الفلسفة.. الوجود.. الإنسان..!
" إن الفرد الذي يفهم المشاكل يجب أن يحاول حملها على كتفه، وحتى إذا كان وحيداً تماماً عليه أن يقوم بتلك المحاولة" هكذا أراد ريلكه أن يبين إنسانية الإنسان بأنه يستطيع تغيير مجرى الأحداث مهما كانت قاسية، من خلال فهمها ومحاولة إيجاد حلول لها حتى وإن كانت مستعصية، فإن مجرد المحاولة تعني الكثير.
ولكن ماذا لو كانت المشكلة هي أصلاً في الإنسان نفسه..؟ كيف حينها سيحاول حملها..؟ هل سيحلها لوحده, أم أنه سيستعين مثلاً بالدين لفك عقدتها..؟ ولكن ماذا لو كان الدين نفسه محاطاً بكمٍٍ هائل من المشاكل اللا منتهية..؟ خاصة وأن ما هو معروف عن الدين بأنه له حدوداً ونظاماً لا يمكن تجاوزه.. إذاً فما الحل في مشكلة كهذه.. وكيف يمكن للإنسان أن يخرج من هذه الدوامة المعقدة.. أبالرضوخ وعدم الخوض في متاهاتها..؟ أم بالبحث والسؤال..؟ ولكن هل يمكن للبحث والسؤال أن يجدا حلاً لمشاكل الوجود مثلاً..؟ وأي وجود نقصد.. الوجود الإنساني..؟ الذي اصبح متشرداً تائها بين الفكر والدين والعقل.. فهل يا ترى يمكن لشيء كالفلسفة مثلاً أن يحل هذه المشاكل المتوالية.. أم أنها الفلسفة نفسها لن تكون إلا مشكلة أخرى تضاف لمشكلة الإنسان..؟إن ما يبرر أسطري السابقة هو إيجاد مدخل لا تقليدي لطرح موضوع أظنه قد تأخر طرحه كثيراً، لأننا هنا قد تكلمنا في كل شيء... وحتى حقوق الحيوان قد تكلمنا وسعينا لإيجادها، ولكننا لحد ألان لم نتكلم يوماً عن ضرورة تبني فلسفة خاصة في مرحلتنا هذه، وكذلك لم نقم لحد ألان بتفسير كل حدث وفعل أنساني سابق لكي نستنبط منه حاجيات الحاضر وتأملات المستقبل.
ولهذا لابد لنا من إيجاد سبل لتغيير التقليد الموروث الأزلي لدى مجتمعنا ولا بأس إن تكون الفلسفة مشكلة أخرى.. ولا باس بكسر بعض الحواجز.. لا بأس بالأمر لأننا نرى... بأنها ليست ضرورية فقط أنما هي أكثر من ضرورية لانه لو نظرنا إليها من اوجه مختلفة سنرى بأن أهم ركيزة فيها هي الوجود، وأنها الفلسفة أكثر من أي شيء أخر تعطينا صورة أوضح للوجود المكتنف بالغموض والغيبيات والمثاليات و... الخ.
أما لماذا الفلسفة..؟ فلأنها نفسها هي قول الوجود بل أنها وجود فعلي يقول نفسه، وما وجود الفلسفة إلا مقارن يقترن بقرينه الفعلي ألا وهو الإنسان، والإنسان وجوده أنما كشف وبحث وانفتاح، ولا شيء يتيح له فرصة الانفتاح الذاتي على ما هو خارجه وحتى داخله إلا البحث اللا منتهي عن منافذ الحقيقة، وهي لا تظفر إلا بالفلسفة باعتبارها بحثاً عن الوجود الحق وقولاً له، والإنسان لن يتمكن يوماً من قراءة نفسه والوقوف على وجوده، ألا بعد أن يجدد تأويله ويعيد صياغة نظريته لحياته ليتمكن من الحصول على وجه آخر لها غير الذي ورثه أو أدرك صوره أو ما التصق بمخيلته.
فصلته بالوجود صلة كلية وليست جزئية ولا حتى آنية، فهو الوجود في ذاته، والوجود لذاته، والوجود لغيره أيضاً، فالوجود الغير الواعي من الأشياء والعالم والظواهر وكذلك شعوره ووعيه كموجود قد تجاوز وجود الأشياء والوجود المادي بوجه عام أي كونه الإنسان بما هو إنسان، وعلاقته كموجود يشعر بالشعورات الأخرى من أوجه مختلفة كلها ثمرة مخاض طويل للفلسفة.
لسنا بصدد إغراق كل ما سبق ذاتنا الحاضرة من تراث وأعمال وأفكار في وحل الزمن، فبالرغم من ضرورتها للإدراك والفلسفة لأنهما لا تبدءان من اللا شيء إلا انه لابد أن تكون الضرورة هذه مقتصرة على الاستكشاف من أجل التوظيف والتأويل ولا من أجل البقاء ضمن دائرتها.
ومن خلال هذه المفاهيم للذات الواعية نرى بضرورة خلق فلسفة حية واقعية وتمتزج بذات الإنسان كونه أنساناً قادراً على خلق ماهيته بنفسه، ولعل قول خلق فلسفة يثير حفيظة البعض، إلا أنني قلت خلق وليس تأسيس لان ما يخلق غير ما يؤسس، فالثانية تتطلب قواعد وأنظمة يتفق عليها ويصعب خرقها بعد ذلك لأنها تعتبر مخالفة وتجاوزاً عن القواعد والأنظمة المتفقة عليها، أما ما يخلق فهو غير مكلف باتباع تلك الأنظمة والقواعد وقد يتمرد بكل حرية حتى على خالقه، ولعل التمرد بمرادفه الناقص الديني "العصيان" يوضح الأمر أكثر.
والإنسان بما هو إنسان لا يستبعد عن هذا المفهوم لكونه عندما تم وجوده بدأ يخلق ماهيته بنفسه، ولعل عمله هذا يوحي بتطلعاته نحو آفاق الفلسفة منذ البدء لأن الفلسفة كعمل يبتكر وتجربة فريدة لا تتكرر تعمل على تقصي الحدث وتتكشف عن قراءة جديدة مغايرة للقراءة العادية، وما يميز الفلسفة كونها يقاس تقدمها بما تطرحه من أسئلة ونوعيتها وليس بنجاح أجوبتها وذلك لاتصالها الوثيق بالحدث الآني، وهذا ما يجعل حاملها لا يعيشون في خواء أزلي، بل هم يرون مشاكلهم من خلال منظور عصرهم الذي ينتمون إليه. ومن هذا المنطلق نرى ضرورة الفلسفة في تدعيم أية مسيرة نحو التقدم، وحتى نميز التقدم العلمي عن الفلسفة فإن الأخيرة تعتبر تأملاً في حقيقة العلم وهذا ما يتميز بها الفلسفة كونها تطل على كل الميادين والمجالات وتنفتح على جميع الأشياء والحقائق, هي كما يقول عنها "علي حرب" فتح فكري ونافذة على الوجود أيا كان نظام القول وشكله وطبيعته.