أحدث المشاركات
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 20

الموضوع: شعرية القصةفى مجنون احلام للدكتور حسين على محمد

  1. #11
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اصطياد الوهم

    قصة: د. حسين علي محمد

    هاهي النجمة «ليلى زهدي» ..
    رآها «صبري عثمان» وهي قادمة إلى مقهى «هارون الرشيد» الذي اعتادا ارتياده معاً منذ عشر سنوات..‏
    كان جالساً إلى مائدة وحيدة خارج المقهى.
    الناس يمرُّون من أمامه باتجاه واحد!..‏
    أقبلتْ من بعيد ..‏ من الاتجاه الآخر.
    سقط وجهه على صدره.
    حين دخلت المقهى، وتجاوزته.. ومضتْ ..‏ إلى مائدة أخرى، ترك كوب الشاي الذي لم يشرب منه.
    نهض وأخذ يلملم أوراقاً، وذكرى غاضبة، وأعواماً تركتها وراءها..‏
    جلس إلى مائدتها.
    فتحت حقيبتها، وأخرجت رواية ضخمة.
    .. لما رأته لم تبتسم:‏
    قالت غاضبة، وهي تحاول أن تجعل نبرات صوتها كالمعتادة:
    ـ إنني لا أصدق! .. هل هذا صبري عثمان الذي أعرفه؟ (وبلعت ريقها) .. هل هذا صبري ابن الثالثة والستين الذي دخل السجن في عهدي الملك فاروق وعبد الناصر .. وهاهو السادات أخذه ستة عشر شهراً في أحداث خبز يناير 1977م؟
    ضحك .. وكأن ضحكته تقول لها:
    ـ لكمْ أنتِ غريرة أيتها النجمة الجميلة!! ..
    لم تلتفت إليه.
    أضاف في خجل:
    ـ لا تتعجبي! .. فقد كتبتُ مسرحية «صلاح الدين يدخل القدس» وأرسلتُها إلى صحيفة «الكفاح» اللبنانية التي نشرتها، عقب زيارة السادات التاريخية للقدس (قالها ضاحكاً) فطلبتْني الرئاسة بعد أسبوع!
    قالت ساخرة:
    ـ قرأتُها، حمداً لله أن النساء لم يظهرن فيها! وأن الرجال ـ وحدهم ـ هم الذين يتحمّلون وزر "البطولة" فيها!
    شد كرسيا، وجلس في مواجهتها:
    ـ لا تكوني قاسية في أحكامك.
    تعرّف عليها منذ عشرة أعوام في صالون صديقه الناقد المسرحي محيي الدين فوزي، أعجبته ثقافتها الضخمة ـ بجانب جمالها اللافت ـ وكان إذا قرأ فصلاً من مخطوطاته المسرحية تُبدي إعجابها بكتاباته التي لم تأخذ حظها في العرض المسرحي والمُتابعة النقدية .. عدَّها من جمهوره.
    وضحك:
    ـ كتبتُ ثلاثين عاماً ضد الحكومات، فما التفت لي أحد إلا السجانون! .. وكتبتُ مسرحية تاريخية تشير إلى اللحظة التي نعيشها، فاستدعتني الرئاسة، للتشاور في تقديمها على المسرح القومي وطبعها في كتاب.
    ضحكت:
    ـ هذا هو الثمن؟
    ـ أنا لم أمدح أحداً
    ـ أنت تعرفني، لا أقول إلا ما أعتقده.
    أضاف جادا:
    ـ لقد استمتعتُ بكتابة كل فقرة من فقرات هذه المسرحية، وهذا يكفي.
    ابتسمتْ ساخرةً .. ولم تُعقِّب.
    أضاف:
    ـ الناس سئمت الحروب، وتريد أن تستمتع بالحياة.
    قالت ساخرة:
    ـ وهل تصدِّق ـ أيها الكاتب الكريم ـ أن السلام الذليل مع إسرائيل سيأتينا بالمنَّ والسلوى كما يقول زعيمك؟
    قال متراجعاً:
    ـ خفِّضي صوتك، أريدُ أن أعيش، وأن تُعرض مسرحيتي في المسرح القومي!
    قالت، وهي تحمل حقيبتها، وتُغادر المكان، وعلى وجهها علامات القرف :
    ـ إن سلامك هذا ـ كمسرحيتك ـ أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد، هو أنت!
    أضاف لنفسه بصوتٍ عالٍ سمعه جيرانه في المقهى، بعد أن خرجت:
    ـ وماذا يعنيني رأيها؟ إنها لم تذق ـ على أي حال ـ مرارة السجون! .. ثم إن المسرحية ستُقدم على مسرح الدولة بعد شهر ..
    لقد كتب أكثر من عشر مسرحيات لم تُعرض مسرحية منها.
    وعرفه الناس سجيناً أكثر مما عرفوه كاتب مسرح.
    وهاهي مسرحيته التي كتبها عن «بطل تاريخي» بحث عن السلام من خلال الحرب، ستضعه في مصاف الكتاب الكبار.
    هاهي ليلى زهدي تنضم إلى جوقة صديقه الناقد الكبير محيي الدين فوزي، الذي ازورّ عنه أمس، وهو يقول في لهجة حقيرة وشتائم رخيصة:
    ـ لم أعجب لتقديم مسرحيتك على المسرح القومي، من إخراج المخرج الكبير سالم النقاش، فالسلطة تكافئ أحبابها!!
    .. ماذا فعلتم أيها الأوغاد لي ولمسرحي المخطوط على امتداد خمسة وعشرين عاماً؟
    وأنت أيها الناقد الكبير قرأت مسرحياتي ولم تكتب عنها كلمة واحدة، لأنها لم تُقدم للناس كما كنتَ تقول؟
    ...
    انسحب إلى مائدته .. لا يود التفكير الآن؟ .. «ليلى» مزاجها غير رائق، وتتهمني بالخيانة! .. إنها تجعل المسرحية التي شارك فيها على الأقل عشرة أشخاص مسرحية ممثل واحد، وتقول في لغة باترة بصوت يشبه صوت سناء جميل، أو صوت عادل إمام في أدائهما المسرحي الفخيم:
    « إنها أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد!».
    ...
    صفق «صبري عثمان» بشدة يطلبُ شاياً سادة، متوسلاً إلى النادل أن يُخفِّض صوتَ المذياع لأنه يريد أن يكتب الفصل الأول من مسرحيته الجديدة «لماذا يغضبون مني؟»..
    داعبته فكرة شيطانية، فضحك:
    ـ مسرحيتي الجديدة أبطالها نساء. تقوم حول صداقةٍ شيطانية بين مخرجةٍ سينمائية وامرأة أعمال. فهل يقدمها المسرح القومي (دون تدخل الرئاسة هذه المرة)؟، وهل تسنح الفرصة فتقوم ليلى زهدي ببطولتها؟!!

    ديرب نجم 3/3/1983

  2. #12
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    أحــزان نادية

    قصة: د. حسين علي محمد

    جلست «نادية» في ـ أول أيام إجازة نصف العام ـ في النادي، أمام المنضدة التي اعتادت أن تجلس مع محمود عليها!
    النادي شبه مهجور .. وأوراق الأشجار متساقطة بكثرة فوق الحشائش التي كانت تبدو دائماً زاهيةً لامعة.
    ما كانت تريد غير أن تسترجع لحظات من الزمن الجميل .. من خمسة عشر عاماً ضيعها محمود في نزوته، وسرق منها أحلامها، وعمرها الذي لن يعود.
    أين محمود الآن؟!
    إنني أذكره دائماً، وكأن حياتي تعلقت به رغم ما فعله معي!
    رأت النادل من بعيد، عيناه كرصاصة نارية تخترق تجاويف صدرها .. كأنه يسألها لماذا أنت وحيدة .. ولماذا لا أرى الدكتور محموداً معك تملآن المكان حياةً وضحكاً؟!!
    كم كانت تضيق صدراً من مطاردات النادل لهما في خلوتهما بالنادي .. وسؤاله المتكرر:
    ـ ماذا تشربان؟
    .. لماذا يبتسم الآن؟
    هل يريد أن يقول إن محموداً يأتي هنا كثيراً مع لعبته الصغيرة ناهد؟!
    ـ أريد شاياً بالحليب.
    إنني لم أجيء هنا من أول الصيف الماضي.
    تجنبتُ الأماكن التي كنا نغشاها معاً.
    هل رأى «محموداً» مع «ناهد» تلميذته الساقطة التي تزوجها بعد أن صارت حكايتهما في النادي والجامعة على كل لسان .. وتزوج ابن الخامسة والخمسين من لعوب في الرابعة والعشرين؟!!
    استدار النادل ليُصافح فتاة تُشبه ناهد .. تميل إلى القصر .. والنحافة .. ما الذي أعجبه فيها؟!!
    لاحظت «نادية» ظهر شخص أمام باب النادي في الزاوية البعيدة .. ظهر كظهر محمود .. لبست النظارة الطبية، فلم تر إلا ظهره!
    كنا زميلين في قسم علم النفس بكلية المعلمين (قبل أن يتحول اسمها إلى كلية التربية)، وكنتُ الأولى دائماً، وكان ينافسني على التفوق، لكنه كان يأتي بعدي دائماً.
    حينما تزوجنا، ونحن معيدان صغيران بالكلية، كان الجميع يحسدوننا على الحب والتفاهم اللذين يظلاننا .. أين ذهب ذلك الحب؟ وأين اختفى ذلك التفاهم؟
    استدارت الفتاة التي كانت مع النادل لتلحق به، وتتعلّق في ذراعه .. وتتمايل في مشيتها كتمايل عارضات الأزياء!
    ما الذي يجعل الأستاذ الجامعي يقع في حب تلك «المهرجة المسخوطة»؟!
    رنَّ في أذنيها صوتُ والدتها الواهن:
    ـ أنتِ يا أستاذة علم النفس .. فشلتِ في معرفة نفسية زوجتك .. وفشلتِ في التعامل معه بعد الخمسين؟
    قالت في نبرات غاضبة:
    ـ لا تحمليني وزر ما حدث.
    ـ لماذا تغضبين إذا قلنا الحقيقة؟ .. أنتِ لم تُحافظي على طائرك.
    أجابت صارخة:
    ـ حاولتُ .. فلم أوفّق!
    كان جو يناير شديد البرودة، وكان هناك رذاذ خفيف!
    قالت خالتي سامية ذات يوم:
    ـ كان المفروض أن يكون زوجك أكبر منك في السن بخمسة أعوام .. لا زميلك!
    .. أبعد الخمسين تقولين ذلك يا خالتي؟! .. إنها تكرر أقوال أمي! .. وإنني لم أشعر بحكاية السن هذه أبداً!
    تركت «نادية» نقود المشروب على المنضدة، وأسرعت تُعلق حقيبتها في كتفها.
    كادت تقع على الأرض في أولى خطواتها المتسارعة للحاق بمحمود.
    لاحظت أنها ـ منذ أسبوعين ـ تعرج عرجاً خفيفاً، لا تدرى سببه!، ربما أصابها «النقرس» اللعين، ستذهب إلى طبيبها هذا المساء لتستشيره.
    نظرة حزينة تبدو في عيْنيْها وهي تُغادر النادي .. لقد جاءت لتستعيد شيئا من الماضي .. فطاردها ..
    تدحرجت خطواتها على الطريق .. تريد أن تراه .. هل هو محمود؟!!
    وقف الرجل والمرأة أمام بائع جرائد.
    هل هما محمود وناهد؟
    لاحظت بل تأكّدت أنه هو .. تأكدت من ظهره!
    أصبح الشيب يغزو شعره.
    ابتسمت ابتسامة خفيفة.
    كنتُ أصبغ شعره كل أسبوع، بل إني صبغتُ شعره يوم زفافه على ناهد.
    ـ أنت تحبينني بلا شك يا نادية!
    ـ اسأل قلبك.
    ـ لماذا إذن تُطارديِني في الجامعة والنادي وبيوت الأصدقاء؟
    ـ أريد أن أُحافظ على صورتك كأستاذ جامعي!
    ـ أنتِ أيضاً أستاذة جامعية؟
    ـ هل تلومني على شدة حبي لك، ومحاولتي أن أحافظ على صورتك من عبث هذه العابثة؟
    ـ أنتِ يا هانم .. كسرتِ الصورة! وزعمتِ أني أحب تلك التلميذة الصغيرة.
    ـ ليست صغيرة، بل في الرابعة والعشرين.
    في استنكار:
    ـ وعرفتِ عمرها؟
    مالت عليه لتقبله، وتخفف من حدة الحوار:
    ـ أحبك كأنك طفلي!
    وكأنه يريد أن ينهي الكلام، وهو يبتعد عن فمها:
    ـ نحن مساء الخميس .. ألم تنسي شيئاً؟!!
    ـ نسيت ..
    وكأنها تتذكر:
    ـ هذا يوم الزيارة الأسبوعي .. نزور والدتك ثم نذهب لزيارة والدتي!
    قال وهو يعاود مرحه القديم:
    ـ لا والدتي .. ولا والدتك اليوم!
    وهي مهمومة، وتُجاهد أن تبتسم؟:
    ـ هل سنقضي اليوم في البيت؟
    ـ لا ..
    ـ ماذا إذن؟
    قال والدهشة تملأ عينيها:
    ـ هذا يوم صبغ الشعر الأسبوعي! .. بعدها سأذهب لزيارة صديق عائد من مؤتمر علمي في فرنسا .. وسأجد عنده بعض الأصدقاء، ونسهر معاً.
    ...
    وصبغت شعره، وذهبت لأمها وعادت لتجد معه ناهد، في شقتها هي التي أثثتها من رحلتها إلى الكويت .. وحينما ثارت عليه وصفعته على وجهه أخبرها أنها زوجته من شهور!
    ضربت نادية الأرض برجليها، وملأت الدنيا صراخاً. ركبت سيارتها وذهبت إلى أمها التي كانت معها منذ ساعة. هجرت عش الزوجية، وعولجت شهوراً طوالاً من الصدمة في مصحة نفسية، بعد أن طلقها، وأقام في الشقة التي ملأتها بالأثاث من إعارتها أستاذة لعلم النفس في جامعة الكويت، وحرمها من مكتبتها التي كونتها كتابا كتاباً ومجلدا مجلداً.
    كادت تشده من البذلة التي أتت له بها من إعارتها ـ وما زال يرتديها!! ـ وتقول له:
    ـ اخلع بذلتي يا عرة الرجال!!
    ولكنها وجدت ساقيها تتعثران، وتسقط على الأرض على بُعد خطوات قليلة من بائع الجرائد، وينظر محمود للجسد الذي ارتطم بالأرض في تجاهل تام، وكأنه لا يعرف مطلقته .. هذه المرأة ـ التي عاش معها خمسة عشر عاماً ـ من قبل!!

    الرياض 15/1/2002م

  3. #13
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    عكرمة .. يرفع السلاح

    قصة: د. حسين علي محمد

    توطئة:
    قال المرجفون في المدينة:
    إن كل مراكبي قد غرقت
    وأن أيامي القادمة للنسيان
    وخضرة حديقتي للذبول، فالموت!
    فهل صدَّقتهم؟!!

    1
    ألفت رؤية الغريب أمام مدخل البيت يُجالس الحارس .. فاستسلمتْ أغصان فؤادٍ مسربل بقصائد الضياع، وكانت روحي تنزف الحروف .. متقطعة، وأصدقائي يقولون ثرثرة عمياء، بلا بصيص ضوء.
    قلتُ لنفسي أول الأمر «يا عكرمة! أنت لا تُبصر أكثر مما يُبصرون، أنت لك عينان كليلتان، وهم لهم ملايين الأعين»!
    تدثرتُ بالصمتِ، وأنا أرى أولاد القردة «يرسمُون» على أغلفة كتب الفتوح عار حاضرنا الذي نرسمه ملوناً، ويأخذ ـ عندنا، يا للفجيعة! ـ شكل النبيذ! .. في أنهارٍ تجري بفخرنا الذي تُسطره القصائد العصماء! .. بينما يرسمونه متوجاً بالعار، والخزي والسقوط!
    لماذا يهلل الخائفون المذعورون لانتصار البغال المرتجى؟!، ويغنون لأعراس النشوة القادمة، وهم يقدمون لحم أمهاتهم وبناتهم .. للغريب، ويتلون على مسامعه الصماء قصائدهم الميتة، عند مفترق الطرق ..!.

    2
    كان «مطيع» الحارسُ يهذي بكلامٍ ـ لا يُصدقه أحد ـ عن فتوحات الغريب (الذي عرفتُ ـ فيما بعد ـ أن سمه «بنيامين») مع نسائنا!!.
    وكان «مطيع» يُقارضه على حبلِ الحوار ـ بلا حياءٍ ـ ثناءً، ونفاقاً رخيصاً.
    ...
    رأيتُ ـ فيما يرى الرائي ـ الحارس مؤرجحاً في مشنقة ، (كتلك المشانق التي نصبها الغريب لأهالينا في دنشواي منذ مائة سنة) وألفاظه الغامضة المُنافقة بجملٍ تعيسة تعتمل في لسانه .. وللغريب عار الهزيمة يُطارده، يأخذ شكل القتل في وسط النهار. هلْ أُجاهر وأقول ما رأيتُ؟!.
    كان الغريب يحملُ صحيفةً سوداء كاذبة، معانقاً سلاحه، يحتفي بنصره القادم / المحتمل، ويقبل نسره الظافر، ويُعطي لنهاية النهار فرحة شهوة المنتصر، ويتركُ لنا تعاسة الظلام المُواتي الذي يلوح في الأفق!
    ...

    3
    أدار الفتي الغريبُ وجهه غاضباً حينما رآني، لماذا يغضبُ وأنا لا أعرفه، وأنا ـ أيضاً ـ صاحبُ العمارة التي يجلس مع الحارس على «دكة» أمامها، ويمُدُّ ساقيْه في وجْهي؟!!.
    قالت الخيول الصافنة متسائلة:
    ـ هل تظنُّ أني أحببتُ البغل؟
    مطيع (الحارس) مستبشعاً الكلمة، يضع يده على فمها، ويصرخ في جنون:
    ـ لماذا تصرخين أيتها الصافنات؟ إنه بجواري على دكة المدخل (في صوت هامس) يكاد يسمع كلامنا؟
    قالت ـ وهي لا تأبه بشيء ـ متأففة:
    ـ إنكما عند الجميع كشخص واحد .. مطيع ـ بنيامين.
    (وهو يحدق في جنون وتتسع حدقتا عينيه، ويتهاوى في قاع الجنون والحضيض) .. كان يتساءل عن معنى ما قالت:
    ـ إن البغال لا تتزوّج الصافنات!!
    (وتضحك الخيول ضحكاً هستيريا) مُضيفةً:
    ولأن الحارس استطاع أن يُبصر أخيراً، لم تتزوّج البغالُ الخيول، ولم تنعمْ بعاره الجميل!

    4
    كانت الصافنات تُغني في المساء الأخير، أغنيتها الأثيرة، التي رددتها كثيراً في الأيام الأخيرة، مناديةً من لا أُبصره:
    أيها المستجير من الرمضاءِ بالنار ..
    لا تترك السيف
    لا تخلع الدرع
    أنت في قيامتك الكبرى
    رايتك مرفوعة للريح
    والغريب مدجج بالخراب
    وخطواتك لن تقتلعها الريح
    لك موتُ يجدرُ بشهيد
    وللغريب حياةٌ مجللة بالعار
    لك أن تعيش طويلاًً ..
    أنت والنسور في الأعالي
    كان الطين يرسخ شهادته، في السهول الخضراء، والأرض توثِّقها في الجذور .. فلن تقتلع الريح خطوتك .. يا عكرمة ..
    يا ابن الأرض، ها هي الريح بجانبك .. تدفق الدماء في الجسد، وتزهو الريح لأنك نبتها الذي لم ينحن، وتقول: ستقتلع وحشَ الغابة الذي يهددك بالمحو، ستنتصر على الغريب، فلا تخف .. وهاهي الخيول تقول: إنها أحبتك منذُ رأتك .. تُحاول أن تضمك لصدرها بقوة، بعد أن كانت قد ابتعدت زمناً ..
    تقول: هل يصعد قاربك يا عكرمة .. فوق بحار الشوقِ المشتاقة؟!
    ...
    لم تقر أن كل مراكبك قد غرقت، كما يقول المرجفون في المدينة!

    الرياض 11/3/2003م

  4. #14
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    الحافلة التي لم أحلم بها

    قصة: د. حسين علي محمد

    إذا كنت من سكان شارع خيرت أو أحد الشوارع القريبة من ميدان لاظوغلي، وأردت أن تذهب لجامعة القاهرة ـ مثلي ـ فما عليك إلا أن تركب الحافلة ذات الرقم 20 أو عشرين بشرطة، ويا ويلك إن كنت!!
    فهذه الحافلة نادراً ما تأتي، وإذا جاءت فزحمة لا تُطاق!!
    ولا تقل لي إن كل الحافلات في مدينة القاهرة هكذا، فحافلات هذا الرقم من نوع فريد!!
    وسأروي لك ما حدث لي معها خلال أقل من أربع وعشرين ساعة!
    أمس ـ الثلاثاء ـ كان اليوم الدراسي الأخير في هذا العام الجامعي (كما كنا نعرف منذ أسبوع، ولكني اكتشفتُ لاحقاً أنه قبل الأخير) .. انتهت المُحاضرات في الثانية عشرة، صليت الظهر في مسجد الكلية الصغير (..وكان المصلون أقل من عشرة طلاب، في كلية فيها أربعة آلاف طالب! ما علينا!)، ثم انتظرت صاحب البريد عبد الحميد ـ والسجعة غير مقصودة ـ حتى يعود من مكتب بريد الجيزة بخطاباته، فوجدتُ خطاباً من والدي ـ الذي يكتب بصعوبة ولا يستطيع أحد غيري أن يقرأ كتابته (أو بالأحرى «أن يفك خطه») ـ ومع الخطاب حوالة بريدية باثني عشر جنيهاً «تُصرف من بريد الجيزة بميدان الجيزة» .. قلتُ: أصرفها غداً.
    وأبي ـ عادةً ـ يرسل لي في كل شهر عشرة جنيهات، لكنه في هذه المرة أرسل مبلغاً أكبر، رغم أننا سنمضي ثلاثة أسابيع في الامتحانات وليس شهراً، لعله "يرشوني" .. حتى أذاكر، ولا أذهب لدور السينما في هذا الشهر العصيب، الذي يُتوِّج تعب الأسرة معي في عام!
    في طريق الخروج ـ وقُرب باب الجامعة الذي يُفضي إلى الشارع ـ قابلتني زميلتي «أنوار»، وهي قرويّة من إحدى قرى طنطا، وتُسافر بالقطار يوميا .. ولم تغب أبداً عن أية مُحاضرة، قالت لي بصوت عال:
    ـ محمود، اليوم ليس الأخير، تعال للقاعة 12 غداً.
    ـ ماذا تقصدين؟
    ـ الدكتور عبد العزيز الأهواني عاد من الخارج، ويريد أن يلتقي بالطلاب غداً .. من التاسعة إلى الحادية عشرة .. يريد أن يُدلي لنا ببعض الملاحظات قبل الامتحان!
    كان الدكتور قد غاب عن محاضراته ثلاثة أشهر، وعلمنا أنه في أسبانيا، وحمدنا الله أن الدروس توقفت، وسنمتحن في الصفحات القليلة التي درسها لنا في أربعة شهور قبل سفره.
    كدتُ أرفع صوتي معبراً عن سخطي، ولكني تذكرتُ أن أبي أرسل لي حوالة بريدية، وبدلاً من المجيء من لاظوغلي إلى الجيزة حيثُ مكتب البريد في الرابعة مساء .. آتي في الغد لحضور المُحاضرة وصرف الحوالة، وأضرب عصفوريْن (أو أحقق طلبيْن) بمشوار واحد!!.
    رسمتُ ابتسامة باهتة على وجهي، ووجدتني أقول:
    ـ على خير إن شاء الله، شكراً يا أنوار.
    ووقفتُ أمام الجامعة ـ في ظلال أشجارها ـ من الثانية بعد الظهر حتى الثالثة إلا ربعاً أنتظر الحافلة الموعودة، حتى جاءت تتمخطر في خيلاء كعروس ليلة زفافها .. ولم أستطع أن أركب .. لسبب بسيط .. هو أن على الباب أكثر من عشرين شخصاً متشعبطاً، وكان عليَّ أن أركب الحافلة ذات الرقم 12 بشرطة للسيدة زينب التي تفوت بكثرة، وأنزل عند دار الهلال بشارع المبتديان ـ وأمشي إلى لاظوغلي! فقد كففت عن الشعبطة على الباب منذ أن وقعتُ ـ منذ شهريْن ـ أثناء رجة عنيفة في الحافلة 20 دفعت بي من الباب إلى أرض الشارع، وأشكُّ الآن في أن ضلوعي سليمة! ووقعتُ أمام ترام .. لولا أن سائقه ابن حلال، ولولا أن لي بقية من عمر، لكنتُ الآن في عالم آخر!
    في صباح اليوم (الأربعاء) .. انتظرتُ الحافلة أكثر من ساعة، ثم جاءت إلى المحطة محمَّلة، فهي تُُعبئ من أمام محطة دار الهلال .. والسنية .. والمالية .. ثم تجيء ولا مكان فيها لقادم جديد!
    .. وكان عليَّ أن أركب الحافلة رغم كل شيء.
    قلتُ وأنا على الباب للشاب الذي يسد الطريق بمنكبيه:
    ـ لو سمحت يا أستاذ!
    قال في لهجةٍ اجتهد أن تكون رادعة لأمثالي من الركاب، الذين يريدون ركوب الحافلة رغم الزحام البادي:
    ـ ليس في الداخل مكان .. أنت ترى أمامي سيدات .. يعني لا أقدر أن أتحرَّك!
    دفعني شاب يلبس بنطلوناً أزرق، كان راكباً على الباب، ولكنه نزل، وأتاح لي أن أركب، ثم تشعبط على الباب مثلي:
    ـ يا أستاذ أنت مؤدب قوي .. تقول له لو سمحت!!
    وأضاف في صوت آمِر:
    ـ زاحِمْ وادخلْ .. لكيْ أدخل وراءك!
    ولم أجد بدا من المزاحمة والدخول.
    جهاز الاستقبال يلتقط مُناوشات من حولي؛ المرأة البدينة تقول للشاب الذي كان يسد الباب بذراعيْه:
    ـ لوْ سمحت تأخَّر قليلاً .. أنت تلتصق بي!
    صوت رجل عجوز في السبعين:
    ـ يا خبر .. ضلوعي تكسّرتْ!
    ـ متأسف يا بابا.
    ـ .. كسرت وسطي بذراعك
    ـ أبوس رأسك يا عمي
    العجوز في قرف:
    ـ لا أريد أن تبوسها .. ولكن تأخَّر قليلاً لو سمحت .. حتى أستطيع أن أتنفس!
    يُبعد الشاب رأسه إلى جهة أخرى، في قرف:
    ـ إيه الحكاية؟! .. ما قلت لك آسف.
    زميله الشاب يستظرف:
    ـ لا يا سيدي لم نصطلح .. لازم تبوس رأسه!
    ويقهقه:
    ـ الأتوبيس بطيء .. ماشي كالسلحفاة.
    المنيرة .. المنيل .. كوبري الجامعة.
    كان عليَّ أن أقترب من الباب، ولا بد أن أستسمح الشاب القريب من الباب مرة ثانية.
    .. وحاولت أن أخترق الكتلة البشرية الصلبة.
    العجوز لوى شدقيه، وسقطت نظارته فوق أنفه، لكي تتسع حدقتاه وينظر لي من فوق النظارة:
    ـ تفضَّل يا سيدي المحترم.
    ولا يتحرك خطوة واحدة!!
    ويدفعني قاطع التذاكر بشدة:
    ـ إلى الباب يا سيد .. حتى لا تعطلنا ..
    وفي غناء قبيح:
    ـ لو سمحت .. انزل بسرعة!
    اكتشفتُ أن النثر من الممكن تلحينه وغناؤه، وأدركتُ عبقرية أولاد سيد درويش وأحفاده!
    دفعني الشاب ـ والحافلة مازالت مندفعة ـ دفعة كادت تودي بحياتي، وحياة أربعة على السلم.
    الأورمان..
    وأنزل قبل محطة الجامعة بمحطة؛ ففي مرات كثيرة سابقة كنتُ لا أتمكّن من النزول إلا بعد محطتين أو ثلاث محطات من محطة الجامعة.
    حمدتُ الله لأني نزلتُ كامل الأعضاء، ولم أفقد جزءاً من أجزاء جسمي في موقعة النزول!
    الساعة التاسعة إلا دقيقتين .. عليَّ أن أسرع الخطى حتى لا تفوتني المحاضرة الطارئة عن الأدب الأندلسي، فهي محاضرة مهمة، وتخص الامتحانات!
    شيء خطير أوقفني عن الجري ..
    .. لقد اكتشفتُ أنني قد سُرقت!!
    سُرقت «محفظتي» ـ يا أولاد الحلال! ـ ..
    سُرقت المحفظة التي أضعها في الجيب الخلفي من البنطلون، والتي فيها بعض أوراقي (فيها مشروع قصة لم تتم بعد!)، وفيها: نقودي، وبطاقتي الشخصية، والحوالة البريدية التي أرسلها لي والدي بمصاريف الشهر الأخير، شهر الامتحانات !
    تذكرت الفتي الواقف على الباب، الذي كان يدفع الجميع بمنكبيه وساعديْه، وزميله صاحب البنطلون الأزرق، الذي كان يدفعنا بظهره!! وكانا يتبادلان الضحكات والنكات، وثالثهم ـ الذي يتقاسم معهم الإيراد «محصِّل التذاكر»!!
    وكان عليَّ ـ بعد حمد الله ـ أن أفكر في العودة بعد انتهاء محاضراتي في الحادية عشرة .. بعد ساعتيْن .. في آخر أيّام الدراسة!
    عليَّ أن أقطع المسافة من الجامعة إلى لاظوغلي ـ وهي تقترب من الكيلو مترات الثمانية مشياً على الأقدام.
    ووجدتُ نفسي أقول ـ متجاوزاً أحزاني ـ شكراً لك أيها اللص الذكي، فقد أرحتني وأرحت ضلوعي من رحلة الموت مرتيْن يوميا!!
    ووجدتني أحدث نفسي:
    يُمكنني أن أعيش في القاهرة بلا بطاقة هوية، قلم يسألني أحد عنها طوال سنتيْنْ ..
    لكنْ ماذا سأفعل في «مصروف» الشهر الأخير؟!!
    ضاعت مائة وسبعة وثلاثون قرشاً، هي كل ما معي.
    وضاع مشروع القصة التي كانت تؤرقني وتقض مضجعي خلال الشهرين الأخيرين ..
    وضاع صك حوالة قيمتها اثنا عشر جنيهاً بالتمام والكمال،
    فهلْ يصرفها لي مكتب بريد «الجيزة» بدون «صك»؟!!
    وتذكّرت ـ وأنا أبتسمُ في مرارة ـ أنني ليس معي ما يدل على هويتي إلا بطاقتي الجامعية، وهي ـ للأسف ـ غير معترف بها في البنوك أو مكاتب البريد!!

    المساء 28/3/1970
    ـــــــــــــــــــ
    *نشرت في المساء بعنوان « رحلة الموت مرتين يوميا».

  5. #15
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    الأعمار بيد الله

    قصة: د. حسين علي محمد

    عادت «هيفاء» من العمل إلى بيتها بعد الظهر، وهي تقول لزوجها:
    ـ مررتُ على الطبيب، وقال لي إنها عملية سهلة .. ولا بد أن أعمل العملية اليوم!
    قال لها زوجها:
    ـ إنك لم تشعري بآلامها إلا منذ أسبوع فقط، أعني أنها ليست مزمنة. وباق على العيد سبعة أيام ، والدار تحتاج إلى شغل كثير! .. نحتاج إلى غسيل وطحين .. وخبز، وتفصيل هدوم للولدين!
    صرخت:
    ـ أنت مستخسر فيَّ الفلوس؟ .. أللجنيهات السبعة التي سأعمل بها العملية قيمة؟ .. أنا سأعمل العملية وأدفع أجرها من راتبي.
    قال زوجها مقاوماً ما وسعته المُقاومة:
    ـ أنت تستحقين ثقلك ذهباً .. لكن البيت محتاج لك هذا الأسبوع، وبعد العيد يا ستي نعمل لك العملية كما تُريدين!
    ولكن هيفاء رأسها وألف سيف إلا وتنفذ الذي قالت عليه، أليست هي المتعلمة الوحيدة في القرية؟ (حاصلة على دبلوم تجارة، وتعمل في الوحدة المحلية، ولها كرسي تجلس عليه، ومكتب لا يُشاركها فيه أحد، وهاتف خاص بها في القرية التي لا يوجد بها هاتف إلا في بيت العمدة؟).
    دخلت الحجرة، وأغلقت الباب على نفسها، ثم خرجت إلى الحمّام، وظن زوجها أن عقلها رجع إلى رأسها، ولكنها خرجت بعد دقائق، وقد استحمّت، ولبست ثوبها الجديد، وقالت لزوجها:
    ـ أنا ذاهبة إلى العيادة .. ولو كنت تريدني تعال ورائي.
    ولم تكن في حاجة إلى تحديد اسم الطبيب صاحب العيادة، فالقرية ليس فيها إلا طبيب واحد، وعيادة واحدة!!
    وأخذ زوجها ـ ابن الثامنة والعشرين ـ أباه وذهبا وراء «هيفاء»، أم الطفلين ماجد وصبري.
    ***
    في العيادة الفقيرة ـ بجوار المستشفى الحكومي ـ الذي يعمل فيه الطبيب «عامر»، وفي حجرة مبنية من الطوب اللبن، ومؤثثة تأثيثاً ريفيا فقيراً، ليس في مستوى العيادات الموجودة في المركز أو المحافظة، قال لهم الطبيب الشاب، الذي عرفت القرية أنه من القاهرة:
    ـ العملية سهلة إن شاء الله، وتطيب الأستاذة «هيفاء» منها في أقل من أسبوع، وستبقى تحت ملاحظتي ثلاثة أيام فقط.
    وحينما قال الأب:
    ـ ألا نستطيع أن نؤجلها أسبوعين حتى يمر العيد؟
    أظهر الطبيب علامات الجد على محياه، ورفع النظارة الساقطة على أرنبة أنفه وهو يقول:
    ـ إن شاء الله تشفى منها في أقل من أسبوع ـ كما قلت لكم ـ وتعود إلى البيت وتعمل الكحك والبسكويت للأطفال!
    ***
    في شهر نوفمبر الماضي أتى إلى القرية هذا الطبيب، وهو ليس أول طبيب يأتي إلى القرية، فقد أنشئ المستشفى منذ سبعة أعوام (تم افتتاحه في عيد محافظة الشرقية القومي، 9 سبتمبر 1962م)، وجاء قبله طبيبان وطبيبة واحدة، ولكنه أول طبيب يفتتح عيادة بجوار المستشفى، وهو أول طبيب "جريء" يعمل جراحات للرجال ولأطفال والنساء!
    يقول أحمد ـ زوج هيفاء ـ مستسلماً لوالده:
    ـ إنه عمل أكثر من ستين عملية جراحية ـ كما علمت من ممرضه «إسماعيل» لم تخب واحدة قط! ، معظمها عمليات الزائدة الدودية، والحصوة، والقرحة، والبواسير، وختان الأطفال.
    ليلة مجيئه ـ لأول مرة إلى القرية ـ مرض شيخ القرية (محمد السعدي)، وزاره الطبيب في بيته، وقال له إن عنده الزائدة، وعليه أن يعملها الآن ولا يجب أن ينتظر حتى الصباح.
    وأجرى له العملية في المستشفى ـ وكان ذلك قبل أن يفتح «عيادة» له ـ ، وبعد يومين كان الشيخ (محمد السعدي) مثل الحصان!!
    ***
    حضر «صادق» شقيق هيفاء، وهو مهندس يعمل في مجلس المدينة، في سيارة المجلس التي يستخدمها في ذهابه وفي إيابه، ويستغني عن خدمات السائق أحياناً إذا كان يُريد السيارة في مهمة خاصة له.
    سلم على الجميع، واستفسر من الطبيب عن العملية، وقال للطبيب «على بركة الله». فهو رب الأسرة ـ بعد موت والده العام الماضي ـ وقال لأحمد ووالده:
    ـ لقد استشارتني «هيفاء» بالهاتف، وأنا في الشغل، وقالت لي إنها عملية سهلة، وسيُجريها الدكتور عامر بسهولة.
    قال الأب:
    ـ أية عملية؟ .. إننا لم نعلم بها.
    ـ إزالة لحمية من الأنف.
    ـ ولكنها تحتاج إلى طبيب أنف وأذن وحنجرة في الزقازيق أو المنصورة.
    قال صادق، وهو يدفع الهواء بقبضة يده اليمنى:
    ـ إنها عملية سهلة، يعملها الأطباء المبتدئون، بلا مصاعب!
    قال الأب، الذي يستشيره الناس في مشكلاتهم، ويُحكِّمونه في قضاياهم:
    ـ ولكنها عملية ليست ملحة، فلماذا تعملها الآن؟
    وأضاف في صوت خافت اجتهد ألا يُبين نبرات غضبه:
    ـ من الممكن أن تؤجَّل العملية لبعد العيد!
    قال صادق في حسم:
    ـ ولماذا نؤجلها، وهي لا تأخذ أكثر من عشر دقائق؟!!
    ***
    في داخل الحجرة التي لم تهيأ يوماً لأن تكون حجرة عمليّات، وعلي سرير مهترئ قديم ـ يبدو أن عمره أكبر من عمر المريضة «هيفاء» ـ ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً ـ أعطى الطبيب المرأة حقنة البنج المخدرة، ويبدو أن قلبها الواهن الضعيف لم يتحمل الحقنة، فأخذ يدق بعنف ثم توقف!!
    حاول الطبيب النابغ أن يُعطيها حقنة منبِّهة، ولكنها ماتت!
    لم يصدق الطبيب أن المريضة ماتت هكذا بسهولة.. ولم يصدق صادق الذي كان معهما داخل حجرة العمليات، أن «هيفاء» قد ماتت بمثل هذه السهولة، فأخذ يبكي بصوتٍ عالٍ، وتشنج الممرض الذي لم يشهد مريضاً يموت عندهم من قبل، وألجمته المفاجأة!
    سمع أحمد وأبوه صوت نشيج صادق، فدفعا الباب ودخلا. ما هذا؟!! لطفك يا رب؟ .. الزوجة التي كانت مصرة منذ دقائق على إجراء العملية، وثائرة، سكتت .. سكتت إلى الأبد!!
    «هيفاء» نائمة ميتة على سرير العمليات، لا حركة تصدر منها، والطبيب واجم .. وصادق والممرض يبكيان!
    ***
    في الليل أقيم سرادق العزاء، والممرض يجلس في زاوية من المضيفة ـ بين قراءتين للقرآن الكريم ـ يشرح للفلاحين، بصوتٍ خافت، حكاية الحقنة التي لم تتحملها «هيفاء»، والزوج ووالده يستقبلان المعزين، ويبدو أن المفاجأة ألجمتهما فلم يدمعا دمعة واحدة.
    قال أحد الفلاحين للمرض إسماعيل:
    ـ وماذا كان شعور أحمد؟
    ـ رجل .. لم يدمع دمعة واحدة .. حملها على كتفه مغطاة بعباءة والده، إلى سيارة صادق التي أعادتها للبيت.
    ـ العجيب في الأمر أنهما لم يُبلغا النيابة والطب الشرعي أنها ماتت ميتة ليست عادية!
    انتفض الممرض:
    ـ ومن قال ذلك؟ .. إن الطبيب «عامر» ماهر، من أمهر الأطباء، ولكن الأعمار بيد الله!
    قال منصور، وهو طالب في السنة الأولى بكلية الحقوق:
    ـ سألت أبا أحمد فقال لي ذلك؟
    قال إسماعيل:
    ـ ماذا قال؟
    ـ قال ما قلته: .. إن الطبيب ماهر، ولكن الأعمار بيد الله!
    ـ هل جاءكم كلامي؟
    أضاف منصور مستغرباً:
    ـ العجيبُ أن والدي يُدافع عن الطبيب. قال لي منذ ساعة: أنا عملتُ عنده عملية صعبة ونجَحَتْ، ولكن الأستاذة هيفاء عمرها هكذا!
    ***
    في صباح اليوم التالي جاءت النيابة وجاء الطبيب الشرعي ـ وتتهم أسرة هيفاء منصوراً بأنه هو مَنْ كان وراء إخراج هيفاء من المقبرة وتشريح جثتها، ويقول منصور إنه لم يفعل شيئاً، لكنه يؤكِّد أن الطبيب الشاب استُدعي للتحقيق، وثبت من التحقيق أنه لم يأخذ تصريحاً بافتتاح عيادة، أو إجراء عمليات جراحية، ـ ويبتسم منصور مقرراً ـ رغم أن والده عمل عملية جراحية مرّت على خير ولم يمت فيها!، ـ بصوتٍ عالٍ: إن هذا الطبيب ممارس عام، لم يتخصص بعْدُ، وليس من حقه أن يعمل عمليات جراحية، لكنه كان يقول لكل متردد على المستشفى «عندك عملية الزائدة الدودية» و«يلهف» منه سبعة جنيهات!!

    المساء 19/4/1970م

  6. #16
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    --------------------------------------------------------------------------------

    رحلــة أخـــــــــرى

    قصة: د. حسين علي محمد

    خلعت «صابرين» حذاءها .. مسحت المكان بعينيها .. اختارت منضدة ترتفع نصف متر .. صعدت فوقها.
    الموسيقى تنبعث شجية خافتة، لكنها سرعان ما تعلو شيئاً فشيئاً .. وتحاكي صوت أغنية «أنت عمري» لأم كلثوم، بموسيقاها الراقصة التي تألفها آذان الجميع.
    يتلوى جسدها الثعباني.
    الأكف تشتعل بالتصفيق ..
    تشعر لغثيان حينما ينبعث صوت المغني المخنث من المسجل.
    ما الذي أصابها اليوم فقيّد خطواتها فل تعد تتخطّر كمهرة؟ .. إنها لا تشعر بالرقصة، ولا تستمتع بها كما كانت تستمتع طوال الليالي الماضيات.
    ثلاث سنوات تتربّع على عرش الرقص الشرقي، اختارت ملهى «ليالي الجنة» لأنه ينفرد بتقديم الراقصات وحدهن، مع مغنين مجهولين يغنون لهن الأغنيات ذات الموسيقى الراقصة!
    ما الذي أصابها فجعلها لا تشعر بلذة أو جمال في الموسيقى والغناء، وفي هذا الذي تفعله من حركات يبتسم لها الرجال والنساء شبه العاريات؟!
    أنّى تنظر ـ في كل ناحية ـ ترى أختها التي ماتت أمس، وترى أباها الذي رحل منذ خمسة أعوام بلحيته الخفيفة البيضاء وبسمته الهادئة التي تغمر المكان؟
    ماتت أمها وهي طفلة، ومات أبوها ولم تبق لها إلا أختها « عبلة» .. وهاهي عباة قد ماتت قبل أن تحصل على الثانوية العامة.
    تزداد الموسيقى صراخاً .. لكنها لا تشعر بها .. تهبط من فوق المنضدة .. وتدل إلى حجرتها القريبة، وتمسح أصباغها بالمنشفة قبل أن تغسل وجهها!
    مسئولو الصالة يعجبون مما فعلته «الملكة» .. والمدير يصرخ: لماذا لم تُتم عرضها؟ .. لكن النور الدّاخلي كان يُغمرها .. فلا ترد على استفساراتهم الصارخة.
    تكلموا كثيراً دون جدوى.
    كانت مشغولة عنهم بما تراه رأي العين؛ فأختها عبلة تفتح أحضانها الطاهرة لاستقبالها، ووجه أبيها المبتسم يملأ المكان .. والجنة ـ الجنة الحقيقية ـ تُناديها!
    الرياض 31/5/2002م

  7. #17
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    في المدى قنديل يضيء

    قصة: د. حسين علي محمد

    (1)
    ها نحن جميعاً قدْ خرجنا من سجون السلطة، وتبوّأنا المناصب، وكان الوقوفُ خلفَ الحكم الوطني وتأييده مدخلاً لنا .. في المشاركة في حكم ثوري حلمنا به منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، بل منذ ثورة 1919.
    صار أحدُنا رئيساً لقطاع السينما، وصار الثاني مشرفاً على هيئة المسرح، وثالث رئيساً لمجلس إدارة إحدى الصحف، وهاأنا قد صرتُ مديراً للرقابة على المسرح.
    أنا واحد منهم ومعهم، فلماذا يتهمونني بالتحمس لنص «الأستاذ وتلميذه» .. الذي كتبه رفيقنا القديم حسام منير الذي أخذ بأيدينا جميعاً إلى دروب النضال، وعلمنا كيف نحلم بالتقدم، والغد؟! .. لكنه بعد قضاء عدة سنوات بالسجن، ترك القاهرة وعاد إلى طنطا، ليُدير مدرسة إعدادية، وهو على مشارف الخامسة والخمسين، يعيش وحيداً دون زوجة أو ولد، فقد ماتت زوجته وهو في السجن، ومات ابنهما الوحيد من عدة أعوام تحت عجلات سيارة طائشة!! .. موت أقرب إلى الاغتيال.
    اختار أن يكون قنديلاً بعيداً يُضيء درباً ما من دروب الوطن الرحب، والمُترامي الأطراف.
    يقول عنه أحباؤه وعارفوه إنه شمس ٌ تُضيء المدى، في تجرد وإخلاص نادرين.
    (2)
    قدّم حسام منير نصه المسرحي منذ ثلاثة شهور، ووضع له عنواناً صارخاً «لماذا انهزمنا؟»، فاقترحتُ عليه أن يعدِّله، فكتب فوقه بالقلم الجاف «الأستاذ وتلميذه».
    قالت لي جميلة عودة:
    ـ لماذا لا يريدون عرض هذا النص المسرحي الجميل، الذي قرأته في جلسة واحدة، فرأيته يضع يديه على الجرح الذي سالت منه دماء غزيرة؟
    فصمتُّ!
    أضافت:
    ـ .. لعل السبب أنه مازال مُحافظاً على انتمائه الحزبي، لذلك الحزب السري، ولم ينضم معنا ـ أو مع قوافل المنضمين ـ للاتحاد الاشتراكي.
    وخرجت إلى مكتبها لتُجري مهاتفة.
    .. لم تعرف المسكينة أنه ترك الحزب الشيوعي، وفارقه للأبد!!
    قال لنا الأستاذ حسام منير حينما سألناه بعد الخروج من السجن من ثلاثة أعوام:
    ـ لماذا لا تجيء معنا إلى الاتحاد الاشتراكي؟
    ـ أنا سأعود إلى طنطا لأربي أجيالاً مؤمنةً تصنع الغد، وأقرأ التاريخ الذي هو حبي ومهنتي.
    ـ والعمل السري؟
    ـ كفرتُ به بعد أن رأيت من تاجروا به يصلون إلى المناصب، ويتمسكون بها كأنها غاية المراد من أحلام العباد.
    ـ وما رأيك في الانضمام إلى حزب عبد الناصر؟
    ـ تقصدون الاتحاد الاشتراكي؟
    ـ وهل هناك غيره؟!
    يرجع برأسه إلى الوراء، ويضحك ضحكة مشروخة، ويضرب يده اليمنى باليسرى لتُحدث فرقعة صاخبة:
    ـ إنه لا حزب ولا يحزنون.
    ويُضيف مكتئباً:
    ـ إنه شيء .. بلا لون ولا طعم ولا رائحة!
    قلت مبتسماً، وأنا أضع فمي على أذنه:
    ـ هل ستكوِّن خلايا شيوعية جديدة؟
    انتفض كمن به مس:
    ـ لم أعدْ شيوعيا يا أستاذ!
    فاجأتني لهجته، فتلفتُّ حولي، وقلتُ له:
    ـ اطمئن .. لم يسمعنا أحد!
    قال مبتسماً:
    ـ يا أستاذ أنا لم أعد شيوعيا!
    قلتُ له:
    ـ هل أثَّر فيك الإخوان في المعتقل؟
    ـ لستُ منهم، لكنهم ـ كثَّر الله خيرهم ـ أوقدوا فيَّ شمعة الإيمان من جديد! .. وأعادوا لي الأمل في الحياة في ظلال العقيدة!
    (3)
    هانحن ـ في منتصف أبريل 68 ـ نجتمع لقراءة نصه الذي يبدو عند البعض مُلغزاً ومثيراً، بعد هزيمة يونيو القاتلة، و«بيان مارس» الذي أذاعه عبد الناصر، وخطط فيه بجرأة وطموح للمستقبل.
    أقول: فلنبْدأ به .. بإبداء المُلاحظات على النص، أو تلقي آراء من طالعوه.
    لكنهم يضحكون، ولا يريدون أن نقرأ شيئاً، ويقترحون الرفض، وبلا سبب!
    الرفض بدون قراءة لنص أستاذهم الذي علمهم كيف ينظرون إلى الغد؟ .. لماذا؟
    لأنه رفض أن ينضم إلى الجوقة؟!
    أم لعودته إلى الدين؟
    ...
    النص يدور حول ثوريين قديميْن، يتاجران بهموم الناس، ويلوكان كلمة «الاشتراكية» بإدمان غريب، ويبيعان الكلام في سوق أشبه ما تكون بسوق نخاسة عصريٍّ!
    لماذا يخاف من النص الرفاق السابقون الذين يتربّعون على قمة هرم السلطة؟! ويتعاونون ـ أو هكذا يقولون ـ مع أركان نظامٍ يُحاولون ابتلاعه إذا وجدوا الفرصة الملائمة لذلك .. والنظام يستعصي على مُحاولاتهم!!!
    ظل النظامُ قادراً على الانتماء لتراب هذه الأرض.. وحتى وهو يترنَّح بعد الهزيمة، لم ينس أن الرفاق انضموا إليه بصعوبة، وكانوا يؤثرون أن ينضموا إليه كمنظمات لا أفراد!
    هل النصُّ يفضح هؤلاء حقيقة كما قالت لي أمس جميلة عودة رئيسة لجنة القراءة ومساعدتي (مساعدة مدير الرقابة)؟!
    يضحك الناقد الجامعي البدين (الدكتور سعد زهران)، القارئُ المتعاون، الذي كان رفيقاً لنا من قبل. وهاهو في رجعيته المقيتة يدَّعي أنه يُحافظ على أخلاق الشعب من الانهيار الذي ستأتي به مسرحية، بطلها رجلان ينهبان الشعب ويتشدقان بالكلمات الكبيرة التي لا تُشبع جائعاً، ولا تُشارك في صدِّ هجوم الصهاينة الذين يستحمون الآن في قناة السويس!
    .. متى كانت لك أخلاق يا وغْد؟!!
    وهل ترفض نص الأستاذ حسام منير لأنه يفضح أمثالك من المتسلقين، الذين لا يُبصرون إلى مدى أكثر من رغباتهم الشخصية؟
    يقول:
    ـ كان من الأفضل أن يجعل في المسرحية بطلةً من الطبقة الكادحة .. تغسل في البيوت حتى تربي أولادها، ومخدومها (أو أستاذها) يريد الزواج منها، لأنه معجب بكفاحها!
    أو يكتب عن عامل أو فلاح ابنه يُقاتل على الجبهة.
    قلتُ في لومٍ لهم:
    ـ اكتبوا أنتم هذا النص .. أو هذه النصوص لنقدمها على مسرح الدولة .. نحن تقرأ نصوصاً ولا نقترح موضوعات!
    تخرج جميلة عودة .. وينفضُّ الرفاق مصرين على الرفض دون قراءة، ويبقى صبري جميل وسعد رمضان.
    صبري يغني لرمضان أغنيته المفضلة:
    ـ ماذا يشغلك الآن يا سعد؟!!
    ـ لا شيء!
    ـ كنتُ أريد أن أسألك ..
    ـ تفضل ..
    يسأل في صوت هادئ، كمن يُحدث نفسه:
    ـ ماذا يريدُ أن يقول صراحةً هذا النصُّ الذي رفضناه؟
    ينفعل سعد رمضان، ويندفع خارجاً من الباب:
    ـ إنه يفضحنا يا صبري .. ولذا كان لا بد من رفضه.
    .. وصبري يسألني غير مصدق:
    ـ هل يقول ذلك حقيقة؟
    أجبتُ، وأنا أحاول أن أخفي غضبي:
    ـ لا أدري؟ ..
    قال في ود حقيقي:
    ـ عمّ يتكلم إذن؟
    ـ إنه يرينا أستاذاً وتلميذه وهما يتكلمان ويتكلمان ويتكلمانِ .. دون أن يفعلا أي شيء .. أي شيء .. أو أي فعل حقيقي؟
    قال صبري ضاحكاً:
    ـ وما الضرر في كلامهما؟ .. لقد تكلمتُ أنا أيضاً مع الأستاذ حسام منير من يومين هاتفيا، وطلبت منه أن يعود إلى القاهرة، وطلبتُ منه أن يتزوّج شغّالة مسكينة تعمل عند جاري، بدلاً من أن يُضيع حياته في طنطا، يُعلِّم الأطفال! .. وضحكنا وتبادلْنا كثيراً من النكات!!
    .. ويقلب صفحات النص ـ دون قراءة ـ ويقول في اشمئزاز ظاهر:
    ـ مسكين!! .. سيضيع عمره في الكلام .. أضاع معظمه في الحديث والتبشير بالشيوعية .. وسيُضيع القليل الباقي في ذمِّها، وهو يُحاول أن يُخرجُ أفضل ما نسمعُ من كلماتٍ ثوريّةٍ؟!!
    قام في تثاقل يستأذن:
    ـ أنا أقسم لك أنني لم أره منذ إغلاق خليج العقبة قبل حرب الأيام الستة، منذ أحد عشر شهراً تقريباً، وهو ـ كما يبدو ـ مكتئب .. لماذا يكتب إذن إذا كانت كلماته تشبه الطعنة فينا أو تُشبه شهادة الزور ونحن تلاميذه؟!
    قلتُ معترضاً:
    ـ أولاً أنت لم تقرأ النص لتحكم عليه، وثانياً: ألم تقل من دقيقة واحدة إنه كان يتبادل النكات معك أمس؟
    قال وكأنه بوغت:
    ـ أنا الذي كنتُ أقول النكات في الهاتف، وكان يُشاركني الضحك أو التعليق.
    قلتُ له وأنا أشعر بغثيان:
    ـ لماذا تخافون من النص وصاحبه قد ترك القاهرة لكم، وذهب إلى موطنه في طنطا، وترك لكم الجمل بما حمل؟!
    .. ولم يُجب!!
    .. استأذنتُ منه، وأغلقتُ النص المسرحي، وغادرتُ قاعة الاجتماع التي كانت تفوح منها رائحةُ اغتيالٍ خبيثة!!

    ديرب نجم 20/8/2000م

  8. #18
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    النظر إلى الخلف

    قصة: د. حسين علي محمد

    كان مرتدياً جلبابه الفلاحي المتسع، في ذلك الصباح الشتوي من يناير، واضعاً يديْه خلف ظهره .. يمشي مشية متئدة حتى لا يظهر العرج الخفيف الذي أصاب خُطاه بفعل داء «النقرس» اللعين، تصحبه زوجته وقد هبطا درج العمارة الكبيرة حيث زارا ابنهما الوحيد المهندس «طلحة» لتهنئته بافتتاح مكتبه الهندسي، الذي افتتحه بعد عودته من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الهندسة. ذلك المكتب الذي يعمل فيه معه مهندس ومهندسة وأستاذ استشاري كبير.
    توقفت زوجته «الدكتورة منى» ـ الأستاذة بكلية الزراعة، والمعروفة في المنطقة ـ عن المشي لتكلم سيدة استوقفتها. يبدو أنها تُريد مساعدتها في شيء، أو تسألها عن نتيجة ابنها أو ابنتها في الفصل الدراسي الأول.
    قلل خطواته لتلحق به زوجته دون مشقة، بعد أن تنتهي من أمر هذه السيدة.
    الزقازيق التي كانت تبدو كقرية كبيرة أيام أن كان طالباً بالمرحلة الثانوية في منتصف الستينيات .. ها هي تتسع وتتسع في السنوات العشر الأخيرة التي ترك فيها جامعته مستقيلاً، وذهب إلى الإمارات ليتخفف من الصراعات والمشاكل التي كابدها في جامعته التي أسسها.
    سمع صوت السيدة التي استوقفت زوجته يأتي من الخلف:
    ـ الدكتور محمود الأنصاري؟
    رد في تلقائية، دون أن يترك لزوجته فرصة الرد:
    ـ نعم يا أفندم، محمود الأنصاري.
    نظر، وجد امرأة سمراء عجفاء تُقارب الخامسة والخمسين. ظنها لأول وهلة سائلة، فأدخل يده في جيبه ليُخرج صدقة تليق به، ليُعطيها .. ضحكت:
    ـ أنا سميرة عاكف.
    أخرج يده من جيبه بسرعة، وضرب جبهته كأنه يوقظ ذكريات مر عليها أكثر من ثلاثين سنة.
    ـ ياه .. ليس معقولاً؟
    صافحها بحرارة، وهو يقول لزوجته:
    ـ كانت سميرة زميلتي في كلية الاقتصاد من ثلاثين سنة. كانت مع أول دفعة التحق بها أبناء الفلاحين بعد هزيمة 67.
    وقال وهو يؤكد على كلماته:
    ـ لكنها ليست فلاحة! فأبوها كان مدير أمن الشرقية الأسبق.
    ضحكت سميرة، فأنارت ضحكتها وجهها الأسمر، وهي تقول في حرج:
    ـ مازلت تتذكر؟
    كاد أن يكمل «كان نفسي أشوفك يا سميرة من زمان» .. ولكنه كتمها في فمه!
    ومر في فكره أنه توجه إليها خاطباً بعد التخرج، ولكن والدها لواء الشرطة (اللواء محسن عاكف) أوصد الباب في وجه ابن الفلاح الصغير.
    قال لها مبتسماً ابتسامةً عريضة اعتاد أن يراها من يعرفه كلما تحدّث:
    ـ إلى أين أنت متجهة؟
    أشارت إلى الطابق الرابع من العمارة التي هبط منها:
    ـ طالعة لرؤية ابنتي المهندسة «شيرين» التي تعمل في «مكتب طلحة للاستشارات الهندسية».
    صافحها متعجلاً، ولم يسأل زوجته إذا كانت تعرف سميرة أم لا؟
    ووجد ريقه يجف، فلم يسأل سميرة:
    ـ أتعرفين أن طلحة ابني؟.
    مشى عدة خطوات، ووجد زوجته مشغولة بتصفح واجهات المحلات، فنظر إلى الخلف خلسةً، ووجد سميرة أيضاً تنظر خلفها!

    الرياض 5/3/2004م

  9. #19
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    بلا دموع ...!

    قصة: د. حسين علي محمد

    دعا حسام الله أن تكون خطيبته هند مع أمها فقط في البيت، وأن يكون أخوها عمر مدرس الفيزياء في مدرسة القرية الثانوية ـ الذي يكبرها بعامين قد ذهب لحصة دروس خصوصية صيفية، وتمنى أن تفتح هي الباب، حتى ينعم بنظرتها التي يُحب أن يراها دائماً.
    أما والدها المهندس عثمان فهو متأكد أنه لن يراه، فهو يعمل في شركة بترول بالصحراء الشرقية، ولا يعود إلا كل شهر مرة ليُمضي مع أسرته عشرة أيام، وهو قد سافر منذ عشرة أيام لا غير.
    لكن الله لم يستجب دعاءه، فقد فتحت له الحاجة عنايات (أو أم عمر) الموجهة المالية والإدارية بإدارة الزقازيق التعليمية.
    ***
    قدّمت أم عمر الشاي لحسام وابن خالته صدقي ـ وهو محاسب بإدارة المنصورة الهندسية، وأشيب، وفي الخامسة والأربعين ـ ولاحظ حسام أن أم عمر متوترة، وأن بريق دمعتين منطفئتين في عينيها.
    قال:
    ـ أين هند؟
    ـ في الإسكندرية.
    ـ لماذا سافرت وحدها؟ .. اعتادت ألا تسافر إلا معي أو مع الأستاذ عمر.
    قالت أم عمر في آلية:
    ـ الإسكندرية قريبة.
    بلع ريقه في صعوبة:
    ـ ومتى ستعود إن شاء الله؟
    ـ قبل نهاية الإجازة بأسبوع.
    نحن في أول الإجازة .. فهل ستُمضي شهريْن عند خالها في الإسكندرية؟ .. وكيف سيقضي هو هذه الفترة العصيبة؟
    ***
    دخلت أم عمر إلى الحجرة المُجاورة، وعادت وهي تحمل حقيبة يد سمراء كم رأى هند وهي تحملها في كتفها، وكم وضع لها بعض الورود فيها، وهما يمشيان معاً في الزقازيق.
    خطبها منذ عام، وقدّم شبكة متواضعة من دبلتين: ذهبية لها وفضية له، وابتدأ يجمع القرش إلى القرش حتى يُؤثث شقته المتواضعة ـ التي تتكوّن من حجرتين ـ في الزقازيق.
    كانت هند غير راضية بها، لكنها تعرف أن العين بصيرة واليد قصيرة وسيستأجران ـ فيما بعد ـ شقة أخرى تكون أوسع من تلك التي كجحر الثعلب، ولا تزيد عن سبعين متراً.
    حسام وهند من قرية لا تبعد كثيراً عن الزقازيق، كانا في مدرسة واحدة منذ المرحلة الابتدائية، فالإعدادية، فالثانوية. وكانا يتنافسان دائماً على المركز الأول. والتحقا بكلية التجارة، وهاهما قد تعيّنا معيديْن منذ ثلاثة أعوام.
    كانت حكاية حبهما على كل لسان منذ نهاية المرحلة الثانوية.
    ***
    جلست أم عمر على الكنبة، ووضعت الحقيبة بجانبها.
    قال حسام:
    ـ لم تقل لي هند أنها ستُسافر لزيارة خالها الباشمهندس محمود في الصيف.
    جو القرية خانق .. يحس برائحة خانقة .. لعلها رائحة يد حلة محروقة، تختلط برائحة سمك نفّاذة .. يبدو أنها منبعثة من البيت المواجه الذي يبعد ثلاثة أمتار فقط عن الحجرة التي يجلسون فيها.
    قال صدقي لحسام وهو يميل على أذنه:
    ـ عجِّل .. أحس برائحة غير طيبة تملأ المكان!
    يبدو أن أم عمر قد سمعت المُلاحظة، فبدا على وجهها ما يشير إلى الامتعاض.
    قال حسام:
    ـ ولماذا لم تقض الصيف هنا؟
    قالت أم عمر:
    ـ ابن خالتها الدكتور محسن عاد من أمريكا .. وذهبت لتسلم عليه .. وأنت تعلم أن شقة الدكتور محسن تُواجه شقة خالها محمود.
    كان محسن يكبره بأربعة أعوام تقريباً، وكان الأول على مدرسة القرية دائماَ.
    تذكَّر أنه حينما توجه لخطبتها منذ عام سمع من أحد فلاحي القرية أن هنداً على علاقة بمحسن ابن خالتها.
    قال ـ وهو يبلع ريقه بصعوبة ـ ولا يكاد هو نفسه يسمع صوته:
    ـ لقد عاد من أمريكا بسرعة!
    قال صدقي وهو يبتسم:
    ـ بل الأيام هي التي تجري بسرعة!
    قالت أم عمر وهي تؤكد على حروف كل كلمة، وتهش بيدها اليسرى ذبابة تُصر أن تقف على أنفها:
    ـ نال الدكتوراه في زمن قياسي.
    رأته ينظر في الأرض ويفرك أصابعه، فأضافت:
    ـ حصل على الشهادة في عامين ونصف، وكانت جامعة الإسكندرية قد أوفدته في بعثة لخمسة أعوام.
    سأل صدقي الذي يُقيم في المنصورة من خمسة وعشرين عاماً ـ وهو من جيل أم عمر، ولا يعرف معظم أبناء القرية:
    ـ الدكتوراه في الطب؟
    قالت الموجهة المالية:
    ـ لا .. في علم الاجتماع السياسي.
    ***
    تذكر حسام أن هنداً في لقاءاتهما الأخيرة كانت تكلمه عن ابن خالتها «محسن» كثيراً، وأنها كفَّت عن غناء أغنية أم كلثوم الأثيرة «الأطلال» التي كانت تغني مقاطع منها كلما تُقابله في حديقة الجامعة، وتشتبك أيديهما معاً.
    رفع حسام كوب الشاي فوجده بارداً، وكان ابن خالته «صدقي» قد انتهى من كوبه.
    قال للسيدة أم عمر وهو يهم بالقيام:
    ـ لقد تأخَّرنا .. تُصبحين على خير .. سلمي لي على الأستاذ عمر حينما يجيء.
    قالت في آلية:
    ـ سيأتي بعد قليل .. ألا تنتظره؟
    ـ الوقت متأخر كثيراً ..
    وأضاف وكأنه يتخلص من الكلمات:
    ـ سأراه في زيارة تالية إن شاء الله.
    مدَّ يده ليسلم عليها، ولكنها كانت مشغولة بفتح الحقيبة السوداء، التي أخرجت منها علبة قطيفة حمراء .. علبة لا يجهلها، وفتحتها قليلاً فرأى دبلته لهند.
    أغلقت العلبة، ووضعتها في ظرف أبيض، وقالت ـ وكأنها تؤدي مهمة رسمية ـ بلا مشاعر:
    ـ هذه رسالة من هند لك.
    أغمض «صدقي» عينيه وتحرك خطوتين إلى الأمام ليُغادر الحجرة، ولم يسألها «حسام» ماذا في هذه الرسالة؟ ومدَّ يده أمام أم عمر ليخلع دبلته الفضية، ويضعها في الظرف نفسه، ويُمرر لسانه على حافة الظرف ليلصقه بهدوء، ويضعه في جيب بنطلونه الخلفي .. بلا دموع!

    ديرب نجم 17/8/2003م

  10. #20
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    العمر : 57
    المشاركات : 77
    المواضيع : 14
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    أم داليا

    هل أنا أم .. أم قاتلة محترفة؟
    أنا الأستاذة الجامعية التي أدرس علم النفس، وأرصد السلوك البشري وأحلله.
    استيْقظتُ ذات صباح لأجد نفسي في مأزق رهيب .. فضيحة لا يمكن معايشتها! ..
    ابنتي الوحيدة داليا .. التي ترمّلتُ عليها قبل ولادتها، فقد عاش أبوها ـ ضابط المظلات ـ سبعة أشهر معي، قبل أن يموت بسكتة قلبية .. وهو في عز شبابه.
    فاجأتني ابنتي المهندسة الشابة، التي تخرجت منذ عاميْن وعملت في الإدارة الهندسية ـ في مجلس المدينة ـ منذ خمسة أشهر، حين قالت: إنها حملت سفاحاً من الشيطان!
    استدعيتُ عمَّها «سعفان» شيخ قرية الصوالح لنتدبّر فيما فعلتْ الكلبة، فذبحها أمامي، وقفل عائداً إلى قريته!
    لم يره أحد في مجيئه أو ذهابه، فاتهمني الجميع أنني القاتلة! ..
    لم أجد أدنى رغبة في دفع جريمة القتل عني ..
    قلتُ:
    ـ تهمة لا أدفعها، وشرف لا أدّعيه!
    حينما حكم القاضي عليَّ بسبعة أعوام سجناً تحدّرت دمعتان من عيني:
    دمعة إشفاق على ابنتي التي لم أعايشها بما فيه الكفاية فسقطت، ودمعة حزن .. لأني لم أر الشيطان مقيَّداً ذبيحاً! ...

    الرياض 5/1/2002م
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. احلام مستحيلة للقا ص/ على
    بواسطة صادق ابراهيم صادق في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 17-07-2013, 12:41 AM
  2. حوار للدكتور حسين علي محمد في العدد الجديد من «المجلة العربية»
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 19-02-2007, 09:16 PM
  3. عالم مجنون مجنون مجنون ،، للشاعر عبد الرحيم محمود
    بواسطة عبد الرحيم محمود في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-12-2006, 04:10 PM
  4. سمير الفيل يكتب عن مجموعة «مجنون أحلام» للدكتور حسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-05-2006, 11:10 PM
  5. قراءات في مجموعة «أحلام البنت الحلوة» للدكتور حسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 22-04-2006, 11:12 PM