أحدث المشاركات

قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: أحلام البنت الحلوة

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي أحلام البنت الحلوة

    دراسات في فن القص عند حسين علي محمد
    .............................................

    (1) حسين علي محمد وشعرية القصة القصيرة
    قراءة في مجموعة «أحلام البنت الحلوة»

    بقلم: د. محمد عبد الحليم غنيم
    ................................

    عرف الدكتور حسين علي محمد شاعراً وكاتباً مسرحياً وباحثاً متميزاً في الأدب العربي الحديث ، له دواوينه الشعرية العديدة ، وبحوثه المتنوعة في الشعر والمسرح والقصة ومختلف الفنون الأدبية ، فهل ندهش أن يكون كاتباً مبدعاً للقصة القصيرة ، أعتقد أنه لا مجال للدهشة ، ولا مجال للدهشة أيضا إذا كان لهذا الإبداع هذا المستوي الفني المتميز .
    والمجموعة التي بين أيدينا تحت عنوان " أحلام البنت الحلوة " وهي في طبعتها الثانية ، تحتوي علي اثنتين وعشرين قصة قصيرة ، حيث أضاف الكاتب سبع قصص علي الطبعة الأولي . ومثل هذا الوضع يجعل الباحث يقسم المجموعة إلي قسمين قديم ظهر في الطبعة الأولي وهو تقسيم معزي حيث يمثل هذا القسم معظم القصص القديمة للكاتب وقسم جديد يمثل القصص السبعة المضافة في الطبعة الثانية ولكن بعد استقراء قصص المجموعة كلها وملاحظة تواريخ نشر القصص التي حرص الكاتب علي ذكرها وحسنا قد فعل ، أقول بعد الاستقراء وجدت ثمة تقسيم آخر وهو أن هناك قصص كتبت خلال فترة الستينات والسبعينات والكاتب لم يتجاوز أرض مصر وهذا يمثل القسم الأول ، وهو في ذات الوقت يمثل تجارب الكاتب الأولي في القصة القصيرة ، ثرثرة في المدرج – يا عيني علي العاشقين – الزواج في العربة الثالثة – الطريق الطويل – انتظار – يا فرحة ما تمت – الأتوبيس والركوب الملاكي – حفل عيد الميلاد – أحلام البنت الحلوة .
    أما القسم الثاني فيمثل ما كتبه الكاتب خارج مصر أو فترة اغترابه عنها وهي باقي قصص المجموعة وإن كنت أميل إلي أن هناك بعض القصص كان يمكن أن تنتمي إلي القسم الأول لولا أن الكاتب أعاد صياغتها من جديد ، ولكن يعوزني الدليل.
    والسؤال هل يعني هذا التقسيم والتفريق بين القسمين شيئاً ، نعم لقد حرص الكاتب أن يضع بين أيدينا جميع ما كتبه في القصة وقد ذكر أنه كتب 25 قصة وإذا كان بين أيدينا 22 قصة فمعني ذلك أنه استبعد ثلاث قصص ، إلي جانب أنه كما قال في المقدمة أعاد صياغة حوار بعض القصص من العامية إلي الفصحى ، أي أن يد النقد والتعديل والتحوير قد عملت في هذه الأعمال ، وطالما أن الأمر كذلك فاعتقد أن هذا التقسيم مقبول ومشروع خاصة أن القصص كتبت علي فترة زمنية كبيرة نتجاوز الثلاثين عاماً ، ومن المؤكد أن وعي الكاتب ومهارته القصصية قد تطورت خلال هذه المدة .
    هناك اختلاف واضح بين قصص القسم الأول ولنسميها قصص البدايات ، وقصص القسم الثاني التي تمثل مرحلة النضوج الفني لدي كاتبنا .
    في القسم الأول يبدو صوت الكاتب عامياً والموضوع الاجتماعي في المقدمة والحس الشعري محدوداً ، علي حين في القسم الثاني يخفت صوت الكاتب ونترك الحرية للراوي في التعبير وتظهر بوضوح عناصر الشعرية ( الغنائية ) في القصص، ولكنها الغنائية التي تجعل من القصة القصيرة قصة قصيرة مكتملة – وليست قصيدة غنائية – علي المستوي الفني ، علي أن هذه الغنائية تُعدّ السمة البارزة في معظم قصص المجموعة بقسميها .
    إن اقترب القصة منذ نشأتها وحتى الآن من الشعر أمر لا خلاف عليه (1) فقد أصبح من الشائع أن نقرأ مثل هذه العبارات : " القصة القصيرة مستقلة ومتنوعة القصيدة الغنائية " براندر ماثيو 1901 .
    " القصة القصيرة شكل متخصص وفني جداً أقرب إلي الشعر " نادين جورديمر 1968 . نادين جورديمر 1968 .
    " اتفق معظم كتاب القصة القصيرة المحدثين علي أن وسيلتهم أقرب إلي الشعر منها إلي الرواية " توماس كولاسون 1964 (2) .
    وهذا التشابه بين القصة القصيدة والقصيدة الغنائية لا يمنع من وجود نوع من القصة لا يقف عند مجرد التشابه ولكن يأخذ من تقنيات وخصائص القصيدة الغنائية ، ما يجعله متميزاً في القص ويمكن أن يطلق عليه القصة القصيرة الغنائية أو الشعرية، وهو مصطلح قريب جداً من مصطلح الرواية الغنائية المشهور عند رالف فريدمان .
    وقد لفت غنائية القصة القصيرة في الأدب المصري الحديث كثيراً من النقاد كصلاح فضل ونبيل سليمان وإدوارد الخراط وخيرى دومة وكاتب هذا المقال في دراساتهم النقدية ، غير أن خيري دومة كان أكثر النقاد توضيحاً لهذا المصطلح من الناحية النظرية ، ولذلك يحسن أن نأتي برأيه هنا :
    " حين نتحدث عن غنائية القصة القصيرة ، أو غنائية الرواية ، فنحن لا نتحدث عن الشعر الغنائي بما فيه من خطاب مباشر من المتكلم إلي القارئ ، أو بما فيه من موسيقي شعرية ووزن وقافيه مثلاً ، بل نتحدث عن سمات من قبيل : أن للشاعر (الراوي – مؤدي الكلام ) فيها حضوراً طاغياً ، وتأتينا الأشياء عبر مصفاته الخاصة وعبر علاقة التأمل الجمالي التي تربطه بالعالم ، إنه لا ينقل لنا الأشياء فى وجوده الخارجي الموضوعي ، بل يلونها بعاطفته حتى تتحول تماماً وتدخل فى سياق بنية مجازية ، وهكذا ينظر إلي الغنائية علي أنها إشراق للذات ولحظة اكتشاف .
    إنها لا تطمح إلي تمثيل الحياة الإنسانية ، بل تعمل علي تكثيف رؤية الشاعر لها من خلال أدوات خاصة مثل الإيقاع والمجاز .
    أن العلاقة بين المشاهد الغنائية ( أو الصور ) ليست علاقة سببية بل علاقة كيفية، ولهذا فالبنية الغنائية الأساسية بنية مكانية ، أي أن " القارئ " يدخل إلي الغنائية بالطريقة نفسها التي ينظر فيها مشاهد إلي صورة ، إذ يري تفاصيل مركبة متجاورة ، ويتلقاها ككل .
    أن الغنائية مع هيمنة تيار الوعي أصبحت جزءاً من القص ، حيث يمتزج صوت الراوي ( الشاعر ) بصوت شخصياته ، ويتداخلان علي نحو يؤدي إلي صعوبة الفصل بينهما " (3) .
    علي أننا نؤكد بعد ذلك أن غنائية القصة القصيرة لا تمنع وجود العناصر الدرامية والملحمية في القصة ، وسنلاحظ عند حسين علي محمد في قصص القسم الأول ظهور الصيغة الدرامية بشكل لافت للنظر ، ولعل هذا هو ما دعا الدكتور خليل أبو ذياب أن يصف قصص المجموعة بأنها " كلها كانت قصص حدث أو أحداث وليست قصص شخصية أو شخصيات " (4) وعلي الرغم أن مثل هذا الرأي يحتاج إلي مراجعة لأنه لا يوجد حدث بدون شخصية والذي نريد أن نؤكد هنا ، كما سيتبين من تحليلنا لقصص المجموعة أن الصيغة الغنائية ، ستشمل المجموعة كلها ، غير أنها ستزداد بروزاً وظهوراً في قصص القسم الثاني ، أي القصص المكتوبة حديثاً .
    في قصة " ثرثرة في المدرج " وهي من قصص البدايات نلحظ التوتر الدامي القائم علي الحوار بين أحمد وسميرة ، إلا أن الكاتب ينهي الحوار والقصة فجأة ، ويختم القصة بتعليق من الراوي يجعلنا نفتقد التعاطف مع أحمد " لا يدري إن كانت سميرة قد غضبت حين قال لها إنه لا يفكر الآن إلا في مرض أمه ، وحصوله علي الليسانس ، ولكنه متأكد أنها لم تشرب الليمون ، وأن عصفوراً أحمد علي إيشاربها كان يحاول الطيران ، ولكن الدماء كانت تسيل من جناحه المهيض " (5) .
    إنه صوت ينتمي إلي المؤلف أكثر ما ينتمي إلي الراوي ، ولو كانت النهاية علي لسان إحدى الشخصيتين في القصة سميرة وأحمد لبرز فيها الصوت الغنائي ، المتمثل في هذا الحزن الشفيف الذي يغلف جو القصة .
    في قصة " أحلام البنت الحلوة " علي الرغم من بساطة اللغة والأحداث فإننا نجد الراوي مهيمناً علي الأحداث ، فنخرج الجمل الحوارية من بين شفتيه ، وليس من بين شفتي شخصيات القصة ، ولعل ختام القصة جاء موفقاً ، وعله التوفيق في رأيي هيمنة الراوي " وجاء صوت مغاوري النقاش رقيقاً ، حالماً ، كأنه كان يعلم ما تفكر فيه وتستجيب لما يدور في خلدها :
    - ما هذه الحلاوة يا سنية ! والله كبرت وبقيت عروسة وكاد قلبها يسقط من صدرها وهي تقترب منه وتسمعه يردف في صوت دافئ مملوء بالحب .
    - تتزوجيني يا بنت ؟ (6) .
    وفى قصة " يا عيني علي العاشقين " يسيطر الراوي العليم علي الأحداث مع ملاحظة أنها تسير في هدوء ولا نجد فيها هذا التوتر الشديد والأزمة الحادة ، ولعل هذا سر غنائيتها ، وإن أضاف الكاتب شيئاً آخر هو تطعيم القصة بلغة شعرية ، وإن كنت أري اللغة الشعرية هنا جاءت بمثابة الحلية البديعة ، يتضح لنا ذلك إذا قرأنا الفقرة التالية :
    - قريب يا صفاء .. بعد سنتين أو ثلاثة .. نتزوج ونعيش في تبات ونبات ويكون لنا صبيان وبنات ، كما تقول حكاية الشاطر حسن .
    غضبت صفاء ، وحينما تغضب صفاء فإن الشموس تهجر مداراتها والعصافير تغادر أعشاشها ، والبيوت تسقط علي أرؤس ساكنيها ، قالت
    - أنت تخدعني ولا تحبني " (7) .
    ونكتفي بهذه القصص الثلاثة من القسم الأول حيث نلاحظ غلبة الموضوع الاجتماعي ففي القصة الأولي نجد خلفية الأحداث الفروق الطبقية التي تقضي علي الحب وفى القصة الثانية نجد القهر الممثل في سنية وأمها وزوج أمها وفى القصة الثالثة نجد موضوع زواج الطلاب أثناء الدراسة وهو موضوع كان شائعاً في ذلك الوقت الذي كتبت فيه القصة ، ولو سرنا مع بقية القصص في هذا القسم سنجد بروز هذه الموضوعات الاجتماعية وقد ارتبط بهذا الاهتمام بالحدث مما أفسح المجال للصيغة الدرامية علي حساب الصبغة الغنائية ، نلاحظ ذلك بشكل واضح في قصص " الزواج في عربة الدرجة الثالثة " و " يا فرحة ما تمت " و " الأتوبيس والركوبة الملاكي " .
    أما إذا انتقلنا إلي القسم الثاني حيث مرحلة النضج لدي كاتبنا فإن الصبغة الغنائية كما أشرنا من قبل تبرز فيها بوضوح والذي أود أن أوضحه هنا هو أن بروز الصبغة الغنائية في القصة القصيرة ليس حكم قيمة في حد ذاته ، المهم كيفية الاستفادة من هذه الغنائية ، بحسن توظيفها في القص بحيث لا تخل ببناء القصة القصيرة أو نقف عقبة في فهمنا لها .
    وسيكون من المفيد أن نقف عند بعض القصص لأنه سيكون من الإطالة والتكرار معاً الوقوف عند جميع القصص .
    أول هذه القصص قصة " المسافر " ولعل الكاتب أحسن الاختيار أن جعلها فى بداية المجموعة ، حيث يتجلى فيها ميل الكاتب إلي استخدام تقنيات الشعر فى القصة، مما يجعلها نموذجاً لشعرية القصة ، وأول هذه التقنيات الاعتماد علي رؤية سرد ذاتية ، فليس أمامنا سوي ذات الشخصية فى اجترارها لأحداث حياتها قبل السفر وأثناء السفر أيضا ، كما أن الاعتماد علي هذا النوع من الرؤية يضيق من رقعة الحكي ، ومن ثم انحصرت الأحداث كلها حول شخصية البطل الذي يختلط بشخصية الراوي ويطغى عليه أحياناً ، وكأن القصة قد رويت علي لسان المتكلم .
    تقنية أخري استخدمها الكاتب في هذه القصة – أكدت شعرية القص – هي تقنية التكرار ، فنجده يكرر الجمل الثلاث التالية مرة في الصفحة الثالثة ، ومرة في نهاية القصة :
    - باق 120 يوماً ، وأعود إلي مصرفي إجازة رمضان .
    - باق ثلاث جمع نصليها ونعود في إجازة عيد الأضحى .
    - باق أسبوعان في الامتحانات ونعود إلى مصر الحبية " .
    وليس للتكرار هنا وظيفة إيقاعية تعزز غنائية القصة ، ولكن وظيفته هنا تأكد نغمة القصة ومغزاها معاً ، وهما ذلك الحزن الشفيف والإحساس بالغربة الذي يلازم المسافر ويوجعه أيضاً . قد نلمح في القصة أصداء للسيرة الذاتية للكاتب وهذا يحفزنا إلي المقارنة بين أحداث القصة وحياة الكاتب ، وهذا من شأنه أن يجعل هناك مسافة بين القارئ وأحداث القصة .
    وفى ( حكاية هنادي ) يتضافر صوتان سرديان ، الأول حوار الراوي مع السائق ومع هنادي نفسها ويأخذ الزمن الآتي ، والثاني صوت الراوي الداخلي المتمثل في ذكرياته مع هنادي قبل زواجها من عبد الفتاح بك ، وبعد زواجها أيضا ، ويأخذ الزمن الماضي قبل سفر الراوي .
    الحدث الرئيسي في القصة بسيط جداً ، يعود الراوي من الرياض فيعرف من السائق بزفاف هنادي ، فيذهب في صباح اليوم التالي لزيارة هنادي وأثناء حديثه المباشر معها يسمع لغطا يشير إلي وفاة أمه المريضة التي جاء أصلا من الرياض ليراها . والسؤال الآن ما الذي يجعلنا نصف هذه القصة بأنها شعرية ؟
    إن غنائية القصة تنبع هنا من تركيز الكاتب علي وعي الراوي وليس علي الحدث وقد اتخذ الكاتب لوعي الكاتب لونا مختلفاً في الطباعة ليميزه عن الأحداث الخارجية ، ومن ناحية أخري نجد هذا التوافق بين الأحداث الخارجية والأحداث الداخلية ، فيأتي صوت الأم في ختام القصة مع اليأس من استمرار العلاقة مع هنادي أو بالضبط مع فقدها " كانت آخر أضواء الصباح تنسحب من الغرفة وكنت أمسح دمعة كبيرة من العين :
    - ذلك كان زمان اللعب ، والدروس ، والسنطة العجوز يا هنادي ذهب وأخلي مكانه للحزن والبعاد .
    توقف الكلام بيننا ، فقد سمعت اللغط في بيتنا المجاور ، وصراخ شقيقاتي اللائي جئن من القاهرة يبكين أمي التي لن أراها مرة ثانية (8) .
    وفى قصة " مهاتفة صباحية " يجتر الراوي ذكرياته مع رباب بمجرد أن يسمع صوتها في التليفون ، ليس في القصة سوي حدث خارجي بسيط هو مهاتفة رباب ولقائها بالراوي في الجريدة ، ثم توديع الأخير لها بعد أن قدم ألف جنيه سلفة، وكما لاحظنا في قصتي " المسافر " و " حكاية هنادي " يختلط الحدث الآني بأحداث الماضي عبر رؤية ذاتية للسرد ، عضدها هنا استخدام أسلوب السرد الذاتي المتمثل في الاستعانة بضمير المتكلم . غير أن ما يميز هذه القصة – ويزيد من شعريتها في ذات الوقت – توظيف الكاتب للغة الشعرية ذات الإيقاع والمجاز ، حتى لنكاد نقرأ شعراً خالصاً ، وهو شعر لا يأتي هنا لمجرد الحلية ولكنه يأتي نتيجة لتوفر عاطفة مركزية صادقة تتمثل في ذلك الحنين إلي الماضي والإحساس بالغربة ، يقول الراوي بعد أن ودع رباب :
    " أيتها الفراشة الخضراء بين جفنيك ترقد عذاباتي ، وتبحث آهاتي المتعبة عن قلب حان لا يسلقني بلسان كالمبرد .
    أين مني سحابة الوعد التي تمطرني بالحنان والعطف ؟
    وأنت يا فائزة وردة قصيةٌ قصية .
    كم أود خلع ذاك القميص الثقيل ، فالجو خانق . وأنت من تتكلمين بالعقل الذي يؤطر بستانك ويبعد الصهيل عن مفازات السكوت ! " (9) .
    واستخدام هذه اللغة الشعرية نجده أيضا في قصص " ثلاثة أصوات " و " الحارس " و " التجربة " موظفة توظيفاً فنياً ، وسيكون من الإطالة الوقوف عندها جميعاً .
    لعلنا بعد هذا التطواف في مجموعة " أحلام البنت الحلوة " يؤكد في ختام هذه القراءة أن ما يميز قصص حسين علي محمد هو توفر قدر كبير من الشعرية ، وقد تمثلت هذه الشعرية في العناصر التالية :
    1- اعتماد رؤية سرد ذاتية سواء استخدام الكاتب ضمير المتكلم أم ضمير الغائب .
    2- التركيز علي الوعي المتزايد وليس الحدث المتكامل .
    3- درجة عالية من الإيحائية والشدة العاطفية .
    4- توفر لغة تعتمد علي الإيقاع والمجاز .
    5- ضيق رقعة الحكاية .
    6- اعتما أسلوب تيار الوعي .
    وبعد فلا يسعني إلا أن أقول مع " اليزابيث يودين " " يجب أن تتمتع جميع القصص الجيدة بعاطفة مركزية قائمة تكون أساسية وصارمة ، ويجب أن تتمتع أيضاً بالدفق الداخلي للقصيدة الغنائية (10 ) وهذا ما وجدته بحق في قصص كاتبنا المبدع الدكتور حسين علي محمد .
    هوامش :
    1- محمد عبد الحليم غنيم : الفن القصصي عند فاروق خورشيد ، رسالة دكتوراه مخطوطة ، جامعة المنصورة ، 2001 ، ص 22 .
    2- سوزان لوهافر : الاعتراف بالقصة القصيرة ، ترجمة محمد نجيب لفتة ، دار الشئون الثقافية العامة ، بغداد ، 1990 ، ص 26 ، 27 .
    3- خيري دومة : تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960 – 1990 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1998 ، ص 70 ، 71 .
    4- انظر ، مقالة الدكتور خليل أبو ذياب عن المجموعة في القسم الثاني من كتاب قصص قصيرة ، العدد الأول ، يوليو ، 2001 ، ص 166 .
    5- حسين علي محمد وآخرون : قصص قصيرة ، كتاب دوري ، السنة الأولي العدد الأول – يوليو 2001 ، ص 17 .
    6- حسين علي محمد وآخرون ، المرجع نفسه ، ص 23 .
    7- حسين علي محمد وآخرون : قصص قصيرة ، المرجع السابق ، ص 32 .
    8- حسين علي محمد وآخرون : قصص قصيرة ، المرجع السابق ، ص 58 ، 59 .
    9- حسين علي محمد وآخرون : قصص قصيرة ، المرجع السابق ، ص 96 ز
    10- نقلاً عن سوزان لوهافر ، الاعتراق بالقصة القصيرة ، مرجع سابق ، ص 39 .

  2. #2
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (2) «أحلام البنت الحلوة»

    بقلم: محمد جبريل(1)
    ......................

    قرأت لحسين علي محمد محاولاته الأولى في أواسط الستينيات، كان يكتب في شعر العامية المصرية مع شفيق أحمد علي، وحجاج الباي، والسيد الجنيدي، وفنجري التايه، وماجد يوسف، وسمير الفيل، ومحمد العتر، وإبراهيم رضوان، وزكي عمر، ومحمد أبو شوارب .. وعشرات غيرهم. واصل البعض طريقه، بينما شغلت البعض هموم إبداعية وحياتية أخرى.
    فاجأني حسين علي محمد في إحدى رسائله: لماذا تنشر الأقل من قصائدي .. هل لأني طالب في الإعدادية؟
    والحقيقة إني لم أكن أعرف عنه أي شيء. كانت صلتي الوحيدة به ـ مثلما كانت وظلت مع الكثيرين ـ هي طابع البريد .. أنشر ما يستحق النشر بالفعل دون وساطة إلا من الفن الجميل، فضلاً عن وجوب إتاحة الفرصة للعدد الأكبر من المبدعين في مجالات الأدب المختلفة. وتصوّر حسين ـ لا أدري كيف ـ أني أرجئ نشر محاولاته لأنه طالب في الإعدادية، فهو صغير السن بعد، وليس لأن إبداعات الآخرين تنتظر هي أيضاً حقها في النشر.
    وزارني حسين في اليوم الأول لدخوله آداب القاهرة، كان قد كتب شعر الفصحى بالإضافة إلى دراسات نقدية متباعدة. واكتشفتُ فيه ـ باستمرار الصداقة ـ طاقة إبداعية وبحثية تعنى بالمتابعة والتحليل والتعبير في العديد من مجالات الإبداع، وحصل في أثناء ذلك على درجتي الماجستير والدكتوراه، وحققت له إسهاماته مكانة متفوقة في حياتنا الثقافية.
    الإبداع الروائي والقصصي هو مجال الكتابة الأدبية الوحيد الذي لم يكن قد مارسه حسين علي محمد. وهاهو ذا يُطالعنا بمجموعته القصصية «أحلام البنت الحلوة»، رُبما يُتبعُها بمجموعات تالية، وربما يُطالعنا فيما بعد برواية أو روايات، لنتعرّف في إبداعه على ما تميّز به جيل الرواد، وهو تنوع معطياته، مما يُعيد طرح قضية اطمئنان المبدع إلى الجنس الأدبي الأقرب إلى موهبته ونفسه، فيصبح الكوكب بين نجوم إبداعاته.
    كتب صلاح عبد الصبور في الدراسة النقدية والترجمة والتراجم وغيرها، ولكن صورته تحددت في الشاعر، وتحددت صورة يوسف إدريس ـ مع تنوع معطياته ـ في كاتب القصة القصيرة .. والأمثلة كثيرة.
    وإذا كان حسين علي محمد قد حقق الإجادة في تعدد كتاباته، فإني أجد تميزه في شعر الفصحى. إنه واحد من أجمل شعراء جيله.
    ــــــــ
    (1) محمد جبريل: من المحرر، صحيفة «المساء الأسبوعية»، في 10/7/1999م.

  3. #3

  4. #4

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    «أحلام البنت الحلوة»
    مبدع الشعر .. مبدعاً للقصة القصيرة!

    بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
    ........................

    (القسم الأول)
    عرف الأستاذ الدكتور حسين علي محمد في الأوساط الأدبية إضافة إلى كونه أكاديميا أستاذا للأدب الحديث، شاعرا مبدعا حيث أصدر حتى الآن عددا من الدواوين منها: الرحيل على جواد النار، السقوط في الليل، ثلاثة وجوه على حوائط المدينة، شجرة الحلم، الحلم والأسوار، حدائق الصوت، غناء الأشياء … وغيرها؛ كما أصدر عددا من المسرحيات الشعرية منها: الرجل الذي قال، الفتى مهران، الباحث عن النور … وغيرها؛ فضلا عن الدراسات الأدبية المتنوعة التي أصدرها ومن أهمها: "القرآن .. ونظرية الفن"، و"البطل في المسرح الشعري المعاصر"، و"المسرح الشعري عند عدنان مردم بك"، و"سفير الأدباء وديع فلسطين" … وغيرها كثير !
    والدكتور حسين في شعره يمتاز بسلاسة العبارة ورشاقة الأسلوب وعذوبة اللفظة وعمق الدلالة وروعة التصوير وانسيابية التعبير والبعد عن الإغراق في الغموض المعيب والتكثيف الرمزي .. وهذه المزايا تتجلى بوضوح في جميع إبداعاته الشعرية : قصائد ومسرحيات!
    بيد أن هذه الشهرة المزدوجة التي حظي بها أديبنا الأكاديمي الفذ عضدتها موهبة إبداعية أخرى، جسدتها هذه المجموعة التي بين أيدينا من القصص القصيرة!
    وغنيّ عن البيان أن الجمع بين هذه المواهب المتعددة والمتشاكسة أمر نادر، ولا يقوى عليه غير أولي العزم، وذوي العبقريات الفذة الذين منهم أديبنا الدكتور حسين الذي تقف إبداعاته المتنوعة شواهد دقيقة وصادقة على تميزه وجدارته وتفوقه!
    ولعلي لا أجاوز الحقيقة إذا ما أعلنت أنني ولجت عوالم هذه المجموعة وأنا متخوّف شديد التوجس ألاّ أجد فيها ما وجدته في إبداعاته الشعرية من روعة وجمال وفن؛ ولكن ما إن أخذت في قراءة أقاصيصها حتى تنفست الصعداء، ووجدتني مدفوعا لإتمام قراءتها والانتقال من قصة إلى قصة أخرى ، وكل قصة كانت تعمق أصالة القاص الفاضل من جهة وتمسح آثار التوجس والتخوف التي انتشرت في نفسي من جهة ثانية ، وتدفعني إلى رصد بعض الملاحظات المتناثرة عبر هذه الإطلالة السريعة المقتضبة من جهة أخرى، والتي تمنيت أن تحظى بمزيد من الأناة والريث ودقة الدرس والتحليل؛ ولكن ..
    وقد احتوت هذه المجموعة زهاء تسع عشرة قصة انتقاها القاص من بين خمس وعشرين قصة كتبها على مدى ثلاثين سنة! وقد يثير هذا الأمر استغراب القارئ، إذ إن معدل قصة واحدة لكل عام أمر مثير للعجب والاستغراب، وإن كان بالنسبة لأديبنا الأكاديمي أمرا معقولا ومناسبا؛ لتعدد إبداعاته وانشغاله بالدراسات الأدبية الأكاديمية التي تشلّ في كثير من الأحيان الإبداعات الأخرى حتى ليمكننا أن نزعم أنها "المحظيّة التي لا تقبل الضرائر، ولا ترضى أن تتنازل عن شيء يسير من وقتها لغيرها، والتي لا يقوى على معاندتها سيدها"!!
    على أن العبرة في كل هذا الإنتاج تتمثل في القدرة على الإبداع وتجسيد الطاقات الفنية فيها؛ وهو ما تشهد به الإبداعات المتنوعة التي أنتجها الدكتور حسين علي محمد!
    والمتأمل في قصص هذه المجموعة يتبين أنها تسجل أطرافا من مراحل حياة الأديب، وبعض قطاعات من مجتمعه أو مجتمعاته التي تنقل بينها، وجوانب متناثرة من علاقاته الاجتماعية المتنوعة التي شهدتها تلك المرحلة ؛ وهو بذلك كله يؤكد حميمية العلاقة ما بينه وبين سائر شخوص قصصه الذين أشار إليهم أو تحدث عنهم بواقعية صادقة، ترفض المجاملة أو المهادنة، والذين عبروا أفق حياته في لحظة من الزمان وكانوا يمثلون جزءا من مجتمعه الذي يعيش فيه لفتته إليهم همومهم ومشكلاتهم الاجتماعية والنفسية.
    وقد كان أمينا في نقل تلك الأحداث، حريصا على البعد عن التدخل فيها أو توجيهها فضلا عن تزييفها، سواء في ذلك ما كان يخصّه هو شخصيّا، وما كان يتعلق بشخوص آخرين كانت تربطه بهم علاقات ما!
    هذا وقد وضع القاص للمجموعة عنوانين اجتلبهما من قصتين من قصصها هما الأولى "أحلام البنت الحلوة" والثامنة "الطريق الطويل"؛ فأما الأولى فنظن يقينا أنها لا ترتبط به ولا تشكل له بعدا ذاتيا، أو علاقة حميمة خاصة، بخلاف الأخرى "الطريق الطويل" التي ربما كانت تحمل في أعطافها شيئا من همومه الذاتية، أو هموم جيل كتّاب القصة في هذه المرحلة مرحلة السبعينات، التي شهدت إبداعاته وتحدثوا عنها كثيرا؛ وأيا كان فأنا أرى أن العنوان الأول "أحلام البنت الحلوة" أليق وأنسب من الآخر؛ بل ربما كان أي عنوان يجتلبه من أقاصيصه الباقيات أو من أغلبها قادر على أن يحمل الغايات، ويحقق الجماليات التي يسعى إليها الأديب؛ وهو أمر لا يكاد يحققه العنوان الآخر "الطريق الطويل"، وما يعرض من هموم كتّاب القصة القصيرة المحدثين أو الناشئين الذين يتعرضون لابتزاز فئة من النقاد أو كتّاب القصة الكبار تنفس عليهم إبداعهم وتفوقهم، خصوصا وأن القاص يضع بين أيدينا نماذج رائعة وناضجة من فن القصة القصيرة تشكل شوطا واسعا في هذا الطريق الطويل، وإن كانت مشكلة "شفيق" لا تعني بالضرورة أول إبداعاته، ولكنها قد تعني أولى خطواته على هذا الطريق الطويل!
    وعند تأملنا هذه المجموعة ألفيناها حققت قدرا كبيرا من الإبداع بما وفر لها القاص من إمكانات فنية وطاقات جمالية غنية ، ويقف على ذروة هذه الطاقات والإمكانات قدرته الفائقة على اختيار الحدث والتقاطه ومن ثم تطويره بتلقائية بالغة مبرّأة من الافتعال والمصادفة إلى أن يبلغ لحظة التنوير التي تشكل النهاية أو الإضاءة لطبيعية للمشكلة التي يعالجها أو الحدث الذي يعرضه؛ وقد أبدع القاصّ الفاضل أيما إبداع في عرض أحداث أقاصيصه وتطويرها وهو ما يتجلى في البدايات والنهايات التي شهدتها تلك القصص، وهذا يعني دقة الحبكة واستواءها، وتسلسل الأحداث وروعة تطويرها بلا طفرة أو انقطاع؛ وهذه السمة بارزة ظاهرة في غالبية القصص التي اشتملت عليها المجموعة يجدها القارئ ماثلة بوضوح في أي منها؛ ولو مضينا نتتبع هذه الظاهرة في قصص المجموعة لطال علينا الأمر مما يجعلنا نكتفي ببعض القصص كنماذج تؤكد هذه الظاهرة؛ ففي قصة "أحلام البنت الحلوة" نجده يلتقط الحدث الذي يمثل التحول في أسلوب معاملة المعلم عامر الدكش لسنية ابنة زوجته وما انتشر في نفسها من أحاسيس التحول في علاقات الزبائن بها وقلة عبارات الإطراء التي كانت تنتظرها منهم، وهنا يرصد القاص لحظة توهج الحدث أو تأزم الوضع النفسي لسنية والأمنيات التي تداعب خيالها بخلاصها من معاناتها وفظاظة واستغلال المعلم بالزواج لتتعانق هذه الأحلام والأمنيات مع طلب "مغاوري" الزواج منها "تتجوزيني يا بت !".
    وإذا كانت أحلام "سنية" قد تحققت مع "مغاوري"، فإن آمال "سميرة" في الزواج من "أحمد" قد تبددت وضاعت في فضاء "المدرج 78"، تحت تأثير الفوارق الطبقية عندما رفضت الأم زواج ابنها من بنت خادمتها! وأوشكت هذه القضية أن تتكرر مع "هشام" و"صفاء" في "يا عيني على العاشقين" لولا حزم هشام وإصراره على الارتباط بصفاء قبل إتمام دراسته، غير آبه برأي والده الرافض لهذه الخطبة في هذا الوقت، وإن انتهى بطرده وأمه من البيت للالتقاء أمام بيت صفاء لخطبتها، أو حتى لإحساس صفاء وأمها بأن حضورهما إنما هو لإتمام الخطبة فارتفعت من خلف الباب زغرودة آملة مستبشرة "!
    وفي مشروع الزواج الذي شهدته عربة الدرجة الثالثة تتعانق البداية مع النهاية تعانقا عميقا، وتتسلسل ملامح الحدث لتبلغ النهاية المعقولة المناسبة عندما شاهد "فاتن ومصطفى" بعد أن غادرا القطار يسيران معا يتحدثان ويبتسمان ، فقال صلاح متسائلا: أترى أن السنارة غمزت!
    ونجد في "انتظار" مباركة" ابنها مع الجنود العائدين من اليمن برغم إخبارهم باستشهاده منذ أكثر من شهرين، تجسيدا لآمالها وأحلامها بعودته التي تتعانق مع كلمات إمام المسجد الشيخ عبد الفتاح التي تؤكد حياة الشهيد وعدم موته وأنه حيّ يرزق، مما جدد الأمل في نفسها بعودته!!
    وفي "حفل عيد الميلاد" يقف القاص عند بؤرة الحدث التي تتمثل في المشكلة الناجمة عن حمل "نهى" غير الشرعي وضرورة التخلص من هذا العار، وما دار من نقاش حوله بين "سعيد" وأبيه؛ ويوقعنا القاص بين موقفين متباينين: سعيد / الابن يريد حلاّ حاسما وجذريا يستأصل كل جذور المشكلة بقتل "نهى" والتخلص من عارها، والأب الذي تجرد من القيم "يلوك قطعة صغيرة من الأفيون اشتراها بعشرة قروش سرقها من ابنته" لا يقبل هذا الحلّ ويعرض حـلاّ بديلا هو الانتقال من المنطقة إلى القاهرة والبعد عن ألسنة الناس وأقاويلهم ؛ ويتجدد الصراع بصورة رائعة بين سعيد وصورة أبيه المعلقة على الجدار ليؤكد لها / له الحل الأنسب الذي يراه وهو قتلها.
    ويعرض الأب حلاّ تقليديا يتمثل في حبسها في البيت حتى تلد ثم يلقى الطفل إلى أقرب شارع!
    بيد أن القاص يوقعنا في إشكال جديد وحيرة عندما يؤكد استياء سعيد من طرح أبيه، وأنه كان يفكر في حل أخر رفض أن يطلع أباه عليه! فما هو هذا الحل؟، وهل يختلف عن الحل السابق الذي أفصح عنه لأبيه؟ أم أن الأمر هنا يتعلق بالتنفيذ فقط وليس بإيجاد حل بديل؟
    وهذا الإشكال يتبين بوضوح عندما نعرض الأمر على عدد من القراء أو المبدعين لوضع الحلول المناسبة التي يرونها كانت محل تفكير سعيد، وما سيجد من خلاف واسع بينهم!
    على أننا نجد من قصص المجموعة قصتين تمتازان ببناء فنّي مغاير لما سبق هما "الطريق الطويل" و"حكاية هنادي"، حيث يضعنا القاص بمواجهة النهاية، ثم يكر بنا راجعا أدراجه إلى البداية، فقد افتتح "الطريق الطويل" بفرحة "شفيق" المقطوعة الذراع حيث تحقق شطر من حلمه بنشر قصته وغاب شطر آخر بإغفال اسمه وعدم ذكره معها؛ ثم انكفأ يرصد ملامح الحدث من لدن لقائه بالناقد الكبير الأستاذ الجامعي، الذي أعجب بقصته التي اطلع عليها ووعده بنشرها في أقرب وقت ، وما تبع ذلك من نشر وإذاعة هذا الخبر على كل الأصدقاء والزملاء على سبيل المباهاة والفخر بتحقيق أحلامه وآماله الكبيرة، التي ستتمخض عن هذا الحدث الإبداعي الضخم، حتى وصل إلى الحقيقة المذهلة عندما وجد القصة منشورة غفلا من اسمه الذي كان ينتظره أكثر من انتظار النشر ذاته لما ينطوي عليه من تحقيق أكيد لذاته الإبداعية، وزرع للثقة في نفوس زملائه بعد أن اهتزت. بيد أن الكاتب يحاول أن يوجد له شيئا من العزاء من خلال نوم زوجته وعدم رؤيتها خيبته أو فرحته المقطوعة الذراع ليبدأ من جديد البحث عن معالم الطريق الطويل!!
    وقريب من هذا البناء نجده في " حكاية هنادي " التي أقامها على أسلوب الاسترجاع أيضا كسابقتها، فقد بدأها بنبأ زواجها من عبد الفتاح بك زفّه إليه الكهل سائق السيارة البيجو الذي أقلّه من المطار إلى القرية في زيارة خاطفة من الرياض لزيارة أمه المريضة؛ ولما كانت علاقته بهنادي متميزة وضاربة في أعماق الماضي البعيد انبرى يسترجع أمشاجا من ذكرياته معها "الأفراس الطينية والعرائس"، وتتداخل ذكرياتهما مع "وطفاء" بنت المأمور التي فكر في الارتباط بها والتخلي عن هنادي في وقت ما، وكانت تحس تجاهها بغيرة قاتلة؛ وكلما حاول الالتصاق بالواقع توغل في الذكريات القديمة مسترجعا أطرافا منها، تتخللها أمشاج من أحلامه المؤجلة مع "وطفاء"، وحياة المدينة، والرحيل عن الريف الذي يغصّ بالذباب والبعوض والحفاء، وما تبع ذلك من تحول عن أحلام عوالم الشعر السحرية إلى واقع الأرقام الحسابية !!
    (يتبع)

  6. #6
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (القسم الثاني)
    ................
    على أن اختلاطا ما يمكن أن يلاحظ على الحبكة وتطور الحدث في هذه الحكاية، ذلك أن القاص يضعنا أولا أمام خبر زواج هنادي ووليمة المناسبة عند قدومه من الرياض، ثم يخبرنا في ختامها أنه سمع ذات مساء زغاريد خطبة هنادي إلى عبد الفتاح بك نفسه، وأنه رآهما في ميدان رمسيس في حالة ودّ حقيقي، ثم يخبرنا مباشرة أن عبد الفتاح بك قد مات ذات صباح!
    ومثل هذا الاختلاط والانتقال المفاجئ يوهن الحبكة ويفسد تسلسل الحدث، ويضعف فيها مسيرة الاسترجاع حتى لو كانت هذه الأحداث ذات أزمنة متباعدة تتخللها فترة غيابه في السعودية، ثم عودته. كذلك كانت نهايتها متوازنة ومتعانقة مع واقع هنادي الحزين ووجهها الذي غادره الفرح بعد أن قطع كل أمل بالعودة إليها وما تناهى إليه من أصوات وصراخ شقيقاته تنبعث من بيته المجاور، وهن يبكين أمه التي رحلت ولن يراها مرة أخرى!!
    أما بالنسبة لمستويات السرد، فقد بدا حرص القاص على التخفي وراء الكواليس والإمساك بأعنّة الأحداث ليمارس السرد بحرية ظاهرة، ودونما رقيب يتدخل فيها ويفسد عليه مواقفه؛ ومن هنا جاءت جميع القصص بضمير الغائب أو على لسان الراوي الذي يبدو في كثير من الأحيان كطرف محايد ، مجرد راصد وراوٍ للأحداث لا يتدخل في مسيرتها أدنى تدخل ، مع أن كثيرا من تلك الأحداث التي يرويها والشخوص التي يتحدث عنها تشي به وتشفّ عن صلته الوثيقة بها في رأينا مع أن عزوها إليه لم يكن لينال من شأنه شيئا يدفعه إلى التخفي وراءهم، إلاّ أن يكون ذلك ضربا من البناء القصصي الذي يروق له؛ خصوصا وأننا نجد في القصص التي يسردها بضمير المتكلم يفصح بلا تحفظ أو تحرج عن كثير من الأمور والأحداث التي تتطلب التحفظ وتدعو إلى الحرج وإن كان القاص حريصا على البعد عن التورط في قضايا الأخلاق والشرف والجنس بالصورة البشعة التي ألفها كثير من كتاب القصة والرواية في هذا العصر.
    وإذا ألفى نفسه مضطرا لخوض بعض هذه المظاهر توخى التكثيف والإشارة المقتضبة وعدم الإفصاح عنها والتوغل في حناياها والحديث عنها مما لا يكاد يلفت الانتباه كما في "التجربة "، والوجه الآخر المقابل لها في الصوت الأول من "يا فرحة ما تمت" بين باتعة زوجة محجوب وشقيقه الأستاذ محيي، وكذلك في "حفل عيد الميلاد" ومشكلة "نهى" وحرص سعيد شقيقها على إيجاد الحل الجذري المناسب لها ورفض الحلول المتميعة المتهاودة التي طرحها أبوه! وهو أمر قد يبدو متوازنا ومتناسبا مع معطيات ومفاهيم المجتمع الريفي المتمدن الذي استوحى منه أقاصيصه!
    وإذا كان الصوت أو البعد الاجتماعي في قصص المجموعة على هذا النحو من البروز، فقد كان البعد السياسي أشدّ خفوتا أو خفاء فيها؛ حيث لم نكد نجد له آثارا تذكر فيما عدا قضية الجنود العائدين من اليمن في "انتظار" وما كان يسود نظرته من تأييد بالغ تمثل في قوله:
    "تدفقت جموع القرية في انتظار القطار الذي سيحمل إليهم الجنود العائدين من الحرب في اليمن الشقيق لمؤازرته ولإنقاذه من جهل العصور الوسطى وحكم أسرة حميد الدين، وهاهم اليوم يعودون بعد أن سجل التاريخ بطولاتهم بحروف من نور في صفحات من ذهب!!" إن لم تكن هذه العبارات التي حصرها بعلامات التنصيص مجتلبة من الضجة الإعلامية المرافقة، وتحمل في أعطافها قدرا من الرفض والشجب؛ وإن لم يكن شيء من ذلك، فإننا نستطيع أن نرده إلى الضجيج الإعلامي الذي كان يسود المرحلة وكان القاص يخضع له خضوعا ظاهرا.
    ويبدو أنه كتب قصته في أوائل الستينيات إبان الموجة الإعلامية التي واكبت هذا الحدث وقبل أن يطلع على مسرحية "الفتى مهران" للشاعر المصري عبد الرحمن الشرقاوي، التي طبعت للمرة الأولى سنة 1966م لتعالج هذه القضية، مستنكرا إرسال الجيش المصري إلى اليمن وبقاء البلاد بدون جيش قوي يحميها ويدافع عنها، وهذا ما جعله يقف منها موقفا مغايرا لموقف الشرقاوي كما رأينا!
    وثمة قصة أخرى ظهر فيها الصوت السياسي خافتا إلاّ من الضجيج الإعلامي الزاعق في تلك المرحلة وهي قصة "يا فرحة ما تمت"حيث ظهرت آثار الضجة الإعلامية الزاعقة للاتحاد الاشتراكي الذي كان الحزب الوحيد الذي أنشأته الثورة المصرية في الستينات وما بعدها، وما واكبها من أحداث الدعاية والهتاف بحياة الرئيس جمال عبد الناصر وعدم إشراك أحد معه في ذلك الهتاف الجماهيري!!
    ولا نكاد نجد وراء ذلك شيئا يتعلق بالأوضاع السياسية في تلك المرحلة لسبب لا نعلمه فيما وراء ما أفصح عنه في"المهاتفة الصباحية" من موقف عبد التواب ورغبته في التحول عن السياسة، أو"طلاقها" ليكتب في يومياته أو أي شيء آخر أجدى منها كذكرياته وهو طالب في الجامعة في أواخر الستينات أيام حرب الاستنزاف وأغاني الشيخ إمام! وبرغم رغبته في التحول عن السياسة فإنه سرعان ما ينزلق إليها بعد أن غدت تشكل جزءا رئيسا من حياته.
    فعندما فكرفي الكتابة عن نفسه وجد نكبة 1967م تشكل علامة بارزة عندما هوى سكين الهزيمة على عنق الأمة وانبرى فلاسفة الهزيمة يكرسون قدريتها المحتومة على الأمة من أبناء القردة!
    ويحاول جاهدا التخلص من ربقة السياسة التي سلخ في كتابتها ستا وعشرين سنة من عمره، وأقصته عن مجالات إبداعه الحقيقية دون جدوى حيث كرّ يواصل كتاباته السياسية الميتة عن أفريقيا القارة العجوز وجنرالاتها الذين لا يهرمون وحروبها الدائمة وغياب الديمقراطية فيها !!
    على أن أبرز ما يمكن أن يلاحظ على قصص المجموعة اهتمام القاص بالحدث اهتماما يفوق ما عداه من تقنيات القصة القصيرة وخصوصا الشخوص؛ وبتأمل هذه المجموعة نتبين أن قصصها كلها كانت قصص حدث أو أحداث وليست قصص شخصية أو شخصيات؛ وهذا يعني أن عناية القاص كانت بسرد ملامح الحدث أكثر من بناء شخصية محورية فاعلة ومحركة للحدث؛ وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نجد هذه الشخصية المحورية الفاعلة أو الصانعة للحدث فيما وراء الراوي الذي يقوم بتحريك الشخوص وسرد الأحداث؛ وهذا يعني من وجه آخر أننا لا نجد الشخصية البطل في أي منها؛ ومن هنا جاءت أقاصيصه تصور أحداثا تتطور تطورا تلقائيا سلسا، وتتدافع تدافعا طبيعيا لتبلغ العقدة التي صنعها بدقة وإتقان وما يتبعها من لحظة التنوير؛ وبالمقابل خلت أقاصيص المجموعة من نماذج الشخوص المحورية الرئيسة خاصة وغير الرئيسة عامة وتجردت شخوصه من كل الملامح والأبعاد المميزة للشخصية الروائية والقصصية بتأثير عنايته البالغة بالحدث وسرد عناصره وتطويره؛ وهذه ميزة جديرة بالتقدير ولا تقل شأنا عن تشريح الشخصية وكشف أبعادها وملامحها الخاصة!
    ونقف عند عنصر آخر من عناصر القصة القصيرة وتقنياتها الأساسية وهو "الحوار"؛ وعلى الرغم من حرص القاص البالغ على السرد فقد شاع الحوار في قصص المجموعة شيوعا واسعا حتى ليمكن أن يعدّ من أظهر، أو أظهر خصائص البنية الفنية للقصة القصيرة عند الكاتب؛ والحق أنه وفق توفيقا بعيدا في إجراء الحوار وإحداثه بين شخوصه في محاولة جادة وفاعلة لتطوير الحدث؛ وهي ميزة تؤكد اقتداره الفذ على البناء المسرحي كما تؤكد ذلك مسرحياته الشعرية التي أشرنا إلى بعضها آنفا، كما أسهمت فيها دراساته الأكاديمية في هذا المجال؛ وغنيّ عن البيان أن الذي يتحكم في الحوار ويستدعيه ويتدخل في تكوينه وتحديد مسيرته طبيعة الحدث ودور الشخوص في صنعه وتطويره، ومن هنا يشيع الحوار في قصص الحدث القائمة على الشخوص، ويندر في قصص السرد التي تقوم على القص والحكي!
    وإذا تأملنا الحوار في هذه المجموعة ألفيناه متباينا وليس على وتيرة واحدة، حيث جاء أحيانا موجزا مقتضبا في بعض القصص "أحلام البنت الحلوة"، و"يا عيني على العاشقين"، و"يا فرحة ما تمت"، و"مهاتفة صباحية" حيث كانت الغلبة فيها للسرد والقص، وكان الحوار يأتي فيها بين الحين والآخر يفرض وجوده على السرد ويدور بين الشخوص الذين يتقاسمون البطولة والأحداث بالتساوي قسمة عادلة؛ وكأنه كان يريد أن يزاوج بين أسلوب السرد والحوار في قص الأحداث؛ وهو أسلوب يدني القصة القصيرة من المسرحية ذات الفصل أو المشهد الواحد ومحدودة الشخوص؛ وأحيانا أخرى كان الحوار يستغرق الجزء الأكبر من القصة وينتشر فيها انتشارا واسعا فتوشك أن تتحول معه إلى مسرحية لولا تلك الجمل السردية الكاشفة عن أبعاد الحدث وملامحه؛ وقد ظهر ذلك في قصص"ثرثرة في المدرج 78"، و"التجربة"، و"زواج في عربة الدرجة الثالثة"، و"حكاية هنادي"، و"حفل عيد الميلاد"؛ وقد امتازت هذه القصة الأخيرة بانحراف أو تجديد في مسيرة الحوار عندما تواصل بين سعيد وصورة أبيه في حركة درامية رائعة وبارعة؛ وإذا كانت الأقاصيص التي سبقتها حظيت بحوار ظاهر احتل مساحات متفاوتة منها، فقد وجدت أقاصيص أخرى حرمت من هذا الحوار الذي تخلى عن دوره في بناء الأحداث للسرد ومنها "الحارس"، و"لن"، و"الطريق الطويل"، و"انتظار"، و"الأوتوبيس والركوبة الملاكي"، و"الشاطئ الأخير".
    ومهما يكن فالحوار في القصة القصيرة ينبغي أن يأتي محدودا وغير واسع، وكذلك في الرواية حتى لا تتحول أي منهما إلى مسرحية أو تمثيلية، إذ كلما اتسع وشاع في أي منهما اقتربت من المسرحية وذابت الفوارق بينهما وهو أمر غير مقبول، أو ينبغي أن يكون غير مقبول لتظل لكل نمط أو نوع من الأنواع الأدبية خصوصيته المستقلة وخصائصه المميزة !
    على أن الظاهرة اللافتة للنظر في حوار هذه المجموعة سيطرة العامية عليه وانعدام الفصحى فيه برغم اختلاف الطبقات الثقافية والفكرية التي ينتمي إليها المتحاورون، حيث وجدنا مختلف طبقات المجموعة تنجذب انجذابا شديدا نحو العامية وكأنها لا تعرف شيئا من الفصحى مع أن منهم من ينتمي إلى الجامعة طلابا ومعيدين ومنهم أساتذة؛ وكانوا بذلك يهبطون إلى مستوى الريفيات وعاملات المقاهي، وبذلك كانت تتحول الحواريات كلها إلى العامية وكأنها مطلب رئيس من مطالب الإبداع في فن القصة القصيرة؛ وقد دفعني هذا الموقف المعاضد للعامية إلى أن أستنكر استخدام "جنيه" في حوار المعيدين مؤكدا أن الأولى استخدام كلمة عامية أخرى أنسب تتردد كثيرا على ألسنة الطبقات المنحطة في المجتمع وهي "لحلوح" أو "ملطوش" تعبيرا عن فقدان قيمته الشرائية وسرعة ضياعه!!
    ويبدو أن القاص كان أسيرا لأتباع وأنصار العامية واعتبارها وسيلة من وسائل التعبير الواقعي وتجسيد الواقعية في البناء الفني للقصة والرواية تغطية للمواقف الخفية تجاه الفصحى.
    وعلى الرغم من اعتراف القاص بتغيير بعض الأمور وإحداث بعض التعديلات في قصصه، إلاّ أنه أبقى الحوار بلغته العامية ليكون كما يقول "وثيقة فنية على كتابته في فن القصة القصيرة"( ) مؤكدا رفضه لهذه العامية الآن ؛ وإن كنا نفضل أن يتخلى عن هذا الحوار العامي، مستبدلا به حوارا فصيحا مشيرا إلى عاميته القديمة ودواعي تغييره لأن ذلك خير من بقائه!
    بقي من جماليات هذه المجموعة مظهر اللغة والأسلوب؛ وفيما وراء المظاهر العامية التي تفشت فيها على نحو ما أشرنا آنفا، جاءت لغتها شاعرية شفافة رشيقة، كما تجلى حرصه على استخدام الألفاظ الموحية والعبارات الجميلة واللوحات الشعرية والصور الرائعة حتى ليخيل للقارئ في جوانب كثيرة منها أنه يقرأ قصائد شعرية لا قصصا نثرية، وأن الشاعر القاص لم ينتقل "من وجدانية الشعر إلى اجتماعية النثر" كما يقول ، بل ظل أسيرا للغة الشعر إن تخلى عن وجدانيته الذاتية إلى اجتماعية النثر في معالجة القضايا الاجتماعية في أقاصيصه. ولا غرو، فمبدع هذه الأقاصيص شاعر مبدع مارس اللغة الشعرية بحميمية بالغة، وعاشها بوجداناته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه التي تشكلت تشكلا شعريا خالصا، وهو ذو أسلوب شعري رشيق ولغة تصويرية رائقة تناثرت مظاهرها في هذه المجموعة.
    وإذا شئنا نماذج دالة محدودة على هذه الظاهرة لأننا لا نستطيع أن نسرد أكثرها أو كلها، كان أمامنا ختام " الثرثرة" حيث يقول: "إن عصفورا أحمر على إيشاربها كان يحاول الطيران، ولكن الدماء كانت تسيل من جناحه المهيض"؛ وثمة "حمامة بيضاء كانت تسقط في الظلال الباهتة مضرجة بالدماء، على إثر طلق ناري اخترق الظلام"؛ وكذلك حلم "باتعة" زوجة محجوب وما يحمل في ثناياه من تأويل مشكلتها مع الأستاذ محيي شقيق زوجها في "يا فرحة ما تمت "! وفي ختام "الحارس" نراه يعلن أن "سراديب الدهشة واللذة تغلق أبوابها"؛ وفي "التجربة" جاء وصف أو صورة زوجة "سعيد" على هذا النحو: "كانت الزنبقة قد ألقت أحمالها، وتفتحت خمائلها، وانتشر عبيرها"؛ وحينما تغضب "صفاء" في "يا عيني على العاشقين" "فإن الشموس تهجر مداراتها، والعصافير تغادر أعشاشها …."؛ وفي "مهاتفة صباحية" نجد "صفاء" تنزلق على ضباب الذاكرة في صباح القاهرة الساخن الذي يتداخل فيه زحام الحافلات بضجيج المقاهي، والهمس من وراء شيش الشبابيك بأغاني سوقة الزمن الأخير، وغناء سيارات الأجرة في ثرثرته الغبية التي تذكرني بحكايات حلاقنا القديم في قريتنا النائمة في أحضان الخضرة والسكينة"!!
    ووراء هذه النماذج نماذج أخرى كثيرة تنتشر في جنبات اٌقاصيص المجموعة لتشكل لوحات لغوية غاية في الروعة والجمال والإبداع، ولكن لا سبيل إلى سردها في مثل هذه العجالة، ولكنها تؤكد بحق غلبة آثار الشاعرية التي امتاز بها القاص ومظاهرها على أسلوب المجموعة ولغتها!!
    وبعــد؛
    فهل يسعفنا الزمان بلقاء وشيك مع إبداعات قصصية أخرى لأديبنا المبدع، أم أن الشعر والشعر المسرحي سيظلاّن يستأثران بعبقريته وموهبته، وينفسان عليه وعلينا المتعة واللذة بقراءة أقاصيص أخرى ترسخ قدمه في تربة هذا الفن المراوغ الجميل الأثير على النفس ؟!!

  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    د0 حسين علي محمد و «أحلام البنت الحلوة»

    بقلم: مجدي جعفر
    ..................

    في مجموعته القصصية ( أحلام البنت الحلوة ) نلاحظ أن د. حسين على محمد هو الراوي / البطل لمعظم نصوصه القصصية ، وتكاد تري أنه لا وجود لشخصية ولا لحدث ولا لمكان في كل قصة، بعيداً عنه ، فالقصص في عمومها شذرات من حياته، ومواقف عاشها، يكتب عن أماكن يعرفها وعاش فيها، وعن أشخاص التقي بهم وصادفهم في حياته، تأثر بهم وأثر فيهم، وعن حوادث وقعت له أو للمقربين منه، والعوالم التي يكتب عنها عوالم حميمة امتزج فيها الخاص بالعام، ومن ثم نري المعاني الإنسانية المطلقة تتراءى على حد تعبير (جان بول سارتر) كالأفق من وراء تصوير المواقف الخاصة ..
    ** وإذا كانت القصة القصيرة تعتمد على السرد والحوار فيها ليس عنصراً أساسياً، فإن بعض قصص د.حسين تأتي " كلوحة حوارية" وهي أقرب إلي المسرحية ذات الفصل الواحد مثل قصتيّ "ثرثرة في المدرج" و"الزواج في عربة الدرجة الثالثة" وغيرهما ... ونختار القصة الأولي كنموذج للقصة / اللوحة / المسرحية، فالقصة اعتمدت بشكل أساسي على الحوار وتواري فيها السرد إلي الدرجة الثانية فاقتربت من المسرحية، وتدور أحداث القصة في المدرج 78 بكلية الآداب، والكاتب اختار مكاناً عابراً أو مؤقتاً أو أشبه بالمكان " الترانزيت" ويسوق د.خيري دومة مبررات وفوائد المكان " الترانزيت" ..( حيث يمكن وصف المشهد بسرعة، وأن خبرة القارئ بأماكن مشابهة ستغنيه عن تفاصيل كثيرة، وأن السرد سيكون محكوماً بحدود الإطار الطبيعي للمكان، وأنه يمكن تركيز المشهد – لوقت قصير – ودون تعنت على عدد محدود من الشخوص).
    والمكان "الترانزيت" يمثل سمة أساسية في قصص د.حسين على محمد، فتارة يختار المدرج ، وتارة أخرى يختار القطار، وتارة ثالثة يختار "المقهى" وتارة رابعة يختار الطائرة .. وإذا كان د.خيري دومة قد برر لنا فنياً أهمية اختيار المكان "الترانزيت" لكاتب القصة القصيرة – فإننا نري أن ثمة أسبابا أخري نفسية أو فكرية – وراء شيوع استخدام د.حسين للمكان "الترانزيت" في معظم قصصه، ولعل كثرة أسفار الكاتب وتنقلاته في رحلاته العلمية والعملية وعدم استقراره في مكان واحد منذ أن خرج طفلاً من قريته " العصايد" بحثاً عن العلم والعمل هي التي جعلته – لا شعورياً - يجعل المكان في قصصه مكاناً مؤقتاً أو عابراً – وربما الفكرة الإسلامية العميقة المترسبة في أعماقه – والتي تجعل في الأصل – الدنيا بأكملها – محطة من المحطات – بمعني أنها هي الأخرى "ترانزيت "..على أية حال – إن قصص د.حسين على محمد – تشير إلي إشكالية الزمان والمكان برؤية مختلفة – فيما نظن عن رؤى بقية الكتاب – وتحتاج هذه الإشكالية إلي دراسة متأنية ليس مجالها الآن!
    ونعود إلي قصة "ثرثرة في المدرج" وهي القصة محل القراءة والتي تقترب من المسرحية ذات الفصل الواحد فالكاتب / الراوي / يهيئ المدرج / المسرح لدخول البطلة سميرة بجمل وصفية قليلة، من خلالها يتعرف القارئ / المشاهد على البشر والديكور. والقصة تحكي قصة حب جمعت بين أحمد الشاب الجامعي الثري، وسميرة الفتاة الفقيرة والحاصلة على دبلوم التجارة، وتستشعر الفتاة فتور الحب وخفوت حرارته وغياب الحبيب عنها لأسبوعين، فتذهب إليه في الجامعة – في محاولة منها لاستعادة الحبيب وحبه – والقصة اعتمدت بشكل رئيس على الحوار بين الشاب أحمد والفتاة سميرة، والحوار بينهما يسير بالحدث بأسلوب المنحني الصاعد والهابط، وإذا كان أنطون تشيكوف يري أن القصة الجيدة هي القصة المحذوف مقدمتها – فإن قصص د . حسين كلها باستثناء قصة " انتظار " تبدأ بالحدث مباشرة – والحدث في القصة هو نقطة الصفر بالنسبة للمنحنى، وينمو الحدث بالحوار ويصعد حتى يقترب من الذروة، وقبل لحظة التنوير بقليل ينقطع الحوار، ليتغير مسار الحوار ومسار المنحني، ويبدأ في الصعود مرة أخري حتى قبل الذروة بقليل فيحدث قطع آخر ويعاود الحدث / المنحني الهبوط.
    وقطع الحوار في هذه القصة حدث مرتين، إحداهما عندما دخل زميل أحمد ليرد له مذكرة الاجتماع التي كان استعارها منه، والأخرى – عندما أحضر لهما عامل البوفيه كوبين من عصير الليمون … وإذا كان د. حسين قد جعل الحوار بطلا في القصة – فإن الحوار مهما بلغت دقته وإحكامه – يظل عاجزاً عن نقل كل المشاعر الداخلية للبطلين نقلاً كاملاً ومن هنا لجأ الكاتب إلى استخدام الصوت الداخلي للفتاة سميرة لتكشف لنا عما لا يستطيع الحوار كشفه؛ فالفتاة سميرة تأخذ موقفاً من أم أحمد الذي يدعي مرضها، فعندما يخبرها بأن أحد أسباب عدم اتصاله بها هو مرض أمه – نجدها تقول في نفسها: هل من الممكن أن تمرض هذه الحرباء ؟!
    ونعرف من الراوي - أنها – أي الأم - هي التي حرضته على البُعد عن سميرة قالت له: "أخوك مستشار وزوجته طبيبة، وأختك محاسبة وزوجها طيار، وأنت تتزوج واحدة تعمل على آلة كاتبة وحاصلة على دبلوم تجارة، وأبوها محصل في أتوبيس الوراق؟".
    ومن هذه الجمل القليلة نقف على الفارق الطبقي بين أحمد وأسرته وبين سميرة وأسرتها، وتبلغ الأحداث ذروتها ويبلغ المنحني قمته عندما نعلم أن أم الفتاة سميرة كانت تعمل خادمة عند أم أحمد منذ خمس وعشرين سنة قبل أن تتزوج أبا سميرة بعام أو عامين.
    والحوار عند د.حسين على محمد يكشف عن رؤية ويبين موقفاً وينمي حدثاً ويخلق دراما .. قالت : لو اشتقت لنا لسألت علينا ..".
    - " أمي مريضة "
    - " ألف لا بأس عليها "
    ( هل من الممكن أن تمرض هذه الحرباء؟..إنها هي ..)
    نلاحظ من خلال هذا الحوار القصير والمذيل "بمونولوج" داخلي للفتاة القناع الاجتماعي الزائف للفتاة التي تبأس ظاهرياً لمرض أم أحمد في حين أنها تضمر السعادة لمرضها أو حتى لموتها، وهذا التناقض الحاد بين الظاهر والباطن أحد أمراضنا الاجتماعية .. وفي تصوري أن الحادثة في عمومها – ليست انفصاما لعرى علاقة بين شاب وفتاة جمع الحب بينهما، ولكنها محاولة انفصال بين طبقتين مختلفين ، طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، وفي محاولة صعود الطبقة الدنيا إلي الطبقة العليا، تأتي الفتاة سميرة من حي الدراسة الفقير إلي الجيزة لتلتقي بأحمد الذي يقطن في أحد أحيائها الراقية - في حديقة الأورمان أو في جزيرة الشاي.
    والكاتب قريب من حرفية الكتابة للسينما ( السيناريو والحوار ) .. فمثلاً الحوار السابق ينهي الراوي الجملة الحوارية علي لسان البطل بكلمة "مريضة" لتتسلمها البطلة وتبني عليها من خلال صوتها الداخلي، وتكشف وتنمي الحدث مثل قولها (هل من الممكن أن تمرض هذه الحرباء ؟!) ..وتستمر في الحوار الداخلي كاشفة عما لا يكشف عنه بالحوار، وتأمل الحوار التالي:
    " قال في حزن شديد: أمي مصابة بالمرارة وحالتها متأخرة "..
    كادت تزغرد. ولكنها قالت: " لازم نزورها الليلة ، ماما ستحزن إذا عرفت أنها مريضة "..
    وهنا تأكيد آخر على التناقض البين بين الظاهر والباطن، وتأكيد آخر علي فنية ومهارة استلام نهاية الجملة الحوارية، وبناء أصوات داخلية، حيث تتسلم الفتاة كلمة الحزن وتقول في نفسها (هل ستحزن أمي حقا؟!).. وتبدأ الفتاة في الكشف، وتصل بالحدث إلي قمته .. ( لقد كانت تخدمها منذ خمس وعشرين سنة قبل ..).
    وإذا كان الكاتب قد أبان عن مهارات عديدة - في استخدام التقنيات الفنية – مثل الحوار، الصوت الداخلي – فإننا لا نستطيع أن نغفل مهارته كسارد حيث يسجل بذكاء وحيادية مشاهداته للبطلين، وملاحظاته مثل: خلجات الوجه، نظرات العيون، لحظات الصمت، عمليات الشرود، حركات البطلين الجسدية، وسكناتهما، وعبر عن المسكوت عنه من خلال إشارات سريعة وإيماءات خاطفة.
    وإذا قسمنا القصة/ المسرحية / اللوحة إلي مشهدين أو لوحتين وتتبعنا الجمل السردية القصيرة للسارد في المشهد / اللوحة الثانية، وأخذنا جملة البداية للمشهد / اللوحة .. بعد أن طلب أحمد كوبين من عصير الليمون وقبل أن يأتي عامل البوفيه بالعصير – كان المنحني قد بلغ بالحدث ذروته ثم حدث القطع للحوار، وعاد المنحني ليبدأ من نقطة الصفر ..يقول السارد في بداية اللوحة الثانية:
    " جلس علي بُعد متر منها "..لاحظ الفجوة ، فالمسافة اتسعت بين الحبيبين أو بين الطبقتين، أصبحت متراً، والمتر في عيون العاشقين أميال، ويبدأ الحوار في الصعود مرة أخري ، ولكن الصعود هذه المرة ، وإن تشابه مع الصعود في المرة الأولي – إلا أنه يختلف بالنسبة للبطلين أحمد وسميرة وبالنسبة للمتلقي / القارئ / المشاهد أيضاً .. فالبطل لا يكف عن ترديد نغمة أمي مريضة – ادعي لها بالشفاء، ونغمة انشغاله بالحصول على الليسانس، والرؤية تنكشف شيئاً فشيئاً، وفى هذا المشهد تتجلى روعة السرد على قلته عند السارد. إذ تشكل الجمل السردية القليلة مع الحوار – الخطوط الرئيسية للوحة ...فأول جملة سردية في المشهد الثاني "جلس على بُعد متر منها " تشير إلي التباعد بين البطلين ثم تأتي عبارة فاجأها بها، والمفاجأة هنا من الحبيب غير متوقعة – ثم عبارة "لا يرفع عينيه عن الأرض" .. عبارة دالة على الخجل، خجل البطل من مراوغاته ومما ينتوي فعله بالابتعاد عنها والتخلص منها، ثم عبارة "تحس أنها تستدعي صوتها من بئر عميقة" .. دلالة على الوهن والحزن .. ثم جمل سردية سريعة وخاطفة تبين حيرة البطلة وترددها، حتى تنجح في التغلب على التردد وتلقي في وجهه بالقنبلة.
    - " سمية صاحبتي تقول إن أمك ستخطب لك سناء أخت الطيار التي تعمل مضيفة أرضية بمطار القاهرة.
    " هذا كلام سابق لأوانه، يشغلنا الآن: مرض أمي، وحصولي على الليسانس!".
    إجابة مراوغة كما تري أغصبت سميرة ، وكما يُحسن د. حسين ابتداء قصته – حيث يبدأ من الحدث مباشرة – وربما يكون العنوان عنده هو الحدث – فإنه يُحسن أيضاً إنهاء قصته، وغالباً ما تأتي النهاية صورة رمزية شعرية مكثفة – فانظر كيف أنهي قصته " ثرثرة في المدرج":
    «لا يدري إن كانت سميرة قد غضبت حين قال لها إنه لا يفكر إلا في مرض أمه وحصوله على الليسانس، لكنه متأكد أنها لم تشرب الليمون، وأن عصفوراً أحمر على إيشاربها كان يحاول الطيران ، ولكن الدماء كانت تسيل من جناحه المهيض!».

المواضيع المتشابهه

  1. البنت الحلوة ام ضفاير
    بواسطة علاء عيسى في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 46
    آخر مشاركة: 03-08-2008, 11:32 PM
  2. أيامنا الحلوة
    بواسطة عتيق بن راشد الفلاسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 26
    آخر مشاركة: 02-10-2007, 03:36 AM
  3. د ( حسين علي محمد وأحلام البنت الحلوة ( رؤية نقدية بقلم / مجدي محمود جعفر )
    بواسطة مجدي محمود جعفر في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 27-05-2007, 01:15 PM
  4. عينُ الحلوة
    بواسطة حنان الاغا في المنتدى مُنتَدَى الرَّاحِلَةِ حَنَانِ الأَغَا
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 13-02-2007, 02:42 PM
  5. قراءات في مجموعة «أحلام البنت الحلوة» للدكتور حسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-04-2006, 12:12 AM