شعرية القصة في «مجنون أحلام» للدكتور حسين علي محمد
بقلم: جمال سعد محمد
يعتمد النصُّ الأدبي ـ في وجوده كنص أدبي ـ على شاعريته، على الرغم من أن النص يتضمّن عناصر أخرى، لكن الشاعرية هي أهم سماته وأخطرها. وقد توجد الشاعرية في نصوص غير أدبية (أو نصـوص لم يقصد منشؤها أن تكون أدباً)، فهي ليست حكراً على النص الأدبي، لكنها تستأثر به ويستأثر بها، لأنها سبب تلقيه كنص أدبي، وبدونها لا يحظى النص بسمته الأدبية. والنص يأخذ بتوظيف الشاعرية في داخله ليفجر طاقات الإشارات اللغوية فيه، فتتعمق ثنائيات الإشارات وتتحرّك من داخله لتُقيم لنفسها مجالاً تفرز فيه مخزونها الذي يُمكِّنها من إحداث أثر انعكاسي يؤسس للنص بنية داخلية تملك مقومات التفاعل الدائم، من حيث إنها بنية ذات سمة شمولية قادرة على التحكم الذلتي بالنفس، ومؤهَّلة للتحول فيما بينها، لتوليد ما لا يُحصَى من الأنظمة الشاعرية فيها حسب قدرة القارئ على التلقي.
والنص الأدبي ينشأ حسيا مثل نشوء أي نص لغوي، وذلك بارتكازه على عنصري الاختيار والتأليف، ولكن حالة الأدب تختلف عن غيرها من حيث إنها تستل مبدأ التوازن من محاور الاختيار إلى محاور التأليف. وهذه أولى وظائف الشاعرية في حرف النص عن مساره العادي إلى وظيفته الجمالية، وهي عملية انتهاك متعمد لسنن اللغة العادية.
ويرى حازم القرطاجني في «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» أن اللغة هي لب التجربة الأدبية وهي حقيقتها، وأن الإبداع يكمن في توظيف اللغة توظيفاً جماليا يقوم على مهارة الاختيار وإجادة التأليف، فيقول:
«إن القول في شيء يصير مقبولاً عند السامع من الإبداع في محاكاته وتخييله على حالة توجب ميْلاً إليه أو نُفوراً عنه، بإبداع الصنعة في اللفظ، وإجادة هيئته ومناسبته لما وُضِع بإزائه»(1).
*شعرية القص:
وفي مجموعة «مجنون أحلام» للأستاذ الدكتور حسين علي محمد، تتكوّن القصص من عالم مهول من العلاقات المُتشابكة، يلتقي فيها الزمن بكل أبعاده، حيث يتأسس من رحم الماضي وينبثق في الحاضر، ويؤهل نفسه كإمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آتية.
والقصة في «مجنون أحلام» علاقة من عناصر الاتصال اللغوية يتحد فيها السياق مع الشفرة لتكوين الرسالة ويتلاقى الباعث مع المتلقي في تحريك الحياة وبعثها من جديد.
واللغة في «مجنون أحلام» ليست مجرد وسيلة للتعبير عن العواطف أو مُحاكاة الواقع، وتُعد التركيب المتميز لأجزاء الكلام والقافية والإيقاع والمفردة الخاصة وغيرها من تقنيات الشعر ووسائل تحقق اللغة من خلالها دفع نفسها إلى المقدمة، بحسبانها مركز النص الشعري وهو ما يجعل الأسلوب الأدبي المترتب على هذه النظرة ميالاً إلى التجريب اللغوي وكسر القاعدة المعيارية، بحثاً عن شرارة الشعر التي لا تنبثق إلا بحصر الاهتمام في مستوى اللغة والتعامل تجريبياً معه.
من هنا تُصبح اللغة أكثر عمقاً وقابلية للتأويل والكشف، وتضحي خصاصها أكثر طواعيةً للتساؤل إذ أنّ اندماج هذه اللغة مع العناصر الشعرية سيُفسح المجال حيال القارئ ليستبطن أكثر، ليُعيد إنتاج الخطاب السردي بشكل أكثر فاعلية.
في قصة «عكرمة يرفع السلاح» يقول:
«كانت الصافنات تُغني في المساء الأخير، أغنيتها الأثيرة، التي رددتها كثيراً في الأيام الأخيرة، مناديةً من لا أُبصره:
أيها المستجير من الرمضاءِ بالنار ..
لا تترك السيف
لا تخلع الدرع
أنت في قيامتك الكبرى
رايتك مرفوعة للريح
والغريب مدجج بالخراب
وخطواتك لن تقتلعها الريح
لك موتُ يجدرُ بشهيد»(2).
الكاتب هنا لا يكتفي بأن يُصبح السرد حاملاً لأحداث، ناقلاً لها، بل إنه يُعطيها طاقةً من المستويات، فتجمع بين الشعري والنثري الرائق، ذلك أنها تُغني النص، وتُضيف إليه تأويلات ودلالات جديدة، بالإضافة إلى كثافة الرموز وكثافة الحدث، وكثافة الرؤية.
إن القصة هنا تكشف عن نفسها من لغتها الشعرية، التي لا تكون فقط هي الأحداث المتنامية في تطور مطرد، بل تساهم في تعميق الدلالات الفكرية والنفسية، وفي تشكيل الدلالة العام، فتصبح القصة محملة بشحن فلسفية قوية ترى العالم برؤية جديدة، ويُصبح النص استنفاراً للعقل، يعمل ويفكر ويُحلل لفك الرموز وكشف المغاليق.
والدكتور حسين علي محمد في هذه المجموعة يُمارس شعريته هو، ويُضفيها على الخطاب، مما يمنح السرد عُمقاً آخر، ويتحوّل إلى عنصر ديناميكي يستثير التأويل ويُخاطب البنى العميقة في العقل البشري.
ومن جهة أخرى فشعرية الخطاب السردي في قصص المجموعة تتطلب من القارئ البحث عما يُميز هذا الخطاب من انفعالية اللغة وعاطفيتها.
في قصة «الباذنجانة الصغيرة» يقول:
« الباذنجانة الصغيرة البيضاء
معلقة في يد الطفل الصغيرة
ويده الثانية
متشبثة بفستان أمه.
تمشي معتدلة كمهرة برية تتخطر.
وتجري خُطاه الصغيرة، حتى يظل ممسكاً بذيلها!
تجري خطاه الصغيرة.. وتجري
لا يلتفت إلى الباذنجانة التي قضم منها قضمةً واحدةً..
.. هوتْ إلى الأرض مباغتةً
لم يُحس بها، ولم يلتفت إليها!»(3).
لغة القاص على هذا النحو تسعى لخلق إيقاعاتها الخاصة ورؤاها الخاصة، وتظل اللغة الشعرية بحثاً مستمرا عن هذه الرؤية الشعرية للعالم والناس والأشياء .. لغة لا تستقر على حال، وإنما هي دوماً في تشكل متواصل دائم. ثمة حركة دائمة من خلال العملية الإبداعية نفسها تصنعها اللغة في تكثيفها الشعري. واللغة في هذا النص تأخذ مساحة من الانحراف الدلالي على غير عادة لغة السرد المحددة الدلالة، المحكومة بخط سير يُحافظ على تنامي الأحداث في القصة.
إن اللغة الشعرية بهذا المعنى تُصبح متعددة الدلالات مُتعددة التأويل، وهذا هو السر وراء وصف لغة ما بأنها شعرية، إذ أنها تميل إلى مُخالفة الواقع وتعدد تأويلية قراءتها الذي يسمح للمتلقي بأن يُمارس وعيه مع النص، ويجد فيها ما يُناسبه من متطلبات لغوية وتعبيرية في الأساس. هنا لا يكون الاعتماد على الحدث هو مركزية القص، وإنما تكون اللغة في حد ذاتها نمطاً من أنماط الكتابة.
أي الاحتفاء بها، حيثُ لا تُصبح مجرد أداة إخبار بقدر ما تُصبح أداةً لفكرٍ وشعورٍ.
وفي قصة «ومضة الرحيل» ثمة احتفاء باللغة على نحوٍ ما، فالجملة مبتورة دائماً ـ إن جاز التعبير بمفهومه الجمالي ـ لا تسعى للقيام بوظيفتها في الحكي عن حدثٍ مسرود، بقدر ما تستثير أحاسيس الذات الساردة، ومن ثم المتلقي. يقول:
«حينما وقفا ـ عاريين، الرجل العزب والمرأة الجميلة الممتلئة ـ وحيديْن، في حضرة الراعي، بعدما دقّت أجراس الفضيحة .. تضاحك الرجال والنساء.
الرجال الذين قالوا إنهم يمشون على الصراط المستقيم، وتشبث كل منهم بمسبحته، كأنه ستشهد على طهارته.
والنساء اللاتي لم يضحكن ضحكة بريئة أبداً»(4),
فهذا النص الذي يُمثِّل جزءاً من قصة تحققت فيه المعاني والانحراف الدلالي، والتراكب اللغوي والمجاز، والخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي من وصف وحدث وسرد وتركيز على الرسالة وكسر القاعدة المعيارية للغة، وإسقاط مبدأ المُماثلة وهي جميعها سمات الشعرية واللغة الشعرية.
فالحدث المسرود ذاته اختار الكاتب أن يُقدمه من خلال لغة مشحونة متوترة قلقة، يخلط فيها بين الحكي ومُخاطبة المشاعر، بتقنية الكتابة الشعرية، وتتخذ الدلالة غياباً تاما في مرجعيتها.
وفي قصة «الحافلة التي لم أحلم بها» يتضح هذا الاحتفاء باللغة على نحو شعري في كثير من المقاطع التي تكشف عن هذا الشغف والاعتناء باللغة، يقول:
«تذكرت الفتى الواقف على الباب، الذي كان يدفع الجميع بمنكبيه وساعديْه، وزميله صاحب البنطلون الأزرق، الذي كان يدفعنا بظهره!! وكانا يتبادلان الضحكات والنكات، وثالثهم ـ الذي يتقاسم معهم الإيراد «محصِّل التذاكر»!!
وكان عليَّ ـ بعد حمد الله ـ أن أفكر في العودة بعد انتهاء محاضراتي في الحادية عشرة .. بعد ساعتيْن .. في آخر أيّام الدراسة!
عليَّ أن أقطع المسافة من الجامعة إلى لاظوغلي ـ وهي تقترب من الكيلو مترات الثمانية مشياً على الأقدام» (5).
ليست القضية هنا لعباً بريئاً في ماء اللغة على الدوام، وليس الأمر مجرد الحكي عن الذات، وهي تصف مشهداً من مشاهد الحية في شوارع القاهرة، إنها تحتاج إلى أن تتجاوز ذلك كله إلى تفجير ما في الواقع أو الفكر من شحنات كامنة، وذلك لا يتم بطبيعة الحال إلا بإغرائها لتخرج من كمونها في أدغال اللغة وتنميتها، وتوسعتها، وأخيراً إلباسها شكلها المادي المحكم، وهذا ما فعله الدكتور حسين علي محمد باستخدام اللغة الحميمة بالتأمل والشعرية عبر لغة سردية تبني الواقعة النصية، وتفصح عما تُضمره من حركة ونمو.
وعملية القص على هذا النحو قد تكون أكثر عمقاً في تبليغ دلالاتها مما تسعى القصة إلى الوصول إليه، فالنص الشعري ليس دلالة لملفوظ ما، ولا يسعى لإصدار حكم ما، بل هو في الغالب ذلك الملفوظ وقد تم صهره في كيان تعبيري همه اللغة وفتنتها حيناً، أو التناميات السردية بما تشتمل عليه من توتر ومراوغةٍ حيناً آخر
*شعرية الحوار:
وهو ملمح كان يُمكن دمجه في شعرية القص بوصفه ممارسة لغوية تتم عبر النص القصصي، إلا أنه تضمه قرينة خاصة به، فشعرية الحوار تنتج تبعاً لمشهد سردي قد يكون مُغايراُ للرؤية الشعرية، وتتجلّى تكويناته في حوار الشخصيات فيما بينها والحوار الداخلي في نفس السارد أو المسرود عنه، والحوار الهامشي الذي يُمكن أن ينتج عن تعدد التأويل أي الشعرية الحوارية التي تعمل في نفس المتلقي آن قراءته للنص.
وتتخذ هذه الحوارية أنماطاً لغوية تتنوّع بين المُجادلة والمُساءلة والسخرية والتهكم والتحريض والهجاء. وكل نمط من هذه الأنماط يُمارس تشكله عبر حوار الشخصيات والحوار الداخلي، ولكنه يتخذ اتجاهاً مُضادا على الدوام، أي يكون ناتجاً هذه المرة من المتلقي، وفي اتجاه النص.
ففي قصة «أحزان نادية» تتضح حوارية الذات مع نفسها، حوارية يُهيمن عليها الشعرية على نحوٍ ما:
«أصبح الشيب يغزو شعره.
ابتسمت ابتسامة خفيفة.
كنتُ أصبغ شعره كل أسبوع، بل إني صبغتُ شعره يوم زفافه على ناهد.
ـ أنت تحبينني بلا شك يا نادية!
ـ اسأل قلبك.
ـ لماذا إذن تُطارديِني في الجامعة والنادي وبيوت الأصدقاء؟
ـ أريد أن أُحافظ على صورتك كأستاذ جامعي!
ـ أنتِ أيضاً أستاذة جامعية؟
ـ هل تلومني على شدة حبي لك، ومحاولتي أن أحافظ على صورتك من عبث هذه العابثة؟
ـ أنتِ يا هانم .. كسرتِ الصورة! وزعمتِ أني أحب تلك التلميذة الصغيرة»(6).
هنا تُهيمن اللغة الشعرية وتحليل الأشياء وعلاقتها بالوجود في منطق نفسي يتعمق في الذات، ويستلهم الخطاب الشعري.
وفي قصة «سره الباتع» أسهم الحوار برصد عناصر البناء القصصي في بيان مظاهر السخرية وكشف ملامح التهكم والتحريض التي تتحكم بحركة القصة.
يبدأ الحوار حاداً وقويا في كشف ملامح التهكم والهجاء التي يقوم الكاتب على اعتمادها عبر المُفارقة الكامنة في علاقة الأشياء والشخصيات:
« ـ والله .. الشيخ عمران ما يتنازل عن حقه!
وأرد في انفعال:
ـ أستغفر الله العظيم.
ويسألني محمد الشامخ:
ـ لماذا تستغفر؟
ـ لأنه ميت .. لا يستطيع أن ينفع نفسه، فكيف يتنازل أو لا يتنازل؟»
*البناء الزمني:
إذا كان الزمن في العمل القصصي والروائي يخضع لبناء مُحكم يتمثّل الوعي الصارم بتراتبية الزمن وعلاقة العلة بالمعلول والسبب بالنتيجة، فإن الشعر وهو من الفنون الزمانية أيضاً يختلف تماماً إذ يهدم تماماً مبدأ التراتبية الزمنية، ويهدم بالتالي مبدأ السببية الصارم.
والزمن في مجموعة «مجنون أحلام» للدكتور حسين علي محمد مُتشابك، يصعب الإمساك به، حيث يعتمد في أكثر من نص الزمنَ المُتصالب العمودي والأفقي، وفي جزء كبير منها اعتمدت (الفلاش باك)، وقد تتابعت الأحداث بسياق غير عادي، مع بعض القطع في الصورة والتخيل، وتفتيت البناء الزمني في المجموعة هو الملمح الأكثر تحققاً وقصيةً من الكاتب.
في قصة «تلك الليلة» يقول:
«توقعتُ أن أُضرب بالرصاص ساعة الفرار .. يُطاردني جندي مع زملائي الثلاثة الفارين، ويطلب منا التوقف، فنجري، فيُطلق علينا النار.
كيف ستستقبلني أمي؟ وهل ستكلمني كلامها المعهود .. لقد جاوزت الأربعين يا بني .. فمتى تُسعد قلبي ببنت الحلال؟ .. ثم تقصُّ لي ما جرى لأبناء القرية جميعاً في غيابي .. الذين تزوّجوا .. والذين ماتوا .. والذين سافروا للعمل في ليبيا والعراق» (8)
على هذا المنوال يجري الزمن الكلي العام في انتقال غير محدد الهوية بين الحاضر والماضي ولكن يحمه منطق الحكي، ليس تبعاً لتسلسل الأحداث هنا، فالأحداث تقتضي تسلسلاً زمنياً تسلم فيه ( أ ) إلى ( ب )، إلى ( ج ) تبعاً للبناء الزمني. وإنما منطق الحكي هنا يسعى فيما يسعى إلى تفتيت هذا البناء الزمني، لا لشيء سوى استجابة لمفاهيم الشعرية القصصية بمفاهيمها الجمالية المُصاحبة في كسر أُفق التوقع، وكسر الألفة النمطية للتقنيات السردية المعهودة وأبنيتها التي أصبح الكاتب يراها مكررة.
أما الزمن الخاص على مستوى المشهد السردي الداخلي فإنه أيضاً يخضع لهذا التفتيت، ففي قصة «لن يُكلم نفسه في الشارع» يقول:
«كدتُ أرسل قصتي (أو مشكلتي مع ابني هاشم) لعبد الوهاب مُطاوع ليكتب لي الحل في «بريد الجمعة» بصحيفة «الأهرام»، وتتلخّص في أني مررتُ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بعدة تطورات جعلتني لا أستطيع أخذ القرار الصحيح في أي مشكل» (9).
فالحكي في هذه القصة ينتقل عبر الزمن من الوراء إلى الأمام، إلى الوراء إلى الأمام مرة أخرى، ثم يعود إلى اللحظة المسرود عنها التي جاءت في ثنايا لحظة قصصية.
وتتمثّل شعرية البناء الزمني في مجموعة «مجنون أحلام» في أنها تُقدم خطابا يختزل زمن قصة الحاضر في لحظة، أو بخطاب تتداخل في زمنه الأزمنة، وهو بهذا يخرج على قواعد شعرية أرسطو، ويتحرر من منطق التحول الذي ينتهي بالشخصية إلى قدرها، ولا تعود الحكاية باعتبار البداية والعقدة والنهاية وقوام الشعرية. وهُنا يُصبح النص القصصي مستهلا أو حالة مفتوحة على الزمن، ومفتوحة بحرية على فاعلية القراءة.
*شعرية المكان:
أيا كانت طبيعة المكان في القصة، سواء أكان المكان المُحدَّد بحدود جغرافية، والذي يشغل مساحة نصية ما تكون هي الحدث أو هامشه، أم كان المكان الذي لا يعدو أكثر من مُشَار إليه (ركن في بقعة ما من بقاع العالم) أو (صالون سيارة) أيا كانت الطبيعة فإن المكان يمكن أن يتخذ شكلاً ما من أشكال الشعرية، شعرية تجعل المتلقي يقف إزاءها متأملاً بأمل القاص في منحها صفات إنسانية أو إضفاء أبعاد سيكولوجية عليها، فكل أماكن لحظات عزلتنا الماضية والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة، والتي استمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن تبقى كذلك، فالإنسان يعلم غريزيا أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق. يحدث هذا حتى حينما تختفي هذه الأماكن من الحاضر، وحين نعلم أن المستقبل لن يُعيدها إلينا.
ففي قصة «سره الباتع»، والتي اتخذت من «كفر الشيخ عمران» مسرحاً لها تتجسّد هذه الشعرية في المكان، عند زيارة الراوي إلى الكفر والذي عاد إليه بعد عشرين عاماً، عند ما كان مولد الشيخ عمران كل شيء بالنسبة لأهل القرية حيث يجتمع الآباء والأقارب بالملابس الزاهية ويذهب الأولاد إلى المراجيح والبنات الحلوة ..
أما ما حدث بعد ذلك فقد أكّد شعرية المكان إذ يسترسل الكاتب في وصف شعرية المكان برؤيته الشعرية الحالمة، كما عبّر هو عنها:
«نعرف جميعاً أن بعض الكهول من أبناء القرية يحتفلون في ليلة العيدين بحلقة ذكر داخل مقام الشيخ الذي يتوسّط مقابر القرية، ويُضيئون الكلوبات ويتمايلون يمنة ويسرة، وينشدهم الشيخ عبد الهادي حدّاد قصائد الوجْد والهيام والحب الإلهي، ويظلون كذلك، يغنون ويتمايلون حتى يخرجوا لصلاة الفجر، ثم يؤدون صلاة العيد في المسجد، ويعودون لبيوتهم»(10).
*شعرية البناء:
بحيث يبدو النص بناءً مُتشابكاً لو حذفتَ منه كلمة واحدة انهار البناء، وتلك سمة جوهرية في البناء الشعري الذي يعتمد تكثيف المعنى واختزاله.
وتأتي قصص الدكتور حسين علي محمد مصداقاً لهذا البناء الذي يعتمد شعرية الدلالات التي لا يُمكن معها حذف كلمة واحدة من النص وإلا انهار البناء كله، فالسرد هنا يتخذ سمة الحبك البنائي الشعري الدقيق ويسعى إلى ضم التفاصيل الدقيقة ونظمها في سلك رفيع وأنيق معتمداً على لغة خطاب، كل ما فيها يتحدد بدقة مُتناهية الحساسية.
وهي قصص تتفق في تعريتها للواقع بما يكشف عن شعرية البناء وحركة البناء وفاعلية الحوار بطريقة غير مألوفة على نحوٍ ما.
وفي قصص المجموعة تركيز لا على بناء الأحداث ورصفها وحبكها وإنما على البناء اللغوي في تكامله وتكثيفه وشعريته وتعدد دلالاته، ومن ثم لا يُمكن بأي حال من الأحوال تجاوز جملة واحدة لمُلاحقة أحداث أو التجاوز عن فقرة أو صفحة، وإنما تحتاج القراءة إلى تركيز على كل دال ومفردة وإلا انهار البناء القصصي كله.
*شعرية الشخصيات:
هل يرسم القاص شخصيات قصته قبل أن يكتبها أو يمنحها أدوارها؟ أم إنه يرسم الشخصية تبعاً لتحولات الموقف وتحولات الخطاب، بمعنى أنها تكون شخصية وليدة في مواقفها عبر اللحظة الزمنية؟
أعتقد أن شخصيات قصص الدكتور حسين علي محمد في هذه المجموعة لا تعتمد على تحديد ملامحها وأبعادها وسماتها الجسمانية والثقافية، وإنما تستبدل ذلك بطرح أنماط للشخصية وليست شخصيات حقيقية ـ بالرغم من التصريح بأسماء حقيقية لأشخاص حقيقيين ـ أي أنها أنماط تصدق ماهيتها على نماذج كثيرة قد تكون في كل مكان. ذلك النمط الذي عندما تقرأ عنه تكتشف أنه قد مرّ عليك في مكان ما، وربما كان يسكن قبالتك مباشرة، فالشخصية في هذه المجموعة تتحدد شعريها:
ـ من كونها غير محددة قطعاً، وغير دالة على شخص بعينه، بحيث يتميز بصفات جسمية وعقلية معينة.
ـ ومن كونها شعرية في ذاتها، أي ترسم أبعاداً لنمط الشاعر المفكر، الذي يؤول الأشياء تأويلاً متعدد الدلالة، ويرى العالم برؤية شعرية على نحوٍ ما.
فأنماط مثل:
*«رشاد» الذي يشك في زوجته التي تذهب إلى بيت خالتها مرة في الأسبوع «بيت خالتي» ص99.
*سامح سري في قصة «تلك الليلة» ص86.
*وشخصيات «أحلام» في «مجنون أحلام»، و«نادية حمدي» في «برق في خريف»، و«صباح» و«سناء» في «اللهم أخزك يا شيطان»، و«نورا» في «شرخ آخر في المرآة»، و«ناهد» و«نادية» في «أحزان نادية»، و«أنوار» في «الحافلة التي لم أحلم بها»، و«صابرين» و«عبلة» في «رحلة أخرى»، و «جميلة عودة» في «في المدى قنديل يُضيء»، و«هند» في «ومضة الرحيل»، و«سميرة عاكف» في «النظر إلى الخلف»، و«أم عمر» في «بلا دموع»، و«سلوى» في «تلك الليلة»، و«شادية» في «لن يُكلم نفسه في الشارع»، و«سناء» في «بيت خالتي» و«داليا» في «أم داليا».
كل هؤلاء تمثِّل نمطاً قد لا يصدق على شخص بذاته بقدر ما يصدق على شخوص عدة في حياتنا جميعاً.
وهذا المنحى لبناء الشخصية ليس من تقنيات الكتابة القصصية، ولكنه من تقنيات الكتابة الشعرية التي لم تكن تهتم يوماً بطرح سمات الشخصية اللهم إلا من جانب ما يُكرس لشعرية النص.
ومن جهة أخرى فثمة بناء شعري يكثف بعض الشخصيات، إما من جهة الفعل، أو من جهة التكوين، و وينتمي إلى الأولى بطل قصة «تلك الليلة» ص84، والذي هرب من السجن الذي ذهب إليه لأنه فكّر في أن يكتب نصا مسرحيا مستوحى من خطاب الرئيس المؤمن (إن شعرية الشخصية هنا تنبع من بحثها عن ذاتها غير المتحققة دوماً، والكشف عن رغباتها الرومانسية بمعناها الشعري على نحو ما).
أما شخصية «الراوي» في قصة «سره الباتع» ص38، فإن شعريتها تنبني على نحو مختلف، حيث تنتمي إلى نمط الشخصيات الشعرية في ذاتها، وكذلك في قصة «لن يُكلِّم نفسه في الشارع»، يقول البطل:
« كنتُ قد أصدرتُ ديواني الخامس» ص93، إذن البطل شاعر، وهو هنا يكشف عن شعريته.
وشخصيات القصص تسرد كل شخصية سرد الكاتب نفسه ومن زوايا اهتماماته، فهو وإن كان يسرد عن شخصيات فإنه يسلبها حق التدخل في حديث لا يروق له، أو لا يُريد هو أن يسرده اللهم إلا إذا كان الحديث سرداً عن الذات الساردة؛ ومن ثم تُحيل هذه الحكائية العمل إلى بنى تحكي عن أحداث يمكن الإشارة إليها. فالكاتب لا يسعى إلى تحديد جوهري لمسألة الوظيفية، بل إن جمالية القصص تؤسس للفكر الظاهري.
*شعرية الذات:
وتمثل نمطاً مهما من أنماط شعرية القصة عند الدكتور حسين علي محمد فيما يُمكن تسميته بكتابة «نص الحالة»، وهو نص مفتوح المواجع والمسارب، وقد يكون ملتبس المنعرجات، ولكنه يقوم على نواة محورية غائرة، هي مساءلة الذات الفارقة تاريخيا وأسطوريا.
ففي سرد الذات تبدو الحكاية فيه إن كانت هناك حكاية تُحكى على نحو مألوف ـ تبدو كما لو كانت نصا شعريا غنائيا، بمفهوم الذاتية، يعبر فيه القاص / الشاعر عن علاقته بالكون والحياة والأشياء من حوله، ويُناقش رؤاه وفلسفته، ويطرح أسئلته وهمومه الفكرية، يعرض لعذاباته وأحلامه وأمله ويأسه، لغضبه وفرحه، لتشكلات حالات الوعي لديه، لانغماسه في حياة يُمارسها ربما دون أن يعرف هويتها.
ففي نص «حياة» (ص107) يبدأ القص من منطقة بين الوعي واللاوعي، بين الحلمي والواقعي، شيء أقرب إلى الكابوس، أو على شفا حفرة منه:
« أجلس في غرفتي الملحقة بالمدرسة، فوق السرير الذي أعدتُ ربط أركانه وقاعدته بحبال بلاستيكية، اشتريتها من بقالة «محمد الصغير».
أطالع مجلة «اليوم السابع»: الموضوعات السياسية الساخنة أولاً، ثم السينما، ثم بقية الفنون.
ها هو يوم جليدي آخر.
درجة الحرارة لا تتعدى الصفر.
العنكبوت الممدد بين ضلفة الباب المعتمة، والركن .. يُخيل لي ـ مع التصدع الباقي من أثر الزلزال ـ أنه يُشبه خطيباً يصرخُ في الناس، وترتفع يداه كخطيب سياسي يُضاحك الجماهير!
أتنحنح..
لا أسمعُ إلا صوتي!! »
والأمر برمته وإن بدا سرداً لذات، إلا أن المفردات المركزية فيه تعتمد بنى الشعرية من خيالات وتكثيف في الرؤية وغموض معناه الشعري.
جمال سعد محمد
الزرقا ـ دمياط.
***
الهوامش:
(1) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص89.
(2) د. حسين علي محمد: مجنون أحلام، قصص، أصوات مُعاصرة، العدد (150)، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2005م، ص52.
(3) السابق، ص106.
(4) السابق، ص74.
(5) السابق، ص57.
(6) السابق، ص47.
(7) السابق، ص39.
(8) السابق، ص74.
(9) السابق، ص97.
(10) السابق، ص41.
(11) السابق، ص107.