ابحار في نص
جاء الذي كان قد جاء لدينا الشهوان
زياد جيوسي

يا حاضراً فينا، وموغلاً بنا
كيف نصنع الخبز ؟!
أنعيد صياغة الحكاية ؟!
أم نطلع في المساء
كما تهرب الفراشات من نور الرمل ؟!
هذا التساؤل الذي يلخص الحكاية والنص، كيف نصنع الخبز كناية عن كيف نصنع الحياة وكيف نحياها ونعيشها، ويأتي الجواب بين فكرتين او طريقين..هل نبدأ من جديد ؟؟؟ نحدد كيف ولماذا ام نهرب في عتمة المساء ندفن انفسنا بالخيبة والتحسر، كما تهرب الفراشات من انعكاس النور في الرمل..
ويبقى السؤال محلقا فوق سطور النص وكلماته..
من هذا الذي كان قد جاء..والعنوان هنا يؤكد أنه قد جاء ولم يكن حلما او فكرة، جاء بكل جميل وبهي قلبه مفعم بالحياة حتى انه يرشد الهواء دلالة على عمق تأثيره، اما لماذا قد جاء ..فالجواب يأتينا سريعا، جاء ليرشدنا للحقيقة من خلال قنديل ينير لنا الدرب، فأجد هنا صاحبة النص قد استعانت بالتاريخ ومصباح ديوجين حين كان يسير بمصباحه في النهار باحثا عن الحقيقة، وفي الأسطورة بالاستعانة بالتعويذات التي تقي من شر الحسد، والتراث الشعبي بالعودة لصندوق الحكايا المزخرف بصور العصافير والطيور، لربما الكثيرون من صغار السن الذين عرفوا التلفاز والتكنولوجيا لم يعرفوا هذا الصندوق الذي عرفناه نحن وعايشناه، وتكمل الصورة في النساء الباكيات فتتساقط الدموع الى القلائد التي تزين النحور.

من هو الذي جاء..نراه هنا سيد الحقائب الذي تفيض حقائبه بالعطاء في الشوارع التي فقدت ساكنيها، ولا يمتلك من هوية الا زهرة لفافة تبغ تعبث بها الرياح فتعطينا صورة عن قصر مدة اقامته، لكنه يمتلك ماضيا ومستقبلا لم يكن يوما اسودا، لا يعرف للزمن من قيمة فهو هنا الان وفي الماضي وفي المستقبل، مفهوم الزمن عنده ليس اكثر من عقربي الساعة وحركتهما ، لا يمتلك الا قليلا من كلام بين يديه وليس في فمه كناية عن الفعل والتغيير ، كما هو الدهر صامت لا ينطق الا احيانا وفي اللحظة الحاسمة والمطلوبة، وحيدا بعيدا..
تواصل دينا وصف الذي جاء.. ولست بصدد أن احرم القارئ متعة التذوق المباشر للنص ولذا اشير لبعض الإشارات التي تصفه بها..
تنهده قوي \ صلاته ناي \ سماؤه بلا غيوم \ روحه حانية \ قصائده نجوم \ قلبه جنة \ ...الخ ..حتى تنقلنا الى صورة أخرى بعد ان تكون قد اسهبت في الوصف ووضعتنا في بوتقة متنوعة من الأحاسيس والصور، وفي هذه الصورة تضعنا في صورة الذين جاء اليهم الذي كان قد جاء، فهم لم يأخذوا بما جاء به اليهم وكأن رسائله لم تصل رغم كل ما قدمه من اجل احالة الواقع الى حياة أجمل حتى انه قدم لهم اقلام الرصاص كناية عن المعرفة والعمق والوعي ( من أجل أن نعتق الكلام ) بدلا من طباشير الطفولة التي ترمز الى مرحلة من الفوضى والضياع والبعد والعبث، ويأتيهم بكل الجمال كأنه منه وبه قوس قزح ، لكن لا استجابة لبهجة الألوان الرامزة لمستقبل مضيء ملون بالفرح ، مكتفين بلون رمادي ( لون واحد لا بياض ولا سواد ) فتعبرهم وتعود اليه لتبعد الفرح وحلم المستقبل، رغم اصرار الذي جاء أن يقدم كل الجميل والأجمل \ عمر لليتامى \ اغنية وطن \ ورق ابيض..
هذا الذي جاء لا يمل من أن يقدم ففي جيبه رحلة طويلة وفي جيب قلبه ماتزال تندس الحروف بما تعبر عنه كلمة الحروف من الوعي والادراك والمعرفة..هو يعطي ويقدم ولكن العلة في المتلقين الذين يبتعدون عنه بينما ( لو اقتربوا منه لأدركوا الحياة ) ، فهم ما زالوا ( لم نهتد الى مصباح صبرك )..وهم لم يقتربوا حتى من الذي يشعل في الحياة حضارة الطين، البناء ، الحضارة، ( كوكبا أخضر )..
وينتهي النص وهو يطرح السؤال الذي وضعناه في البدء والبداية..
ابدعت دينا الشهوان بنصها المتميز واسلوب الصور والبحث والطرح، وتتركنا وكل قد وصل لمعرفة من جاء والذي كان قد جاء، تاركة القارئ يسائل نفسه الأسئلة التي طرحت في البداية..كيف ومتى نبدأ....



جاء الذي كان قد جاء
________________________________________


جاء و قلبه غناء الحياة
مدّ غصنه لعصفور أزرق
كان يرشد الهواء
ترك لنا قنديلاً يبصر الأشياء
وتعويذة من شر حاسد
خلّد لنا صندوق الحكايا
مطعماً بأحجار العصافير
وقلائد الباكيات
.............وجاء
سيد الحقائب في الشوراع اليتيمة
هويته سيجارة تعبث بالريح
وبوصلة عمره ورقة لم تكن يوماً سوداء..
بحث عن عمره الهارب في محفظتة الفارغة
أيقن أن الزمن لا يملك إلا عقربين !!!
جاء الذي كان قد جاء
وفي كفه حفنة من الكلام ,
وبعض صمتٍ , وقليل من غبطة الأصدقاء
وأصابع الرمل تنبش جسده
و تلامس بقايا من بقاياه.
جاء الذي كان..
يؤثث الصباح بتنهيدةِ نقيٍّ
صلاته ترتيلة نايٍ
وأيقونتُه سماء بلا غيم
وروحه حانية بالمواويل .
قصائده نجومٌ عاليةٌ
وقلبه جنة لا تعرف إلا الماء والحنين .
وحيداً كان يا ماكان
وبعيداً قصره
لكنه في زاوية الكون
وكان ما كان
قصة تتسلل من بين الحنايا
فاصلة أخرى تلامس الجدار
كأن رسائله لم تصل إلينا
لكأن قنينة البحر
نثرت ملح الشعر
في داخله فأصبحت أيقونة رمل
تتراقص شمالا وجنوبا
عامودية الظل
تقطع بمنظورها شمس الليل
وتداعب صباح القمر بأصابع الماء .
يا ورداً يا زيت النهار
كنت تقطف لنا أقلام الرصاص
من بساتين اللغة المنسية
كنا نعبث بطابشير الطفولة
من أجل أن نعتق الكلام
يفيض بك ومنك قوس قزح
ويعبر فيك وبك
لون واحد لابياض ولا سواد .
كان ولم يكن
يقدم القرابين لدكان الحياة
يشتري العمر لليتامى
ويهديهم ورقا أبيض
ويمنحهم أغنية وطن .
في جيبه رحلة طويلة
وفي جيب قلبه
ما زالت تندس أحرفٌ
وجلنار..
لو اقتربوا منه
لأدركوا الحياة .
يا من يشعل فيها حضارة الطين
لقلبك الصغير ممر وباب خشبي
نقش عليه عقد من المفاتيح
لكننا لم نهتد إلى مفتاح صبرك !!!
ذلك الذي يمكن أن يكون
حصالة نضع فيها قطعاً ماسية
أو ربما حجراً منسيّاً
أو كوكباً أخضرَ
نستطيع أن نؤثث به نصف النهار .
يا حاضراً فينا، وموغلاً بنا
كيف نصنع الخبز ؟!
أنعيد صياغة الحكاية ؟!
أم نطلع في المساء
كما تهرب الفراشات من نور الرمل ؟!