أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: الحافلة التي لم أحلم بها

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي الحافلة التي لم أحلم بها

    الحافلة التي لم أحلم بها

    قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
    .........................................

    إذا كنت من سكان شارع خيرت أو أحد الشوارع القريبة من ميدان لاظوغلي، وأردت أن تذهب لجامعة القاهرة ـ مثلي ـ فما عليك إلا أن تركب الحافلة ذات الرقم 20 أو عشرين بشرطة، ويا ويلك إن كنت!!
    فهذه الحافلة نادراً ما تأتي، وإذا جاءت فزحمة لا تُطاق!!
    ولا تقل لي إن كل الحافلات في مدينة القاهرة هكذا، فحافلات هذا الرقم من نوع فريد!!
    وسأروي لك ما حدث لي معها خلال أقل من أربع وعشرين ساعة!
    أمس ـ الثلاثاء ـ كان اليوم الدراسي الأخير في هذا العام الجامعي (كما كنا نعرف منذ أسبوع، ولكني اكتشفتُ لاحقاً أنه قبل الأخير) .. انتهت المُحاضرات في الثانية عشرة، صليت الظهر في مسجد الكلية الصغير (..وكان المصلون أقل من عشرة طلاب، في كلية فيها أربعة آلاف طالب! ما علينا!)، ثم انتظرت صاحب البريد عبد الحميد ـ والسجعة غير مقصودة ـ حتى يعود من مكتب بريد الجيزة بخطاباته، فوجدتُ خطاباً من والدي ـ الذي يكتب بصعوبة ولا يستطيع أحد غيري أن يقرأ كتابته (أو بالأحرى «أن يفك خطه») ـ ومع الخطاب حوالة بريدية باثني عشر جنيهاً «تُصرف من بريد الجيزة بميدان الجيزة» .. قلتُ: أصرفها غداً.
    وأبي ـ عادةً ـ يرسل لي في كل شهر عشرة جنيهات، لكنه في هذه المرة أرسل مبلغاً أكبر، رغم أننا سنمضي ثلاثة أسابيع في الامتحانات وليس شهراً، لعله "يرشوني" .. حتى أذاكر، ولا أذهب لدور السينما في هذا الشهر العصيب، الذي يُتوِّج تعب الأسرة معي في عام!
    في طريق الخروج ـ وقُرب باب الجامعة الذي يُفضي إلى الشارع ـ قابلتني زميلتي «أنوار»، وهي قرويّة من إحدى قرى طنطا، وتُسافر بالقطار يوميا .. ولم تغب أبداً عن أية مُحاضرة، قالت لي بصوت عال:
    ـ محمود، اليوم ليس الأخير، تعال للقاعة 12 غداً.
    ـ ماذا تقصدين؟
    ـ الدكتور عبد العزيز الأهواني عاد من الخارج، ويريد أن يلتقي بالطلاب غداً .. من التاسعة إلى الحادية عشرة .. يريد أن يُدلي لنا ببعض الملاحظات قبل الامتحان!
    كان الدكتور قد غاب عن محاضراته ثلاثة أشهر، وعلمنا أنه في أسبانيا، وحمدنا الله أن الدروس توقفت، وسنمتحن في الصفحات القليلة التي درسها لنا في أربعة شهور قبل سفره.
    كدتُ أرفع صوتي معبراً عن سخطي، ولكني تذكرتُ أن أبي أرسل لي حوالة بريدية، وبدلاً من المجيء من لاظوغلي إلى الجيزة حيثُ مكتب البريد في الرابعة مساء .. آتي في الغد لحضور المُحاضرة وصرف الحوالة، وأضرب عصفوريْن (أو أحقق طلبيْن) بمشوار واحد!!.
    رسمتُ ابتسامة باهتة على وجهي، ووجدتني أقول:
    ـ على خير إن شاء الله، شكراً يا أنوار.
    ووقفتُ أمام الجامعة ـ في ظلال أشجارها ـ من الثانية بعد الظهر حتى الثالثة إلا ربعاً أنتظر الحافلة الموعودة، حتى جاءت تتمخطر في خيلاء كعروس ليلة زفافها .. ولم أستطع أن أركب .. لسبب بسيط .. هو أن على الباب أكثر من عشرين شخصاً متشعبطاً، وكان عليَّ أن أركب الحافلة ذات الرقم 12 بشرطة للسيدة زينب التي تفوت بكثرة، وأنزل عند دار الهلال بشارع المبتديان ـ وأمشي إلى لاظوغلي! فقد كففت عن الشعبطة على الباب منذ أن وقعتُ ـ منذ شهريْن ـ أثناء رجة عنيفة في الحافلة 20 دفعت بي من الباب إلى أرض الشارع، وأشكُّ الآن في أن ضلوعي سليمة! ووقعتُ أمام ترام .. لولا أن سائقه ابن حلال، ولولا أن لي بقية من عمر، لكنتُ الآن في عالم آخر!
    في صباح اليوم (الأربعاء) .. انتظرتُ الحافلة أكثر من ساعة، ثم جاءت إلى المحطة محمَّلة، فهي تُُعبئ من أمام محطة دار الهلال .. والسنية .. والمالية .. ثم تجيء ولا مكان فيها لقادم جديد!
    .. وكان عليَّ أن أركب الحافلة رغم كل شيء.
    قلتُ وأنا على الباب للشاب الذي يسد الطريق بمنكبيه:
    ـ لو سمحت يا أستاذ!
    قال في لهجةٍ اجتهد أن تكون رادعة لأمثالي من الركاب، الذين يريدون ركوب الحافلة رغم الزحام البادي:
    ـ ليس في الداخل مكان .. أنت ترى أمامي سيدات .. يعني لا أقدر أن أتحرَّك!
    دفعني شاب يلبس بنطلوناً أزرق، كان راكباً على الباب، ولكنه نزل، وأتاح لي أن أركب، ثم تشعبط على الباب مثلي:
    ـ يا أستاذ أنت مؤدب قوي .. تقول له لو سمحت!!
    وأضاف في صوت آمِر:
    ـ زاحِمْ وادخلْ .. لكيْ أدخل وراءك!
    ولم أجد بدا من المزاحمة والدخول.
    جهاز الاستقبال يلتقط مُناوشات من حولي؛ المرأة البدينة تقول للشاب الذي كان يسد الباب بذراعيْه:
    ـ لوْ سمحت تأخَّر قليلاً .. أنت تلتصق بي!
    صوت رجل عجوز في السبعين:
    ـ يا خبر .. ضلوعي تكسّرتْ!
    ـ متأسف يا بابا.
    ـ .. كسرت وسطي بذراعك
    ـ أبوس رأسك يا عمي
    العجوز في قرف:
    ـ لا أريد أن تبوسها .. ولكن تأخَّر قليلاً لو سمحت .. حتى أستطيع أن أتنفس!
    يُبعد الشاب رأسه إلى جهة أخرى، في قرف:
    ـ إيه الحكاية؟! .. ما قلت لك آسف.
    زميله الشاب يستظرف:
    ـ لا يا سيدي لم نصطلح .. لازم تبوس رأسه!
    ويقهقه:
    ـ الأتوبيس بطيء .. ماشي كالسلحفاة.
    المنيرة .. المنيل .. كوبري الجامعة.
    كان عليَّ أن أقترب من الباب، ولا بد أن أستسمح الشاب القريب من الباب مرة ثانية.
    .. وحاولت أن أخترق الكتلة البشرية الصلبة.
    العجوز لوى شدقيه، وسقطت نظارته فوق أنفه، لكي تتسع حدقتاه وينظر لي من فوق النظارة:
    ـ تفضَّل يا سيدي المحترم.
    ولا يتحرك خطوة واحدة!!
    ويدفعني قاطع التذاكر بشدة:
    ـ إلى الباب يا سيد .. حتى لا تعطلنا ..
    وفي غناء قبيح:
    ـ لو سمحت .. انزل بسرعة!
    اكتشفتُ أن النثر من الممكن تلحينه وغناؤه، وأدركتُ عبقرية أولاد سيد درويش وأحفاده!
    دفعني الشاب ـ والحافلة مازالت مندفعة ـ دفعة كادت تودي بحياتي، وحياة أربعة على السلم.
    الأورمان..
    وأنزل قبل محطة الجامعة بمحطة؛ ففي مرات كثيرة سابقة كنتُ لا أتمكّن من النزول إلا بعد محطتين أو ثلاث محطات من محطة الجامعة.
    حمدتُ الله لأني نزلتُ كامل الأعضاء، ولم أفقد جزءاً من أجزاء جسمي في موقعة النزول!
    الساعة التاسعة إلا دقيقتين .. عليَّ أن أسرع الخطى حتى لا تفوتني المحاضرة الطارئة عن الأدب الأندلسي، فهي محاضرة مهمة، وتخص الامتحانات!
    شيء خطير أوقفني عن الجري ..
    .. لقد اكتشفتُ أنني قد سُرقت!!
    سُرقت «محفظتي» ـ يا أولاد الحلال! ـ ..
    سُرقت المحفظة التي أضعها في الجيب الخلفي من البنطلون، والتي فيها بعض أوراقي (فيها مشروع قصة لم تتم بعد!)، وفيها: نقودي، وبطاقتي الشخصية، والحوالة البريدية التي أرسلها لي والدي بمصاريف الشهر الأخير، شهر الامتحانات !
    تذكرت الفتى الواقف على الباب، الذي كان يدفع الجميع بمنكبيه وساعديْه، وزميله صاحب البنطلون الأزرق، الذي كان يدفعنا بظهره!! وكانا يتبادلان الضحكات والنكات، وثالثهم ـ الذي يتقاسم معهم الإيراد «محصِّل التذاكر»!!
    وكان عليَّ ـ بعد حمد الله ـ أن أفكر في العودة بعد انتهاء محاضراتي في الحادية عشرة .. بعد ساعتيْن .. في آخر أيّام الدراسة!
    عليَّ أن أقطع المسافة من الجامعة إلى لاظوغلي ـ وهي تقترب من الكيلو مترات الثمانية مشياً على الأقدام.
    ووجدتُ نفسي أقول ـ متجاوزاً أحزاني ـ شكراً لك أيها اللص الذكي، فقد أرحتني وأرحت ضلوعي من رحلة الموت مرتيْن يوميا!!
    ووجدتني أحدث نفسي:
    يُمكنني أن أعيش في القاهرة بلا بطاقة هوية، قلم يسألني أحد عنها طوال سنتيْنْ ..
    لكنْ ماذا سأفعل في «مصروف» الشهر الأخير؟!!
    ضاعت مائة وسبعة وثلاثون قرشاً، هي كل ما معي.
    وضاع مشروع القصة التي كانت تؤرقني وتقض مضجعي خلال الشهرين الأخيرين ..
    وضاع صك حوالة قيمتها اثنا عشر جنيهاً بالتمام والكمال،
    فهلْ يصرفها لي مكتب بريد «الجيزة» بدون «صك»؟!!
    وتذكّرت ـ وأنا أبتسمُ في مرارة ـ أنني ليس معي ما يدل على هويتي إلا بطاقتي الجامعية، وهي ـ للأسف ـ غير معترف بها في البنوك أو مكاتب البريد!!

    المساء 28/3/1970
    ـــــــــــــــــــ
    *نشرت في المساء بعنوان «رحلة الموت مرتين يوميا».

  2. #2
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    ورطة حقيقية

    ولوعدنا إلى الأسباب لضاقت بها الصفحات
    ابتداءً من التربية البيتية ..لظاهرة الفقر.. لفوضى المواصلات..لقلة الدين..للغباء الشخصي ... لندرة الضمير والتراخي بوضع قوانين رادعة وتطبيقها رغماً عن الجميع ومعاقبة الراشي والمرتشي كالسائق ..
    قصة تتكرر حوادثها كثيراً في الحافلات والسيارات والشوارع والأسواق والمجمعات البشرية ولكن أكثرها نشلاً ربما الحافلة لانشغال الركاب بالازدحام
    ذكرتني هذه القصة بالأفلام المصرية التي تغص بمثل هذه المشاهد والحوادث المضحكة المبكية.
    أهلاً بك د.حسين على محمد
    أختك
    بنت البحر
    حسبي اللهُ ونعم الوكيل

  3. #3
    الصورة الرمزية معاذ الديري شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : خارج المكان
    العمر : 49
    المشاركات : 3,313
    المواضيع : 133
    الردود : 3313
    المعدل اليومي : 0.43

    افتراضي

    انت لست مؤدبا فقط ..
    انت فنان جدا يا استاذ .. وحكيم .
    سخرية .. وحكمة .. وادب رفيع .

    هكذا تكون القصص والا فلا .
    هي مشوقة رغم طولها النسبي ولا يمكنك ان تشعر بالوقت وانت تقرؤها .
    تحية كبيرة لاديب كبير .
    عـاقــد الحــاجبــين
    http://m-diri.maktoobblog.com

  4. #4

  5. #5

  6. #6
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    الحافلة التي لم أحلم بها

    بقلم: مجدي محمود جعفر
    .........................

    قصة من القصص التي تعكس معاناة المواطن المصري ومعاناة المجتمع المصري الذي يعاني من أزمات خانقة ورغم أن القصة نشرت عام 1970 إلا أن الأزمات التي عانى منها بطل النص مازالت كما هي بدون حلول رغم انقضاء ما يزيد على ربع القرن - وإعادة نشر القصة - التي رصدت حالة المجتمع - تعري الحكومات التي توالت على مدى هذه السنوات - والقصة ليست تسجيلية لرحلة البطل وحسب والتي هي بالضرورة رحلة مجتمع ، ففي هذه الحافلة / الوطن - يُستلب الإنسان من هويته وآدميته ويمتهن ، انسان مثقف فنان جامعي - فكان من الضروري أن يبحث عن الحافلة / الوطن الحلم ، وحسنا فعل أستاذنا بتغيير العنوان إلى الوطن الذي أحلم به ، عفوا - إلى الحافلة التي أحلم بها - وهنا ذكاء القاص في أن جعل الحلم يُدرك أو يُتخيل من خلال رصدة لسوداوية الواقع الذي رصده بذكاء ومهارة وزوايا إلتقاط الرؤية لهذا الواقع تشي بأن الذي التقطها مغموسا ومغروسا في هذا الواقع ولم يُلتقط من عل أو من بُعد ، بل من خلال المشارك / الفاعل / الراصد ، بل هو البطل الرئيس وأيضا قدرته على استكناه جوهر العامة وملامسة الروح الشعبية من خلال رصده للإشارات والإيماءات والحركات ، شكرا لأستاذنا الدكتور حسين.

  7. #7
    الصورة الرمزية إسلام شمس الدين عضو
    تاريخ التسجيل : Apr 2003
    الدولة : مصر
    المشاركات : 646
    المواضيع : 50
    الردود : 646
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    هههههههههه

    رائع أيها الأديب الأريب المتمكن من فنون القص، وأدوات السرد
    استمتعتُ كثيراً بنصك المشوق، وأعجبني قدرتك الهائلة على الإمساك بزمام النص في تشويق دون ملل أو تطويل

    الآن أيها الحبيب هناك الأتوبيس المكيف أو ما يسمى (cta) نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي، بجوب شوارع القاهرة

    دمت مبدعاً رائعاً
    ولك تقديري وإعجابي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    إسلام شمس الدين

  8. #8

  9. #9
    الصورة الرمزية مينا عبد الله قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : حيث تكون روحي
    العمر : 42
    المشاركات : 2,091
    المواضيع : 110
    الردود : 2091
    المعدل اليومي : 0.31

    افتراضي

    الاخ الفاضل د.حسين علي محمد
    قصة رائعة ومعبرة جدا عن واقع يومي معاش
    كأنني كنت مع البطل
    او كأنني هو .. نقلت لي كل احاسيسه بصدق وشفافية عالية
    كأنني ارى الرجل ذو البنطال الازرق واسمع نكاته
    وكأنني اشعر بالحسرة على فقدان المحفظة

    ياللروعة .. لا استطبع ان اكمل
    كل ما فيها مبدع ورائع

    ميــــــــــــــنا
    أنفاسي خطواتي نحو الممات .. و ربما تبقى لي ذكريات .. هكذا علمتني الحياة

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الحافلة
    بواسطة تيسير الغصين في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 01-10-2016, 06:53 PM
  2. لُمَّ بها شَعْثِي و أحْيِ رَمَاديا
    بواسطة جلال الصقر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 43
    آخر مشاركة: 12-06-2010, 10:33 AM
  3. الحافلة والقطار .
    بواسطة العمدة في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 13-04-2007, 10:49 PM
  4. لِمَ لَْمْ يأتِ الحب ؟
    بواسطة مؤمن مجدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 15-02-2007, 03:25 PM