قصة " غريق السلام "
غريق السلام
ولدت في بلدة لا تعرف صنعة إلا الفلاحة , عشت بين الأراضي والعجين الفلاحي والفرن البلدي والزراعة والخضرة والمسجد إللي على الناصية العمومية لبلدنا , والصحبة التي لا تعرف معنى الخداع والجرح , وملعب الكورة الذي يشبه أراضي مصر الفارغة لا يقطنها إلا سيارات قديمة متهالكة هي عندنا بمثابة مرسيدس واكتر ...
ترعرعت بين والدتي بعدما ذهب والدي في رحلة لا رجوع لها ذهب لربه بعدما عانى شتى أنواع المرض وبما أننا لا نستطيع بسفره لمصر لضيق الحال فكما يعلم الجميع أننا نأكل من أرضنا والمتبقي نبيعه لملوك مصر الذين يبيعون زرعنا في أرض الأحلام وعلي بابا وأرض الفانوس السحري والكويت لمثلنا مصر , وبدت والدتي في خبز العيش البلدي لكي تربينا أنا وأختي " أماني ومروة " ودخلنا المدارس وبدأت المصاريف تتعالى عليها فوجدتها تغيب عن البيت لساعات ما أعرف طريقها فلما بدأت في مراقبتها وجدتها تخدم بيت العمده فتوجهت إليها ثائراً ماذا تفعل ولما فما كان جوابها : لازم أعمل كده في الحلال وأربيكم أحسن ما أدخل طريق يغضب ربي !! ومن هنا طلبت منها الإلتزام بالخبز وترك الخدمة وأنا هساعدها بأني هشتغل عند الأستاذ " وجدي " إللي فاتح مقهى فاخر جداً لما رجع من السعودية بعد أربع سنوات عمل هناك . في البداية أبت لكن مع إصراري وافقت لكن بشرط الا أفرط في مذاكرتي وبدأ حلمي من أول يوم شغل فرايت هيئة الأستاذ " وجدي " ولبسه الفاخر وسيارته التي لم أرى مثلها إلا عبر شاشات التلفزيون في القهوة وبدأت أتقرب من الأستاذ " وجدي " مبيناً له إخلاصي له ووفائي في العمل حتى بدأ يأمن لي , وهنا بدأت في مشاورته في سفري ولو لسنة واحدة لأجل ما أعيش أنا وأمي وأخواتي في سلام لانهاب الدنيا ولأجهز إخوتي بأحلى فرش لعراسهن وتوالت الأيام حتى وصلت مجموعة من الأناس يتفقون مع الأستاذ " وجدي " في سفرهم معه في الرحلة القادمة فما وجدت إلا أنني أهرول إليهم أستمع لما يُطلب منهم وبعد الإنتهاء من جلساتهم ذهبت إلى الأستاذ " وجدي " حاملاً جميع مواقفي الشهمة في كف يدي أملاً أن يوافق على سفري وبالفعل حقق لي حلمي وعدت إلى بيتي في فرحة لا تغمرها فرحة فقابلت أمي وصارحتها بالحلم الذي أنغص عليها حياتها وما كان ردها إلا : بلاش يا حبيبي أنا عاجبني الحال ده مين يحافظ على إخواتك في غيابك ومين يرعاهم ومين يحميهم ومين ومين ... قاطعتها وقلت : يا ست الكل دي سنة واحدة علشان أأملهم حياة سعيدة , ومش هغيب يا حبيبتي وعلشان خاطري متقفلهاش في وشي عشان خاطري .. وهكذا ظللت أبحث عن مخرج لها حتى وافقت وبدأالمشهد الأول من رحلة العذاب الا وهي كيف أدبر فلوس السفر ؟ طرقت جميع أبواب معارفي وأصحابي وكل ما كانت لي صلة ولو سلام فقط لكن لم أجد بيت يرضيني فذهبت إلى أمي خائب الأمل لكنها لم تتركني هكذا بل ذهبت للعمدة و طلبت منه قرض حتى أعود من سفري وطبعاً لأنها لا تعرف إلا الحب والأمانة أعطاها ما طلبت وجاءت إليّ تحمل الإبتسامة وتمسح دمعي وتعوديني من أرض الظلام لأرض النور والأحلام ...
ثم المشهد الثاني : وهو الاستعداد للسفر فبدأت في استلاف الملابس من أصحابي وطبعاً وافقوا لأني مسافر وهعود بالخير كله وهكذا أستلفت جميع ما يلزمني لكي أكون رجل ذو هيئة تليق بالسعودية حتى البرفان أشتريت من " أسامه " بتاع البرفان المضروب زجاجتان على النوتة ...
ثم المشهد الثالث : وهو ترك منزلي : فجهزت شنطتي التي استعرتها من " خالد " ابن عم أمي , وأستعدت للرحيل فطلبت مني أمي أن أجلس معها ولو لدقائق فوافقت بس قولتلها بسرعة يا ست الكل علشان السفر , فقالت لي : لازم تعرف إنك مش رايح تلعب إنت رايح تشتغل وتكون نفسك وتأمن إخوتك البنات فلازم تراعي ربنا ومفيش أحسن من الحلال وربنا بيرضى بالطيب ولو الدنيا قفلت في الأول فلازم تصبر وتصلي ركعتين لربك وإن شاء الله ترجعلنا منصور وبالسلامة , وبدأت الدموع تتساقط من عينيها فقمت أبوس إيدها وأطلب منها الدعاء وبلاش تبكي دلوقت أحسن أرجع في كلامي وما أسافر فصمتت وابتسمت وقالت لي يا كداب يلا بالسلامة يا حبيبي , وأحتضنتها حضن يأتي بعده أخر حضن في عمري ثم نهضت أسلم على إخوتي وأودعهن وأقولهم كل واحدة تقولي نفسها في إيه ؟؟
أما أماني فقالت : نفسي إنك ترجعلي بالسلامة وتجيبلي لبس شيك أروح بيه الثانوية السنة الجاية ..
ومروة الصغنطوطة قالت : نفسي في لبس علشان أبقى أشيك بنت في الكفر..
طبعاً قلت لهم : إن شاء الله كل إللي نفسه في حاجة هجيبهاله وأنطلقت مهرولاً كي لا تتساقط دمعي أمامهم وودعتهم بسلام الله ولا إله إلا الله ...
وبدات الرحلة وتمت الأمور كما دبرتها وأحسن شوية , وجبت لإخوتي كل ما طلبوه وعزمت على العودة ووقع قدري أن أحجز في باخرة تدعى " السلام 98 " وجهزت أمتعتي وأستعنت بالله وأنتقلت للباخرة متجهاً لبيتي أحلم بدخلتي عليهم والفرحة التي ستملأهم وبدأت أفكر في وضعي الجديد هل أتعالى أم أظل ذو الحب الصادق المحب للجميع , وفي وسط حلمي قاطعتني هزة بالباخرة وإنفجار فأسرعت متجهاً لمكان الإنفجار وجدت النار مشتعلة في أسفل الباخرة في إحدى السيارات وإلتف الناس حولها أملين إطفائها وبدأت الماء تتدخل كل بقاع الباخرة فهرولت إلى القبطان أن يبحث عن حل فقال لي : الأمر بسيط وكلها دقايق وتتحل , لكن الأمر زاد عن حده وبدأت الياخرة في الميل وأتجه الناس لإرتداءالملابس الواقية لكن عم القبطان خرج بنفس كلامه الوضع سهل وبسيط وبلاش تقلقوا الناس وتلبسوا هذه الملابس إخلعوها فسمعنا الكلام زي العبط كأننا بنكلم الحكومة !! لكن لم يسقر الحال على هذه الوضع ويتحسن بل إزداد في إغبار وإنحدار وأتجه أحد الركاب ليخبر القبطان بأن الأمر قد وصل لدرجة لا تنتظر البرود الذي يتعامل به وليخبر الوحدات ويرجع لمنى فهي أقرب من سفاجا لكنه حكم عقله الذي لا يحشوه إلا الطين والزرنيخ فأنقلبت الأمور عقباً على رأسها وبدأت السفينة في الغرق كل ذلك وأنا أفكر ماذا أفعل وسامحوني لأني فلاح ومخنا تقيل شوية فكان لازم يعلمونا نعمل إيه في الحالات إللي زي دي , وما وجدت نفسي إلا وأقفز في الماء لأنقذ روحي فتذكرت ملابس إخوتي وأنا في الهواء وحاولت بأن أعود لمكاني اأتي بالملابس وأقفز تاني فكيف لمثلي يدخل عليهم إيد ورا وإيد قدام لكن الاستعجال حتم الأمر وجعلني طليقاً في الماء أسبح بجميع طرق السباحة التي تعلمتها في ترعة المنصورية إللي على أول بلدنا حتى أبتعدت عن الباخرة ونظرت إليها لعلي أجد حقيبتي تطير خلفي وأعود بها لإخوتي لكني ما وجدت إلا يجي نص الركاب خلفي منهم من يسبح ومنهم من يغرق ومنهم من عائم على خشبة من الباخرة والعظماء بتعونا أخذوا كام مركب وجرو ومنهم من لا ينطق إلا : إنقذنا يارب , إلحقنا يارب , وهكذا . ومنهم من يصرخ أين ابني وأين والدي وأين والدتي وأين صديقي وأين مالي وأين وأين ...
عقلي تاه في دنيا لا تحملها أرض تطئها قدمي , فماذا أفعل
يدي توقفت عن السباحة من هول ما رأيته , فماذا أفعل
قلبي صمت لا يقدر على النبض فيما رأيته , فماذا أفعل
لساني أصابه البكم لا يستطيع أن ينقذ أحد حتى ولو بالدعاء , فماذا أفعل
ما وجدت إلا الشيطان يوسوس في أذني بإن جاهد واضغط على نفسك وفر من هذا المقام اللئيم وبالفعل فإيماننا ضعيف تسلمت له فيما قال وبدأت في الفر لكن
إلى أين تذهب يا عبد عن دائرة الموت فكل ما قدر الله مقدورٌ ومكتوبُ
لو أنّ الجبال تحميك عن ما قُدّرَ ما خلق الله المياه تخرقها من موقعها المسدوب
ولو أن المياه تحميك منا ما خلقنا الموج بروبته محسوبُ
وبعد أن ذقت طعم الموت بعيني خفت رضيت بقدر الله وتقبلت الموت بالشهادة بعد 48 ساعة من التفكير قبل التعب والأسئلة التي أوقعتني في دنيا حائرة من سيصرف على إخوتي , من سيرعاهم , من سيجهزهم على أحدث فرش لعراسهن , وهل تعود أمي للخدمة مرة أخرى , وكيف سأرد الملابس التي استعرتها , وكيف سأرد دين البارفان وكيف وكيف ؟؟؟؟
وبعدما مت وأحزنت شعبي علي علمت بأن أمي ستنال مالاً يعوضها عني فرسالة مني لها هنئياً لك المال وهنئياً للسمك جسدي ....
** هذه القصة من واقع الخيال على الرغم من أن فلاحين مصر يعيشونها فمتى نقف في أمان ومتى نأكل من أرضنا ولا نحلم إلا هنا متى متى متى ... تمت
رد مع اقتباس
