الطلقة الثالثة
ترتديني ملابسي ، رغماً عني – عنها ، ترفض الذهاب إلى هناك ، أُدخِل رقبتي في عنقها الرافض أن يشنقني ..
أمد يدي داخل أكمامها ،كأني أهتِكُ رفضها عنوة ، تلقي جسدها فوقي لتجعل حركتي أثقل ..!!
أخرج للشارع ..
الشمس تتوارى ، وراء غيمة صنعتها ، كأنها باب تختفي خلفه ، حتى لا تستمع إلى دقات قلبي الحزينة ..
أصل .. أنظر للبالطو الأبيض ، المغروز في عنقه مسمار ، أكاد أرى دماء الحسرة تسيل على ياقته ..!!
أوقع في دفتر حضور العمال ، أصعد للدور الرابع طواعياً ، الأرضيات زلزال أغرقها بالأتربة ، أمسك المكنسة ، أدفع كل ما أجده أمامي ، أرى قطع تتساقط مني ، أدفعها مع القمامة ، أجمعها في صندوق فارغ ، ألقيها ، أشعر بعدها بأرتياح عجيب ..
أنتهي من العمل .. لا زال لليوم ساعات لم تنقضِ ، الملل رسم ملامحه ..
- د . حسين .. يطلبكِ ..
- ماذا يريد ..؟
أذهب إلى غرفته – غرفة مدير المستشفى – لم أجده فوق كنبته التي رأيته مستلقٍ عليها أول مرة - جلست أنتظره ، مكتب مزدحم ،كأنه شارع لا ضوابط له ، لا إشارات مرور تحكمه ، فصار كالمجنون ، أوراق ، دوسيهات ، ظروف ، رسائل ، أكواب شايٍ فارغة ، فناجين قهوة ، منها من يقف محترماً ، من ينام على جنبه ، كأنه مرهق من السهر ، خلف المكتب ، مكتبة كبيرة تقف شامخة كأنها عشيقته ، ، مملوءة عن آخرها بالكتب ، بكل الأحجام ، مرتبة ، نظيفة ، لم تلمسها يد ، لم تربت عليها عين منذ قرون ، ملفات منتشرة هنا وهناك ملقاة في كل الأركان ، أمام كنبتهِ ، منضدة تقف حزينة ، أكاد أسمع صراخها مما فوقها ، مطفئة بها بقايا أجساد لسجائر منتحرة حرقاً ، أوراق فارغة ، أخرى غارقة بمياة الحبر ، غيرها ممزقة ، ملقاة بعيداً ، أسمع أرتجاف أخواتها ، من الخوف على مصيرهم ، كأس صغير ، تحاول العيش داخله بعض قطرات من سائل أحمر ، زجاجة نائمة على جنبها في حالة سُكر ، فارغة من عناء السهر ، فوق الكنبة ، ( تابلوه ) به بعض المقالات بالجرائد ، عن الدكتور ومهارته ، المستشفى ، رقيها وعظمتها ، قبل أن أنسى الجدران ، تكتسي بآلاف من شهادات التقدير للدكتور ..
يمر الوقت بطيئاً ، أنظر للجدران ، تريد أن تتأبط بعضها وتخنقني ، تخرج زفراتي حارة مخلوطة بالملل والضِيق ..
يُفتح باب آخر ، غير الباب الذى دخلت منه ، أرتجف ، أحاول أن أعطي أوامر لجسدي بالثبات الذي يسخر مني ، لأنه يعلم حالي ، أسمع صوته يأتي قبله ، يفسح له الطريق ، أنظر ناحية الباب ، أغلق عيني ، حتى لا يرى داخلي ما رأته عينيَّ ، الدكتور يخرج بملابسه الداخلية ، أُعطيه ظهري ، أسمع قهقاته العارية ..
- هل تخجلين ..؟
لم أستطع الرد فالصمت أكل لساني وهضم حروفي ..!
- إقتربي ..
- قالوا : .. أن حضرتكَ تطلبني ..
- قلتُ لكِ اقتربي ، لا تخافي ، نجحتِ في الاختبار ، عرفتُ أنكِ ممتازة ، تطيعين الأوامر ..
تعالي ، نظفي المكتب ..
أبتلع لعابي ، الذى قرر أن يتكلس في حلقي ليخنقني ، أبدأ في تنظيف كل شىء - نائم على كنبته - يسحب روح سيجارته من قلبها عنوة حتى يمتص عمرها كله ، عينيه تصاحبني أينما ذهبت ، أخشى أن أنحني أمامه ، حتى لا تخرج قطعة مستورة من جسدي أمامه ..
كلما لملمت نفسي ، يضحك ساخراً ، ضحكاته تكاد تقتل فيَّ صبري ، فأنقض عليه ..
- هل تدخنين ..؟
كأنها صاعقة .
- لا طبعاً .. نطق بها لساني وصرخت بها ملامحي ..
تتعالى ضحكاته ، شعرت أنها ضربات زلزال ستسقط سقف غضبي عليه ..
انتهيت بأعجوبة ، سألته إن كان يريد شيئا آخر ..؟ قال : لا ..
خرجت إلى البيت ، تلفني الحيرة من هذا الرجل .. !! أحدث نفسي ..
هل كل الرجال متشابهون ..؟ ألا يكتفي الرجل بامرأة واحدة ..؟ أهي شراهة منهم أم خِلقتَهم وخُلقُهم ..؟ يذكرني دكتور حسين .....
- أدخلي ..
- ألا يوجد أحدٌ بالشركة ..؟ ألم تخبرني بأن الشركة تعمل فترتين ..؟
- نعم .. لكن اليوم الخميس ، العمل نصف يوم فقط ..
- تعالي المكتب ..
أدخل .. تتلفت عيني هنا – هناك – هنالك ، تطبع بكاميرتها كل ما تراه ، ترسله إلى عقلي ليفكرفيه ..
أجلس أمامه ، مكتب كبير فخم ، رائحة العطر تفوح منه ، متأنق ببدلة رائعة ، وجهه أسمر ، جبهته تحتلها بقعة سوادء مستديرة ، شعره يلمع ، المسبحة تتراقص بيديه ..
- لم تخبريني .. كم الراتب الذي تقاضينه في نادي الفيديو ..؟
- مائة جنيهاً ..
- تعملين طوال اليوم بمائة جنيه ..؟
- نعم .. لم أجد عملاً غيره ..
- أنتِ تستحقين أن تكوني مديرة ، و راتبكِ كبيرٌ جداً ..
بدأت نبرات صوته تتغير ، لم تعد حروفه متزنة على أحباله الصوتيه ، في عرض يدعو إلى الضحك أحياناً - الخوف كثيراً ..
- مارأيكِ لو تكوني مديرتي أنا شخصياً ..؟
لم أستطع الإجابة .. سوى بابتسامة مريضة تنام على أوسدة شفتي ، تتغير ملامحه ، تتقافز قطرات عرق نافرة على سطور جبينه ، بياض عينيه تصيبه حمرة قاتلة ، يمد يديه إليَّ بمظروف مبلل من صنابير يديه المرتعشة ، يبتسم ، تظهر أسنانه ، وقد طالت القواطع وعلى طرفها بريق خديعة ويكاد يستلقي على لثته وحش يتثائب ..
- أفتحي المظروف ..
لا زالت جثة الابتسامة موضوعة كتمثال على أرفف شفتيه ، يزداد بريق قواطعه ، يطولان ..
أفتح المظروف .. به نقود ، عرفت أنها أكفانٌ أجمع فيها جثمان عذريتي ..
بدأ يتحرك جبل الشهوة متصدعاً ، رعشة أمسكت بقدمي ، بدأت تتسلل في أنحاء جسدي ، كأن مياة الخوف المثلجة تغمركياني ..
- لماذا هذه النقود ..؟ لم أفعل شيء بعد ..؟
- إنها لكِ .. أشتري بها ما ينقصك ..
بدأ يتحرك ، يستند بطرف المكتب خشية وقوعه ، أسرعت ..
- هل لي بكوب ماء ، من فضلك ..
- يال غبائي .. لم أقم بواجب الضيافة ..
ما إن يخرج من باب الغرفة ؛ ألقي مظروف المهانة - نقود العُهر - على مكتبه النجس ، أطلق لخوفي العنان يمسكني من يدي لنهرب - أركب المصعد - ينادي عليَّ ، إرجعي ، لا تخافي ، تعالي ..
بصندوق هربي ، أحتضن نفسي ، التي كدت أفقدها ، أبتلع ثباتي ، شعرتُ أن الدور الأرضي بيني وبينه كما بين السماء والأرض ، أجمع حبات عرقي في منديل ، ألقيه بعيداً لأنها تحمل رائحة الخوف النتنة من هذا اللقاء البغيض ....