الوسادة
جلسَ فى زنزانتهِ الضيقةِ الخاويةِ اللهمَّ إلا من تلكَ الحشراتِ التى تسعى فى كلِّ مكان، جلسَ يحملقُ فى الضوءِ الشاحبِ الذى راحَ يتسلل ُإليهِ وئيداً من خلالِ فَجوةٍ صغيرةٍ مرتفعةٍ وكأنَّه خيطٌ يمر من ثقبِ إبرة . أغمضَ عينيهِ وراحَ يفكرُ ، ما هذا العِالِمُ الظالمُ الذى أوْدَعَهُ فى هذا المكانِ وكأنَّ البشريةُ كلهِّا قد تملَّصتْ منهُ وأدبرتْ عنهُ بل نَزَعَتْ مِنهُ بَشَرِيَّتَهُ إنَتزاعاً والْقَتْهُ فى ذلك القبرِ وهو مازالَ يتنفس. إنَّ نظامَ هذا العالمِ كلِّه لابدَّ وأنْ يتغير ، لابدَّ للظلمِ أنْ يَغْرُبَ عن عالمِ البشرِ، هذا هو الحل الوحيدِ ، لابد له أنْ يُعيدَ النظامَ العادلِ للأرضِ كلِّها . أغمضَ عينيهِ يفكرُ بعمقٍ فى الوسائلِ التى سَتعينَه لتحقيقِ هذا الهدفِ فورَ خروجِه من هذه الشرنقةِ التى تحيطُ به. بعد أيامٍ أخذ يراجع نفسَهُ ويقولُ لا ، ليسَ العالم هو المسئول ، فالعالم مقسمٌ إلى دولٍ وكلُ دولةٍ لها قوانينها ونظامها الخاص. إنَّ المذنبَ هو الدولةِ التى يعيشُ فيها بقوانينِها الظالمةِ والقائمين على إدارتِها بالجورِ والبُهتان ، أولئك هم أصلُ المصائبِ ، لابدَّ له إذنْ أن يُعيدَ النظامَ لهذهِ الدولةِ و يغيِّر أنظمتَها وقوانينَها ليستتبَ العدلُ الذى ينشدُه. راح يفكر فيما سيفعله من أجل ذلك ولكن تفكيرَه أمسى مضطرباً من هزالٍ أصابَه وآلامٍ أنهكتْ جسدَه جرَّاءَ التصاقِه بصفةٍ مستمرةٍ على الأرضِ فالمكانُ لا يتسعُ لخطوتين يحركُ بهما قدميهِ فهو إما نائمٌ أو جالس. أيامٌ مضتْ وإذا به يراجعُ نفسَه من جديد ، لا ليسَ العيب فى الدولةِ وقوانينِها ، فالقوانين فيها العقابُ والثوابُ وهذا عدل ، إنما الخطأَ يقعُ على المنفذينَ لهذه القوانينِ فيأخذونَ بالعقابِ دونَ الثوابِ ، ذلك فسادٌ فى التطبيق ، العيبُ هنا فى ذلكَ السجنِ الكئيبِ وإدارتِه الغاشمةِ التى لا تراعى حقوقاً أو آدميةً ، إنَّ إدارةَ هذا السجنِ لابد أن تتغير ليسودَ العدل ، عليه إذن أن يفكرُ كيف يغيرُ هذه الإدارةِ ويُصلحُ أحوالَ السجنِ والمسجونين. إزدادتْ آلامُ جسدهِ فالأرض قاسيةُ وأهٍ من آلامِ رقبتِه ، لم تعد يده المتألمةَ تتحمل ثِقلَ رأسِه التى يضعُها عليها حين ينسطحُ على الأرضِ لينامَ فباتَ ينامٌ ورقبتُه تلتوى حتى تُلامس رأسُه الأرض. مرتْ شهورٌ حتى أدرك أنَّ الآثم فى هذهِ الحياةِ ليست إدارةُ السجنِ فما ذنب الإدارةِ وهى فى مبناها البعيد كى تتحملَ ذنوبَ تصرفاتِ أفرادٍ ليس عندَهم ضميرٌ موكلُ إليهم الحراسةُ المباشرةِ على السجناءِ وهم الوسيلةُ الوحيدةِ التى تربطُ بين من فى الزنزانةِ وتلك الإدارِة بل والعالمِ كله. إنَّ المذنبَ الآثم فى هذا العالمِ هو ذلك السَّجانِ الوقحِ القاسى الذى يحرسُ زنزانتَه فطالما طلبَ منه من خلف البابِ وسادةً يسندُ عليها رأسِه وهو نائم فقد صارت آلامُ رقبتِه لا تحتمل . نعم إن هذا السجانِ هو أسُّ الفسادِ فى الأرضِ ولابد أنْ يتغير. راح يزيلُ بعضَ الحشراتِ التى التصقت بجسدِه فلا غذاءَ فى الزنزانةِ الكئيبةِ إلا هو، ثم انبطحَ لينامَ نوماً متقطعاً كعادتِه خالياً من الأحلامِ ولكنَّه هذه المرةِ حَلُمَ بليلةٍ جميلةٍ استطاعَ فيها الحصول على الوسادةِ وأسندَ عليها رأسَه !