أستاذي الشّاعر عادل العاني المحترم
سلامًا وتحيّةً :
أمّا قَبْلُ:
فَقَدْ كُنْتُ كتَبْتُ تَعليقي على قصيدتِكم ( حبيبتي السّمْراء )، مُبْديًا وجهةَ نَظري، والّتي تختلفُ مِن شَخصٍ إلى آخرَ. وقدْ قُلْتُ فيهِ: وما المَرْءُ إلاّ مُخطِئٌ ومُصيْبٌ.
اطَّلَعْتُ على رَدِّكم اللّطيفِ الجميلِ الّذي يَتَّسِمُ بِرِقَّةِ الألفاظِ وجلاءِ المعاني وصِدْقِ المَشاعرِ والدَّلالات.
جاءَ في رَدِّكَ هذا، وفي السَّطْرِ الأَوَّلِ مِنهُ:
( وَعَدْتُ بِرَدٍّ مُفَصَّلٍ على ما وَرَدَ [ بِنَقِّكم ] الّذي أفْتَخِرُ بِهِ... )
لاأخفيكَ سِرًّا أنَّني توَقَّفْتُ عِنْدَ هذهِ الْكلِمةِ [ بِنَقِّكم ]، ولكنْ أحسَنْتُ الظَّنَّ بِكَ؛ فَقُلْتُ: إنَّهُ يقصِدُ [ بِنَقدِكم ] وقدْ سَقَطَ حَرْفُ [ الدّال ] سَهْوًا، ولَعلّ ذلِكَ مِنْ قَبيلِ الصُّدْفةِ أيْضًا. هنا تَذَكَّرْتُ قَوْلاً لِلْخَطيبِ الْجاهِلِيِّ : قسّ بنِ ساعِدةَ الإياديِّ ( حُسْنُ الظَّنِّ وَرْطةٌ، وسُوءُ الظَّنِّ عِصْمةٌ...) .
أستاذي الكبير عادل العاني المحترم
ونحنُ في هذا المَجالِ، قَدْ تَتَساءَلُ : كيفَ أفتخرُ [ بِنَقِّكم ]؟ أُجِيْبُ قائِلاً: عِندَما يُقارِنُ القارئُ بَيْنَ ما تَكْتُبُهُ مِنْ جَزالةٍ وإشْراقٍ وتَمَكُّنٍ؛ وبَيْنَ ما يَكْتُبُهُ غَيْرُكَ مِنْ...
هُنا يَظْهَرُ الْفَرْقُ الواضِحُ بِيْنَ الْكتابَتَيْنِ، لا بَلْ بَيْنَ الْكاتِبَيْنِ، وعِنْدَها يَحِقُّ لَكَ أنْ تَفْتَخِرَ.
لاحِظْ كَيْفَ تلاعَبْتُ بالْمَوضوعِ، وعَرَضْتُهُ بِطريقةٍ خاصّةٍ، وقدْ أَعْرِضُهُ بِطريقةٍ أُخْرى مُغايرةٍ تَمامًا. وَقِسْ على ذلِكَ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بِعالَمِ [ النَّقّ ] أوِ [ النَّقْد ].
أمّا بَعْدُ:
فَقَدْ ظَلَمَ مُجْتَمَعُنا ذلِكَ المَخْلوقَ الّذي يُسَمّى (الحِرْباء)، ونَعَتَهُ بِصِفاتٍ بَغيضةٍ منها: الخديعةُ والمَكْرُ والتَّقَلُّبُ والغَدْرُ والإرْهابُ ؛ وهوَ مِنْها بَراء، فمتى نَرفَعُ عنهُ الْحَيْفَ والظُّلْمَ ونُعيدُهُ إلى حَظِيْرةِ ( الدّيمقراطيّة )؟
والحِرْباءُ مُفرَد، والْجَمْعُ: حَرابِيّ ( جمع تكسير )، وحرباوات ( على أنَّهُ اسمٌ مَمْدودٌ، هَمْزتُهُ للتّأنيث )، ولِهذهِ اللّفظةِ معاني كثيرةٌ منها: مسمارُ الدِّرْعِ، الظَّهْرُ، سَناسِنُ الظَّهْرِ، لَحْمُ الْمَتْنِ، الْعَظاءَةُ الّتي نَحنُ بِصَدَدِها. وهيَ تَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ برَأسِها وتَكونُ مَعَها كيفَ دارَتْ، يُقالُ إنَّما تَفعَلُ ذلِكَ لِتَقِيَ جَسَدَها بِرَأسِها؛ وتَتَلَوَّنُ ألْوانًا بِحَرِّ الشَّمْسِ. وقدْ تُغَيِّرُ لَونَها لِتَتَّقيَ شَرَّ أعْدائِها . فإذا ما صامَ النَّهارُ وهَجَّرَ زادَ نَشاطُهُ وحَرَكَتُهُ، وإذا ما كَسَحَتْ جُيوشُ الظَّلامِ فُلولَ النَّهارِ؛ وارْتَمَتِ الشَّمسُ صَرِيْعَةً خَلْفَ الأُفُقِ، بَدَتْ كَأنَّها مَيْتَةٌ، لاتعودُ إلَيْها الْحَياةُ إلاّبَعْدَ طُلُوعِها .
ويُقالُ ( حِرْباءُ تَنْضُبةٍ )، مِثْلَما يَقولونَ: ذِئْبُ غَضًى وأسدُ شَرًى، و( تَنْضُبَةٌ )شَجَرٌ تُتَّخَذُ مِنْهُ السِّهامُ، وهيَ تَلْزَمُ هذهِ الشَّجَرةَ ولا تُفارِقُها. وقَدْ وَرَدَ في ( مَجْمَع الأمْثال ) لِلْمِيْدانيّ: ( أحْزَمُ مِنْ حِرْباءَ )، وهُوَ مَثَلٌ يُضْرَبُ للرَّجُلِ الْحازِمِ الْجادِّ؛ لِأَنَّ الْحِرْباءَ لاتُفارِقُ الغُصْنَ الأوَّلَ ، حَتّى تَكونَ مُتَأَكِّدةً مِنْ ثَباتِها على الغُصْنِ الآخَرِ. وعلى هذا نرى أنَّ المَثَلَ يُضْرَبُ بها على سَبيلِ الْحَزْمِ والإرادةِ؛ لاعلى سبيلِ الْمَكْرِ والْخَديعةِ كَمَا تَوَهَّمَ البَعْضُ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ صَلّى اللّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ رَأى بِلالاً وَقَدْ خَرَجَ بَطْنُهُ ( ضَخُمَ كَرْشُهُ ) فقالَ عَنْهُ: أمّ حُبَيْن، وكانَ قَدْ قالَ ذلِكَ مِنْ بابِ الْمِزاحِ الرَّقيقِ الْمَعْهودِ.
أستاذي عادل
أعتقِدُ أنّني أطْنَبْتُ في هذا الحديث، ولكنْ لِما فيه نَفْعٌ وفائدةٌ، وتَعرفُ أنَّ البلاغةَ : إطْنابٌ بلا إمْلالٍ، وإيجازٌ بلا إخْلالٍ. فأرجو ألاّ أكونَ قَدْ أمْلَلْتُ، ولِلْحديثِ تَتِمّةٌ، ولَمّا يَنْتَهِ السِّجالُ بَعْدُ.
لَكَ ولِلْأُسْرةِ في مُلْتقى الواحةِ خالص تَقديري وعَظيم احترامي، ودُمْتُم جَميعًا بِألْفِ خَيْرٍ