فجر وليد
انطلق أزيز المنبه يشق الصمت المخيم علي المكان .. ويصك سمع أحمد وأسرته .. انتفض الرجل من سريره مسرعا وأطبق قبضته علي المنبه حتى لا يقلق صغيره الوليد محمد فكف المنبه معتذرا عن الإزعاج غير المتعمد للوليد الجديد وأمه مبينا أنه إنما أراد أن يزعج أحمد فقط وقد تحقق له ما أراد فكف عن الزئير والتزم الصمت ... وواصل مسيره إلي الصباح التالي حيث يزأر من جديد وأخذ يستمتع بمرأى أحمد وهو ينتفض من شدة البرد وهو يتوضأ ويصلي ويرتدي ملابسه متأهبا للخروج إلي العمل ... الريح تعوي في الخارج وتضرب كل شئ كأنها غاضبة من الدنيا وما يجري فيها من تجاوزات واعتداءات .. وتعانق الأشجار الفارهة فيئن جذعها متألما من شدة اللطم واللكم ويتسرب أزيزه إلي أحمد الذي كاد أن ينتهي من الاستعداد للذهاب للعمل .. فينكمش داخل نفسه وتتبخر عزيمته في الخروج من البيت هذا اليوم .. ويسمع نقر المطر علي الشباك الزجاجي الذي يتوسط الردهة ويشع من خلفه ضوء بسيط يضئ له المكان ليري ما يريد .. ويتتابع نقر المطر تباعا دون توقف ... ومع تتابع نقر المطر تزداد نفس أحمد انكماشا علي ذاتها .. وتلملم عزيمته أطرافها وتنكمش داخل المعطف السميك الذي يرتديه .. ويتلفت حوله يلتمس بعض الشجاعة للخروج في هذا الجو المطير .. فيجد كل شئ يبث في أطرافه النوم الركون إلي الراحة .. وترك العمل اليوم .. امرأته نائمة تغط في نوم عميق .. كره أن يوقظها ويقض مضجعها .. لأنها بلا شك عانت الليل بطوله متيقظة إلي جوار محمد الذي بدا نائما إلي جوارها سابحا في أعماق النوم البعيد يستلهم المستقبل البعيد ويحلم بغد خير من الغد الذي جاء إليه أبوه غد ينال فيه المجتهد ما يستحق من تقدير جزاء علمه وتفوقه ونجاحه .. ويصيب المقصر فيه ما يستحق جزاء تقصيره وإهماله ..
أخذ أحمد يرمق طفله السابح في خياله الرحب نائما آمنا مستريحا في سريره الدافئ .. يتمطى من حين لآخر ليريح جسده المنهك من النوم المتواصل .. بالنوم المتواصل أيضا !!
رمق وجهه البريء وأخذ يقرأ فيه أمارات الرضا والهدوء .. وتجلت فيه علامات الرضا والسكون وأحس أن طفله ينام آمنا مطمئنا لوجود أباه إلي جواره .. يسهر علي راحته ويتألم أشد الألم لو أصابه مكروه فبالأمس القريب كان محمد يعاني وعكة صحية ألمت به فما ذاق الأب ولا الأم للراحة طعما ولا نعما بنوم آمن إلا بعد أن تجاوز وليدهما المرض ونعم بنوم هادئ ..
تسارعت الريح .. وتقاطر المطر أفواجا علي النافذة الزجاجية الواقعة في الردهة وتسرب إلي أنف أحمد رائحة المطر ... ممزوجا برائحة الصباح الباكر .. فتراجع أحمد وآثر أن يأوي إلي بيته ينعم بقرب زوجته وأنفاس ابنه الدافئة تنبعث علي وجهه ناعمة دافئة فتداعب شغاف قلبه فيتراقص فرحا وطربا .. ويتمنى لو يأخذ صغيره ويضمه إلي حنايا قلبه .. فيشبعه حنانا وحبا .. تململ محمد في مهده الصغير وأخذ يتمطى بشدة وتضرج وجهه بلون أحمر قانٍ وأخذ يتململ يمينا ويسارا فاتحا فاه باحثا عن ذلك النبع الفياض من الحنين الذي يروي جوفه ويسد جوعه ويجعله هادئا مطمئنا ينعم بنوم هادئ مطمئن .. فاستيقظت أمه علي صراخه وأحمد واقف علي كثب يرقبهما .. بعينن راضيتين .. قريرتين .. سارعت الأم إلي احتواء رضيعها بين أحضانها .. وانكبت عليه تقبيلا وحنانا وأخرجت من فورها ثديها وألقمته فم رضيعها .. الذي راح يبحث يمنا وشمالا في لهفة تنبئ عن وحش عنيف من الجوع يفتك بأعماقه .. وما إن التقم الثدي وضمه بين شفتيه حتى هدأت ثورته وثابت أنفاسه المتلاحقة إلي رشدها .. وأخذ يرتشف اللبن الدافئ في نهم كبير نهم من قضى الليل كله جائعا واستيقظ فجأة علي ألم عنيف يعصف بأعماقه ..
انتبهت المرأة إلي أن زوجها مازال واقفا قبالتها يرقبها مرتديا ثياب الخروج متأهبا للذهاب للعمل .. فقالت : ألم تذهب للعمل بعد ؟ فانتبه الرجل من غفوته قائلا : أفكر ألا أذهب اليوم فما رأيك ؟
نظرت المرأة عبر النافذة الزجاجية الواقعة في الردهة والتي تشع بضياء الصباح مختلطا بزرقة المطر المحتقن في جو السماء وتنهدت تنهيدة طويلة .. وقالت : إن الجو يبدو سيئا للغاية .. ولك الحق في الكسل .. ولكن الخبز نفذ من عندنا ونرجو أن تحضر لنا بعض الخبر واللبن من أجل الصغير حتى لا تخرج لو زاد المطر وازداد الجو سوءا ..
عبث أحمد في شعره و رمق محمد المنهمك في رضاعته غير ملق لهما بالا ولا يهتم بحديثهما وأنهما يتحدثان عن لبن له حتى ينام نوما هادئا .. فهذا الأمر لا يشغل له بالا .. وانطلق أحمد ببصره بعيدا يقرأ ماض السنين ويفتش عن نفسه في حياة أبيه وأمه ترى هل كان أبوه يحمل همه كما يحمل هو هم هذا البيت الناشئ الوليد الذي لم يعد عمره عمر وليده محمد ؟ هل كان أبوه يحلم أنه سيري يوما أحمد ولده الصغير كبيرا مسئولا عن بيت وزوجة وطفل هو كل حياتهما هو كل ما لهما من الدنيا يعتمدان عليه اعتمادا كليا في طعامهما وشرابهما وحياتهما .. ويلقيان علي عاتقه بكل تبعات حياتهما .. ويناما ملء جفونهما لا يعبئان بشئ ولا يقض مضجعهما شئ .. ويظل هو يفكر ويفكر ويتدبر أمره ويحسب حساباته ويعد عدته ليوفر لهما حاجتهما .. حتى وإن اقتطع من قوته هو ليوفر لهما ما يريدانه نظر أحمد إلي نفسه وتنهد تنهيدة طويلة وتساءل . تري هل أنا غاضب وأنا أفعل ذلك ؟ جاء الجواب سريعا وحاسما : لا .. أبدا فلم أشعر لوجودي من معنى إلا منذ أن جاء إلي الدنيا محمد .. ولم لا .. هو يعتبرني كل ما له في الحياة ويلقي على عاتقي بعبء توفير المأكل والمشرب والملبس والدواء له .. وأنا أتحمل ذلك سعيدا راضيا .. ثم تساءل : كم قضيت من سنين طويلة لا ألق للحياة بالا ولا أبالي إن أنا قضيت نحبي الساعة .. فلن أترك ورائي أحدا يعاني ولن أحمل غيري عبء مسئوليتي .. أما الآن فقد أصبحت أحمل داخلي هم ولدي وزوجتى وأصبحت أخشى الموت وترك ولدي يتيما محتاجا لي ولحمايتي له مثل سائر الأطفال مثله فلا أحب أن يشب ولدي يتيما ينظر إلي هذا وذاك ويتمنى لو كان له أب يشرفه ويحتمى به ويأوي إلي جناحه إذا اشتدت الحياة عليه كما أفعل أنا اليوم حينما ألجأ إلي حضن أبي وأمي فأجد لديهما الحنان والأمان والراحة حتى بعد أن كبرت وصرت أبا وصرت موظفا ... انتبه فجأة أحمد علي كلمة موظفا وهي تطرق أذنه .. يا إلهي موظفا لقد نسيت العمل .. لا بد أن أذهب للعمل إذن حتى أحضر لكما ما تريدانه وأنا عائد سلام عليكم ...
قالت المرأة : ولكن الجو يزداد سوءا حقا .. فقال : لا مناص من الذهاب لأحضر لكما ما تريدان فرمقته المرأة بنظرة حب وحنان وقالت : حفظك الله مع السلامة .. فأحكم أحمد ملابسه حول رأسه وانطلق إلي الخارج متوجها إلي عمله وتمنى أن ينال ابنه من الدنيا نصيبا أوفر من نصيبه وحظا خيرا من حظه ورزقا أرحب من رزقه .. وأن يوسع الله في رزقه من أجل ولده وزوجه .. اندفع يشق المطر غير مكترث بالبرد القارص والمطر الغزير والسماء الملبدة بالغيوم والمنذرة بيوم مطير ..
اندفع المطر حادا ينقر علي النافذة الزجاجية التي تتوسط الردهة ويشع منها الضوء ضئيلا فيبعث في المكان دفئا وضياء .. والمرأة منهمكة تلقم وليدها ثديها ليرضع ويشبع وينام هانئا مطمئنا .. وتسرح بنظرتها إلي النافذة الزجاجية التي تتوسط الردهة وكأنما تعبر زجاجها السميك وتندفع خارجة محلقة في السماء بخيالها .. داعية الله لوليدها وزجها بالصحة العافية والمستقبل الباهر المتميز ..
واندفع محمد نهما يرتشف ثدي أمه في نهم واشتياق .. منكمشا علي نفسه آويا إلي أحضان أمه آمنا مطمئنا مدركا أن أباه الذي خرج للتو لن يرجع إلا بعد أن يعود له بما يرغب .. من مأكل وملبس ومشرب ودواء .. فغامت عيناه فرحا وحبا لهذا الأب الذي لا يألو جهدا - رغم ضيق رزقه عليه – في سبيل إسعاده وتلبية احتياجاته ... وابتهل إلي الله في نفسه أن يحفظ عليه أمه رمز الحياة والحنان وأن يحفظ عليه أباه رمز الأمان والحنان في الدنيا ... واستمر يرتشف اللبن الدافئ من ثدي أمه حتى وهنت قواه .. وفترت عزيمته وغزل النوم خيطا رقيقا فشبك بين جفنيه فراح في ثبات عميق ... قصة : أيمن شمس الدين محمد
في انتظار ردودكم وتعليقاتكم وتوجيهاتكم
وشكراً...
تمت