أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 36

الموضوع: نصوص القصة القصيرة التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى

  1. #21
    قاص
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    المشاركات : 598
    المواضيع : 65
    الردود : 598
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    الأستاذ
    نص قصصي بقلم / مجدي محمود جعفر
    (1 )

    على جرف نهر صغير ، تحت شجرة صفصاف ، والشمس تنحدر صوب الغرب ، وتبدو من خلف أشجار النخيل الباسقات ، الواقفات على الشط المقابل ، ككرة مائلة حمراء ، تعكس كل ألوان " قوس قزح " يجلس رجل ، مرتديا نظارة طبية سميكة ، يسند ظهره إلى جذع شجرة الصفصاف ، ويمدد ساقيه ، ويمسك بكلتا يديه كتابا ضخما .

    يقتحم عبدالله النهرى خلوته :

    - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    لم يرد الرجل السلام
    عبدالله مكررا :

    - السلام والتحية لأستاذنا .

    لم يرد الرجل السلام ولا التحية .

    عبدالله رافعا صوته ظنا منه أن الأستاذ به صمم :

    - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الأستاذ ناظراً له بطرف عينه من خلف النظارة ، وبحسم :

    = احترم جلستى مع الكتاب .

    عبدالله :

    - أسف ، أسف يا أستاذ .

    الرجل " مشيرا بيده " :

    = الزم الصمت ؟!.. يمكنك أن تنتظر أو لترحل !

    [ عبدالله منسحبا للخلف ، وجالسا على بعد خطوات منه ، ومنشغلا عنه بالنظر إلى الشمس المائلة ، وأشجار النخيل على الشط المقابل ، وماء الترعة المنساب برقة ، والخضرة المفروشة على مرمى البصر ، وبالفلاحين العائدين من الحقول ، يمتطون الحمير ، ويسحبون البهائم ، ولا يلقون بالسلام على الأستاذ المتوحد مع الكتاب ، احتراماً لخلوته ، وعلاقته الحميمة بالكتاب ، فأجلهم ، وأكبرهم فى نفسه .

    تُرى ما هذا الكتاب الذى استحوذ على عقل ووجدان وحواس الأستاذ ؟! .

    عبثا يحاول أن يلقط إسم الكتاب ، أو اسم مؤلفه ، فربما معرفة عنوان الكتاب أو اسم مؤلفه – يدخله إلى العالم الذى يعيش فيه الأستاذ – العالم الذى شغل الأستاذ عنه وعن كل ما حوله .

    راح يتأمل ذقن الأستاذ النابتة ، وجلبابه المتسخ ، وشعره الأكرت الهائش ، والشعر الأبيض الذى غزا ذقنه ورأسه ، وتساءل فى نفسه :

    - منذ متى لم يحلق الأستاذ ذقنه ويهذب شعره ؟

    ومنذ متى لم يغسل جلبابه ؟

    ينحسر الجلباب المتسخ ، والمهترئ عن جزء من ساقه ، فيرى أن الساق قد امتلأت بالدمامل ، والبثور ، وآثار الأظافر من دم فاسد ، وخطوط حمراء ، وبقع سمراء .

    راح يقرن فى ذهنه بين ما كان عليه الأستاذ – وما آل إليه حاله ، يحاول أن يجمع ما قد تناثر إلى سمعه عنه من الذين يعرفونه ، وخاصة رئيس التحرير .

    هل هذا هو مدرس الفلسفة ، الذى ورث عن أبيه ، أغنى أغنياء المنطقة ، عشرات الأفدنة ؟!..

    هل هذا هو مدرس الفلسفة – الذى لم يعمل بالتربية والتعليم غير أسبوع ، ودخل الفصل لأول مرة ، مرتديا جلبابا أبيض نظيفاً ، فضفاضا ، ومنتعلا " بلغة " بنية خفيفة ، يفوح منه العطر الباريسى ، ضاربا عرض الحائط بالتقاليد والأعراف المدرسية ، لاعنا فى أول يوم .. الوكيل ، والناظر ، والموجه ، ومستشار الفلسفة ، وممزقا الكتاب المدرسى ، ولاعنا المنهج ، والقولبة ، والحجر على العقول ، والتعليم فى حجرات مغلقة ، والأسوار حول المدرسة ، وكان أول مدرس يفاجئ الجميع ، بالقفز من شباك الفصل أمام الطلاب ، ومن فوق السور العالى ، الذى يلف المدرسة ، ولم يدخل بعدها المدرسة أبدا .

    الشمس كرة صغيرة فى الأفق ، والأستاذ يمد يده " يهرش " ساقه بقسوة ، تسرى رعدة خفيفة فى جسد عبدالله وهو يرى القيح والدم الفاسد .

    ومازال الأستاذ مشغولا بالكتاب لا يشعر بوجود عبدالله ولا حتى بساقه التى تنز الدم و المدة ".

    خطر ببال عبدالله أن يتمرد ، أن يلفت انتباه الأستاذ إلى وجوده .

    أمسك ببعض الأحجار ، وراح يلقى حجرا تلو حجر فى ماء الترعة ، ارتطام الأحجار بالماء تحدث ضوضاء وجلبة ، وتصنع دوائر تلو دوائر ، تتداخل ، وتتسع ، وتضيق .

    ولما لم ينتبه الأستاذ ، فكر للحظة – أن يلقى بالحجر فى رأس الأستاذ .

    راقته الفكرة ، لم يفكر فى النتائج ، ولا العواقب ، أمسك ببعض الحصى ، انتقى حصاة صغيرة بحجم حبة الفول ، قلبها بين إصبعيه ، تأملها ، نظر إلى رأس الأستاذ ،وصوب الحصاة واستقرت فى شعر الأستاذ ، ولما لم ينتبه قال فى نفسه وهو يمسك بحصاة أخرى أكبر حجما :

    - على أن أزيد من قوة الدفع ، وأبعد قليلا عن شعره ، فهذا الشعر الكثيف الهائش مثل صوف الغنمات ، قادر على حماية فروة رأسه .

    تخير إخدودا بين عرقى القفا ، صوب ، ولكنه أخطأ ، وارتطمت الحصاة بجذع شجرة الصفصاف ولم تحدث أثرا يذكر .

    ... كانت الشمس قد اختفت تماما ، والأستاذ طوى الكتاب ، ووضعه إلى جواره ، وراح ينظر إلى نجمة تبزغ فى السماء .

    قال عبدالله فى نفسه :

    - إذا خاطبته الأن سيثور ويقول لى : احترم صمتى ؟!

    راع عبدالله فى تلك " الغبشة " ، منظر أنف الأستاذ وأذناه ، وقال فى نفسه :

    - ما بال أنف الأستاذ طويل ممتد ، وفتحتاه واسعتان مثل طاقتى فرن ، وأذناه طويلتان ، كبيرتان ، مثل أذنى حمار !!

    .. حدثه رئيس التحرير عن علاقة الأستاذ بالناصريين ، والشيوعيين والساداتيين ، والإخوان المسلمين ، عن علاقته بإسرائيل كأول من قام بالتطبيع مع العدو !!

    عن محاولاته فى الرواية والمسرحية ، وإنشاءه لفرقة مسرحية ، عن بيعه لأرض أبيه فدانا وراء فدان .. عن نزقه ، وطيشه ، ومغامراته .

    عن السنوات التى قضاها خلف القضبان ، عن.. وعن ..

    .. ينظر عبدالله الى الأستاذ الذى نهض فجأة ، ونزع جلبابه ، فبدا فى ملبوساته الداخلية ، فارعا ، مشدود القوام ، رغم تجاوزه الستين ، تمطع ، وفرد ذراعيه ، وثناهما ، فبرزت عضلاته وبدت ككرة جلدية منتفخة ، ثنى جذعه يمينا ويسارا ، حرك ساقيه ، جرى فى المكان ، مارس بعض التمارين الرياضية ، وفوجئ عبدالله به . يخلع ملبوساته الداخلية ، وبدا له عاريا تماما ، وقفز الى الترعة ، يفرق الماء بكلتا يديه ، وكسمكة كبيرة راح يسبح فى الماء .

    فكر عبدالله أن يسرق ملابسه ، ويتابع من بعيد آثار اختفائها ، وكيف سيتصرف ؟!.. ويرصد بالكاميرا والقلم رد الفعل عنده ، ولكنه تراجع عن هذه الفكرة الصبيانية .

    " وضحك "

    - لو كانت امرأة أو صبية لفعلتها !.. وقد سبقني امرؤ القيس !.

    يخرج الرجل من الماء ، ماسحا بيده رذاذ الماء المتبقى على جسمه ، ونافضا ما علق بشعره ، ويرتدى ملابسه،

    ويقف متمتما بكلمات ، ثم رافعا يده لأعلى ، ورافعا صوته : الله أكبر ، ويشرع في الصلاة .

    أطال في الركوع وفي السجود .

    يقول عبد الله في نفسة :

    ـ هذا الشيوعي القديم الذى جهر للناس ، بإلحاده ، يصلي ! نقل له رئيس التحرير ، الذى زامله ، ورافقة طويلا ، أنه ما صام ولا صلي ، وأول مرة دخل فيها المسجد ، يوم أن خطب ابنه الشيخ ، كبير الإخوان في الناحية .

    يصغي عبدالله إلى دعائه ، وتبتله ، وتقربه ، إلى بكائه ، ودموعه التي تنهر . كم من الوقت مر عليه وهو يصلي ؟.. ساعة ، ساعتين ، لا يدرى . ولما فرغ من الصلاة ، عاجله عبد الله بمد يده قائلا له :

    ـ تقبل الله يا أستاذ .

    احتضن الأستاذ يده وقال :

    = تقبل الله منا ومنك

    وملتفتا إليه :

    = من أنت ؟!

    - عبد الله النهرى .

    = من أمك ؟

    عبد الله ضاحكا :

    ـ ولماذا أمي

    = ألست بلدياتي ؟!

    ـ نعم

    = إذن قل لي من أمك ـ أقل لك من أنت !

    عبد الله ضاحكا :

    ـ صدقت يا أستاذ !

    عموما أمي سيدة طيبة ، ابنه رجل طيب ، فأمي هي فلانة ، بنت فلان ..، ولا أعرف أكثر من هذا !! .. أما نسبي لأبى ، أستطيع أن أصل معك به إلي الجد العاشر .

    الأستاذ ناهضا :

    = هيا ، انهض معي ، فأنتم جيل مقطوع الصلة ، فيما مضي كانت شجرة الأنساب مهمة .

    ومتأبطا ذراع عبد الله

    عبد الله :

    - إلى أين ؟!

    = أشعر بالجوع . قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟

    - وما أدراك أنني جوعان ؟!

    = انتظرتني ما يقرب من ست ساعات .

    ـ إذن كنت تشعر بوجودى ، ولم تعرني اهتماما .

    = أدركت أنك فنان .

    ـ كان هذا أدعي أن تهتم بي ، وتوليني الاهتمام .

    = طبعا لا تكتب الشعر .

    ـ وما الذى جعلك تجزم بهذا ؟

    = الشاعر قلق بطبعة ، ولا يطيق الانتظار .

    ـ وماذا تراني أكتب ؟

    = الرواية أو المسرحية ، هذا يحتاج إلى دأب ، وصبر وأناة .

    ـ أحترم ذكائك، وأقدر فراستك ، ولكنني جئتك كصحفي حيث أنني ..

    = أوشكنا علي دخول العزبة ، قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟

    ـ الموجود يا أستاذ . ولكن الجريدة التي أعمل بها .. كلفني رئيس التحرير ..

    = كل شي موجود !

    ـ ربنا يزيدك ، ويوسع عليك يا أستاذ ، لكن التحقيق الذى يريده رئيسي ..

    الأستاذ مشيرا إلي أول دار بالعزبة

    = أهل هذه الدار يطبخون ملوخية بالأرانب ، هل تحب الملوخية بالأرانب ؟

    عبد الله " مستغربا " :

    ـ في الحقيقة يا أستاذ ـ أنا أكره منظر الأرانب بعد ذبحها وسلخها ، فتبدو لي مثل الأطفال !

    = إذن في هذه الدار

    " ويسحب شهيقا "

    = لحم بط بلدى " ومحشي " ورق عنب .

    " عبد الله متعمدا أن يسير بالأستاذ أطول فترة ممكنة ، ليتأكد مما جال بخاطره للحظة ، وهو يتأمل أنف الأستاذ ، وأذناه ، خاطر ومض في رأسه كالبرق الخاطف "

    ـ والله يا أستاذ أنا لا احب لحم البط .

    = باذنجان مقلي

    = عدس

    = طعمية

    = فطير

    - القولون .. القولون يا أستاذ

    = لا بأس .. ألف لا بأس .. إنه داء العظماء ! ، علينا إذن بالبحث عن المسلوق .

    " يستنشق بعمق ، يضجر قليلا .."

    = رائحة السمك تطغى ، وتنتشر فى هذه الدار .

    ورغم رائحة السمك الزاعقة ، أشم رائحة فراخ ولحم مسلوق .

    " يقف أمام الدار ، يصفق ، ينادى .."

    صوت امرأة من داخل الدار :

    ـ - ادخل يا أستاذ تمام .

    = معي ضيف

    ـ - علي الرحب والسعة .

    = أين زوجك يا بت ؟

    ـ - راقد في السرير

    = كنت أعلم أن نهايته الرقود في السرير !

    ـ - تفضل في " المندرة " يا أستاذ تمام .

    علشان خاطر الأستاذ .

    = الأستاذ ليس غريبا .

    المرأة الشابة ناظرة لعبد الله !

    ـ - نورت العزبة يا أستاذ .

    ـ منورة بأهلها .

    " الأستاذ تمام دافعا باب الغرفة ، ينهض الرجل الراقد تحت البطانية ببطء ، يتفرس الأستاذ في وجه الرجل الأصفر الباهت ، يمسح له عرقه الذى يشر بفوطة قديمة ، ملقاة بجواره علي السرير "

    الأستاذ تمام ضاحكا :

    = وهذه أخرة الشقاوة

    " وناظرا إلى المرأة الشابة "

    " المرأة الشابة مدارية وجهها بطرف من طرحتها السوداء وقائلة بخجل :

    ـ يوه بقي يا أستاذ تمام ، ما هو اللي عايز كده ، وياما نصحته ، هو في أحسن من .. هيء هيء .. هيء هيء ..

    الأستاذ تمام ناظرا للرجل :

    = إياك تكون اعتبرت . هل نظرت في المرآة ، ورأيت كيف هزلت ، وأصبحت مثل عود الحطب أو عود القصب الممصوص ..

    الرجل وهو ينهج ويكح :

    * خلاص .. توبة من بعد النوبة .. أرجع للحاجات دى تاني ، منه لله عبده البقال ، وسعيد الحلاق .

    المرأة الشابة :

    ـ - عندنا سمك يستاهل بقك يا أستاذ تمام أنت والأستاذ .

    = أنا ضعيف قدام السمك . أما الأستاذ مالوش في السمك .

    ـ - خير ربنا كتير ، عندنا لحمة ، وفراخ ، ورز ومرقة .

    = خلاص .. الأستاذ يأكل لحمة وفراخ مع العجل اللي وقع ده وأنا أكل معاكم سمك .

    ـ - ما خلاص بقى يا أستاذ تمام . الرجل قال لك توبة بعد النوبة ..

    = بالذمة يا له ما هي اللي كانت بتشجعك ؟

    " هي منسحبة ، تاركة خلفها ضحكة طويلة ، ممطوطة ، مسرسعة "

    الرجل :

    * كفاية تأنيب يا أستاذ تمام ، أنا شفت الموت . لولا ستر ربنا ..

    الأستاذ تمام :

    = المهم أن الراجل الجدع ، هو اللي يراجع نفسه ، ويحاسبها ، وما يعودشي للغلط تاني .

    " وما كاد الأطفال العائدون من الشارع يسمعون صوت الأستاذ تمام ، حتى عدوا نحوه ، وفي صوت واحد :

    ـ جدو تمام .. جدو تمام ..

    يتلقفهم بين ذراعيه واحدا تلو آخر ، ويغمرهم بالقبلات . فيما كان عبد الله " يزر " عينيه ، ويركز بصره علي مشهد الأستاذ الذى يحتضن الأطفال ، ثم ينقل بصرة إلى الرجل الراقد علي السرير يئن ، والي المرأة الشابة االعفية التي تغدو أمامهم وتروح حاملة حللا وملاعق وأطباقا ، ويفكر في ذلك الشيء الذى يتنافس علي بيعة عبده البقال ، وسعيد الحلاق لأهل العزبة الغلابة ، ولا يدرى ـ لماذا ـ بدا له أنف الأستاذ علي ضوء المصباح أكبر بكثير مما تصور !"



    ( 2 )

    " الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله ، وقد غادرا شوارع العزبة تماما .."

    عبد الله :

    ـ إلى أين ؟

    = لا تسلني عن شئ ؟!

    ـ لكنني جئت مخصوصا لأحاورك وأسألك .

    = السؤال لغير الله مذله .

    ـ عموما سأصبر حتى النهاية .

    = لن تستطيع معي صبرا .

    - سأصبر حتى أرى الكرامات .

    = أقالوا عني وليا ؟!

    عبد الله ضاحكا :

    ـ بل قالوا : شيوعيا ، ثم ناصريا ، فساداتيا ، و ...

    " ومحاولا أن يستفزه ، ويجره إلى الحديث " :

    ـ وقالوا : أنك أول من قمت بالتطبيع مع إسرائيل !!..

    والرجل الغلبان الراقد في فراشه يصارع الموت . بسبب التطبيع .

    " الأستاذ تمام نافخا ، وهازاً رأسه ، ومتوقفا عن السير ، ولازماً الصمت ، وناظراً في اتجاه أشجار كثيفة على بعد أمتار من جانب الطريق .

    يبحلق عبد الله في الظلام ، مركزا نظره في الناحية التي ينظر إليها الأستاذ .. بصعوبة يرى شواهد قبور ، يسير الأستاذ ناحية المقابر ، وعبد الله في أثره .

    يقف الأستاذ أمام أحد المقابر في جلال وخشوع .

    وقع في قلب عبد الله وهو يرى القبر ينفتح ، وفي لحظة زمنية كالومضة ، يرى القبر كطاقة نور ، يتسع شيئا فشيئا ويصبح باتساع الكرة الأرضية . والأستاذ تمام سابحا في النور ، وامرأة حسناء ، ترتدى حلة خضراء ، يشع وجهها بالضوء الباهر ، تمسك رأسه بين يدها ، تهزه يمنه ويسرة ، وتبتسم ، وصوت قوى يتردد صداه في كل مكان .."

    " وينتبه عبد الله فجأة علي صوت نحيب الأستاذ تمام ـ المتصلب أمام القبر ، تنهمر الدموع من عينه ، ولا يدرى عبد الله إن كانت الدموع التي تسقط من عيني الأستاذ قطرات وحل سوداء ، أم قطرات ضوء بيضاء ، وينسحب الأستاذ ، ويحس به عبد الله رشيقا ، خفيفا ، وكأنه تخلص من أحمال ثقيلة "

    الأستاذ تمام :

    = أمي !

    عبد الله :

    ـ رحمة الله عليها

    الأستاذ تمام :

    =جميلة وسعيدة .

    عبد الله :

    ـ أجمل من رأيت !

    الأستاذ :

    = الزم .. ولا تفصح !

    عبد الله :

    =حملك ثقيل

    الأستاذ :

    = سعيد بحمله

    عبد الله :

    ـ ينتقي الله قليلا من عباده ، الذين هم أهل للتلقي .

    الأستاذ :

    =المهم أن تجاهد .

    عبدالله " متنهدا" :

    - نجاهد ماذا .. ولا ماذا ؟!

    الأستاذ " مرددا قول الشاعر :

    = إبليس والدنيا والنفس والهوى ..

    عبدالله " مقاطعا " :

    - الخلاص . كيف الخلاص وكلهم أعدائي ؟!

    الأستاذ :

    = ابدأ ؟!

    عبدالله :

    - من أين أبدأ ؟

    الأستاذ :

    = كل الطرق تؤدى إليه إذا التزمت أوامره وتجنبت نواهيه .

    عبدالله :

    - دلنى على الطريق .

    الأستاذ :

    = اختر الطريق الذى يناسبك .

    عبدالله :

    - ولكنك .. اخترت الصعب .

    الأستاذ :

    = كل ميسر لما خلق له .

    عبدالله :

    - تنفذ من سم الخياط ، وتمشى على الماء ، وتطير فى الهواء .

    الأستاذ :

    = لا يغرنك !

    عبدالله :

    - ماذا أفعل ؟

    الأستاذ :

    = كابد وجاهد .

    عبدالله :

    - أنا محاصر ، الأسوار ، الدوائر الحمراء ، رئيس التحرير ، الزوجة ، الأولاد ،... ، الدائرة تضيق ، وتضيق ، أكاد .. ، ..

    الأستاذ :

    = لا تتذمر ، لا تشك ، افعل ؟

    عبدالله :

    - الكلمة سبقت الفعل .

    الأستاذ :

    = اجعلهما متلازمين .

    عبدالله :

    - اتسعت الهوة بينهما وتباعدت المسافات .

    الأستاذ :

    = عليك بنفسك .

    [ يتوقف الأستاذ أمام " خص " على رأس غيط أذرة .. ]

    ينطلق صوت من داخل الخص :

    · ادخل يا أستاذ تمام أنت وضيفك .

    الأستاذ تمام لعبد الله :

    = لا تندهش يا عبدالله ، إنه رجل طيب ، سخر الله له الوحوش ، والطيور والثعابين ..

    عبدالله :

    - رفاعى !

    الأستاذ :

    = لكلٍ مقامه ومقاله.

    [ الأستاذ داخلا ، ووراءه عبدالله ، يفزع عبد الله ]

    الرجل متفرسا فى وجه عبدالله وقائلا له :

    · اجلس ولا تخف ؟!

    [ كلب وذئب يلعبان ، قط وفأر يتسامران ، أفاع وحيات تسعى ، بوم وغربان ، حمام وعصافير .. ]

    الأستاذ تمام للرجل :

    = عبدالله ..

    الرجل " ناظرا لعبد الله " :

    · جدتك لأمك كانت من الطيبات ، كان اسمها نفوس ، أليس كذلك ؟!

    [ عبدالله محاولا ألا يظهر دهشته ]

    - نعم .. هذا هو اسمها .

    الرجل :

    · جعل الله الشفاء بيدها ، بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ..

    الأستاذ تمام " متدخلا " :

    = رحمها الله ، كانت من العارفات ، وكان لقلبها عيون ، رأت طريقي ، جرتنى أمى إليها وأنا فى زمن الطيش والرعونة .. آه لو أخذت بما قالت يومها ، لتجنبت الكثير من المطبات ، واختصرت الطريق .

    الرجل :

    · خطا مكتوبة ، لابد أن تخطوها ، وطريق مرسوم لا بد أن تسير عليه .

    الأستاذ تمام :

    = نعم .. نعم .. رحمة الله عليها ، الفاتحة لروحها .

    [ الرجل متناولا " فردة " حذاء قديم ، ومطوحا بها فى الفراغ خارج الخص ] وقائلا بغضب :

    · اغرب يالعين ؟!

    ومتمتما بكلمات .

    [ عبدالله مندهشا ، من عودة الحذاء الى مكانه ، ومن ثورة الرجل المباغتة ]

    الرجل :

    · شيطان لعين !

    عبدالله محاولا أن يتماسك :

    - طمأنك الله .

    الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :

    = لا تأخذ كلامه مأخذ الهزل ، إنه رجل طيب .

    الرجل :

    · دعه يا أستاذ تمام .

    عبدالله :

    - أنا أحببتك والله ، وأثق فيك .

    الرجل :

    · أحب الله ، وثق فيه .

    عبدالله :

    - أرنى طريق ؟!

    الرجل :

    · لا أقدر على البوح .

    عبدالله :

    - ولو إشارات .

    الرجل :

    · وهل نتلقى يا ولدى غير إشارات ؟!

    امض فيما أنت ماضٍ فيه ؟

    عبدالله :

    - أخشى أن يوردنى هذا الطريق الى التهلكة .

    الرجل :

    · لا تخش الأزمات ، ولا الهزائم ، ولا الانكسارات .

    عبدالله :

    - أحلامي كبيرة ..

    الرجل :

    · وعزيمتك كبيرة ..

    عبدالله " مشيرا الى الأستاذ تمام " :

    - أريده ..

    الرجل مقاطعا :

    · تمام مسير .

    عبدالله :

    - خاض نفس الطريق وفشل ..

    الرجل :

    · لا تتعجل فى الحكم يا ولدى .. من قال أنه فشل ؟

    [ الأستاذ تمام متدخلاً ]

    = عبدالله أصاب كبد الحقيقة .

    الرجل :

    · الحقيقة ، الحقيقة ، ومن عنده الحقيقة يا أهل الطريقة ؟

    الأستاذ تمام :

    = بمقياسهم فشلت .

    الرجل :

    · المقياس خاطئ .

    عبدالله :

    - الأستاذ تمام يستحق مكانا ، ومكانة ..

    الرجل " مقاطعا " :

    · ومن أدراك يا ولدى أنه ليس فى مكان أعلى مما تتصور ، تمام ارتفع ، وارتفع ، بقدر ما كابد وجاهد .

    الأستاذ تمام للرجل :

    = عبدالله أديب .

    الرجل :

    · أعرف أنه من أهل الكلام ، ومن أهل الفعل أيضا .

    عبدالله :

    - مازلت أتعثر فى البدايات .

    الرجل :

    · ثق فى نفسك .

    [ الرجل مشيرا بيده ، ومتمتما بكلمات غير مفهومة . ]

    فوجئ عبدالله بأفعى تحمل " منقدا " عليه أخشاب شبّت فيها ألسنة النار ، كاد أن يقع قلبه في رجليه ، لولا أن استحضر بعض شجاعة وثقة وتماسك ، والذئب يحمل " كيزان " أذرة فض غلافها ووضعها علي النار التي خمدت ، والطير يخفق بأجنحته علي النار .

    يتناول الرجل ثمارات الذرة المشوية ، ويقدمها للأستاذ تمام ولعبد الله .."

    الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :

    = هذا قطر من فيض غمر به الله هذا الرجل .

    " الرجل ناهضا ببردته البالية ، ربت علي كتف الأستاذ تمام ، وشد علي يد عبد الله ، وفجأة اختفي .."

    عبد الله " مندهشا " :

    ـ أين ذهب ؟!

    الأستاذ تمام :

    ـ لا تسأل .

    عبد الله " ناظرا حوله " :

    ـ أين الأفاعي ، والحيات التي كانت تسعي ، والكلب الذى يداعب ذئبا ، والقط الذى يسامر فأرا و..و..

    الأستاذ تمام :

    =أرجو ألا تشقي بما رأيت .

    عبد الله خارجا من الخص وناظرا إلى السماء :

    ـ ( لا اله إلا أنت سبحانك )

    الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله :

    = قل لي .. فيما كنت تريدني ؟!

    عبد الله :

    ـ يخيل لي ، بل أكيد أنك تعرف . ألست من الذين كشف عنهم الحجاب ؟!

    الأستاذ تمام :

    = أين أنا يا ولدى من هؤلاء ؟ ..

    إنهم صفوة ، يختارهم الله ، وأنا مازلت غارقا في الوحل والطين .

    عبد الله ناظرا للأستاذ تمام :

    ـ بل شفت نفسك ، ورقت ، وتخلصت من الطين .

    الأستاذ تمام :

    = تراه قريبا ونراه بعيدا .

    عبد الله :

    ألم تتلق إشارات من السماء ؟.. ألم تغمرك فيوضات ونفحات ..؟!

    الأستاذ تمام :

    = مازلت غير قادر علي تلقي النفحات ، مازال جهاز الاستقبال عندى ..

    عبد الله :

    ـ يبدو أنني سأشقى بما رأيت إلي الأبد .

    الأستاذ تمام :

    = الأصل .. الكدح والمشقة ، المهم البلوغ .

    عبد الله :

    ـ وكيف البلوغ .. وأنا ..

    أطلعني علي ما دونته يا أستاذ .. من مشاهدات ، ومكابدات ..

    الأستاذ :

    = لم أدون بعد ..

    عبد الله :

    ـ كيف ، ورئيس التحرير أخبرني ..

    الأستاذ مقاطعا :

    = ما أحلم بكتابته ، لم أكتبة بعد ، وما أتمناه ..

    عبدالله :

    - ومتى تقول كلمتك يا أستاذ ؟!

    الأستاذ:

    = أنا أحتشد لها .

    عبدالله :

    - عدنى أن أكون أول من يطلع عليها بعد الله ..

    الأستاذ :

    = لا أعدك .

    عبدالله :

    - هل كنت تدرى أننى ورئيس التحرير ..

    الأستاذ " مقاطعا " :

    = ألهمنى الله .

    عبدالله :

    - حتى لو عرفت ..

    الأستاذ رابتا على يده :

    = لا تهتك يا ولدى ما ستره الله

    عبدالله " منحنيا على يده ليقبلها .

    - خذنى تابعا لك يا أستاذ ؟

    الأستاذ :

    = اتبع الله يا ولدى ؟

    عبدالله :

    - رئيس التحرير ..

    الأستاذ :

    = اتبع الله يا ولدى 0

  2. #22
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    المشاركات : 1
    المواضيع : 0
    الردود : 1
    المعدل اليومي : 0.00
    من مواضيعي

      افتراضي قصص فى منتهى الحزن

      (1)
      أنياب الشر

      كنا صغاراً نبتسم للريح عندما اخبرنا معلم المدرسة إن الشر غول كبير يملك ألف ناب قاطع وانه التقى ذات مرة بالخير :

      ـ صباح الخير أيها الشر .. نهار جميل .. أليس كذلك ؟

      لكن الشر رد التحية على طريقته .. نهش يد الخير وقضم جزءًا من ساعده الأيمن :

      ـ هذا لا يهم .. أتمنى أن يهديك الله إلى طريق الصواب أيها الشر .

      عاد الشر فنهش اليد اليسرى للخير وظل يلعق دمائه بمتعة لا توصف :

      ـ سامحك الله أيها الشر .. لعلنا نصبح أصدقاءً ذات يوم .

      كنا صغاراً نبتسم للريح عندما صرخنا بوجه معلمنا الطيب (( يا لهذا الخير الجبان )) وعندما اصبحنا كهولاً تملأنا التجاعيد .. صرنا نتكئ على سور خيبتنا العظيم ونهمس بوهن :

      ـ صباح الخير أيها الشر .. نهار جميل .. أليس كذلك ؟

      ( 2 )
      ماشى الحال

      ولدت (( ماشى الحال ))
      في الواقع لم تولد بهذا الاسم لكنهم اعتبروها منحة متواضعة من السماء فقبلوا المنحة لمجرد الحفاظ على حسن الجوار مع القضاء والقدر واختاروا لها هذا الاسم بالذات لأنهم أرادوا أن يبعثوا لخالقها رسالةً مهمة مفادها إنهم قبلوا بها (( على مضض .))
      فى الواقع اجتمعت القبيلة وفاضلت طويلاً بين الاسمين .. (( ماشى الحال )) و (( على مضض )) وفى النهاية انتصر التفاؤل ونامت الوليدة باسمها الغريب :

      ـ موش مهم .. ربما يتحسن الحال في المرة القادمة .

      تمتم والدها وخيبة الأمل تجعل من تنفسه مهمة صعبة ..
      وكبرت (( ماشى الحال )) ..
      كانت مبهجة كزهرة برية .. طازجة كغابة بكر .. جميلة كشمس تغسل جسدها في أقصى الأفق .. ونضجت البنت .. كبرت واستدارت مفاتنها .. ومجدداً اجتمعت القبيلة والخجل يغسل الجباه :

      ـ ماشى الحال لم تعد كذلك .. اصبحت (( عورة )) وينبغي لنا أن نستر العورات

      إلى الآن لا زالت القبيلة تجتمع .. يتنادى الأشاوس .. ويصل الفرسان على صهوات جيادهم .. يمسحون الشرف المتساقط على الجباه الشامخة وينشدون قصائد الفخر .. ويبحثون عن حلٍ مناسب يستر عورتهم .. تلك المبهجة كزهرة برية .. الطازجة كغابةٍ بكر !!

      ( 3 )
      المنديل

      تأخر ((المنديل )) ..
      تأخر كثيراً حتى ان عرق الخجل غسل جباه شيوخ القبيلة فلمعت من بعيد كسيوفٍ صقيلة ..
      (( انفرد ابن الحرام هذا بعروسه منذ ساعتين دون ان يرسل الينا بالمنديل ))
      همس شيخ القبيلة لأقرب عمامة اليه .. فردت العمامة بشجن لا مثيل له :

      (( أكاد أذوب خجلاً .. ترادونى الشكوك وتمزقنى الهواجس .. شرف القبيلة فى خطر يا شيخ الشيوخ ))

      تضاءل شيخ الشيوخ .. اصبح نقطة فى بحر خجله العارم وكلما مر الوقت كانت العمائم الكبيرة تقترب وتتباعد وكان الصمت يحيا ويموت وكان الخجل لا يتوقف عن التناسل فى الصدور .. (( لنصنع شيئاً .. لا شرف بلا منديل ))
      اجتاحت القبيلة دار العريس .. قتلت العروسين النائمين كزوجى حمام ومسحت بقع العار المتبقى بالمنديل !!

      (4)
      نقابة الذباب

      استيقظت النحلة المجتهدة واتجهت إلى حقل الزهور المترع بالرحيق ..

      ـ لا استسيغ هذا الطعم .. وكأنه فاسدٌ هذا الرحيق .

      أصبح العسل فاسداً .. وتحولت الخلية بأكملها إلى إناء من الفساد الذي يرتدى عباءة العسل .. وصار العسل سلعةً رخيصة وتحولت النحلة إلى عضو مجتهد في نقابة الذباب !!

      ( 5 )
      الاعلان

      كانت البقرة مدللةً كفتاة إعلان ..
      تكاد تغرق في زحمة الورود ومذاق العشب الطري .. بينما تراصفت بجانبها مكعبات الزبدة الشهية .. تنهد الفقير وتأوهت زوجته :

      ـ لو تصبح ثوراً هناك .
      ـ لو تصبحين بقرة هناك .

      نام الفقيران .. كانت أبواب الدعاء مفتوحة تلك اللحظة فتحققت الأمنية ولكن حدث خطأ بسيط .. سقطت ( هناك ) من الدعوة الحارة ..
      أصبح الفقير ثوراً .. وزوجته بقرة ولكن .. ( هنا ) ..
      هما الآن يغرقان في زحمة أكياس القمامة ويتنهدان بلا توقف !!

    • #23
      عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : May 2005
      المشاركات : 5
      المواضيع : 1
      الردود : 5
      المعدل اليومي : 0.00
      من مواضيعي

      افتراضي

      قصة قصيرة
      العُتُلّ
      فارس الغلب /العراق

      غنمت الشمس أعطاف الليل الشارد، أقطعته ظلالاً للأشياء، أيقظت القرية الغافية في السوح .كانت القرية ترفو إبط الوادي بخيوط الصبح قبالة شاهد الهضبة المهيب ، سرب قطا ينجعف فجأة إزاء ملكوت النور ، قطيطة تتمطى لوقع أنامل حلم مغمضة العينين. كانت القرية حقا تنساق إلى ذات الحلم الساذج أوان يقظتها منذ دهور. كان ضباب ينحسر عن قبتها ويلبسها كسوار ، دخان متطانب يخرت سطحها في أكثر من مكان ، يرسم فوقها سماء أخرى من دانتيل وعصافير. كانت القرية تشرع بواباتها لطراق الصحراء المتعبين. هكذا تبدت لهما القرية من علو الهضبة في آخر مستراح يفصلهما عنها. كانا يتقاسمان خاتمة إفطارات المزودة، بضع تمرات يابسات غزا تغضناتها الرمل، وغبوق بائت من أطايب الضروع. إنجذب الى فضاء مشحون بذاكرة الأمس حيث جارتهما أمه حين الوداع، حافية القدمين تنوء بثقل حنان أوغل في سرقتها الى بون حجب رؤية المضارب. قالت لهما وهي تقطر في اذنيهما وصايا ودعوات مجزوءة :"فئ من روحي يظل المسار .. إحرص على عروسك من أجلي .. عد إلي بخزاماي الندية .. حافظا على المزودة .. جملك زعوج سيوقعها .. خذيه الى جملك .. تغذيا جيداً .. لا طعام يضاهي التمر واللبن .. على هذا عاشت العرب". همزها بالمهماز حيث أنكبت بقامتها تعالج عناد عيدان العرفج الذاوية في الموقد الطارئ بهواء جاوز الحد الطبيعي لاحتياج رئتيها ، رفعت إليه وجهاً رقشه السخام، وعينين مترعتين بدمع كاذب ينتمي الى عاطفة الدخان المضطرب ، إهتزت صورتها أمامه، كتم ضحكة مستحقة فترك مهمازه يفك الاشتباك وينحرف صوب القرية لوضع أبلغ التفسيرات المقبولة حيال دهشتين غرتين.
      قالت وهي تنقاد ببصرها الى حيث أشار.
      _ حقا ما أبدع مرأى القرية من هذا العلو.
      _ هذا الصباح..تلك التنانير المسجرة وهي تعانق السماء.
      _ من ورائها تقف أكثر من عشرين فتاة رائعة تصليها بالأوار.
      _ لأمثالهن تساق المهور.
      _ هه.. مهور !
      _ هل أخطأت القول ؟
      _ الا نعدو أكثر من سلع تباع وتشترى.
      _ لأننا نمعدنكن ذهباً في قلوبنا.
      _ منافق. تبقى النساء أرجح في الميزان لأنهن..
      _ بل الرجال لأنهم ..
      _ فلنكن جلائب رحلتنا وسنرى من تعد على شكيمته النقود.
      _ أخشى أن نؤخذ بالجد.
      _ حسبنا إبلاغهم ما دار بيننا.
      تعالى نداء سمسار القرية وقصابها الوحيد، او علبة الصفيح كما يحلو لصاحب القهوة ان ينعته أمام المنادين بتلبية طلباتهم من اقداح الشاي في ان قياسي عقب كل نوبة ينطفئ فيها صوته النشاز. كان يقول فيه ايضا :انه المتسبب الأكبر للصداع المتفشي في القرية.
      - شاب قوي البنية مفتول العضلات بإمكانه العمل من الصباح الباكر حتى أفول آخر نجم في كبد السماء. أبدى جمهرة من الناس امتعاضهم الشديد من هكذا تجارة عزت حتى في مخيلة دببة الكهوف. البعض شرع يمحص الأخبار التي وردت القرية عن رواج النخاسه في ميادين قرى بعيدة لم تجد من يركنها على بيدر الصدق ، منهم من تمادى وشتم آذان السمسار غير الآبهة. سحابة الإنسانية تلك سرعان ما كفكفت ضروعها وانقشعت بمقدم تاجر القرية الجشع الذي بارك السمسار ، وأدار موجة الضمير إلى لعبة خرقاء تقافز معها الحديث فوق ملاعب الشفاه بلا مشاعر: لا فائدة ترجى من هذا البدوي الأبله.. الفتاة آية في الحسن .. الصحراء مفتوحة سيهرب في الغد ..لا يساوي درهما واحدا ..يخطئ في عد أزرار قميص ، ويحتاج إلى شهر بلياليه ليفهم جدوى رصفها على هيئة الشاقول. تحسس السمسار حبال حنجرته من الخارج. تحربى حيال وجوه طافحة بترقب حيواني ،حتى أن المعوزين ممن يذرعون الاسواق تحت مظلة الخيال ولا يشكلون لديه سوى ثآليل خبيثة في جسد السوق وجدوا في اعتبارهم المفاجئ شتيمة لا تخلو من لباقة . أنزل السمسار الفتى عن دكته ونادى الفتاة. أدرك الشاب حجم ورطته. قال:
      - أيها السمسار أنزل الفتاة فالأمر كله مزحة.
      - لا مزاح في البيع والشراء..هذا قانون السوق.
      - إذن أنا زوجها ولن أبيع.
      - وأنا لن أقبل بغير إتمام المزاد مادامت الفتاة فوق دكتي. عم هرج قطعه التاجر، نادى الفتى وهمس في أذنه.
      - ايها البدوي لا تكسر قانون السوق دع السمسار يكمل المزاد وسأشتريها لك أطمئن الى النتائج، بمقدوري شراء القرية بساكنيها. ثم اشار إلى التاجر بمتابعة المزاد.سكنت كلمات التاجر يمنا باردا في صدر الفتى. عاد السمسار إلى إضطهاد المسامع بصوته الذي يشبه صوت دجاجة ادخلها صبيان عابثون في دائرة ملعبهم.
      - حسناء تقرض الظباء من سحر عينيها..إحتطبت شعرها الأثيث من سواد الليل.. لم تفسد طماطم القرية خصرها المرصوص. كان من البدهي أن ترسو المزايدة على التاجر المزواج حقيقة هضمها الجميع وغابت عن الفتى . صرخ كيس من الذهب بين أقدام الفتى. صاح:
      - أيها التاجر وعدتني بغير هذا..
      - لم أعدك بشيء اسأل الحضور إن كانوا قد سمعوا أي وعد مما تزعم.
      - من أين لهم أن يسمعوا إذا كنت قد همسته في أذني.
      - السوق شطارة.
      - ماذا تعني بربك.
      - أعني إذا كنت قد ضللت طريق الصحراء فسيدلك رجالي إليه.
      كانت الساحة تفرغ من ناسها وتكشف عن حراس التاجر المتمنطقين بالسلاح. جرجر التاجر الفتاة على رغم منها، وأشتبك الفتى مع الحراس بمعركة غير متكافئة أفقدته الوعي ، حين عاد إلى وعيه لم يسمع غير أنينه النابح على وتر الجروح والكدمات. تلفت فلم يجد غير راحلتيهما الباركتين جوار حائط مهدم هو كل ما تبقى من بيت مهجور ، وعجوز تستند على عصا جاوزت ضعف قامتها ، فشلت أمام الزمن في مساجلة انتصاب مقارن ، وكاد جسدها المعقوف أن يطأ برأسها الأرض. كانت تتملاه بعينين أدمنتا الفضول. بادرته القول :
      - أيها الشاب قلبي ينفطر لأجلك. أومأ رأسه بالإيجاب. ركلخذلان رأسه الحاسر في الظل. تابعت العجوز.
      - أترى تلك الدار المتفردة على يمينك؟
      - أيه ..
      - ذاك منزل رجل يدعى العتل وحده من يأتيك بعروسك.
      - لن يفيدني ألف عتل في هذه القرية الرعناء.
      - أطع كبري وخذ راحلتيك خارج القرية دعهم يتوهمون أنك عائد للصحراء وقابله ليلاً.
      - .. داهمته نظرة أسى وهو يحدق في كوفيته المجبولة بالدم والتراب.
      - لن تخسر أكثر مما أنت فيه ..جرّب .. لكن حذار أن تعرج على البساتين هو الآن حيث بستانه ذلك لصالحك.
      في بهمة الليل تسلل العتل والفتى إلى دار التاجر كانت العجوز في الانتظار تجلس متخفية إزاء البوابة. شاهدت أحد الرجلين يلتصق بالجدار على بعد خطوات منها، وبخفة يغيب الآخر في الداخل ويعود بالفتاة . ذلك كله حدث بفترة وجيزة كسر مشهداً متوقعاً في مخيلتها. لن تنام العجوز قبل أن تتوضح لديها آخر صورة في مشهد حجزت لها فيه دور رئيس ينقصه تأكيد شفاهي يعوض سوء بصرها اللاهث في درب الإظلام التام. وما قيل لها عن الفتى وقتاله الباسل مع حراس التاجر وهو عاري اليدين جعلها في خلط بين أي الرجلين من دخل الدار. تبعتهم رابعة على المسار إلى صخرتين عند نهاية البساتين كان أهل القرية يسمونها بوابة الصحراء. وفي أوراك الليل عاد العتل بعد أن اطمأن ان أحداً في القرية لن يلحق بهما . عن بعد تعرف على العجوز المقرفصة وسط الطريق بين الصخرتين قال:
      - ما أوصلك إلى هذا المكان في هذه الساعة من الليل ؟
      - الذي أوصلك ..كيف تم الامر بهذه السرعة أأنت من دخل الدار ام الفتى ؟
      - صغرى زوجات التاجر ...
      - الان سيخلد قلبي للنوم .
      - هل اطلعت احدا على الامر ؟
      - أذني وعيني .
      في ضحى اليوم التالي وجدت العجوز مخنوقة في المكان.

    • #24
      عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : May 2006
      المشاركات : 1
      المواضيع : 0
      الردود : 1
      المعدل اليومي : 0.00
      من مواضيعي

        افتراضي



        ( كاوبوي )

        نوزت شمدين

        -1-

        منذ أن وصلني خبر وفاة أختي نعيمة وأنا لا أطمئن إلى الأجراس ومنبهات
        القلق . تصبغني صفرة ليمونية كلما سمعت جرس الباب ويضيق صدري مع كل رنين
        متقطع أو طرقة مخنوقة على خشب باب مكتبي البارد .

        فكرت في استبدال جهاز الهاتف الأسود الثقيل بمنحنياته العابسة وقرصه
        الحديدي العاصر للسبابة بأخر أحدث يبهج القلب بألوانه ووظائفه المتطورة .
        ولكنني سرعان ما اكتشفت أن التكنولوجيا الهاتفية لا تليق برسوخ أسمي
        التجاري .
        فالأشياء القديمة تعزز ثقة الزبون كما أن هاتفي الجنائزي هو الأسهل
        بالنسبة لسمعان الحارس الذي لا يجيد التعامل مع جهاز آخر . كنت الوحيد في
        قيصرية
        المأمون الذي ينتظر الأخبار السيئة لذلك اعتدت على إخراج الهاتف إلى الممر
        ووضعه بعد إغلاقي للمكتب تحت تصرف سمعان تحسباً لأي طارئ فالكوارث
        والمصائب عادة ما تحدث في غياب القلق ، وهذا الأجراء وفر الأمان للمكاتب
        الأخرى
        ولكنه جعلني أكثر اعتقادا أن الحرائق في انتظار غفلة مني .

        في صباح السبت فتحت باب المكتب بغياب سمعان . هاجمتني روائح الأسمدة
        والبذور المتعفنة . اضطررت إلى مسح جلد الكرسي الدوار بنفسي . في عملنا
        نحتاج
        دائماً إلى التراب والغبار لأن ذلك يجعلنا أكثر واقعية في التعامل مع
        أدوات
        الزراعة لذلك لم أكن أهتم سوى بالكرسي وقيامي بهذا العمل يشعرني بخسارة
        فادحة . أطل سمعان برأسه البصلي وقال بصوت أجش وهو يرمقني بنظرة ينقصها
        الاحترام :

        في الليل اتصلوا بك من بغداد وقالوا إن الكنغر يريدك .

        تسمرت في مكاني بلا حراك . لم يجد سمعان ما يقوله فتركني وغاب دون أن
        يبرهن لي أن مسح الكراسي يحتاج إلى خبرة .

        قبضت على سمعان في مكتب عبد العزيز واستطعت أن أعرف منه أن الاتصال مصدره
        الوزارة ولكنني لم أعثر في ذاكرته البالية على أكثر من أن الكنغر يريدني .
        عدت إلى مكتبي وأنا أرتجف والنمل يجتاح فروة رأسي .



        -2 -



        في فجر الأحد كنت أقطع بسيارتي الطريق إلى بغداد ومذياع السيارة مفتوح على
        إذاعة صوت الجماهير . لم أكن قد توصلت إلى شيء ولم أستطع الإمساك بخيط ما
        . بعد تقاعد عبد الرحمن البكري انقطعت علاقتي تقريباً بوزارة الزراعة .
        الاحتمال الذي يتوافق مع المنطق أن في الأمر استشارة ما أو عقد مع شركة
        أجنبية تسمى الكنغر والوزارة تحتاجني كخبير . كان هذا هو تفسير زوجتي التي
        قاومت ببسالة آلام مفاصلها ونبشت معي في أوراقي القديمة بحثاً عن أي شيء
        يذكرني بالكنغر اللعين خاصة وأن الأمر كسر ما حرصت على ترسيخه وأصبح مثل
        وصمة
        عار فالكنغر يحيل السامع الى أسم حركي لسفاح تجاري واللئيم سمعان وضع
        الخبر في أذن جاري عبد العزيز الذي لف مسبحته الطويلة حول معصمه وقال
        حاسداً :

        ها دكتور عبد الكريم .. من أين لك بهذا الكنغر .. حوت والله العظيم حوت .

        وافقت على اقتراح زينب فقد يكون وراء هذا الاستدعاء فرصة عمل كبيرة ولكنني
        كنت لا اعرف كيف أتصرف . ساعدني صوت عفيفة اسكندر ومائدة نزهت على تنشيط
        قلبي وتجديد دمي .

        دخلت من بوابة بغداد في الساعة العاشرة صباحاً ، وعلى الفور اتجهت إلى
        ديوان الوزارة في ساحة الأندلس وأنا أكثر عزماً على مواجهة الأمر
        والاستعانة
        بما تراكم لي من خبرة برغم مضي مدة طويلة جدا على التصرف كممثل لجهة رسمية
        عالية المستوى .

        استقبلني موظف الاستعلامات بالترحيب . شعرت بالخجل من نسياني أسمه ولكنه
        سهل علي الأمر فقد بدا أنه على علم بالمكالمة الهاتفية وقال لي بصوت عال
        أثار انتباه من حولي :

        أحد أعضاء الكونغرس الأمريكي سأل عنك .

        جف ريقي . قلت له :

        أنت عل خطأ .. قد تكون شركة الكنغر هي التي سألت عني .

        ليس بالكنغر يا دكتور .. إنه أحد أعضاء الكونغرس جاء على الطائرة الأردنية
        التي هبطت قبل يومين وهو ينتظرك في فندق الرشيد .

        وقبل أن أتركه سألني بصوت خافت :

        دكتور.. هل أدخلت الوزارة الكنغر ضمن خطتها للإنتاج الحيواني ؟ .





        -3-

        لم أدر مفتاح التشغيل . بقيت أمسك بالمقود يتلبسني الانفعال مثل متسابق
        مغامر . فكرت في الاتصال بزينب من أقرب كشك اتصالات . سيطر علي هذا الهاجس
        لفترة ولكن قلقي المتزايد أبعدني عن أي فعل ورحت أتأمل الإسفلت مستنطقاً
        الذاكرة . شدني منظر أحد الوفود الرياضية وهو يترجل داخلاً إلى فندق
        السدير
        . لعل الأمر ليس أكثر من حاجة الوزارة إلى مرشد له دراية واسعة في واقع
        الزراعة الشمالية . لمت نفسي على تركي الوزارة بهذه السرعة فقد كان علي
        البحث عن تفاصيل أخرى . وجدتني أقود سيارتي بسرعة وأنا أكثر ثقة من أن
        الأمر
        لا يستحق البحث عن استنتاجات ذهنية خاطئة . وجدت الفندق في حركة كثيفة .
        تمكنت من الانفراد بموظف الاستقبال وأخبرته بالأمر . سألني إن كنت أعرف
        أسم
        الرجل الأمريكي فأجبته بالنفي . غاب الشاب لدقيقة ثم عاد برجل في عقده
        الرابع أنيق المظهر ، طويل القامة . استقبلني بصفته المسؤول عن الوفد .
        شرحت
        له الموقف وأبرزت له هويتي . كتب الرجل الأنيق ملاحظاته على ورقة صغيرة
        أودعها في جيبه وطلب مني الانتظار في صالة الجلوس .

        حاصرتني شبكة نسائية من إعلاميات فرنسيات فمدني ذلك التوهج بالاسترخاء
        ورحت أتأمل تلك المساحات الحرة من اللحم في غفلة من وقاري . كنت على ثقة
        من
        أن خبرتي الزراعية لم تصل إلى أمريكا وقد يكون الأمر ليس أكثر من رسالة
        أراد أحد المعارف من المهاجرين إيصالها ألي عن طريق الرجل الأمريكي . شعرت
        بالاطمئنان وزال عني التوتر ولكن الانتظار طال أكثر مما يجب . راودتني من
        جديد فكرة الاتصال بزينب وعزمت على أن أفعل هذا بعد أن أخرج من هنا بسلام
        .

        وقع بصري على رجل طويل القامة يتجه نحوي وعلى وجهه ابتسامة عريضة . شدتني
        الملامح الوردية واللحية الصفراء الخفيفة . تكاثرت في نفسي الهواجس . تقدم
        الرجل بثقة فاتحاً ذراعيه . صدمتني المفاجأة . لم أملك سوى أن أنهض
        لاستقباله غير مصدق لهذه الصورة الحقيقية القادمة من زمن بعيد . حياني
        بلغة
        عربية وهو يضمني إليه بقوة وكفه تربت على ظهري مثل مضرب ينفض الغبار . قال
        لي
        بلهجة مصرية :

        ماذا يا دكتور عبد الكريم ..هل نسيت جورج راي ؟

        حاولت فك الاشتباك والنظر إليه بتمعن . أجبته وابتسامة الارتياح تملأ وجهي
        :

        أنا سعيد جداً بلقائك .

        مر زمن طويل يا دكتور وربما بعد سنوات ستجدني رئيساً للولايات المتحدة .

        قلت له مازحاً :

        وعندها ستضطر أنت أيضا إلى ضربنا بالقنابل .

        ضحك بصوت عال أفزع الفرنسيات وقال :

        - هذا ما قد يحث يا صديقي .. هذا ما قد يحدث .

        انتقلنا إلى الكوفي شوب . لم أتوقع أن يستيقظ الزمن هكذا فجأة وعلى هذا
        الشكل الجديد . كانت وزارة الزراعة قد أرسلتني في بداية الثمانينات إلى
        مصر
        لأحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس . وفي القاهرة التقيت بجورج
        راي الخبير الزراعي الأمريكي الذي يعمل في المركز الأفريقي للأبحاث
        الزراعية . وكنا وقتها نستخدم مختبرات المركز المتطورة في إجراء البحوث
        فنشأت
        بيننا علاقة متينة دامت لأكثر من سنتين .

        أخبرني جورج أنه ترك القاهرة بعد سفري بستة وأنه عاد إلى الولايات المتحدة
        ليبدأ بعد ذلك في التفكير باقتحام المجال السياسي والتدرج فيه . أبديت له
        استغرابي ونحن نحتسي القهوة فلم تكن هذه الميول ظاهرة عليه . ربما لأنني
        وجدت في سعة علمه وحبه العميق للشرق والحضارة العربية وإصراره على إجادة
        اللغة العربية ما يثير اهتمامي أكثر من أي شيء آخر .

        تحدثنا عن أشياء كثيرة بطريقة عشوائية في محاولة لردم الفجوة الزمنية إلا
        أن جلستنا لم تدم طويلاً فقد كان جورج على موعد مع نائب رئيس مجلس الوزراء
        . اتفقنا على اللقاء في المساء وكانت تلك هي فرصتي الوحيدة للاتصال بزينب
        .







        -4-

        ذهبت للمبيت في فندق أبن الهيثم . حجزت غرفة بسريرين للحصول على شيء من
        الأتساع يخفف عني كآبة العقد الخامس من العمر . لم أستطع النوم رغم ما كنت
        أشعر به من استرخاء بعد الحمام الحار . كانت ذاكرتي تقلب دفاتر الأيام
        وتحيلني بشكل قسري إلى ليالي القاهرة وذلك الهوس الذي كان يقدح في عقلي
        الجنون
        تلو الجنون . كان جورج راي يمتلك شخصية ساحرة . وجدته خارج العمل أكثر
        تقيداً وانضباطاً وهو التزام لا يتوافر عادة لدى الأمريكي . تعجبني فيه
        حالة
        الافتتان الدائمية وقدرته على التفاعل ليس كسائح وإنما كانسان يريد أن
        يتعلم وينظر إلى الآخرين من حوله بمستوى أفقي . وجدتني لا أفهم سر عدم
        الاتصال به طوال هذه المدة .

        وفي الساعة السابعة مساءً كنت مع جورج . استقبلني بطريقة أكثر حميمية وهو
        يرتدي بدلة جينز وقد علق على كتفه حقيبة جلدية مربعة . قال لي ونحن نسير
        باتجاه باب الخروج :

        تبدو يا دكتور مثل دب اسكندنافي .. بهذا الشكل لن نستطيع القول أن
        العقوبات باتت مؤثرة .

        قلت له على الفور :

        ما ينقص حكومتكم هو الضمير وليس الحقائق يا جورج !

        أنتبه إلى عدم ارتياحي لمظهره فأخبرني أنه يجد من الضروري الالتزام بالزي
        التقليدي لاعتبارات تخص الشرف الوظيفي رغم أنه يكره أن يبدو مثل السيد (
        لانكستر ) . اقترحت عليه أن نقوم بجولة في بغداد . استوقفني قبل أن أفتح
        باب سيارتي :

        إياك أن تأخذني إلى ملجأ العامرية ..؟!! .

        طلبت منه الجلوس في السيارة وترك الأمر لي . بدت عليه البهجة . سـألته إن
        كانت إقامته في بغداد جيدة . أجابني بمرح :

        في البداية شعرت بالإرهاق أما الآن فأنا أكثر سعادة ..

        أعلم أنك تحب الأماكن الشعبية .. ما رأيك أن نجلس في مقهى وندخن النرجيلة
        العراقية .

        وافق وهو يقول :

        هذا ما أنا بحاجة إليه بعد الجلسة الساخنة مع مسئوليكم .

        توقفت عند الإشارة الحمراء . التفت إليه فتابع :

        - إنهم يعرفون كيف نفكر ، ويعرفون أيضاً ماذا نريد أن نفعل .

        وجدتني أقول له بانفعال :

        جورج .. أريدك أن تكون معي الباحث الزراعي الذي أحترمه وليس السياسي الذي
        لا أعرف عنه شيئاً .

        رد بعد صمت :

        أفهمك يا عبد الكريم .. كما تريد يا صديقي .

        تركنا السيارة في مرآب وغادرنا ساحة الميدان باتجاه شارع الرشيد . شعر
        جورج ببرودي وتوتري فراح يكثر من الأسئلة ويتوقف متفحصاً المحلات
        والدكاكين .
        جلسنا في مقهى الزهاوي



        وطلبنا الشاي والنرجيلة . حدثني جورج عن الظروف التي رافقت عمله والصعوبات
        التي تعرض لها بعد إقامته الصغيرة في تونس

        وعودته بعد ذلك إلى أمريكا

        كنت أحدثه عن الأضرار التي لحقت بالزراعة في العقد الأخير عندما أعتدل في
        جلسته وانشغل عني بتحريك الفحم ثم ما لبث أن أمسك بذراعي ونظر ألي بتمعن .
        نفث الدخان من أنفه ثم قال بهدوء :

        - سمعت أن أبنك قد قتل في الحرب .

        أحتقن وجهي . ساورني الصمت وشعرت بألم في ساقي . بقي جورج منتظراً ردي :

        إنه لم يقتل .. لقد سجل مفقوداً .. هو الآن في مكان ما في الكويت أو
        السعودية .. ابني صادق لم يقتل يا جورج .

        ضغط على ذراعي بقوة وهو يقول :

        أنا أفهم ..

        قاطعته :

        كلا أنت لا تفهم .. نحن هنا لا نموت وأبني سيعود في يوم ما .

        قال باضطراب :

        هذا واضح يا عبد الكريم .

        سألته :

        كيف علمت بأمر أبني ؟

        اتكأ ومد ساقيه إلى الأمام وقال :

        إنها قصة طويلة سأخبرك بها لاحقاً .

        أخذت ألف الخرطوم حول عنق النرجيلة وأنا أقول :

        - مهما يكن الأمر أنا سعيد برؤيتك أيها الكاوبوي .. من الضروري أن تأكل
        سمك دجلة لأنه سيذكرك بأشياء كثيرة عندما تصبح رئيساً للولايات المتحدة
        الأمريكية .

        قال لي وهو ينهض معي :

        - سأغادر بغداد في صباح الغد .. لا بد أن التقي بك قبل سفري لأنني أود
        إبلاغك بشيء مهم .







        -5-





        اتصلت بزينب قبل ذهابي إلى فندق الرشيد وأخبرتها أنني سأرجع إلى الموصل
        هذا اليوم . وفي الساعة الثامنة صباحا وجدت جورج ينتظرني في صالة
        الاستقبال
        . طلب مني أن نتجه الى الخارج . سرنا في الحديقة الخلفية . بدا جورج قليل
        الكلام وكأنه يمهد لشيء ما . حاولت أن أخفف عنه قليلاً فقد مدني منظر
        الحديقة الجذاب بطاقة لم أمتلكها منذ زمن . جلسنا على مصطبة بالقرب من
        المسبح
        . سألته بعد أن اكتشفت تردده :

        ماذا هناك يا جورج ؟

        أشعل سيجارة وهو يقول :د

        أرجوك أن تفهم يا عبد الكريم أن هناك معارضة قوية من جانبنا لسياستنا
        الخارجية .

        قاطعته :

        جورج لا أريد سماع هذا .. ما يهمني هو جورج الباحث الزراعي .

        قال بتوتر :

        عليك أن تسمعني ولا تقاطعني .. لقد أتخذت قراراً مهما ووقف معي العديد من
        أعضاء الكونغرس .. لا أقول أننا حققنا نتيجة طيبة ولكن المحاولة قائمة ..
        نحن نريد إيقاف هذا التدمير خاصة بعد أن تكشفت لنا الحقائق وصرنا أكثر
        معرفة بما حدث ويحدث .

        قلت له :

        ولهذا السبب جئتم الى هنا وزرتم ملجأ العامرية ومستشفيات الأطفال .

        نعم ولكن ليس هذا هو كل شيء . قبل أكثر من عام زارني القس هورنر وهو رجل
        فاضل تربطني به علاقة صداقة متينة . جاءني القس وأخبرني بقصته وقدم لي
        الأدلة التي تثبت صحة كلامه . حدث هذا بعد أن أعلنت في مقابلة أجرتها CNN
        عن
        ضرورة إعادة فتح الملف العراقي . كان القس هورنر برفقة مجموعة من الجنود
        والضباط مهمتها تنظيف ساحة المعركة بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت .
        زوى لي الكثير من القصص البشعة حول تعامل الجيش الأمريكي مع جيشكم المنسحب
        وحتى بعد وقف إطلاق النار . أرادوا من وجود القس معهم إظهار الوجه الحسن
        وقد قام الرجل تحت الضغط بالصلاة لراحة أرواح جنودكم .



        قلت له :

        ليس هذا بالجديد .

        عاد جورج ليقول :

        أخبرني القس هورنر أنهم عثروا على مجموعة من الجنود العراقيين الجرحى .
        وقد قامت وسائل الإعلام بتصوير محاولات تقديم الإسعافات الأولية إليهم .
        بعد
        ذلك بقليل تم سحب البعثة الإعلامية وقام الجنود الأمريكيون بعملية تفتيش
        دقيقة للجرحى ثم تم تعريتهم بالكامل وأمر أحد الضباط بربطهم في منخفض من
        الأرض . بعد ذلك جاءت الجرافات وجرى دفن الجنود الجرحى وهم أحياء .

        قلت له وأنا أضرب بقبضتي راحة يدي اليسرى .

        بالأمس تساءلت مع نفسي عن سبب انقطاع الاتصال بيننا طوال هذه المدة ..
        ماذا تريدني أن أقول لك يا جورج ؟ يبدو أن علاقتنا قد انتهت ما أن بدأتم
        الحرب .. هل تريدني أن أقول لك شكراً يا جورج ؟ .

        أطرق برأسه ثم قال بعد صمت :

        لقد جئت إلى هنا من أجل أن أعتذر يا صديقي . . وما أردت إبلاغك به أن القس
        هورنر استطاع بطريقة ما أن يحصل على بعض ما كان بحوزة جنودكم من حاجيات
        وهويات وأشياء أخرى، ومن بين ما حصل عليه هذه الرسالة التي كتبها أحد
        الجنود
        ولم يستطع إرسالها .

        أخرج جورج من جيبه ورقة صغيرة صفراء وتابع :

        كانت الرسالة مغلفة بورقة كتب عليها أسمك الكامل وعنوانك.

        أخذت الورقة المطوية على شكل مربع وجسدي يرتجف. نهض جورج، وضع يده على
        كتفي ثم أنسحب مبتعداً . أردت الوقوف لكنني لم أستطع . قاومت بأقصى ما
        أمتلك
        من إرادة ولكنني ما أن رأيت الخط الأزرق حتى تفجر وجهي عرقاً بارداً
        ودمعاً ساخناً وأنا أقرأ:

        ( أبي الحبيب أرجو أن تكون بخير وصحة جيدة. قد تتأخر عودتي قليلاً.. أنا
        بخير فلا تقلق. في الغد سيعود صديقي عزيز إلى الموصل وسوف يخبرك بكل شيء.
        وأنا إن شاء الله سأكون بينكم في الأسبوع المقبل. أشواقي ومحبتي وقبلاتي
        إلى أمي الغالية والعزيزة سناء.
        ولدك صادق عبد الكريم الحمداني )

      • #25
        عضو غير مفعل
        تاريخ التسجيل : May 2005
        المشاركات : 5
        المواضيع : 1
        الردود : 5
        المعدل اليومي : 0.00
        من مواضيعي

        افتراضي

        المبدع القريب من القلب نوزت
        لا نملك سوى اقلامنا في هذي الارض الحرام
        فهل باستطاعتها صد نفايات التكنلوجيا التي تمارس التجريب في اجساد العراقيين الابرياء
        اننا فقط نحاول لطم جراحنا لنقطر انات وجعنا في صمم العالم
        دمت للكلمة الصادقة
        اخيك فارس الغلب

      • #26
        قلم مشارك
        تاريخ التسجيل : Nov 2004
        المشاركات : 231
        المواضيع : 38
        الردود : 231
        المعدل اليومي : 0.03

        افتراضي

        أسرار البكاء
        بقلم : سمر الزريعي
        أسرار البكاء قصة ترجمتها بعد غيبوبة الصمت التي عاشها حرفي .. فأرفقتها بقصيدة نثرية ربما القصة لم تحتمل صراخ الحرف أكثر .. مشاركتي في البداية كانت هكذا وبعدها نظراً لشروط المسابقة ألغيت القصيدة لأنها نثرية ونشرتها في المنتدى كقصيدة مستقلة .. أحببت أن أسلط الضوء على معاناة الفلسطيني في بعض الأوطان العربية ..



        ***********************
        تلوم ملامح زمن تعرفه فقط باللون الأبيض والأسود .. تعاتب شقوق الزمن الصغيرة لاحتضانه غربة متوارثة بغباره القاتم فسكنوا ذلك الغبار حتى تملكهم ..
        أيقظتُ دمعةً منتصبة بعد أن أعانتْ الجفن المسن على الوقوف سمحتُ لسطو اختزل الجلد في المغيب ...ينفث أسماء مشبعة بالوطن ليلاً ليقفل خلفه أسواراً تتناسل لزمنٍ و عند ذلك الطريق تصطادني رطوبة عمر لتتوهج الجباه بتراكمات لفرح وثير ...
        كم أشتهي ضحكةً صاخبةً مدوية تكتم خرافة اللاعودة فيتسرب إلى دمي ملامح بذور طفل زارعاً غرقي ، فلنبتعد أو نقترب صغيرتي من الوصول لشرفة الصباح ...آهٍ ..كم يعذبني نسياني بين أسرار البكاء معكِ .
        وتحرير صغيرتي القابعة في دمي تنتظر معي العودة لبئر السبع حيث انتفض من رحم أرضها والدها ووالدتها ، تبحث بأناملها النحيلتين عن مقعد لها في أزقة عمر والديها فتنتظر أن يمر القطار أمامها لتحجز لها ولوالديها المقعد الأول فتكون أول الواصلين لوطنها حيث يحملها القطار إلى حضن غيمها ، تغمض عينيها لتلتقط صوراً بكائية .

        أخاطبها في قصتي بطفولة برية تسربت من بين يدي حيث نأمل اللهو واللعب والنطق السليم لاسم مدينتنا فتؤنبها مشاغبات الطفولة في هذا البلد
        تتذكر الصور المائية وأصوات حجرية لهم .

        - أنتِ هاربة من الوطن من الحرب
        - تخفي دموعها وتشعل غضبها
        - أنا .. أنا ..لست ...

        لا يفهمون ما رددته تأتأة حروفها القاصمة لظهر الحياة فيحتفلون بفوزهم عليها بعد أن تفوقت عليهم في المدرسة ، تتعرف على حقد العدو المحتل لأرضها في أعينهم تشاهد أساليب الإذلال والاحتقار، فالبارحة وضعت إحدى مشاغبات الطفولة مسطرة في حقيبتها واتهمتها بسرقتها ، واليوم تنظف الفصل بمفردها ، وغداً وبعد غد ماذا ينتظرها ....

        تعود منهكة من مطاردة عالم غريب لها يطلب منها العودة لوطنها، يلاحقها هذا العالم حتى في أحلامها في أصوات السيارات المزعجة بأضوائها الوحشية فتعود بذاكرتي معها إلى ذلك اليوم ، كنت أراها بأعماقي غارقة في الصوت المبحوح ، أكاد أسمع صوت والدها يشرح بحروفه الملتئمة سبب ترحيل الفلسطينيين ..

        - سنترك البيت والبلد يقولون أن وطننا تحرر
        - سنعود إذن لفلسطين
        - بل سنسكن الصحراء لدينا مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد وهذا حال جميع الفلسطينيين وأصحاب البيت سيستولون على أثاثنا ..

        ( .. تستغرب الوضع وأستغرب معها صمتي )
        - فالصحراء لا توجد فيها منازل أو مدارس .

        فما بين الحرف الأول والحرف الألف صحراء غابت بين كثبانها مظاهر الحياة بألوانها الهازئة ، تأخذ أنظارنا عنوة إلى الخط الفاصل بين أرضها وسمائها والسراب يغمرنا أملاً فيجوب خيامنا التي توزعت أطرافها الذابلة هنا وهناك .
        أجلس قربها دون أن تراني ، أرصد ثنايا تعجبها وألمس حنينها و سنيني المتآكلة على عتبات المنفى يصطادها عبق فلسطين ، في الخيام تبتعد تحرير عن الخيام وبيدها دميتها المصنوعة من قماش فتلمسني برعشة الليمون بزهر الحنين تتذوقني ..
        تلعب بدميتها تحدثها علها تتحدث فتخبرها ماذا يحدث داخل الخيام ..؟

        - في تلك الخيمة يشرح المعلم الدروس للتلاميذ وهناك تتجمع النسوة لتخبزن للجميع وهناك يتجمع الرجال لسماع الإذاعة التي تذهب وتأتي دون إذن، وهنا وهناك .... وأنا معك
        تسألها .. يقولون هناك تقع فلسطين أصحيح ذلك ..
        فتتقدم لتقترب حيث أشارت بإصبعها تجلس على الأرض فتلتقط حفنة تراب تطايرت مع الريح فتخبر دميتها ..

        - هذه حبيبات تراب تطايرت من وطني ... تخفيه في جيب دميتها المصنوعة من قماش خشية أن تضيع وتهمس فتقول لهم غداً سأعيدك أنا للوطن ، سأعيد كل حبة تراب إلى أصلها لتغرس بين أخواتها ونزرع شجرا ( تقف تحرير وترفع يدها إلى أعلى نقطة تصل لها يدها ) أطول من والدي بكتير..

        تنشر بلغتها الطفولية أحلاما على أشعة الشمس النابعة من السماء فتصحو من حلمها لتعاتب الشمس التي جففت أحلامها الندية ، فتبكي لأنها نسيت حلماً واحداً تجهد ذاكراتها الصغيرة بأسئلة متلاحقة وبتعاقب السؤال وعدم الجواب تترك دميتها جانباً لتفتح جيوب السماء وتمنح الغيم المراقب دموعها وأحلامها لتمطر حياة تنغرس مدناً ..وطناً ..تتبع آخر خيط للنهار لتستعجل الغد بالمجئ تمسك بساعة رملية هى من يديها لتراقب الزمن فترى من بعيد عشر حافلات تقترب من الخيام

        - هذه الحافلة ستنقلنا للوطن
        تنتشر على ملامحها بذور الحياة الجديدة تركض مسرعة إلى والدتها تبتسم و تركب الحافلة لتجلس في المقدمة وتكون بذلك أول الواصلين تغير مقعدها كل حين وتستقر أخيراً في المقعد الأخير تُحَضِر نفسها للحديث الطويل وتشكر الله لأن الشمس لم تجفف حلمها وبعد ساعات يصعد الجميع للحافلة بعد أن فُكت الخيام ويأخذ الجميع مكانه في الحافلة وتغلق الأبواب وتنطلق لتعود من حيث أتت.
        تسأل والدها
        - لماذا يمشي بعكس الاتجاه ..فلسطين تركناها بالخلف ؟
        ( لا أحد يجيب ) يضيع صوتها في السؤال المكرر ...تبكي تحرير .. تفتح نافذة الحافلة وتنادي على دميتها التي تحمل تراب الوطن .. ولا مجيب تصرخ بصوتها
        - لقد خدعنا السائق
        - لقد خدعنا السائق والدي ...
        اعذريني صغيرتي لقد تركتك صامتة حينها ...


        هزمتني يا أنا

        اعتنقي الصوت .. يا أنا
        عند آخر البكاء
        ودعي الإنطفاء المهيب
        دعي الإنطفاء
        يقتات قافلة الـ آه
        ويعود مع الصوت صداه
        في الوريدِ .. لا يختبئ
        سواكِ أنتِ والمساء
        اعتنقي الصوت .. يا أنا
        عند آخر البكاء
        حملت شفاهكِ
        صرخة
        أبوابها .. على دمي
        موصدة
        أقف أمامها .. وأنثني
        أنثني وأنثني وأنثني .. ثم أنحني
        حتى في العروقِ .. يغلي دمي
        دمي المتسرب من ضفتي
        من ضفائركِ .. إليكِ
        اعتنقي الصوت .. يا أنا
        عند آخر البكاء
        أداعب فيكِ .. طفلة
        هاربة
        من الجليد .. من البرية
        من الإنتظار المقيت .. فيكِ
        هاربة
        أنبتيها في يدي
        ميلاداً جديداً .. هيا ابزغي
        ومن ثمار الماء .. بين غصنين في صدري
        اقطفيه
        بشروق الصباح المجيد
        أرميه
        بغروب الشفق العتيد
        أبقيه
        بتراب الطين العنيد
        لا تؤذيه
        ...
        اعتنقي الصوت .. يا أنا
        عند آخر البكاء
        سأعلن تنظيمي العلني
        جهراً
        في وضح الكلمات المختبئة
        قصراً
        في حانة الصدى المبحوح
        في واحة المدى المجروح
        في النار .. المؤجلة
        في الأصوات .. المتحجرة
        في الليل المشتهي
        هزمتني يا أنا
        دعيني ..
        دعيني أوشمه بجبيني
        فمنذ عام الفيل ..
        إلى وريد القناديل
        وحلمنا المنحاز .. لترابي
        يتآمر علينا
        اعتنقي الصوت .. يا أنا
        عند آخر البكاء
        ألمحك قطرةً مبتهجةً ..
        مرحة
        في النور ..
        في العتمة
        في علامات إستفهام ؟؟
        المسألة
        فما أنتِ .. إلا أنا



      • #27
        الصورة الرمزية ابراهيم محمود الخضور قلم فعال
        تاريخ التسجيل : Dec 2005
        المشاركات : 1,053
        المواضيع : 98
        الردود : 1053
        المعدل اليومي : 0.16

        افتراضي

        اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الإدارة
        هنا تنشر النصوص التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى تحت تصنيف " القصة القصيرة" بواسطة أصحابها كي يتعرف القراء من أعضاء وزوار على هذه المشاركات ويتم الاحتفاء بها بما تستحق.

        وعليه فإننا نهيب بالجميع بما يلي:

        * الأخوة الأعضاء من شارك في المسابقة بسرعة نشر نصه هنا بشكل منسق وجذاب ، وأؤكد أن النشر هنا للنصوص التي تم إرسالها لبريد مسابقة الواحة وليس لأية مشاركات جديدة.

        * الأخوة الذين شاركوا في المسابقة ولما ينتسبوا للواحة سرعة التسجيل في عضوية ملتقى الواحة ونشر نصوصهم بأنفسهم كي يكون لهم فرصة للفوز بأحد جوائز المسابقة.

        * باقي الأخوة الأعضاء عدم المشاركة هنا بردود وتعليقات والالتزام بالرد فقط في موضوع "على هامش المهرجان" لتظل هذه الصفحة مخصصة للنصوص المشاركة في المسابقة فقط.


        تحياتنا
        الإدارة
        .................................................. .................................................. .................................................


        ( هكـــــذا تـــــكــــــــون .......)

        قصة قصيرة :- تأليف:إبراهيم الخضور


        علاقة عاطفية صادقة قامت بينهما ،.. فلقد كان سالم لا يذهب إلى أي مكان،أو يعود منه، إلا ويبتدر الذهاب إلى محبوبة قلبه ، وابنة عمه الغالية ليلى التي كانت هي بدورها تنتظره بشوق كبير .
        هذه العلاقة ابتدأت منذ أيام الدراسة الإعدادية لليلى ،..حيث كانا يذهبان سوية إلى مدرستيهما المتجاورتين ..ثم يعودان بعد وقت الظهيرة إلى حيث يقطنان ،..ويفترقا على أمل اللقاء من جديد ...

        هاهو سالم في مرحلته النهائية من دراسته الثانوية ..، وهاهي ليلى تحضه على المثابرة والاجتهاد ..لأن سنته تلك كانت نهائية وحاسمة ...، كانت ليلى تقضي معظم وقتها في بيت عمها الحاج " محمد " ، حيث سالم مُكِــــبٌ على دراسته ، فتشجعه ، وتقدم له كل ما يحتاج إليه لتجعله مرتاح البال متفرغا للدراسة .
        تناست دروسها ، فبعد أن كانت الأولى بين رفيقاتها .. إذ أصبحت أقلّ مركزا ً وأدنى مرتبة ..، وبخها أهلها كثيرا .. لكنها كانت تقول لهم: " المهم سالم .... أن ينجح ويتفوق هو .. فأنا هو وهو أنا """ وكثيرا ً ما كانوا يغضون الطرف هذه السنة "" عن تدني مستوى ابنتهم ... لأنهم كانوا يعلمون مدى الحب العظيم الذي كان يجمع ابنتهم بخطيبها وابن عمها ...سالم ، وكانوا ...واثقين من أنه لن يخيب آمال أهله .. وآمال ابنتهم التي أولته الرعاية و الاهتمام والعناية .. وفضلته ومصلحته على نفسها ومصلحتها ......

        أنهى سالم مرحلته النهائية تلك بنجاح وتفوق ...، طار فرحا ً ... وخرج مسرعا ً من مدرسته حيث قابلته خطيبته التي كانت تنتظره على بابها،على أحرّ من الجمر00،أمســك بيدها وسحبها بشدة وقفلا راجعين إلى حيث أهلوهما ينتظرونهما ... ، وينتظرون معهما البشارة التي كانت العائلتان تحلمان بها .

        .. ومن شرفة المنزل صاح " سعيد " الأخ الأصغر لليلى : " هاهما .. إنهما سالم وليلى .. إنهما يركضان ، والفرحة لا تكاد تسعهما " ... فهبّ الجميع نحو الباب ليستقبلوهما ... بالقبلات والأحضان ... والزغاريد ....

        صوت صرخات وأنات يعلو فيحطم لحظات الفرح التي طبعت لحظاتهم التي مرت ، ...ويحولها إلى دمعة تنسكب من عين الحاج محمد ،.. تتلوها دمعات تسقط من أعين الحاضرين ... ، ... واحتــــقـنت الأنفاس في الصدور ... وأبت أن تخرج من هول الموقف إلى حيث الهواء الطلق .. ، والعيون متجهة نحو درجات السلم وهي تحملق في ذلك المشهد الأليم ....

        سالم وليلى ملقيان أحدهما على ظهره ... ، والآخر على جنبه، والدماء تسيل بغزارة من رأس ليلى ورقبتها ، فقد كان سالم يمسك بيد محبوبته ، ويصعد بها درجات السلم ... بسرعة ، كانا يقفزان درجات متلاحقة دون وعي منهما ... للوصول إلى أهليهما بسرعة ... ، فلامست في إحدى المرات قدم سالم طرف إحدى الدرجات ... فانزلقت ، وكاد أن يهوي على رأسه لولا أن ليلى تحركت بسرعة نحوه ، لتسمح لرأسه بأن يرتطم بصدرها ، ... ومنعته من أن يتحطم على درجات السلم، وسمحت بذلك لرأسها ...، يالها من فتاة محبة بصدق وإخلاص ... ، لقد قدمت روحها كقربان لحبها العظيم....

        هرع رهط من رجالات الحارة .... ، وبسرعة كبيرة تم نقل المُصَابَـيْنِ إلى المستشفى ،00 حيث فارقتْ ليلى رُوحُها الطاهرة أثناءَ الطريق ، وانتقلت الى بارئها ...

        فارقت روح ليلى الجسد النقي .. الصافي من الحقد ... ، والخالي إلا من المحبة ،... وتم إسعاف سالم وإجراء اللازم له ،.. وفتح عينيه بعدما ما أغلقتهما غيبوبة صاحبته لساعات ،على صورة أهله ...وأهل ليلى محبوبته الغالية ـ..لكنه لم يرَ ليلى ...، ترى أين هي ؟ !؟!؟00وغلبَ نعاس( البنج) عينيه، ونام ..

        وبعد ساعة أفاق مما كان فيه ...، أدار عينيه في أنحاء الغرفة ،وتفحص أعين الحاضرين لعله يعثر على الوجه المنير ،... الوجه الذي أنار له الطريق ليسلكه دون مشقة أو تعب ... لكنه لم يجده ...

        حرك رأسه بصعوبة ... متسائلا ً... ، وكأن الحاضرين عرفوا مكنون سؤاله ... فتلاقت نظراتهم ...، فعلم سالم من خلالها أن ليلى ... قدمت حياتها كهدية على طبق من الدم ،فداءً لروحه وحياته اللتين كادتا أن تذهبا، لولا تضحيةٍ بذلتها وهي أغلى ما تملك ، وسطرت بذلك أعظم آيات الحب والوفاء والإخلاص من أجل من تحب ........


        تمت بحمد الله وعونه


        تأليف : إبراهيم محمود الخضور ...
        .................................................. ..............................

      • #28
        عضو غير مفعل
        تاريخ التسجيل : Mar 2006
        المشاركات : 3
        المواضيع : 1
        الردود : 3
        المعدل اليومي : 0.00
        من مواضيعي

        افتراضي الأب والابن والروح القدس

        الملك

        رسالة ملكية:
        إلى: محمد بن سعيد بن ورد.
        وبعد.
        قد أصدرنا قراراً ملكياً بالعفو الشامل عنك وعن ورثة المارق: سعيد بن ورد، وسنتفضل برد جميع الممتلكات والأموال المصادرة من عائلته، وذلك في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية. في احتفال عام بدفن جثة أبيكم المارق وتلقيه مباركات الملك وعفوه .
        خاتم ملكي
        *********
        أصوات الاحتفالات تقض مضجعي . الشمس تتسلل إلى الجناح ورغم ذلك أرفض القيام . اليوم ينذر بمعركة شاملة. لن يكون المستقبل مثل الماضي أبداً. إما أن أنتصر وأخضعهم بالقوة، أو أهزم وأعلق بدلاً من سعيد بن ورد على الصليب. الأمل الباقي أن يأتي ابنه ليؤكد لهم أنه ميت. الأغبياء مازالوا يصدقون أنه حي ، ويدعون أنه ينظر إليهم بل ويحادث من يصطفيه منهم. كونوا بهذه الأسطورة جبهة ثورية خلال عامين، تجذب الشباب الذي لم ير شيئاً. تحمي جسده وتدعو لمناصرته وإنزاله من على الصليب. لو كان جسده هلك ، تحلل أو تعفن أو حتى أكلته النسور، ولو لم أصر على بقائه على الصليب حتى يصبح عظاماً، لانتهى ذلك الكابوس المستمر منذ ربع قرن. ولكنه ظل أمامنا يذكر الجميع بما حدث. يتحداني أنا الذي لم يجرؤ أحد على تحديه. تحداني حياً حتى وقع والآن يتحداني ميتاً. لكن اليوم سينتهي كل شيء. يأتي ابنه فنباركه ونرد له كل شيء. سينزل الجثة ويواريها التراب ويعود الأمن للمملكة.
        *********
        الثوار

        رسالة:
        إلى الأمير محمد بن سعيد بن ورد
        السلام عليكم ، سلاماً محملاً بعبير وطنك ومسقط رأسك ورأس أبيك المبجل.
        ندعوكم للانضمام إلينا في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية، وذلك للاحتفال بإنزال أبيك المعظم من على الصليب ،وتتويجه والسجود أمامه على العرش في احتفال مهيب، بمناسبة مرور ربع قرن على العدوان عليه ورفعه على الصليب، وذلك نزولاً على طلبه هو بحضورك ذلك التتويج . ونخبرك بأن جلالته هو من حدد هذا الموعد بالذات لنا ،وأنه يبشرك بدعم شعبي مطلق من جميع الفئات ,وبنصر تام على الملك وابنه وجميع خونة القصر.
        واطمئن فعيوننا سترعاك من لحظة خروجك من مدينتك حتى وصولك إلى المملكة.
        ولك منا التحية والسلام
        خاتم
        عبد الله بن هشام
        زعيم الثوار وخادم الملك
        فرحة ممتزجة بهيبة الموقف. الكل يعلم أن في هذا اليوم الذي لاحت شمسه منذ لحظات ،سينتهي عهد الظلم وسيتوج الملك الجديد. المعركة لنا لا محالة. كلنا فيها وكلنا نعلم أن النصر مؤكد. وسيدي عبد الله بن هشام تلقى الأمر بذلك أمامنا من ذلك القديس. معلق أمامنا على صليبه يبتسم لنا ويبشرنا بالنصر. طلب منا أن نأتي بابنه ففعلنا. وأكدت لنا العيون أنه خرج من مدينته منذ يومين قادماً إلينا ليشهد التتويج. حاولت ومن معي أن ننزل ملكنا من على صليبه كثيراً ، ولكن أبى إلا أن ينتهي الظلم وننتصر له بأيدينا.
        أرسلني قائدي لأطمئن على مواقع جنودنا . المعركة المنتظرة لن تبقي على أحد من أهل القصر ، ومن سيبقى منهم فالصليب ينتظره جزاءً . شخص واحد فقط سيلقى قصاصه قبل المعركة، الخائن. الجميع يعلمه ويراه في عليائه. يظهر أمامنا بدور المحسن التقي حتى نُسي دوره في الخيانة. لكنه أمر بالقصاص منه قبل أي شيء. سيأتون برأسه على سيف لتكون بداية المعركة.
        *********
        محمود بن أبي موسى


        هل هو ميت أم لا؟ أراه أمامي كلما مررت بالميدان. اسمع الناس يتكلمون عنه ،وعما قاله لأتباعه الذين لا يعلم أحد من هم. أسأل الملك فيؤكد أنهم شرذمة يسحقهم بقدمه لو أراد،ويؤكد لي أنه ميت منذ أن صلب. ولكن الأتباع يزيدون ، تمتلئ السجون بهم ويقتلون في بيوتهم ، لكن لا يتوقفون عن إثارة مشاعر الناس . يقول الملك لي ذات يوم:
        - إنهم كل الشعب . هل أقتل كل الشعب؟.
        - بل اقتل قادة الثوار فيخاف البقية.
        - ومن قادة الثوار؟هو قائد الثوار
        - ولكنه .... ميت.
        - وهم يظنون أنه حي يكلمهم.
        - ربما يمثل أمامنا دور الميت؟
        نظر إلي بامتعاض وقال:
        - كفى تهريجاً.
        خفت أن أقول له أنني أراه حياً، لا يتغير ولا يشيخ.صحيح لا يحادثني ولكنه حي. يحدق في كلما مررت بموكبي. يأتيني في الأحلام ولا يقول لي سوى كلمة واحدة:
        - خائن.
        قلت لو كان حياً سأقتله. أمرت أحد أتباعي ليقذفه بسهم مسموم. لم يصبه السهم واستقر في صدر أحد الجنود المارين صدفة في اتجاه القصر. ارتفع تهليل العامة لرؤية المعجزة ،بينما نلت تقريعاً لا أنساه من الملك. وظلت نظراته تطاردني ،وذكراه تلوح لي في أي وقت تشاء. هذا البطل الذي أسرنا جميعا بسحر بيانه وحجته وحماسه ضد الظلم. جرت الثورة مع دماء الشباب في عروقنا. أخذنا نقتل الخونة، قادة الجنود والأثرياء وندماء الملك. حتى قتل سعيد ابن عم الملك مرة، حينها خرجنا من دائرة المجرمين إلى عالم أوسع وأشد خطراً، أصبحنا مارقين. وسمانا الشعب الثوار، وإن لم يتعاطف معنا أحد. وإذا بجائزة تبلغ مئة ألف دينار لمن يسلم أو يدل على مكان زعيم المارقين،وفتوى من الشيخ الأعظم كبير العلماء بإهدار دماء المارقين. بدأ الخوف والشك من عقاب الأرض والسماء، وكلمات سعيد تدوي في أسماعنا:
        - لا تتبعوا كلام من يعيشون في القصور ويتكلمون باسم الله. لا حياة لنا ولا جنة بعد الموت إن عشنا خانعين.
        واستيقظنا ذات يوم على الشيخ الأعظم مقتولاً. أدركنا أننا لسنا أبطالاً، وأن سعيد ليس بطلاً ,وإنما هو مجنون لا يخاف ملكاً في الأرض ولا في السماء. ولكن عادت كلماته تبث النشوى والطمأنينة فيهم. أما أنا فرأيت الحل في اتجاه آخر، ثروة ونجاة من الموت. الشعب ضد الكفار أعداء الله والدين والملك. فلأنج بنفسي وأركب السفينة.
        يوم القبض عليه جاءني سعيد يقول:
        - أوصيك بأهلي يا محمود.
        رددت عليه و أنا أخشى النظر في عينيه:
        - لا تقل هذا يا سعيد. سننتصر بإذن الله.
        وكأنه لم يسمع شيئاً قال لي:
        - قم بمساعدتهم على الخروج من المملكة.
        لو أدرك أن النهاية قريبة لم اختارني ؟ كلهم ماتوا عدا أنا وهو . تلوح من حولي الاتهامات الصامتة في الأعين. لكن لا أحد يؤكد. تقربي من الملك وإحساني إلى الفقراء يسكت الألسنة. شيء واحد ينغص علي حياتي. نظراته الصامتة.

        اليوم يوم فاصل. تتبعنا أخبار ابنه حتى علمنا مكانه، أرسلنا له ليأتي وينهي المهزلة. سيوارى التراب اليوم مصطحباً نظراته. العيون قالت أنه آت. هو وحده من سيحقن الدماء .
        ارتديت ملابسي و تأهبت للخروج إلى الوكالة. سمعت صوت سنابك خيل و خطوات ثقيلة. أكيد الملك يريدني. لكن صرخة انطلقت واستقرت في عظامي. نظرت من النافذة لأجد حارسي القصر مقتولين . لمحني أحد القتلة فصوب إلي سهماً تفاديته في اللحظة الأخيرة.مكثت لحظات مختبئاً عاجزاً عن الحركة. سمعت بعدها صراخاً من الحريم والخدم. خطوات عدو في كل مكان حولي. لا أعلم أين هم لكي أهرب منهم. مكثت في مكاني. دخلوا علي من كل مكان. تقدم مني سعيد وفي عينيه نفس النظرة . لوح بسيفه وهوى به.
        *********
        محمد بن سعيد بن ورد

        حذرتني أمي من العودة. قالت أنها ولابد خدعة منهم. نظرت في الرسالتين . رسالة من الملك بصدور عفو عام عن أبي وعن عائلته مع رد أملاكه، و السماح بدفن جثته في مقابر الأسرة. ورسالة من قائد التنظيم الثوري في المملكة يعلن أن أبي هو الملك الجديد وأنني ولي عهده، وعلي حضور مراسم إنزاله من على الصليب وتتويجه كملك.
        كانت الرسالتان لأول وهلة تفصحان عن أن كاتبيهما مجنونان بلا جدال. لأن أبي ولا شك هو اليوم مجرد عظام. منذ خمسة وعشرين عاماً رأيته وقد تم تعليقه على الصليب في الميدان . كنت أنا وأمي قد صدر ضدنا قرار بالطرد من المملكة للأبد وتجريدنا من كل شيء. حتى الراحلة تبرع بها إلينا أحد أصدقاء أبي، بعد أن أقسمت أمي أغلظ الأيمان ألا تقول أنه صاحبها. نظرت في وجهه يومئذ فوجدته يبتسم رغم الألم على وجهه. لا أكاد أذكر عنه شيئاً سوى هذا، أمي وقتها قالت لي وكأنني غير موجود:
        - هذا أبوك . ستعود يوماً لتنتقم له.
        العجيب أن أمي من يومها لم تتحدث عن الانتقام مرة أخرى، بل تحدثت عن الراحل فقط في طفولتي لكي أتباهى به، دون أن يمثل موته لي ولها أي ألم. تزوجت من تاجر ثري وأنجبت له، وأشركني هو في تجارته وزوجني إحدى بنات أخيه. حياة رغده بعيداً عن مملكة الدم وذكريات المصلوب. فكرت كثيراً أن أعود لأتاجر في بلادي . لكن أمي قالت:
        - لا خير فيها . تغلي دائماً بنار الثورة.
        - ولكنني سمعت أن ملكها قوي. وأن التجار في حمايته ينعمون.
        - ينعمون بعد أن يشاركهم الربح ، وإن قامت الثورة قطعوا رأسك معه.
        - ألم تقولي أن أبي كان من الثوار؟
        - لأنه كان معدماً. لو كان ثرياً لما فكر في الثورة.
        هكذا كانت أمي قد نسيت أبي ، لم يعد له وجود إلا في اسمي، حتى وجهي الذي يشبهه يوم الصلب لا يذكرها بشيء.
        حزمت أمري على الرحيل. لا أدري هل طمعاً فيما قيل في الرسالتين رغم استحالته. أم رغبة في رؤية موطني والمكان الذي عذب فيه أبي. في الطريق أحسست بالشوق لهذا الوجه الباسم لي رغم العذاب. ليس حاقداً مثلما تصورته أمي بعد أن ذاقت النعيم، بل هو بطل كان يجب أن تحضّرني لأنتقم له . عشت وهو بالنسبة لي صورة واسم ليس أكثر، ولكن الآن يعود بقوة كحي وميت في آن واحد ، كملك وكأب، بطل ومارق. حضور طاغ لا مهرب منه . كأنه يسيطر علي أكثر كلما اقتربت من بلده.
        أشعر بان هناك من يرصدني في الرحلة. قيل لي في رسالة الثوار أنهم سيقومون بحمايتي. ولكن ممن؟. ولماذا طوال يومين لم يحاول أحد الاقتراب مني بخير أو شر؟ لاحت أمامي المملكة. كيف انتظروا كل هذا ليثوروا على الملك؟ ولماذا انتظر الملك كل هذا ليعفو عني. ولو كانت خدعة فما الخطر مني ؟ لماذا تبدو المملكة خالية . لا أحد يلاقيني في طريقي. أجوب الشوارع كأنني في مدينة ميتة. تلوح أمامي فجأة أدخنة كثيفة فأذهب باتجاهها. لا أحد بالمرة. ولكن صوتاً يبدو كهدير الأمواج يعلو رويداً رويداً. يستمر في الوضوح حتى يخالطه أصوات صراخ وصليل سيوف وصهيل خيل، والدخان مازال يتكاثف. وجدتني في ميدان عظيم. هنا وقفت منذ ربع قرن أنظر إلى أبي. رفعت رأسي إلى حيث كان فوجدت النار تأكل الصليب. وعلى قمته هيكل عظمي تقترب النار من الإتيان عليه. أين أبي الملك ؟ أين أبي المارق؟ ولماذا صمتوا جميعاً ونظروا إلي؟ سمعت البعض يقول:
        - ابنه؟
        - بل هو .
        رفعوا رؤوسهم على حيث بقايا أبي. نادى أحدهم من أعلى:
        - انظروا... لقد مات وتحول إلى عظام.
        رد آخر من العامة:
        - بل هبط من على الصليب . ها هو أمامنا .
        ساد الهرج وعلت الأصوات كلٌ بكلمة. نظرت في الوجوه. منهم من يريد أن يسجد أمامي، ومنهم من يريد أن يقتلني. أين المصير؟ ولماذا عدت إلى هؤلاء المجانين؟ كان هناك شيء على الصليب يجذب نظري رغم الخطر أمامي. الآن فقط أشعر بأبي كما لم أشعر به من قبل. الآن أحس أنني ابنه. وجدت روحاً تنبعث في. روحاً ثائرة تكاد تقتلعني. صعدت على مكان عال أسفل الصليب المحترق. قلت:
        - يا شعب المملكة. اسمعوني.
        صمت الجميع منتظراً ما سأقوله. لمحت رماة يصوبون نحوي، ورجالاً يحيطونني لحمايتي. لم أجد ما أفتتح به كلامي سوى أن أقول:
        - أنا سعيد بن ورد.

      • #29
        الصورة الرمزية جمال دغيدى قلم منتسب
        تاريخ التسجيل : Mar 2006
        الدولة : بصورة مؤقته فى السعودية
        المشاركات : 10
        المواضيع : 2
        الردود : 10
        المعدل اليومي : 0.00

        افتراضي

        هواجس طبيب

        دائما أنت هكذا يا دكتور خيري ، أتعبتني كثيرا ، فعندما بدأنا نبحث عن شقة ، كنتَ مُصرًا على أن يكون مدخلها مستقلاً ، وها نحن قد عثرنا عليها ، وهاهي العيادة قد افتتحت ، لكَ حجرتك المستقلة ، ولى حجرتي المستقلة ، والصالة فسيحة ، وها أنتَ تنفذ ما اتفقنا عليه ، لا تحضر العيادة سوى ثلاثة أيام في الأسبوع ، السبت والاثنين والأربعاء ، والتزمتُ أنا أيضا بأيامي ، الأحد والثلاثاء والخميس ، مؤكد أن اتفاقنا كان صائبا ، فلا يجوز أن يكون في نفس العيادة في ذات الوقت طبيبان لأمراض الباطنة ، أصبحنا نتناوب العيادة أنتَ في أيامك وأنا في أيامي ، أنتَ في حجرتك وأنا في حجرتي ، وأصبح في مقدوري كما أصبح في مقدورك أن أعمل في مستوصف في الأيام الأخرى ، اقتسمنا إيجار الشقة ، واقتسمنا فاتورتي الكهرباء والمياه ، واقتسمنا أيضا الضرائب العقارية التي أصر المؤجر أن نتحملها نحن لا هو ، واقتسمنا كذلك أجر العاملة التي أحضرها لنا عم عبد المحسن صاحب محل الأقمشة المجاور .
        نعم لم نتقابل قط بالعيادة ، فنحن نسير في اتجاهين متوازيين ، وأصبح المكان الوحيد الذي يجمعنا هو المستشفى ، أعرف جيدا أنك على خلق ، فعلاقتنا ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة ، بل سنوات طويلة ، منذ السنة الأولى بالثانوية العامة ، كنتُ ساعتها أتوق إلى الحديث معك ، لهدوئك ورزانة عقلك ، ولتفهمك الشديد للحياة ، لم تكن تنبهر بالمظاهر كما كان يفعل الجميع ، لم تكن تغريك الفتيات الخليعات ، كانت تحجبك عنهن علامة الصلاة البارزة فوق جبهتك ، لم يثرك نداء بعض الزملاء بكلمة يا مولانا ، كنتَ تبتسم لهم برقة ، لم يتجاوزوا هذه الكلمة ، ولم تنمُ سخريتهم ، كانت ابتسامتك ولطفك وذكاؤك الذي اشتهرت به ، كان كل ذلك يجهض السخرية في أفواههم .
        نعم ظللتَ محتفظا بجزء كبير من هدوئك أثناء الكلية ، وفتحتَ نافذة تطل منها على الحياة العصرية ، تعاملتَ مع الطالبات ، كنتَ تستهويهن بعلمك ووسامتك ، فالتف حولك الكثيرات منهن ، واتسعت النافذة التي تطل منها ، وتقلصت مساحة علامة الصلاة على جبهتك ، وازداد شَعرك طولا ، وشاربك كثافة ، ولكن ظللتَ على عهدك لا
        تتحدث عن الآخرين سوى بالمدح أو الثناء ، فإذا رأيتَ الزملاء يتحدثون متندرين على زميل غائب ، كنتَ تستأذن معتذرا عن البقاء ، وتنصرف بلطف متعللا بزيارة صديق ، أو شراء بعض الأشياء ، لم تلعب مع زملائك قط لعبة الكوتشينة ، ولم ألعب أنا أيضا ، كنتَ تقرأ كثيرا لا تمل .
        كان من دوافع سروري أنني عملت معك فى نفس المستشفى ، بل في نفس القسم ، قسم الباطنة ، تمتعتَ بسمعة طيبة ، كنتُ مجهولا بجانبك ، لكنني لم أحسدك ، لأنني كنتُ أحبك ، نعم تمتعتَ بسمعة طيبة رغم الزوبعة التي أثارتها تلك المرأة اللعوب ، التي ادعت في المستشفى أنك تحرشتَ بها جنسيا ، لم يصدقها أحد ، فقد بدا مظهرها مريبا ، وقلنا جميعا ربما تكون هي التي تحرشت بك ، ولكنك بسبب فطرتك السليمة لم تفهم لغتها ، مما أغاظها ودفعها إلى التقول عليك ، فأنتَ محل إغراء لأي فتاة ، هكذا يقول الجميع ، ومر الموقف بسلام ، أنتَ أيضا صريح معي ، وأنا بالمقابل أقدر صراحتك ، وأحفظ سرك ، وأعلم أنك تكن لي الاحترام والتقدير ، لم يحدث أبدا أن تلفظتُ بكلمة من حديثك معي ، أنتَ تعتبرني صديقك ، نعم أنا صديقك وسأظل ، لأنني أحبك .
        أفضيتَ لي بأدق أسرارك ، بكيتَ بين يديَّ ، حدثتني عن تلك الزلة التي انزلقتَ إليها ، كنتَ منهارا تماما ، قلتَ لي أنها كارثة وضياع ، هدأتُك وربتُ على صدرك ، وقلتُ لك أن الندم هو باب التوبة ، قلّت دموعك ثم جفت ، وأخبرتني أن المرأة التي كدتَ تنزلق إلى هاويتها عاودتك ثانية ، وأنها تعمل مضيفة بخطوط أتوبيس سوبرجيت القاهرة الغردقة ، فكرتَ في الله أولا ، ثم فكرتَ في بعض الأمراض ، فكرتَ في مرض الإيدز ، وأصابك القلق الشديد ، لكنى وقفتُ بجانبك ، وطلبتُ منك بحزم أن تنهى هذه العلاقة ، وتطرد هذه المرأة بطريقة مباشرة ، وأن لا تترك نافذة صغيرة تنفذ منها إليك مرة أخرى ، وفعلتَ ، أخبرتني أنها بدأت كمريضة ، تشكو من أعراض لا تنتمي إلى مرض معين ، فاحترتَ في أول الأمر ، ثم ما لبثتَ أن فهمتَ ما وراءها ، حين حدثتك عن ظروف حياتها ، وبُعد زوجها عنها جسديا وعاطفيا ، رغم أنه يعيش معها تحت سقف واحد ، وأنها بكت بين يديك وأشعرتك بدفء جسدها ، ثم أظهرت لك أسلحتها الفتاكة ، وقت الفحص ، فكانت ملابسها الداخلية أشد إغراء من جسدها , وكانت يدك تنزلق في تراخ على بطنها ، فيبدو وجهها محتقنا وهى تنظر ساهمة إليك ، وحدثتني أنك أفقتَ فجأة وأنهيتَ الفحص ، لكن الموقف تكرر بعد ذلك ، وكانت المساحة التي تعبث بها تزداد يوما بعد يوم ، تجولتَ بيدك في الأماكن الأقل خطرا ، لكنك لم تستعمر جسدها كليا ، ولم تستعمر هي جسدك .
        نعم أنا صدقتك عندما أخبرتني أنك طردتها من العيادة ، منذ أسبوعين ، وأن دعاء الوالدين أنجاك منها ، وأن رعاية الله تلقفتك قبل الانحدار إلى قاع الهاوية ، وقرأتُ الصدق في عينيك عندما اقترحتَ وجوب إصدار قرار يمنع الطبيب الغير متزوج أن يمارس المهنة ، فوافقتك على ذلك .
        نعم حدثتني عن كل شئ ، ولكن معذرة فأنا لا أستطيع أن أخبرك عن شئ ، لا لشيء إلا للحفاظ على مثلك الأعلى ، كل يوم أقرا في عينيك الندم ، وكل يوم أرى في عينيك الدموع ، قلتُ لك كثيرا هوّن عليك ، طالما أنجاك الله ، وطالما لم تأكل من الشجرة المحرمة ، بل تراجعتَ وهى بين يديك ، فكرتَ في الزواج ، ولكن أين الباءة ، صُمْتَ ، ولكن إلى متى ؟ ، وقرّرتَ أن لا تدخل مريضة إليك بمفردها ، واستحسنتُ لك ذلك .
        مازلتَ تبث لي همومك ، إنني لم أحسدك في يوم من الأيام ، ولكنى اليوم فقط أحسدك أنك وجدتَ من تبثه همومك ، وها أنا أصبحت على بعد خطوات من عم عبد المحسن ، صاحب محل الأقمشة ، وهو يقف أمام العيادة ، بعد أن قطعتُ أكثر من أربعة كيلومترات من منزلي ، وها هو عم عبد المحسن يخبرني أن مريضة تنتظر بالعيادة ، ويخبرني أنك لم توفق في علاجها ، وأنها كانت تحضر إليك في كل أيامك ، والآن تتردد علىَّ منذ أسبوعين ، وأخبرني أنها تمتدح مهارتي الطبية وأخلاقي العالية وتذمك .
        ــــــــــــــــــــــ

      • #30
        الصورة الرمزية جمال دغيدى قلم منتسب
        تاريخ التسجيل : Mar 2006
        الدولة : بصورة مؤقته فى السعودية
        المشاركات : 10
        المواضيع : 2
        الردود : 10
        المعدل اليومي : 0.00

        افتراضي

        مـلك القصـب

        أمسك حسونة سيخ الحديد بيديه كلتيهما ، ورفعه إلى أقصى ما يستطيع ، ونزل به في بطء شديد على عود القصب الملقى أمامه على الأرض ، لامسه بطرف السيخ الحاد ، كأنه يقدر بدقة الموضع المحدد ، عاد فرفع السيخ ثانية حتى لامس ظهره وهوى به فجأة على العقدة القريبة من جذر عود القصب ، ففصلها خالصة ، دون أن تعلق بها قشرة ، هلل الحاضرون :
        ـ آدى واحد .
        ثم هللوا بعد ذلك :
        ـ آدى اتنين ... آدى تلاته ... آدى أربعه .
        كان محي الدين صاحب القصب أكثر الحاضرين تحمسا لحسُّونة ، وكان يقول :
        ـ دا مين ده اللي يقدر يلاعب حسونة ملك القصب ؟
        قال أحدهم متحديا :
        ـ ألاعبك يا حسونة بس على الواقف واللي يكسب ياخد
        عودين غير عود اللعب .
        فرد حسونة وهو يرفع كم جلبابه متباهيا :
        ـ على الواقف . على الأرض . نشان . قشرة . زي ما تحب .
        ـ اتنين .
        ـ تلاتة .
        ـ أربعة .
        ـ خامسة .
        أوقف الشاب عود القصب على الحائط ، وجعله ملاصقا للحائط تماما ، لكن حسونة اعترض بشدة ، وحاول أن يزحزح العود عن الحائط ، ليجعل وراءه مسافة كافية لمرور حافة السيخ الحديد ، واعترض الشاب بدوره وهو يعيد العود ليجعله ملاصقا تماما للحائط ، فقال له حسونة :
        ـ هات انت تلاتة على كده .
        فقال له الشاب بضحكة ساخرة وهو ينظر للآخرين :
        ـ إنت ح تكِل يا حسونة ؟
        ـ إنت عارف إن حسونة ما يكلش ، عايز تلعب على كده نتفق .
        فقال له الشاب :
        ـ واحد .
        ـ حلال عليك ... إلعب .
        تغيرت ملامح الشاب ، ونظر ذاهلا لحسونة للحظة ، فضحك الجميع .
        أمسك الشاب سيخ الحديد بكلتي يديه ، وحركه بعيدا في اتجاه أفقي ، ثم هوى به ناحية عود القصب فإنغرست حافته بالحائط ، فتعالت الضحكات :
        ـ حسونة ملك القصب .
        كانت لهذه القرية طقوس خاصة ، فحين تجول بين شوارعها نهارا يخيل إليك أن بيوتها قبور ، وسكانها أموات ، فلا تكاد تجد بالشوارع أحدا ، اللهم إلا قليلا من العجائز الذين يجلسون على المصاطب المظللة بظل الحوائط ، هربوا من قبورهم ليلقون نظرة أخيرة على الحياة ، وتشعر بالبعث فجأة بعد الخروج من صلاة المغرب ، تمتلئ الشوارع بالرجال والنساء والأطفال .
        كانت لعبة القصب قد أصبحت من الألعاب اليومية المثيرة عند الشباب ، بل أحيانا يلعبها الكبار مازحين متذكرين الأيام الخالية ، وتعددت فنون هذه اللعبة ، فتراهم يستعملون السيخ الحديدي تارة ، وتارة أخرى يلعبون لعبة القشرة ، كانوا يسلخون قشرة من العود عند الجذر ، وعلى المتراهن أن يكمل سلخها دون أن تنقطع حتى يبلغ بها عقلة أخرى أو اثنتين أو أكثر ، وظهرت لعبة القرش ، حيث كان المتراهن يقف بمحاذاة عود القصب ثم يقذفه بالقرش الفضي فيرشقه به .
        وقد تجد في الشارع الواحد اثنين أو ثلاثة من باعة القصب ، وقد أوقفوا الأعواد على الحائط ، وجلسوا بجوارها على قطعة من خيش الأجولة الفارغة ، في انتظار من يشترى أو من يلعب ، وليالي الشتاء لا يحلو السمر فيها إلا حول القصب ، وكان بعض الباعة يشعل النار في موقد الخشب ليجتذب الشباب ، الذين سرعان ما يلتفون حوله مستدفئين ، ثم لا يلبث الواحد منهم أن يقول :
        ـ ناولني عود قصب ، بس ما يكونش مسوِّس .
        فيقوم البائع في نشاط ، ويعرى العود من الأوراق الطويلة الخضراء والجافة ، ويقدمه له ، وكان حسونة يشبه هؤلاء الباعة الذين يشعلون مواقد الخشب بصيادين البعوض ، فلا تكاد النار تضئ في موقد الخشب حتى يأتى الشباب من كل وصوب وفج ، وكان حسونة يقول لأحدهم ساعة يراه يشعل النار :
        ـ دقيقة واحدة وتلاقى الناموس محاوطك من كل ناحية.
        فيقول له البائع :
        ـ بس نَفَسَك معانا يا ملك القصب .
        لم يتذكر حسونة أنه اشترى قصبا قط ، كان يكسب في اليوم مالا يقل عن عشرة أعواد ، فذاع صيته وأصبح مضرب المثل ، فإذا أراد أحد أن يغيظ الآخر أثناء لعبة القصب ، يقول له :
        ـ أجيب لك حسونة ؟
        وكان حسونة يشعر بالخيلاء ، فلا يكاد يعود من أرضه ـ ثلاثة قراريط ـ ومعه جاموسته الوحيدة وحماره النحيل حتى يلبس جلبابه النظيف ، ويحبك الطاقية على رأسه ، ويمسك في يده عصاه الخيزران ، ويسير في شوارع القرية محركا عصاه للأمام والخلف مع كل خطوة يخطوها ، كان يقول متندرا :
        ـ دا الجاموسة والحمار بتوعى بقوا مدمنين قصب .
        * * *
        في أحد أيام الصيف الشديدة الحر ، خرج حسونة راكبا حماره ، وقد أمسك في يده حبل الجاموسة ، كان مرض زوجته ، وذهابه معها إلى الوحدة الصحية ، هو الذي أخره لوقت الظهيرة ، كانت رجلاه مدلاتان على جانب واحد من الحمار ، كان الطريق الزراعي خاويا تماما ، وكانت حقول الذرة الممتدة على الجانبين تحجب الطريق عن بعض الزرائب المتناثرة هنا وهناك ، رمق فتحي على امتداد بصره سيارة نقل تقف وسط الطريق ، وعندما اقترب منها استطاع أن يرى رجلا يقف فوقها وقد أمسك كاميرا كبيرة ، كان يلتقط بعض الصور للطريق والحقول ، اقترب أحدهم من حسونة ، حيَّاه ثم عرض عليه أن يسمح لهم بتصوير الجاموسة فوق السيارة مقابل مبلغ ثلاثين جنيها ، كانوا يصورون فيلما سنيمائيا ، يحتاجون لبعض اللقطات الواقعية من داخل الريف ، قال حسونة في نفسه : كل تأخير فيه خير ، وافق فأنزلوا من الجانب الخلفي للسيارة ألواحا متلاصقة من الخشب على هيئة سلم ، وصعدت الجاموسة يسندها الجميع ، ورجع حسونة بحماره إلى الرواء مسافة خمسين مترا ، ليلتقطوا له بعض الصور الأخرى ، حتى تكتمل اللقطات التي جاءوا من أجلها لقلب الريف ، وهمَّ آتيا في اتجاههم ، ولكنه فوجئ بالسيارة تنطلق بسرعة كبيرة ، مخلفة وراءها الغبار الذي حجبه عن رؤيتها .
        بلغ العمدة الذي بلغ بدوره نقطة الشرطة ، لكن لا جدوى .
        ومنذ ذلك اليوم انقرضت لعبة القصب ، ولقب حسونة بلقب ملك فيلم الجاموسة ، بدلا من ملك القصب ، يمشى منكس الرأس ، وتجرى خلفه الأطفال مهللين :
        ـ ملك فيلم الجاموسة
        ــــــــــــــــ

      صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

      المواضيع المتشابهه

      1. عباءة الحب .. القصيدة التي شاركت بها في مسابقة #كتارا
        بواسطة مصطفى الغلبان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
        مشاركات: 10
        آخر مشاركة: 24-05-2017, 01:15 AM
      2. مصطلح "استخلاص السمات" مع نصوص أقاصيص القرآن والحديث وقصصهما القصيرة، لا "النقد"
        بواسطة فريد البيدق في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
        مشاركات: 3
        آخر مشاركة: 16-06-2010, 01:01 PM
      3. نصوص الخاطرة التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى
        بواسطة إدارة الرابطة في المنتدى مهْرَجَانُ رَابِطَةِ الوَاحَةِ الأَدَبِي الأَوَّلِ 2006
        مشاركات: 18
        آخر مشاركة: 23-05-2006, 03:24 PM
      4. النصوص الشعرية التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى
        بواسطة إدارة الرابطة في المنتدى مهْرَجَانُ رَابِطَةِ الوَاحَةِ الأَدَبِي الأَوَّلِ 2006
        مشاركات: 44
        آخر مشاركة: 20-05-2006, 07:50 PM