أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: سمير الفيل يكتب عن مجموعة «مجنون أحلام» للدكتور حسين علي محمد

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي سمير الفيل يكتب عن مجموعة «مجنون أحلام» للدكتور حسين علي محمد

    مؤثرات شفاهية في نصوص عصرية
    قراءة في المجموعة القصصية «مجنون أحلام»
    للدكتور حسين علي محمد

    رؤية نقدية بقلم: سمير الفيل
    ..............................


    (الجزء الأول)
    مشاهد من نثار الحياة، وحشد من التفصيلات الدقيقة المرهقة، وحكايات أغلبها شفاهي يتم زجك في إيقاعها المتواثب دون أن تملك فرصة لالتقاط الأنفاس، ثم شذرات من السيرة الذاتية تتقاطع مع بنيات سردية تتضافر حثيثا مع مشاهد جغرافية لسهول وأودية وقفار في مناطق متباعدة لا يجمع بينها سوى البطل ذاته.
    البطل المحبط دائما والذي فاتته الفرصة الأخيرة، وأنت حاضر قلب المشهد وعلى كثب من غرائبية العلاقات التي تنسج على مهل، نسجا دقيقا كأنه نول بدائي قديم يصلح لمنحك ثوبا قشيبا من حكايات عصرية.
    حكايات تدفعك دفعا لأن تنتحي جانبا وتتذكر ما مر بك شخصيا من صنوف القهر والابتلاء ، وانحناءات الطريق الوعر كي تهدأ نفسا وأنت ترى الحياة بحلوها ومرها، بزهوها وانكساراتها، بطيبها وخبثها.
    تلك هي نصوص حسين علي محمد الذي لا يتخلى مطلقا عن نزعته الأزهرية العتيدة وهو يتوغل في مناطق وعرة من النفس البشرية، ويستحضر البشر بأسماء أخالها حقيقية، يضرب في المناطق الحرام في السياسة والأدب، ويعرج إلى حانوت فقير كي يشرب كوبا من الشاي الساخن، وهو يطلق زفرة حارة بأن الحياة دوامة لا تنتهي من المشاكل والمحن، والأفراح الصغيرة، وهي شهادة لا تعوزها المصداقية، لكنها تتلون بألوان الأماكن التي يحلق فيها "النسر" الجريح المنهك.
    والنسر يأتي كمعادل موضوعي لرحلة البحث عن لقمة عيش نظيفة في مضارب بني علي، وفي سهول زبيد حيث القرى الجبلية الصعبة باليمن، والتقاليد الصارمة المهيمنة على الناس والمكان، ويتردد التجوال المرهق في شوارع الرياض، وميادينها الملتهبة بحرارة تشوي الأبدان، ثم تمر بحوانيت جدة القديمة لتستقر في نقطة انطلاقها الأولى بقرية صغيرة تغفو قرب النيل في "ديرب نجم"، أو لتعاود البحث والتنقيب عن وقائع في بيوت شعبية في المحروسة وأزقتها الشعبية التي لها رصيد لا يستهان به في النصوص.
    لا تهم الأمكنة بقدر ما يبدو القاص حريصا على أن ينقب عن الأحداث، والوقائع، ودلالات التصرفات اللامتوقعة لبشر يعانون الوحدة، والقهر، وسوء التصرف، وأحيانا عدم القدرة على التناغم مع الحياة في مسلكها المتقلب الغريب.
    الحكي المتقن:
    الحكي هو أساس السرد في هذه المجموعة التي عنونها القاص باسم "مجنون أحلام"، وهو عنوان لا يدل على الأحداث ولا يلخصها بقدر ما يقدم لمحة على استحياء لعلاقة الراوي بامرأة يمنية قابلها صدفة في أرض تدعى "الوصاب السافل"، مات عنها زوجها في حادث ولها ابن مقعد، تتهيأ للحضور إلى القاهرة كي تكمل دراستها العليا. إلى هنا والأمور مواتية فمن الطبيعي أن يتفق الراوي على الزواج من أحلام التي فتن بها، لكن يبدو أن هناك دافعا قهريا يبدد هذا الحلم، بالرغم من رحلتهما في سيارة صالون إلى مدينة الحديْدة التي تبدو بعيدة كل البعد، وحتى الأغنية التي تهز المشاعر:
    " يا ريم وادي ثقيــف.. لطيف جسمك لطيف.. ..
    ما شفت أنا لك وصيف.. في الناس شكلك ظريف".
    تبدو مدججة بمعان خفية لا تجعل للوصل سبيلا للتحقق، وهو ما نراه في نصوص أخرى ترصد تلك العلاقة المشدودة لأقصى حد بين الرجل والمرأة، فقانون الواقع غير القانون الفطري للحياة الذي لا نملك تبديله أو تغييره مهما بذلنا من جهد ومشقة.
    والحكي الذي يقدمه القاص على درجة عالية من الإتقان لأنه ينحو باتجاه استقصاء المشاعر ونغمات النفس الشاردة التي تختفي وراء الأحداث، ولا يقف عند ترددات الموقف الآني وتداعياته الظاهرة فقط.
    ويبدو هذا في انتقاله السلس بالأحداث من الحاضر إلى الماضي، ومن القرية إلى المدينة فيما يقطع التاريخ طوليا ويتفرع منه عرضيا للتعرف على حقيقة الحدث المضمر، والجانب المسكوت عنه بطريقة الحكاء الشعبي الذي يلم بكافة التفاصيل، لكنه يضمرها في ذاته ولا يبوح بها إلا في موقف محدد يكون عليه أن يؤكد أو ينفي.
    وهو عين ما نراه في قصته الأخيرة "من التغريبة اليمانية" والتي تشكل نفس قماشة السرد التي رأيناها في قصته الأولى "مجنون أحلام"، غير أنه هنا يتقدم خطوتين باتجاه تقنيات سرد مغايرة فيحذف، ويجمل، ثم يضفي نفسا شاعريا يعبق بالسحر مع أبطاله المعذبين بالفراق، وسوء البخت، والوحدة التي لا يمكن إلا أن تكون حظا عاثرا مماثلا لظروف الطبيعة القاسية، والواقع الذي يسور أفعال ناسه: سكناتهم، وحركاتهم.
    لكن القاص يلجأ هذه المرة إلى منطقة مكتنزة بالغرائبية حين يجعل الطفل هو محرك الأحداث ليتحرك نحو الهامش مكتفيا بالرصد، ويقضم الطفل قضمة من الباذنجانة البيضاء، وننظر إليها وهي تقع على الأرض، فكأنها الثمرة المحرمة، أو هي قرين المهرة الجموح التي تشرد بعيدا في انتظار من يسوسها، والبطل في كل الأحوال لا يتورط في فعل خارج، ولا يمكنه ـ ربما لكونه غريبا منبت الصلة بواقعه ـ أن يتقدم للحصول على ما تشتهيه نفسه.
    راو ٍ مراقب، متيقظ، فطن، يعوزه أن يتحول من حالة الرصد إلى المشاركة والفعل وهو ما لن نعثر عليه أبدا، فالنصوص أقرب ما تكون لشهادات أدبية حول أحداث، ووقائع، وتسجيل أمين لمشاعر ذاتية مرت به في زمن انقضى ومضى إلى غير رجعة.
    سألت نفسي: أليس هذا نفس ما تقوم به الدول من الإفصاح عن أسرارها السياسية والعسكرية بعد مضي زمن محدد؟ وضحكت للفكرة، ورنت في أذني قهقهة مجلجلة للراصد الذي يسرد بسخرية مرة لا تفوت على القارئ المحترف أبدا تفصيلات حياة ماضية مكتنزة بالحكم والمواعظ ومصائر الشخصيات، وهو نفس ما نعثر عليه في ثنايا النص القصصي عند الكاتب. إنه يحترم خصوصيات من يتحدث عنهم، لكنه لا يني يحتشد للقص باعتباره وسيلة تسرية عن النفس في زمن الاغتراب، والانكسار، ولملمة شظايا النفس المهشمة!
    عوالم حية:
    تقودنا نصوص حسين علي محمد القصصية إلى عوالم زاخرة بالحركة والحيوية، فهو يكتب عما يعرف، ولا يختلق حكايات لم يشهدها، ولا يستعير شخصيات من المخيلة، لأن حياته مترعة بالسفر والترحال، والالتقاء بالغريب والمدهش والمحير، لذلك يمكنك بسهولة أن تعثر على مفاتيح تلك العوالم خاصة وأنه يحسن تجسيدها، فتراها أمامك شاخصة، محملقة في الفراغ أو متورطة في خصومة، أو منشغلة في نزاع مثير للقلق، أو ساكنة تترقب الأحداث في همهمة مكتومة.
    هي عوالم تظهر لنا بجلاء مأزق الوجود الإنساني، وحيرة الشخص إزاء قوى ضاغطة تحاول أن تستلبه السعادة، أو تشوش عليه فكره، وفي أغلب الأحيان يرصد لنا القاص الواقعة دون أن يعلق عليها، فهو يكتفي بأن يزيح عنها غبار الزمن كي نشاهد بأعيننا الأحداث كما جرت بالضبط حتى لو كانت في قفر بدوي كما في قصة "أم داليا" وهي عن فتاة مهندسة حملت سفاحا، فنست الأم تعليمها الجامعي وتحولت إلى قاتلة بأن استدعت عمها سعفان شيخ قرية الصوالح الذي ذبحها بيده ، وتركها ـ هي الأستاذة الجامعية ـ تواجه تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد. والمتابع لهذا النص يلمح إدانة خفية لسلطة الأعراف في مجتمع يحاول أن يتحرر قدر الإمكان من قبضة المجتمع القاسي في أحكامه، وقد أجاد الكاتب رصد اللحظات الرجراجة التي تشظت مع فعل القتل، حتى أننا نتعاطف مع القتيلة ومع الأم في ذات اللحظة، ويهزنا أن نعرف أن أباها ضابط المظلات قد غادر الدنيا وهي طفلة، فالبنت تدفع ضريبة السلطة المطلقة للأعراف والتقاليد، وبتفاوت ملحوظ سيكون من المثير أن نعثر على ضحية في قرى دلتا مصر أو في الوصاب السافل باليمن، أو في باحات العليا بالرياض. فالمسألة أن الفضاءات المطلقة للفعل الإنساني تضيق، وتبصر ذاتك واقفا في العراء بمفردك حيث تتحرك طاحونة الحياة بدون قلب لتطيح بالخارج والمارق، وربما الحالم ، والشفاف.
    عوالم من أساتذة جامعيين، وأطباء، ومهندسين، وصيادلة ، ومدرسين، وأجراء يتحركون في الغربة فينكشفون تماما، وتكتشف معهم أن الإنسان يعيش حياة قلقة تخلو من الوسامة، ومن الملاحظ أن السفر ملمح أساسي في كتابات حسين علي محمد بتنويعات مختلفة، وبتعرجات متباينة.
    فإذا علمنا أن الإنسان يكون في سنوات الغربة فاقدا الاتزان إلى حد ما فسوف يصدمك أن تواجه عوالم ضارية من المتع المختلسة والسقطات التراجيديا المذهلة جنبا إلى جنب مع ومضات لا تخفى لأناس يتسلحون بالحكمة وطول البال، والفطنة، والدهاء في أحيان كثيرة وحسبما تقتضيه الأمور. الغالب في صدارة المشهد هو البحث عن سعادة مستلبة، ومحاولة الانفلات من قبضة الزمن الغادر الذي لا يعرف رحمة ولا مهادنة.
    متعة الشفاهي:
    للقاص أسلوبه المميز في حكيه الشفاهي، الذي يقترب إلى حد كبير من أسلوب عزف الربابة الذي يجيد التقاط ذبذبات النفس البشرية وعزفها على وتر مشدود ليثير انتباهنا. وفتنة هذا النوع من السرد تنبع من اختراق معلن لطبقات الحدوتة فهو يقدمها في قالب إبداعي مشوق، وبالتأكيد تعثر على أنفاسه، وأفكاره، لكنه في العادة يترك مسافة مناسبة بينه وبين الحدث حتى لو أنه البطل الذي تجري عليه الأحداث مثلما نجد في قصة "لن يكلم نفسه في الشارع" فبطل القصة هو الراوي نفسه، وهو المؤلف، يأخذ مكانه في النص بكل سهولة واقتدار، يسرد الأحداث بقلب مفتوح حتى أنك لتشعر أنك مقصود بذاتك كشخص قريب ومشارك.
    لم تعد لدى حسين علي محمد هذه المشاكل الناجمة عن وضع حدود فاصلة بين ما ينبغي وما لا ينبغي؛ فسيرة حياته هي المادة الخام التي يشكل منها فضاء النص، والجميل أننا نعرف كل شيء عن متاعبه، أرقه، اختلافه مع ابنه، زيارة مدينة جدة، وبحس فكاهي أبوي سادر في الحميمية يقول القاص:
    " قلل السرعة، حتى نستمتع بهذه اللحظات الجميلة في شوارع جدة، وحتى لا تؤذي حفيدي". نستسلم مع السرد الجميل لفكرة التسامح، والنزوع القدري الذي يحوم في فضاء المجموعة، حيث تجري الأقدار بمشيئة ربانية علوية. ومهما بذل البشر من جهد وتعب فثمة قوى حاكمة علينا أن نكون حذرين في التعامل معها وإلا أصبحنا خارج السرب.
    كل هذا يمرره لنا السارد بقدر كبير من البساطة، وببلاغة حكي متكئة على تدفق طيع للحدوتة التي هي عصب النص، وسيكون من الجميل أن تكتشف كقارئ للنصوص أن هذا القدر من الحكي الشفاهي التلقائي يمد الكتابي بعناصر قوة وتماسك من حيث المعالجة البسيطة التي لا تعرف التكلف، ولا تستنيم للحلول الجاهزة.
    الحكي الشفاهي الذي يجيده حسين علي محمد يتسرب في مهل لنسيج النص فيملأ المساحات المسكوت عنها بماء الحياة. ألم يكن من الضروري أن نعلم تفصيلات العلاقة المتأرجحة بين الشك واليقين مع الزوجة، وهي الراوية التي يعيش معها هاشم في أزمة عدم ثقة رغم براءتها الظاهرة لنتغلغل في أجواء أسرية تتشابك فيها المصائر والأقدار بصورة تبعث على الأسى كما نجد ذلك في قصة بديعة هي "بيت خالتي".

    تدفق الأحداث:
    يحرص القاص على لغته الفصحى، فيسوقها على لسان الشخصيات بطريفة سليمة، دون معاظلة أو تقعير، وهو يعتمد على أسلوب الحوار الحي الذي يفتح مسام النص، ويرتبط بالموروث الكتابي في استيحاء تعبيرات بلاغية رصينة، كل هذا يمكن تلمسه واستحضاره غير أن النغمة المائزة في تلك الكتابة التي يشيد بها الكاتب معماره الفني سلاسة الحكي، واللغة السهلة الممتنعة التي تقرب العوالم البعيدة حتى تحيلها أمامك ناصعة مرئية، وثمة نقش باللغة في مناطق معينة لدرجة تقترب من تخوم الشعر، وغواية اللعب بالكلمات، فيفضي النص إلى عوالم زاخرة بالأحاسيس المتقدة بالدفء، مع مساحات من الإحساسات البصرية والسمعية والشمية التي يجيدها في أثناء القص.
    بلاغة السهل، القادر على التخييل دون مفارقة الواقع والعلو عليه، ومن المدهش أن النص لدى حسين علي محمد كلاسيكي لكنه يعرف الجنوح في مفصل ما، ويعترف بالانحراف المزاجي في مفصل آخر، وهو يعتمد على أن يدفع بالعلاقة الإنسانية لأقصى حدودها كي يكون المتلقي طرفا في عملية استقبال القص شفاهة وكتابة، سردا وإيقاعا.
    مثل هذه السمة في أعمال حسين علي محمد تعيدنا إلى حميمية اللحظة التي يتخيرها في صرة النص، فهو يقبض على لحظة تأزم، ويتداخل بأسلوبه السردي لبيان اللحظات الحاكمة في الفعل الإنساني، وهو في هذا يمتح من مخزون خبرات لا حدود لثرائها، تجارب السفر والارتحال خلف العمل حيث الأمكنة تفرض ظلالها على البشر والأحداث، حكايات الترحال بكل تأزماتها ومشاكلها، مفارقات السلطة في تعاملها الغشيم مع الأفراد.
    وأخيرا يأتي تواطؤ الصامتين في معمعة الأحداث عندما يتعلق الأمر بالداخل المليء بالمصاعب، فلم يكن من الصعب أن يكتشف الراوي أن حافظته قد سرقت منه وهو عائد من الجامعة.
    لحظة الاكتشاف هذه تعيده لدائرته الصغيرة في الجامعة وتمتد حتى أقصى أفق البلدة، فتعيد تأمل حياة طبقة اجتماعية مهمشة تعاني الأمرين للحصول على لقمة الطعام، و بالكاد تحصل عليها. قصة "الحافلة التي لم أحلم بها".
    محمود الذي ضاعت حافظته ومسودة قصة جديدة لم ينته منها بعد، وحوالة بريدية من الأب الفقير يستعرض حياته فنشاركه أحزانه المتكتمة، ونتعرف عبر سياق ترتبي للذكريات على عوالم متقشفة وشخصيات متميزة بوفرة معاناتها على المستويين الحسي والنفسي.
    ذاكرة القاص تمزج بين الخاص والعام في نوع من التبادل والتوافق الممعن في خصوصيته حيث المأثور الفردي والميراث الجمعي يشتبكان بلا تفرقة حتى أن فعلا كالموت يتم سرده بطريقة تلقائية كأن من الطبيعي أن يمر به المرء في قدريته وعبثه الممعن في اللامعقول، فهيفاء التي تقف على أعتاب الثالثة والعشرين تدفع حياتها ثمنا لحقنة بنج خاطئة، وهي مسألة قد نقرأها في الصحف اليومية، ونتعجب لها، غير أن يد القاص وعينه اليقظة المدربة يحول الحكاية إلى متوالية سردية متدرجة الصعود في دراميتها، وعن طريق تتبع الخيط السردي تتعرف على كل أسرار الريف المصري، حيث تجرى العمليات الجراحية في حجرة مبنية بالطوب اللبن لا تتوفر لها شروط السلامة للمريض، وحيث لم يحصل الطبيب على شهادة تخصص دقيق في الجراحة .. قصة "الأعمار بيد الله".
    مثل هذا السرد الذي يسري سريان النار في الهشيم فيبسط أسرار القرية المصرية، وأوجاع ساكنيها، وكافة المفارقات التي يعج بها الريف بعلاقاته العجائبية ومفردات حيواته يتكرر في العديد من النصوص حينما يتبسط الناس في القول فنطـّـلع على أحوالهم في العزب والكفور، في البيوت المتداعية القديمة، والأزقة، في أسواق القرى وساحات الذكر، وربما في التخوم الفاصلة بين المدن المتشحة بالخديعة، والريف الممعن في الخرافة والظلام والدجل.
    (يتبع)

  2. #2
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (الجزء الثاني)
    الحس السياسي الساخر:
    على الرغم من أن القاص قد سافر فترات طويلة خارج مصر إلا أنه استطاع أن يعكس المتغيرات السياسية التي ألمت بالبلاد، وأمكنه استيعاب التحولات العميقة في البنية الاقتصادية والصعود الاجتماعي لفئات من البشر الذين صعدوا في سنوات السبعينات بعد الانفتاح الذي غير معالم البلاد بصورة اهتزت معها منظومة القيم.
    بدأ القاص تجربته كلاسيكيا، حيث تمثل المنجز القصصي التقليدي، وربما تأثر بكتابات جيل الوسط في بداية كتابته، لكنه تخلص بعد ذلك من كافة المؤثرات وانطلق ليشق طريقه راصدا حجم التحولات في واقعه، خاصة في الريف المصري الذي خبره، وكذلك في المدن التي كان على علاقة سكن وتحاور معها طيلة الوقت.
    الأحداث عند حسين علي محمد ـ في الغالب ـ تتبنى مفهوم الحبكة التقليدي، بالمفهوم الكلاسيكي الذي نعرفه، والذي يعتمد على مبدأ أساسي هو "الوحدة" بمعنى أن خط سير النص يتدرج من بداية إلى وسط ونهاية مع وجود لحظة الذروة. لكن القاص في كثير من الأحيان يلجأ إلى التلاعب بالنسب فيحذف المقدمة، ويتجه إلى اللحظة المتأزمة مباشرة، أو يغفل الوسط ليقدم مشهدا متشظيا بين بداية ونهاية، المهم عنده أن يضبط إيقاع الأحداث بحيث يصل إلى نقطة التحول الرئيسية في حياة الشخصية، وهو ينجح في استقطار الدلالة عبر مكابدات الواقع وتحولاته.
    وهو يلج إلى الأحداث عبر سرد موثق بالتاريخ الذي يستعيده في لحظات تأزمه، وبالتحديد الحديث عن هزيمة يونيو 1967، أو حرب أكتوبر 1973، مع لمحات خاطفة عن الخروج من سجون النظام الذي حاول أن يلجم كل صوت له استقلاليته.
    تتداخل الخيوط، وتتعقد في مساحة حوار تتسع بكل الرؤى والأفكار، وهو حس روائي يذكرنا بأعمال كبيرة مثل "ميرامار" لنجيب محفوظ، غير أن الحس الساخر الذي يؤطر الأحداث يشعرنا دوما أن القاص يحاول أن يوثق فكرا أو يحدد موقفا عبر فنيات السرد التي تعتمد هذه المرة على الحوار. فشخصية مثل حسام منير الذي خرج من السجن اتجه إلى بلدته ليكون قنديلا ينير في الظلام، معتمدا على ذاكرة حية تحلم بالمستقبل حلما لا يتوقف.
    يخاف الرفاق السابقون من نصوصه المسرحية، ويكتفي بالتأمل الهادئ لما حدث. لم يكن هناك بد من الاعتراف أن الثورة تأكل بنيها . قصة "في المدى قنديل يضيء".
    هذه النبرة الحزينة التي تفيض بالسخرية المرة علي أحوال جيل دفع ضريبة الرأي والاعتقاد، ثم هادن بعض رموزه السلطة لقاء منصب أو مقعد هو من الثيمات التي تجدها عند حسين علي محمد في العديد من نصوصه. هذه النبرة المتأزمة والتي تفيض باللوم تتسلل في مفاصل عديد من النصوص التي لا تضع الدوال في مرتبة عليا، بل تحركها في حيرة المحير والمعذب بتاريخ ثقيل يحمله فوق ظهره ـ حسب تعبير الدكتور سيد عويس ـ فيتغلغل الحس السياسي مع الرصد الدقيق لتحولات الرموز، وانكسار الإرادة في منعطفات هامة من تاريخ مصر المعاصرة.
    مثل هذه اللمحات الساخرة يلخصها في عناوين نفاذة مثلما نجد في قصة "تلك الليلة" وهو عمل جريء في طرحه، حيث يهرب عثمان من سجنه، ويتوجه إلى قريته، بينما تتردد في ذهنه كلمات صديقه الناصري صبري عبده: "أنت واهم إذا ظننت أنك ستغير التاريخ"، وهي مقولة يدعمها بتعليق ساخر ذي دلالة عميقة: "الزعماء وحدهم هم الذين يغيرون التاريخ والجغرافيا أيضا"!
    ليست المسألة مقارعة الرأي بالرأي النقيض، بل هو في اكتناه آليات حركة التاريخ العربية التي هي نتاج وضعية فكرية معقدة، وخلاصة وضعية اجتماعية ترسف في الجهل والتخاذل.
    موال السفر:
    يتعقب القاص حكايات السفر والارتحال في أحداث عاصفة تارة، وهادئة تارة أخرى، ومع تقنيات كتابة تنفذ من الدوال إلى المدلولات بطريقة رأسية، وتعرجات أفقية، الأولوية فيها لأحداث حقيقية، موجعة، أسرية، بها أسرار مغلقة لأناس يعيشون على شفا الحرمان، تضج أنفسهم اشتياقا والتياعا لمفارقة المحبوب، أو اصطيادا للحظة صفاء نادرة، وربما من أجل استبصار ملامح مشهد قديم.
    في قصة "اللهم أخزك يا شيطان" والعنوان هو عتبة هذا النص الذي يكشف عن سيكولوجية النفس البشرية في تقلباتها، فسمير يعالج مشاكل صباح، ولكنه يشعر بأن خيوطا غامضة تكاد تجذبه نحوها. وبالرغم من زحمة الأحداث، وتداعيها على نحو يثير الغرابة فإن الكاتب يمد خطوطه حتى النهاية، فالعبارات تتسم بلغة شفافة رائقة غير حوشية، في تعاملها مع الأحداث كما نجد في "شرخ آخر في المرآة"، حيث نورا تحدق في المرآة لتعبس صورة زوجها الراحل في شحوب، وهنا يتأكد لنا أن القاص يرصد فعل الزمن، كما سبق أن رصد تحولات الأمكنة، بلمحات حكائية عابقة بتاريخ الشخصيات المنهكة بأحزان منتهكة، وأرث موغل في القدم.
    في القصة التي أشرنا إليها يتسع المجال للمونولوج الداخلي، وهي إحدى تقنيات السرد، وفيه تسلل هادئ ورصين لمسارب النفس وتموجاتها السيكولوجية، غير أن ما يلفت الانتباه لنصوص حسين علي محمد الأسلوب المميز الذي يتكئ على إلمام كاف بفقه اللغة، وإمكانية التشذيب والتشذير، والنحت دون تخوف الوقوع في الخطأ.
    وإن كانت المرآة هي التي كشفت ضياع العمر في سراب ووهم حقيقيين، فإن العبارات المجنحة للكاتب تقتنص الملامح الخاصة لكل شخصية مثلما هو الحال في قصة "أحزان نادية"؛ فالشخصية هنا تواجه أزمة نفسية طاحنة لأن محمود غدر برفيقة عمره، وتزوج بناهد الفتاة الساقطة دون أن يأبه لمشاعرها أو يشعر حتى بلحظة أثم!
    مشاعر متأججة بالحقد أو الغيظ أو الكره، تحولات لنفوس ضعيفة لا تمتلك الإرادة، وأخرى باطشة، هنا تختلط الشخصيات، وتتقاطع في سيرها الدؤوب باتجاه محنة متوقعة أو مأساة منتظرة. ما يخفف عنها الثقل الناجم عن فظاعة المحنة أنهم بشر يحدب عليهم القاص في صبواتهم، نزواتهم، مؤامراتهم الصغيرة، زهوهم المتأرجح مع الزمن.
    القاص يمضي في سرده بعناية وإحكام، يطلق المخيلة دون أن تفارق الواقع، يتوغل في تهشيراته دون أن ينقل المشهد حرفيا لأنه يعمل بمقصه الفني ليقص الزوائد، ونثار الحكاوي الثانوية التي تأتي من هنا وهناك، فهو لا يستسلم مطلقا لغواية التداعي الحر. لكنه يسلم نفسه لمنطق فني يقوم علي عنصري الانتقاء والمصادفة، ونادرا ما تراه معقبا أو واعظا إلا في بعض عتباته: عناوينه، فيلونه بروح الشعر، ونبرة إيقاعه المكتنز بالاختزال.
    يتأمل القاص الطبيعة البكر، فهو ابنها، ويتداخل في حيوات بشر يحبهم، ويزعجه منهم أنهم دائمو السخط على مصائرهم بالرغم من أنهم يحددون طرقهم نحو اللذة المختلسة، والنشوة المتحققة على امتداد حرمان سنوات طويلة. ينجذب السارد إلى حكاياتهم، ويستعيد تفصيلاتها بكثير من الأسى، وهو يصنف مسلكهم: نور ، ونار. جسد وروح. خير مخاتل، وشر صريح.
    في كل الأحوال لا يقع على مشهد ناجز منته، هو يسرد، ويتوافق مع الحكاية، كما يعمد إلى البشر الذين جاورهم، وعمل معهم، أو أوصلوه إلى المدينة التي يقطنها، عاد معهم إلى قاع الريف، ربما يتأمل سحناتهم في شيء من الامتنان والرضا أن تظل فتنة الحكي قادرة على أن تتلبسه، وتحول واقعية الحياة المكرورة إلى فن سردي جميل يمتع العين، ويسعد القلب، فيما تمتد بصيرته إلى حيث يمكنه أن يستشرف التخوم البعيدة: إلى أقصى الآفاق، عليه وحده مسئولية أن يعيد للحواس متعة أن ترى المشهد القصصي كأوضح وأبهى ما يكون!
    منطق الكلام:
    كان القاص في تجارب الحكي التي يسوقها لنا يتكئ على منطق السرد الشفاهي، وهو منطق يعتمد على تداعي الأحداث دون ترتيب، وعلى اختراق المناطق السرية للشخصيات عبر تيار الوعي أحيانا، أو من خلال التداخل الحر في نسق الحدوتة، وهنا يسعى الكاتب إلى الاختزال مما يدفع الحكاية إلى مناطق الكشف، وهذا يتسبب في ظهور جوانب درامية على نحو بارع مع التهيب في تخطي الأنساق المعرفية المتكتم عنها. تتعدد الشخصيات مع اتساع مدى رصدها بالتنقل الرشيق بين حركتيها الواقعية والفنية، وقد يتجه السارد إلى المونتاج الذي يتأطر بالمؤثرات الصوتية والبصرية، كما نجد في نص "برق في خريف".
    والخريف هو العمر الذي يتسرب من بين أصابع الزمن الجهم القاسي، حتى تظن أن هناك مؤامرة محكمة على هذا الجيل الذي انهزم دون أن يطلق طلقة واحدة، وحارب فانتصر ثم داهمته سياسة الانفتاح فأطاحت بجل أحلامه. هو كاتب وطني ، وهي قارئة نهمة وبينهما حب قديم، وثمة مشاهد تعبر عن حالة القلق والحيرة التي عاشها هذا البطل الذي يشعر أنه يلاقي حبا مضمخا بعذاب سنوات بعيدة انقضت:
    "ظللتُ أنتظرك عشرة أعوام.. فلماذا تأخرت عشرين سنة؟!‏
    قال ابن الخامسة والخمسين في هدوء:
    بل افترقنا ثلاثين".
    هذا التماهي في الزمن بين الوقت المادي المعلن وبين أزمنة سيكولوجية مضمرة في الذوات التي تتلاقى صدفة في محطات القطار، وعند مفارق الطرق ونواصي الشوارع نجدها في أكثر من عمل، وهي تؤكد نزعة التأمل في مصائر شخصيات تضمر الحزن وتخبئ أوجاعها في صمت شجي.
    أليس هذا هو نفس ما ينتاب صبري عثمان في نص "اصطياد الوهم" حين تمر عشر سنوات كاملة قبل أن تقع أعين ليلى زهدي على هذا الصديق الذي دخل السجن في كل العهود، ويريد أن يخفف العبء عن نفسه كي يمرروا له عملا مسرحيا واحدا دون جدوى!
    الاتهام مرفوع دائما في وجه الكاتب سواء اصطدم مع السلطة أو حاول أن ينفلت من قبضتها. منطق الكلام ناقص ولا يصلنا بالحقيقة، فقط هو يحوم حول الوقائع فيجردها من منطقها الأصيل، ويلبسها بعضا من الوهم الذي يخدع أو يشف عن نصف الحقيقة. يمكن أن نسمي البعد المعرفي هنا بنظام الترميز الذي لا يحقق إشباعا كاملا لنسق التعامل مع بنيات المعرفة في تشكلها. لا أحد يمكنه أن يقوم بمهمة سرد يغطي الحقيقة كاملة دون نقائص أو ثغرات.
    لذا فيمكنك أن تلمح في نصوص حسين علي محمد هذا القدر من الاعتراف بحقيقة أن المعرفة نسبية، وأن الحياة تحتمل الرأي ونقيضه، وهذا الأمر يمكن أن يكون سبب ما يتعرض له أبطاله من محن ونوازع قهر، وامتهان يومي، وعسف بالأرواح خلال مسيرتهم حيث تتلون الأفعال حسب تحولات الحياة، وتغير الواقع حسبما تقتضيه مصالح الطبقات الجديدة، وأمزجتها، والمفاهيم المستجدة التي لا تراعي غير ما تطرحه معايير القيم الجديدة: "إنها أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد. صفق صبري عثمان بشدة يطلبُ شاياً سادة، متوسلاً إلى النادل أن يُخفِّض صوتَ المذياع لأنه يريد أن يكتب الفصل الأول من مسرحيته الجديدة "لماذا يغضبون مني"؟
    هذا الحس الساخر يؤطره وجود حر لمن يعيشون في الهامش حيث يتم على الدوام نقض المركز، وهي رغبة عارمة لدى الأفراد الذين ينتهجون أسلوب الانتقال من الهامش إلى المتن مهما دفعوا من ثمن مقابل ذلك.
    والشيء الغريب هو أنهم يفشلون كل مرة في مسعاهم، فيعودون بخيبة أكبر، وتتساءل معنا: هل هو قدرهم، أم أنه لا توجد ثمة فرصة لهذا الانتقال الذي يكسر حالة التراتب الاجتماعي الذي نبصره في نصوص تتسم بالوضوح والبساطة والاجتراء على سلطة النفي المستمر لحقيقة الواقع عبر تشكلاته العسيرة؟
    كيف يكتب؟:
    توقفت طويلا أمام النصوص التي يختطها قلم حسين علي محمد لأسأل نفسي عن خطة الكتابة لديه، وعن الطرائق الحكائية التي يعتمدها في السرد، وبغض النظر عن الشفاهية التي دللنا عليها، وعن الحس الساخر الذي يمكننا العثور عليه بسهولة، وعن رنة الابتهاج بالحياة رغم ما تصدمنا به طيلة الوقت من مكابدات وأحزان فهناك خيط سري سحري يربط النصوص كلها وهو القدرة على الإبانة، والرغبة في الإفضاء والتوجه الحثيث نحو دوائر التأثير البلاغية والجمالية كي يحتويك السارد عبر ما يبثه في النص من صدق فني يتوسل له عبر لغة بسيطة، وحكايات واقعية، ومواعظ أخلاقية، وكشوفات جمالية كلها تتحول في يده إلى نهيرات تغذي الحدوتة التي تعتمد منطق التداعي لكنها، وبالأساس تستأنس بالقدرية، والاستسلام التام لما هو "مكتوب على الجبين .. ولازم تشوفه العين"، وهو منطق البسطاء في بر مصر، وسلواهم إن اشتد بهم الضنك، وعضهم الفقر أو البرد أو السلطة بأنياب ظالمة.
    هذا المسلك الإنساني الريفي في تكوينه الأول يتخذه حسين علي محمد حيلة للتوغل في ثنايا الحكاية، فهو يعرف ـ ربما لأنه البطل أو القناع في معظم النصوص ـ أن الحياة لا تحتمل الكذب والتمويه والإخفاء: الإنسان يعيش مرة واحدة، وعليه أن يرضى بالمقسوم، ويلتمس في شرور العالم خيرا في أيام أخرى.
    هذا الحضور القدري الكثيف نلمسه في نسيج الحكايات وهي تتلى، كأن القاص يعيد ترتيب العناصر البعيدة التي لا رابط بينها، وهو ينفحها من روحه ما يعيد لها الانسجام، فكأنه يوجد من العتمة نوراً، ومن الظلم عدلاً، فكل ظالم له نهاية، وكل تعب يعقبه راحة، ربما تغيب البهجة أحيانا، وتتسربل الحكمة في ثوب حزن عتي، لكن المؤكد أن الكاتب قادر على رؤية الجمال خلف صفحة القبح، ولديه حدس من يكتشف الفرحة ويشعر بها وسط جهامة الواقع الذي تنكسر له النفوس الرقيقة.
    هناك مرح عفي وتواتر للوقائع المدهشة، وحضور للهامشيين في سفرهم هنا وهناك من أجل لقمة العيش، وثمة محاولات أكيدة لكشف الدجل وفضح المتواطئين معه. أقرأ قصة "سره الباتع" وستدرك أي ريف عاشه الكاتب، وأي غشاوة انقشعت عن أنظار هذا السارد الذي رأى كل شيء، وشارك الفلاحين عيشتهم البسيطة المقترنة بالخرافات التي اعتلت الواقع لتحل محل الحقائق، وبها يفك الناس طلاسم الحياة، وعبر رموزها يعبرون عن سخطهم بطرقهم البدائية التي تمنحهم السلوى والرضا عن مصائرهم المحتدمة بالسقوط أو قلة الرزق أو الترحال أو المرض.
    لا يقدم الكاتب سرده ليدين الواقع ، ولا ليكشفه فقط، بل هو يحرر المتلقي من ثقل تلك الخرافات حين يعريها تماما، وينفلت من حكم التراتب الراسخ، فيتمرد بالكتابة على وضعية القرية المصرية، دون أن يتنصل من مسئوليته ككاتب، ومن علاقاته مع الأرض والبشر الذين يحبهم ويحدب عليهم. غير أن في كتابة حسين على محمد "خبثاً محبباً"، و"فصاحة الابن الذي فلح"، و" فهو في كل الأحوال ابن الطمي وصنو النهر دون أن يغفل طرائق الكتابة الأولى المحملة بالعفوية، والتنوع، وحمل تراثاً عريقاً لا يفرط فيه. انظر إليه في جمله وعباراته الحية: "يا ابن الأرض، ها هي الريح بجانبك .. تدفق الدماء في الجسد، وتزهو الريح لأنك نبتها الذي لم ينحن، وتقول: ستقتلع وحشَ الغابة الذي يهددك بالمحو، ستنتصر على الغريب، فلا تخف .. وهاهي الخيول تقول: إنها أحبتك منذُ رأتك .. تُحاول أن تضمك لصدرها بقوة، بعد أن كانت قد ابتعدت زمنا" .. قصة "عكرمة يرفع السلاح".
    تتعدد الأصوات، ويحضر الكاتب بوجهه سافرا تارة، ويختفي تارة أخرى، يغيب ويحضر، يبتعد ويقترب، وتظل هناك سمات أساسية لا يمكنك إلا أن تضعها أمامك كراصد لفنيات النص القصصي عند حسين علي محمد، منها وحدة المستوى اللغوي، وقدرته على تجسيد الحدث بفنية عالية دون أن يقع في أسر النمط، فكل نص له منطلقاته وفنياته، والانزياح المعرفي الذي يشتغل عليه مزاج الفنان، وهو مع الهامش ومن خلاله يزيح المركز قليلاً، ولا يعتمد لغة ثابتة بل يراوح بين لغة شفاهية في الحكي، ولغة الفصحى في الحوار، مع رصد مشهدي لوقائع تكتشف أنك مررت بها فعرفت سحنات البشر، ومؤامراتهم المعتادة، وتفصيلات من أسرار خفية تكاد تكون هي نفس أسرارك مع اختلاف طفيف في التفصيلات.
    فقط علي أن أحترز من العناوين التي تقترب من فكرة الفخامة في المعالجة فهي تعمل على تأطير النص ببلاغتها القديمة، وتحاول أن تقدم نموذجا في الإشارة لصرة الحدث إن أمكن. هناك عتبات مثل: "الأعمار بيد الله"، "النظر إلى الخلف"، "بلا دموع"، "بيت خالتي"، "تلك الليلة"، وهي كما نرى تحاول أن تلقي ضوءا على الموضوع الأساسي، وفي المقابل هناك عناوين ذات ظلال متدرجة، بديعة في تراكيبها مثل: "شرخ آخر في المرآة"، "رحلة أخرى"، "في المدى قنديل يضيء"، والعنوان الأخير يدفعنا دفعا لإشارة نقولها على استحياء، وهي أن بعض نصوص المجموعة تومض بنفحة شعرية أصيلة في مقاطع بعينها، وهي مشكلة مع كتاب يستسلمون لغواية الإيقاع وذلك النزوع للاغتراف من بحر الشعر، والجميل عند كاتبنا أنه كان حذرا للغاية، وكان صارما وحاسما في استبعاد أي دخول شعري من خارج النص، ولكنه آثر أن تكون هناك شخصيات حالمة، وأجواء شعرية لا بأس بها بعيدا عن أي سقوط للنص السردي في قبضة الغنائية.
    خاتمة:
    نصوص تعلن عن كاتب يغترف من المخزون الشعبي، ويتكئ على فن الحكاية، سنده السرد الشفاهي الذي لا يعرف حدودا فارقة بين الواقعي والتخييلي، وهو في بساطته وتلقائيته لا يغامر بالدخول في سراديب القصص المغلقة في تراكيبها أو بنيتها. يمارس كتابته حول موضوعات يعرفها جيدا: الريف المصري، التغريبة، السفر والترحال، ذكريات الحب القديم، شحوب الماضي المعلن لأبطال خذلهم الزمن، وهي نصوص تعترف بالانزياح المزاجي، فليس لها معيار فني ثابت سوى الاجتهاد في أن تكون "الحدوتة" طازجة، ومؤثرة، لا اختلاق فيها ولا تلفيق.
    كتابة بعيدة عن القوالب الفنية الجاهزة، لا تنشغل بتقنيات الحداثة، ولا وهم المركز. أكاد أقول إن حسين علي محمد يضع يده على كنز من حكايات الواقع دون أن يكون مقيدا بنفس النسق التراتبي لعناصر الحبكة ونمو الدراما الأرسطية. هو يغامر وينفلت، وما أجملها من مغامرة ولّـدت لنا هذه الكتابة العفوية العفية التي تؤكد لنا قيمة أن يصبح النص أفقا مفتوحا للإطلالة على البشر في صبواتهم وأحلامهم، ومعيشتهم بعيدا عن شعائر توثيق القص لصالح واقع ثقيل يجثم على أنفاس الكاتب والمتلقي على حد سواء!
    سمير الفيل
    القاهرة 15/ 12 / 2004م

  3. #3
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الفاضل الاديب الناقد الاستاذ سمير الفيل

    كم انا سعيد بقراءة هذه الرؤية النقدية , ايها الاديب الغالي ,
    فرحت مرتين , فرحت بمتابعة هذه القراءة الاكاديمية الحرفية
    الرائعة , مؤثرات شفاهية في نصوص عصرية قراءة في
    المجموعة القصصية «مجنون أحلام»للدكتور حسين علي
    محمد , وفرحت ان القراءة تتناول , عملا للاديب الدكتور حسين
    علي محمد , نعم لقد وجدت نفسي امام اديبين علمين , ما اسعد
    هذه اللحظات , واي متعة اجدني فيها , انها وجبة ادبية غنية .

    اخوكم
    السمان

  4. #4
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. محمد حسن السمان

    كم انا سعيد بقراءة هذه الرؤية النقدية , ايها الاديب الغالي ,
    فرحت مرتين , فرحت بمتابعة هذه القراءة الاكاديمية الحرفية
    الرائعة , مؤثرات شفاهية في نصوص عصرية قراءة في
    المجموعة القصصية «مجنون أحلام»للدكتور حسين علي
    محمد , وفرحت ان القراءة تتناول , عملا للاديب الدكتور حسين
    علي محمد , نعم لقد وجدت نفسي امام اديبين علمين , ما اسعد
    هذه اللحظات , واي متعة اجدني فيها , انها وجبة ادبية غنية .

    د. محمد حسن السمان.

    لقد قمت بتقديم هذه الدراسة بعد قراءة متفحصة لنصوص المجموعة ، ولقد شدتني أجواء السرد ، وخاصة ان الكاتب يمتلك أدواته جيدا ، ويقدم من خلال أعماله خطابه الفكري في هدوء وروية ، وبقدر كبير من الرشاقة والجمال .
    اعمال الدكتور حسين علي محمد تستثير شهية الناقد الجاد .
    ألف شكر مداخلتكم الكريمة .
    دمتم بخير وأمان .


    سمير

  5. #5

  6. #6
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الغالي الاديب القاص اللاستاذ الدكتور حسين علي محمد
    الاخ الغالي الاديب القاص والناقد الاستاذ سمير الفيل

    اشتاق اليكما , ايها الاديبين الكبيرين , لقد درجت ان امتّع امسياتي ,
    بلقائي معكما , عبر اعمالكما الجميلة , التي على ما يبدو ادمنت
    قراءتها .
    افتقدكما , افتقد ادبكما الراقي .

    اخوكم
    السمان

  7. #7

المواضيع المتشابهه

  1. زينب العسال تقرأ مجموعة «مجنون أحلام» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30-01-2007, 05:43 PM
  2. عالم مجنون مجنون مجنون ،، للشاعر عبد الرحيم محمود
    بواسطة عبد الرحيم محمود في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-12-2006, 04:10 PM
  3. مجموعة "مجنون أحلام" بين الحيز واليات السرد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-05-2006, 09:21 AM
  4. قراءات في مجموعة «أحلام البنت الحلوة» للدكتور حسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 22-04-2006, 11:12 PM
  5. شعرية القصةفى مجنون احلام للدكتور حسين على محمد
    بواسطة جمال سعد محمد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 13-03-2006, 11:40 AM