وديع فلسطين: شاهد على عصره
.................................
(فقر مختارة من رسائله إلى حسين علي محمد)
بقلم: أ. د. حسين علي محمد
...............................
1-وتوالدت الدولارات في ضياعهم!:
أ-"لعلي لم أخبرك بأن ابني الوحيد قد هاجر من عامين إلى كندا، وهو يُلحُّ عليَّ أن ألحق به، ولكنني أوثر البقاء هنا لكثرة أعمالي وتنوعها، في حين أنني قد أجد نفسي عاطلاً من كل عمل هناك مع إجادتي التامة للغة الإنجليزية. وإلمامي الجيد باللغة الإفرنسية، ولكنني قد أزوره في الصيف ـ إن سمحت بذلك ظروفي ـ وفي هذه الحالة أُعرِّج على شقيقي الأكبر في إسبانيا، وهو قد هاجر إليها من عام 1951م، وتجنس بجنسيتها، وتزوّج من إسبانية، ولم يبق إلا أن يُصارع الثيران الإسبانية!
وفي أحيان كثيرة أحس بالندم لأنني عندما زرت الولايات المتحدة في عام 1955م عُرِضت عليَّ أعمال كثيرة دون سعي من ناحيتي، وكان الإغراء شديداً للبقاء هناك، ولكنني آثرت العودة متوهماً بأن رسالتي الأولى كصحفي هي نحو أمتي العربية، لا نحو الفرنجة. أما زملائي وطلابي الذين بقوا هناك، فقد ابتسمت لهم الدنيا، وتوالدت الدولارات في ضياعهم، كما تتوالد الأرانب في ضيعتك.
(من رسالته المؤرخة في 2/4/1990م)
ب-"عندما كنت في أمريكا عام 1955 نصحني الناصحون بالبقاء هناك، وعرضوا عليَّ أعمالاً مجزية في الجامعات وفي مكاتب المُحامين، بل في إذاعة "صوت أمريكا"، ولكنني رفضت ظنا مني بأن مستقبلي في ديار يعرب، لا في أمريكا. ولا أكتمك أنني نادم على اطِّراحي نصائحهم، فلو بقيت هناك لتخلَّصت على الأقل من النجاسات البوليسية والرذالات الضرائبية التي تُطاردني بشراستها"
(من رسالته المؤرخة في 3/9/1978م)
2-شديد الخجل من نفسي!:
«أقول لك بكل صدق إنني شديد الخجل من نفسي، لأنني لم أكتب عن أصدقائي الذين رحلوا في السنوات السبع الأخيرة لأن ظروفي النفسية وأحوالي المعاشية التي كانت ترفعني إلى القمة ثم تقذف بي إلى الحضيض المرة بعد المرة، جعلتني أكثر تلهيا بأموري الشخصية مني بإنصاف الراحلين من الأحباء، كالأمير مصطفى الشهابي، والدكتور يوسف مراد، وأمين يوسف غراب، والشيخ محمود أبو رية، ومحمود الشرقاوي المؤرخ، وحليم متري، والدكتور مراد كامل، ومحيي الدين رضا، وعبد الحليم عبد الله، وعلي أحمد باكثير، ومحمد علي الطاهر، و[عبد الحميد جودة] السحار، والزيات، وساطع الحصري، ويوسف يعقوب مسكوني (العراقي) وغيرهم، وأضف إليهم [محمد] الجيار، ورشاد [رشدي]، وسمير وهبي ومَن إليهم.
(من رسالته المؤرخة في 23/4/1975م)
3-بين الصحافة والأدب:
"أنا أولاً وأخيراً مجرد صحفي صناعته الأولى التعليقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن لما أصبحت هذه الأبواب مزالق عرّضنتي للكثير من الانكشاريات والمفازع في حياتي فقد وجدت في الأدب ملاذاً أو مهرباً دون أن أغرق فيه حتى شحمة الرأس وفروة الأذن، لأن الأدب لا يُطعم خبزاً. وقد استهلكتني الصحافة لأن معظم ما كتبته في سنوات عمري قد صار تاريخاً قديماً، بعد أن تغيّرت جغرافية العالم، وانقلبت الدنيا؛ فصار الأبطال خونة والخونة أبطالاً، وأصبح الأعلام مجهولين، والعارون من أي مؤهلات في صدارة الصدارة!"
"وقد قيل في الاقتصاد ـ وهو ينطبق على كثير من الأمور ـ إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق، فلا أغضب إن رأيت نفسي من جملة المطرودين!".
(من رسالته المؤرخة في 21/4/1997م)
4-دوري في الأدب:
"دوري الوحيد في الأدب هو دور الشيخ الكبسي، ولعلّك سمعت به وأنت في بلاد القات السعيدة!( ) فعندما أُنشئت الجامعة العربية استرابت جميع الدول العربية منها، خشية أن تكون وسيلة لابتلاعها. فلبنان مثلاً كان يخشى على شخصيته المسيحية من الذوبان في هذا المجتمع المسلم. والملك عبد العزيز آل سعود كان يخشى من أن تُعلن القاهرة الخلافة الإسلامية (وقد جرت فعلاً محاولات في عهد الملك فؤاد ثم في عهد الملك فاروق) فيهتز مقام ابن سعود باعتباره حامي حمى الحرمين. كما أن الإمام يحيى الذي عزل بلاده عن الدنيا كان يخاف من أن تكون الجامعة سبباً في هدم أسوار العزلة. وعندما انعقد أول اجتماع لمجلس الجامعة العربية، أوفدت الدول العربية مندوبين مُكلَّفين بعدم التعاون وبتأكيد شخصية كل دولة واستقلالها عن سواها، وعدم قبولها لأي قرارات تمس أوضاعها الداخلية. أما الشيخ الكبسي فكان موفداً من الإمام يحيى كمندوب مُراقب، يرى ويسمع ولا يتكلم! وأنا يا صاحبي هو هذا المُراقب الأدبي، الذي يُتابع ما يُنشر في معظم مجلات الأدب، وهذا قُصاراه!".
(من رسالته المؤرخة في 11/5/1991م)
5-.. انسحبتُ من الميادين جميعاً!:
"الحمد لله أنني إذا كنت قد نُسيت أو أُنسيت في بلدي ومسقط رأسي، فقد ذكرني وكرّمني الأردن وسورية باختيارهما لي عضواً في مجمعيهما، وسبق لحكومة إسبانيا أن كرَّمتني بإهدائي "نشان الاستحقاق المدني من طبقة كوماندر"،
كان صديقي خليل مطران بك يقول:
أُخْـلي مكاني للّذي يسمو إليهِ بغيرِ حُزنِ
لا تندبنّي للعظائم بعدهـــا، لا تندبنِّي
وإني مثله قد أخليت مكاني وانسحبت من الميادين جميعاً وحسبي أنني أجري الآن في ميدان لا يُباريني فيه أحد [يقصد ميدان الترجمة]، ولو كانت له جائزة أوليمبية لظفرت بها ربما وحدي".
(من رسالته المؤرخة في 2/4/1990م)
6-هكذا كانت مجلات زمان!:
ب-"صحافة أنطون الجميِّل وخليل تابت وعبد القادر حمزة و(محمد حسين) هيكل باشا وداود بركات وآخرهم عزيز ميرزا هي صحافة رأي، قوامه العلم والحجة والدراية الأدبية، أما صحافة اليوم فأغلبها صحافة خبر، وأقلها رأيٌ يُساقُ ترديداُ لرأي الحكومة بغض النظر عن قواعد العلم والحجة والدراية الأدبية. وبعبارة أخرى كانت الصحافة القديمة تقود وتُبصِّر، أما الصحافة المُعاصرة فتُقاد وتنقاد، فضعفت هيبة الصحافة، وصار محرروها "موظفين" في الدولة؛ يُنقلون من "دكان" الأهرام، إلى "ديوان" الأخبار، أو من "وكالة" روز اليوسف إلى "مصلحة" المصور".
(من رسالته المؤرخة في 2/5/1977)
7-وفاة شاعرة!:
«توفيت مؤخراً الشاعرة جليلة رضا دون أن يُشير إلى وفاتها أحد من المشرفين على الصفحات الأدبية أو مجلات الأدب، وكأنها قطة ماتت فطيساً! وقد أخبرني أستاذنا الخفاجي أنه يعتزم إقامة حفل لتأبينها في رابطة الأدب الحديث ووعدتُه بالمشاركة في هذا الحفل. والغريب أن مجلة «الهلال» كانت تخزِّن قصيدة لها، ولما عرفت مني بوفاتها استخرجت القصيدة لنشرها في العدد المقبل مع إشارة لوفاتها».
«وقد نسي محرر المجلة أن دار الهلال نشرت سيرة جليلة ضمن "كتاب الهلال" الشهري من نحو خمسة عشر عاماً. وهذا يفسر لي صعوبة معرفة تاريخ ميلاد ووفاة الأدباء، لأن أحداً لا يهتم بتسجيلها إلا إذا كان الأديب أو المتأدب شيوعيا، ففي هذه الحالة تحتشد جميع الأقلام للحديث عن مآثره ومفاخره!».
(من رسالته المؤرخة في 22/4/2001م)
8-إنهم يُغلقون منابر الأدب!:
"احتجاب مجلة "الدوحة" في قطر صاحبه احتجاب مجلة "الفكر" التونسية التي عُطِّلت بعد انتظامها واحداً وثلاثين عاماً ضمن الحملة على صاحبها محمد مزالي، وهكذا تختفي المنابر الأدبية الواحد بعد الآخر، لأن دولنا تعتبر الأدب من الكماليات الشديدة الخطورة التي يتعيّن التخلُّص منها في أول فرصة، ولك أن تتوقّع احتجاب مجلات أخرى تذرُّعاُ بذريعة الأزمة الاقتصادية".
(من رسالته المؤرخة في 23/11/1986م)
(من كتاب: سفير الأدباء وديع فلسطين، للدكتور حسين علي محمد، ثلاث طبعات)