يا فرحــــة .. ما تمت!
(أصوات ومشاهد)
قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد
.......................................
*صوت أول:
كان الغناء يتصاعد شجيا، وكانت جوقة المنشدين تهتز يمنة ويسرة، وكان الشيخ "محجوب" ذا وجه مضيء كالبدر وصوته يتصاعد بالنداء الروحي الجليل، فيهفو إليه اليمام والعصافير والعنادل التي طلقت الغناء منذ وقت طويل!
وكانت زوجته "باتعة" تطفئ الأنوار، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتذكر كيف حاول "محيي" (أخو زوجها الأصغر) إغواءها، فدفعته في صدره، وقالت له في نبرة لا تخلو من عتاب:
ـ أنا أمك يا محيي، لقد تزوجت أخاك وأنت في السابعة!
قال في وقاحة:
ـ ولكنه مشغول عنك بأذكاره ومواجيده!
*مشهد أول:
قال الراوي:
قريتي العصايد، مركز ديرب نجم، محافظة الشرقية (ومهم أن نذكر اسمها هنا) قرية من خمسة آلاف قرية مصرية، تضم نحو ستة آلاف نسمة، وهي قرية أم لمجلس قروي العصايد الذي يضم معها سبعة بلاد أخرى.
أُنشئت في قريتي عام 1962 وحدة مجمّعة تضم مستشفى، ومكتب بريد، وسنترال تليفونات، ومدرسة ابتدائية، ومكاتب لمقر المجلس القروي.
وبالطبع، كمبنى أي وحدة أنشأتها الإدارة المحلية أنشئت في المبنى قاعة مسرح كبيرة لم تشهد إلا خمسة اجتماعات جماهيرية حضرها رئيس مجلس المدينة (مصطفى بيه الجندي) وأمين منظمة الشباب (بدر بدير)، وكان الشيخ أحمد أبو سليمان يقود هتافات الجماهير التي تزلزل البلاد السبعة للمجلس القروي:
ـ يحيا جمال عبد الناصر. يحيا مصطفي بيه الجندي!
وكانت هذه الهتافات تتخلل اللقاء بمعدّل هتاف كل خمس دقائق، وأحياناً بعد دقيقة أو دقيقتين إذا حدث طارئ وذُكِر اسم الزعيم الخالد!
وقد كف الشيخ أحمد أبو سليمان عن الهتاف بحياة "مصطفى الجندي" ـ مؤخرا ـ بعد أن نبّه عليه رجل مهم بأن عليه ألا يذكر مع اسم الزعيم (جمال عبد الناصر) اسم أي شخص آخر!
**
*صوت ثان:
قال أبوها (الشيخ محجوب):
ـ البنت لم تعد منذ يومين إلى البيت يا باتعة!
قالت أمها:
ـ إنها تتأخر في فصول الاتحاد الاشتراكي، فتبيت عند خالها في ديرب نجم!
ـ ولكن خالها له أولاد في مثل عمرها، وعلى "وش جواز"!
ضحكت، وربتت على فخذه وهي تقول:
ـ بنتك مؤدبة يا حاج "محجوب"، ليست من بنات هذه الأيام! وأشرف وأحمد ابنا سليم أخي مؤدبان، وحييَّان كالبنات، ولا يفعلان العيب!
*مشهد ثان:
وقفت باتعة على حافة الموج، كانت الرياح عاصفة .. أحست بالشمس تقترب من رأسها، كانت ملتهبة، ويد خبيثة تدفعها تجاه البحر، هوت رجلها ولكنها تعلّقت بفرع شجرة صفصاف، وحينما خرجت إلى الشاطئ ناجية وجدت فراشا أحمر، فوقه بعض الكراسي .. وناس كثيرون يشكلون نصف دائرة، تستمع بشغف إلى خطيب أو مغن أو ما شابه. تمشت، فوجدت أختها "سامية" جالسة تأكل عنبا أبيض، فمدت وأخذت عنقودا قبل أن تعزم عليها أختها!
وصحت من النوم، وهي تحس بطعم العنب في فمها!
ونادت عل ابنتها "حنان" لكي تأتي لها بكوب ليمون يبل ريقها الناشف، فلم تجدها!
**
*صوت ثالث:
ترك الشيخ "محجوب" الدراسة وهو في السنة الثالثة بكلية الحقوق ـ كلية الوزراء ـ التي ألحقه بها أبوه ـ شيخ الطريقة ـ قبل أن يموت!
خلع البذلة، وارتدى الجلباب، ولبس العمامة والطربوش!
أصبح الكبار والصغار من مريديه لا يتركون بابه، ويتكلمون في حضرته بصوت خفيض! ويتمنى أحدهم لو يطلب منه "لبن العصفور" ليحضره أسرع من جن سليمان عليه السلام!
لم يكن يتعس الشيخ "محجوب" إلا مرأى أخيه محيي ذي الشعر المشعث المغبر، والذي صار في الخامسة والأربعين، ويرفض الزواج، وسلوكه ليس فوق مستوى الشبهات!
*مشهد ثالث:
قال أشرف ـ وهو ينظر في صفحات كتاب ضخم من كتب الجامعة ـ لحنان:
ـ لماذا لم يتزوج عمك الأستاذ محيي؟
ضحكت:
ـ يقول إنه مازال صغيرا على الزواج!
قال ـ وهو يخفي وجهه في الكتاب ـ:
ـ الناس يتحدثون عنه حديثا …
قاطعته:
ـ الناس لا يتركون أحدا في حاله!
**
*صوت رابع:
كان أشرف يكبر حنان بخمسة أعوام، هو في السنة النهائية بكلية التجارة بالقاهرة، وهي بالفرقة الثانية بمدرسة التجارة الثانوية بديرب نجم.
يصحو في الفجر، يصلي في المسجد، ويفطر، ويركب أول حافلة للزقازيق في الخامسة والنصف صباحا ليلحق أول قطار متجه إلى القاهرة في السادسة والربع.
وما بين الرابعة والسابعة مساء يعود!
يقرأ دروسه ساعتين أو ثلاثا كل يوم، وينام قبل العاشرة والنصف، وأحيانا بعد صلاة العشاء مباشرة.
*مشهد رابع:
قال الراوي:
… وكأي "وحدة مُجمَّعة" جاء لوحدتنا جهاز تليفزيون، منذ متى؟ الله وحده يعلم! .. المهم أننا أردنا أن نعمل حفلاً بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة 23 يوليو، ووافقت الجهات المعنية على ذلك، واخترنا مسرحية وطنية لسعد الدين وهبة، ومسرحية إسلامية لمحمد محمود شعبان، وبدأ عامر علي عامر يُعدُّ لإخراج الحفل.
**
*صوت خامس:
ضحكت حنان، وأشرف يقرصها في خدِّها الذي احمرّ بلون التفاح الأمريكاني الذي يراه محمد معروضا في محلات الزمالك حينما يذهب لزيارة خالته "وداد"، زوجة المستشار التي لم تنجب، وتعده ابنا لها، وتقول له:
ـ سأزوجك بنت الباشا!
ـ هل مازال هناك باشوات يا خالة؟
ـ نعم! الزمالك كلها باشوات
قالت حنان:
ـ سأقول لعمتك باتعة أنك تعاكسني!
رفع يديه إلى فوق علامة التسليم، وكأنه بقول: أنا لا أقدر على أمك يا حنان!
وأضاف في استسلام:
ـ عمتي باتعة صعبة!
*مشهد خامس:
قال لنا الأستاذ محيي ـ حينما زارنا ليطّلع على بروفات المسرحية الإسلامية ـ وهو ناظر المدرسة الابتدائية بالقرية، وأكبر متحدث في السياسة والأدب والمجلات الخليعة التي تصدرها "بلاد برة" ولا يطلع عليها أحد في مصر، وأخو الشيخ محجوب شيخ الطريقة الصوفية في إقليمنا:
ـ بدل الحفلة .. خلوا التليفزيون يشتغل؟
ـ أي تليفزيون يا أستاذ محيي؟
ـ التليفزيون المرمي في مخازن المجلس.
ـ ولماذا لا يطلع من المخازن ويشتغل؟
ـ لأن فيه عطلا فنيا يا سيدي؟
(ولا ندري كيف يكون هناك "عُطل فني" وهو لم يُستعمل على الإطلاق! اللهم إلا إذا كان السيد أمين المخزن يدير الجهاز في المخزن، ويشاهده مع كافة محتويات مخزنه: من الأكياس، والكراسي، والأوراق، وصفائح العسل، والفئران التي تستطيع أن تأتي على مزروعات عزبة صغيرة ـ مثل عزبة الدكتور عبد الوهاب مورو المجاورة ـ في ليلة واحدة!)
**
*صوت سادس:
ضحكت حنان وأحمد يشد يديها، ويتحسس شعرها، وينظر بشهوة من فتحة الفستان ليرى منابت ثدييها:
ـ سأقول لأشرف أخيك!
قال في صوت واهن:
ـ أشرف مشغول ببنت الباشا التي ستزوجها خالتي له!
وشد يدها مرة ثانية، ولواها ـ وهي تقول ـ:
ـ لن أجيء إلى بيتكم مرة ثانية!
*مشهد سادس:
… بدأنا حملةً لتمويل الحفلة التي سندعو إليها المحافظ، ورئيس مجلس المدينة، وأمين منظمة الشباب، واقترحتُ أن نأخذ من كل أسرة ـ بإيصال ـ خمسة قروش.
وحينما بدأنا عملية تمويل الحفل، قال لنا الفلاحون والطلاب والموظفون والنساء والأولاد الذين لم يخرجوا من البيضة بعد ـ في نَفَسٍ واحد ـ:
ـ خلوا التليفزيون يشتغل.
وقال لنا طلاب المعهد الديني بالزقازيق:
ـ كل القرى المجاورة للزقازيق تليفزيوناتها تشتغل، والناس يشوفون النشرة، وحلقات المسلسلات، ومصارعة محمد علي كلاي، وخطب جمال عبد الناصر، ورقصات نجوى فؤاد!
وقال لنا الأهالي والمسؤولون ـ وكأنهم على اتفاق ـ:
ـ متى سيشتغل التليفزيون؟ ..
وعملنا اجتماعاً مع رئيس المجلس القروي، ووكيلته، وحمل رئيس المجلس التليفزيون في سيارة المجلس إلى ديرب نجم، وعاد في آخر النهار ليُفاجئنا بالخبر المثير: إن إصلاح الجهاز سيتكلف عشرين جنيهاً.
**
*صوت سابع:
أحمد متوهج المشاعر، يحب كل شيء في حنان. صوته يجلجل في أذنيها دائما، ويقول حكايا لا نسمعها لنكتبها هنا، وأشرف بعيد .. بعيد عند خالته "سامية" التي ستزوجه بنت الباشا في الزمالك ..
حنان تستجيب لأحمد، وأحمد صغير "على قدِّها".
قالت باتعة للشيخ محجوب:
ـ أشرف طار منا إلى قصور الزمالك.
ـ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين!
ـ أحمد ولد حبُّوب!
ـ ربنا يحفظه بفضله وكرمه..
صمتت برهة، ثم قالت بصوت خافت:
ـ أحمد فيه البركة .. أشرف ابن أمه!
أفاقت على صوت الشيخ محجوب:
ـ ماذا تقولين؟
قالت وهي تقوم، وتنفض ثوبها من بعض الغبار الذي علق به:
ـ خالة أشرف ـ زوجة المستشار العاقر ـ تقول إنها ستزوجه بنت السلطان!
*مشهد سابع:
أحست حنان ـ مع أحمد ـ أنها تخطّت الزمان، والمكان .. أصبحت نجمة تحلق في الشفق البعيد، أو نسمة حرة تنطلق في ملكوت الله، وكانت تعود بعد العشاء فلا يسألها أبوها: لماذا تأخرت؟
**
صوت أخير:
كنا قد جمعنا من الأهالي خمسة عشر جنيها، وقال لنا الأستاذ محيي:
ـ الحفلة ليست مهمة يا أساتذة. الأفضل إصلاح التليفزيون!
ورددت القرية ما قاله الأستاذ محيي:
ـ الأفضل أن التليفزيون يتصلّح!
وتطوع بعض الزملاء لجمع خمسة قروش من كل طالب إعدادي، أو ثانوي، أو جامعي، ويقال إن بعض الفلاحين دفعوا عشرة قروش، وبعضهم أقسم بالله ألا يدفع، وألا يُشارك في منكر، واعتبرناها حجة لعدم الدفع بالتي هي أحسن!.
*مشهد أخير:
ابتسم المصور رافعا قبعته، فبدت رأسه الصلعاء كبيرة، وبيضاء، ولامعة، وهتف أحمد أبو سليمان بحرارة "يحيا مصطفى بيه الجندي"، وأظهر الشيخ محيي مجلة مليئة بالصور العارية التي تظهر فيها النهود والأرداف بدون ورقة التوت، وتوقفت حنان عن الكلام المباح، فلن تسعفها الكلمات لتصف كيف أحست وقع أول قبلة من أحمد في فمها، كان صوت أبيها ينشد مواجيده التي تترقرق عذبةً في الفضاء العالي، وكانت تحس أنها تحتوي العالم كله في صدرها، وكان خدر غريب يسري في أطراف جسمها، وكان جمال عبد الناصر يقول إن اليهود وصلوا إلى قناة السويس، وإنه سيتنحّى لمن يقدر على إدارة الصراع في هذه الفترة، وخطب الشيخ إبراهيم حمزة (الإخواني القديم) قائلاً: إن اللعنة تطاردنا لأنا ابتعدنا عن منهج الله!، وادّعى (الأخوة المسيحيون) أن العذراء تظهر في الزيتون، وظهرت في قرية مجاورة واحدة قيل إنها حملت بدون زواج وقالت إن هتلر أتاها وبشرها بالنصر على اليهود، وأنها ستلد طفله! وكان التليفزيون يعرض رقصة مجنونة لواحدة تفتح ما بين ساقيها حتى أقسم الشيخ عبد المقصود أن هذا إفك قديم، وأنها تُظهر مالا يحق لأحد غير زوجها ـ إن كانت متزوجة ـ أن يراه، وولدت "معزة" عبد الجواد صاعد خمسة توائم، قيل إن أحدها يحمل رأس إنسان، وادّعى خليل أبو مبروك أن "أم محسن" التي ماتت وهي تلد في الحرام على يدي حلاق القرية أنها قالت إنها حملت من جني نصراني كان متلبسا بها! وكان طلق ناري يخترق الظلام!
وحمامة بيضاء تسقط في الظلال الباهتة مضرّجة بالدماء!
وجهاز التليفزيون ينفجر، كأنه قنبلة، ويعم الظلام كل شيء.
القاهرة 23/9/1970م
(من مجموعة "أحلام البنت الحلوة"، ط1: 1999م الإسكندرية، ط2: المنصورة 2001م.