا ليطلبوا أجرا من جنازتي.
أبي الرائع ذاهل عن نفسه يكابر في إخفاء دمعة , هذا المحارب الذي حملني على رقبته طفلا وتحمل شقاوتي مراهقا وتحمل مأساتي شابا ’ هذا العظيم الذي كان يبث في الأمل ويحملني كلما وقعت ’ أبي الذي ما بخل علي بمال ولا نصح , يحبني أكثر من باقي أولاده ’ يا وجعي ويا حرقتي على حزنك يا أبي ’ أغوص في ذكريات الطفولة أرى نفسي على كتفه وهو ببزته العسكرية المزركشة مثل عملاق طويل ثم ينزلني من كتفه ليحضنني , يملأ وجهي قبلات يركض بي يرميني الى السماء ثم يتلقفني بيديه المباركتين ’ يسابقني على رمال الشاطئ , كنت فرحته الأولى , وها أنا اليوم أفجعه , انظر الى عيونه التي كنت أراها من قبل مليئة بالإصرار والتحدي بالقوة والشموخ هاهي اليوم تنحدر منها دمعة وقعت في قلبي قبل ان تقع على الارض
يحاول أحدهم التخفيف عنه فيبتسم بشموخ محاولا أن يداري دموعه والدموع لا تدارى .
انظر الى الوجوه القذرة التي لم أكن احتمل النظر اليها يوما فقد كنت اصاب بالقرف لمجرد ان امد يدي لمصافحة اصحابها أراها اليوم تتقدم الجموع , يصطنعون الحزن وفي انفسهم فرح لأني اختفيت الى الأبد
اليوم اصبحت لي قيمة وقبل كنت نسيا منسيا .. يا لتلك الوجوه القذرة كم أذوني .. كم ظلموني .. كم أهانوني .. كم نهبوا لي حقا .. وكم تاجروا بحريتي .. وهاهم اليوم يتقدمون الجموع ويرسمون التعاسة على وجوههم المغلفة بالقزدير والحديد وجوه لا تستحي , يتغيرون مثل الحرباء لا حس لهم ولا لون , يقتاتون من مىسي الناس مثل الفطريات يعيشون على دماء البشر .
ما أقذر الحياة في حضرة هؤلاء ... ما أهونها دنيا وما أبشع ما يفعل هؤلاء المنافقين يتاجرون في كل شيئ حتى في الموت .
وبين الوجوه الكثيرة هناك وجوه أحبها وجوه لاصحاب مثلي كنا نقسم البؤس والشقاء مناصفة , ونسكب عبارات الالم سويا كنا في الأحزان سواء .. عيونهم تنهمر دمعا سخيا علامات الحرمان بادية على ملامحهم الشقية ..هؤلاء الذين أحبهم ركنوهم الى الخلف وقدموا عليهم أصحاب الوجوه المتعددة والقذرة والمسقولة بكل أطياف النفاق والرياء وجوه أكرهها لدرجة القرف ..
ذاك الذي يعطي مواعضا للناس أشدهم نفاقا كم تمنى لي الموت كم كان يكرهني وهاهو اليوم يذكر محاسني .. لا تقولوا ربما تاب وأناب فالمنافقون مختوم على قلوبهم الى يوم الدين .
أجول بين هذه الأجساد ولا احد يشعر بوجودي أنظر الى الوجوه الواحد تلوى الآخر فلا الوجوه نظرت ولا أحست بالطيف الذي يرفرف فوقهم ..
اليوم صرت طيفا تخلصت من ثقل المادة اصبحت هائما على وجهي في ملكوت الله لا أحد يسالني عن جواز سفري ولا من اي أرض اتيت . اليوم لا تستدعيني المحكمة لتحقق في كتاباتي وتهددني بالسجن ... اليوم لا بوليس يقرع بيتنا ويفزع أختي الصغيرة .. اليوم أنا حر وحر وحر اليوم تخلصت من أسمال الحياة القذرة ومن الوجوه القذرة .
ومن الحدود ومن الوطن ومن كل اشكال الهوان ... وهاهي الحياة بكل مغرياتها أتركها لكم غير آسف على ما مضى منها ولا على ما تركت .
وداعا لكم يا أحبتي .

نص متقن بوركت

الأخ الفاضل
قرأت لك سابقاً و ربما ما سأكتبه إليك من ملحوظات هي أيضاً سابقة ، غير أني سأتحدث عن فكرة قصتك القصيرة هذه و التي أراها أنها مسبوقة أيضاً من كثير . و أن كنت قد كبتها بحس أجده صادقاً في حرقة مغلول يبحث عن حرية مسلوبة . و لكنك لتأكيد هذه الفكرة كررت ... و التكرار في أسلوب القص أسلوب غير محبب بما يمنحه للقارئ من حس بعدم الارتياح لتجاهل الكاتب قدرة القارئ على الفهم و الإدراك .
ملحوظات سابقات حول الأخطاء اللغوية و التي تفقد النص الكثير من بهائه و جماله .

في انتظار المزيد من إبداع قلمك .