إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
مفهوم مصطلح التّسامح في الغرب
إنّ مصطلح التّسامح (Toleration) من المصطلحات التي كثر استعمالها اليوم، وهو يُطلق ويراد به: "قبول اختلاف الآخرين، سواء في الدين أم العرق أم السياسة، أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين، أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم".
أو هو: "موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلّق باختلافات السلوك والرأي دون الموافقة عليها. ويرتبط التسامح بسياسات الحرية في ميدان الرقابة الاجتماعية، حيث يسمح بالتنوع الفكري والعقائدي على أنه يختلف عن التشجيع الفعال للتباين والتنوع.." (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ص462).
وتشير الفقرة الأولى من المادة الأولى في إعلان "المبادئ حول التسامح" الذي صدر عن الدول الأعضاء في اليونسكو في السادس عشر من نوفمبر عام 1995م، إلى أن التسامح يعني "احترام وتقدير التنوع الثري لثقافات العالم، وقبول مختلف أنماط وأساليب التعبير لدى الجنس البشري"، وأنه يُشجع على "المعرفة والانفتاح والتواصل وحرية التفكير والضمير والعقيدة" وأنه يقر بالتالي مبدأ "التوافق والتناسق في الاختلاف" كما أنه "ليس مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل هو أيضا مطلب سياسي وقانوني مثلما هو قوة تساعد على تحقيق السلام، وتسهم بذلك في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب".ويقابل التّسامح التّعصب (Intolerance)ويقال أيضا في اللغة الغربية (Fanatisme).
نشأة فكرة التّسامح في أوروبا
نشأ فكر التّسامح في أوروبا في آخر عصر نهضتها وبداية ما يسمى عندهم بالتنوير، كحلّ للصراع الدامي فيها بين المذاهب الدينية النصرانية؛ الكاثوليك والبروتستانت. يقول المؤرخ البروفيسور برنارد لويس في ندوة نُظّمت في فندق كونرار، تحت رعاية وزارة الخارجية والمجلس الأوروبي وجمعية الخمسمائة سنة، تحت عنوان (العنصرية واللاسامية):" إن فكر التسامح قد ولد في النصرانية على أثر الحروب الدينية في أوروبا، والتي راح ضحيتها آلاف النصارى نتيجة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، فالتسامح وهو الذي يعني فصل الدين عن أعمال الدولة، وباختصار هو العلمانية التي وُجِدت لحلّ مشكلة النصرانية. فهذه المشكلة لم تنشأ في البلاد الإسلامية؛ لأن الناس المنتسبين لأديان مختلفة في البلاد الإسلامية وجدوا إمكانية العيش هناك بصداقة وأخوّة وبدون صراع ونزاع.." (جريدة تركيا الصادرة في منتصف يناير / 1995م).
لقد رأى جمع من مفكري أوروبا أنّ الحلّ للصراع بين مختلف التيارات الدينية النصرانية يكمن في التسامح. فكتب المفكرون في معالجة الأمر، منهم جون لوك (John Locke) في رسالته الشهيرة عن التّسامح (La Lettre sur la tolérance1689). وأصدر بعض الحكّام "مراسيم سياسة التسامح" كمرسوم "نانت" في عام 1598م، الذي َمنح به ملك فرنسا هنري الرابع رعاياه الكالفينيين الحقّ في الممارسة الحرّة لديانتهم.
ثمّ تطوّر فكر التسامح في الغرب ليشمل كلّ الناس بغضّ النظر عن دينهم. ففي سنة 1740م كتب فريدريك الكبير ملك فرنسا، رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول هل بوسع الكاثوليكي أن يكتسب الحقوق المدنية: "إن كل الأديان جيدة بالتساوي، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثنيون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا في بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرئ في مملكتي حرٌّ في أن يؤمن بما يريد، وحسبه أن يكون صادقاً."
وهكذا اعترفت بريطانيا رسمياً بالتسامح المذهبي تجاه الكاثوليك في سنة 1829م، ثم تجاه اليهود سنة 1842م، والملحدين سنة 1888م.
رأي الإسلام في مصطلح التّسامح
إن منهج الإسلام في التعامل مع المصطلحات الأجنبية – إذا سلّمنا بأجنبية مصطلح التسامح - هو النظر في معانيها ومدلولاتها، فإذا كان المصطلح الأجنبي يفيد معنى من المعاني الموجودة لدى المسلمين، أو له واقع عندهم، قُبل. وأما إذا كان المصطلح يفيد ما يخالف ما عند المسلمين، أو لا يوجد له واقع عندهم، رُدّ.
ولما كان مصطلح التسامح يفيد من حيث الأساس الذي بني عليه، والأصل الذي تفرّع منه، معنى قبول الآخرين أي قبول من يخالفك في المذهب، والدين، والعرق، واللون، وعدم منعهم من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم، وكان معنى قبول الآخرين مما لا يخالف الإسلام، ومما له واقع لدى المسلمين -كما سيأتي بيانه مفصلاً- فإننا لا نرى مانعاً شرعياً من استعمال المصطلح.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّنا لا نرى مصطلح التسامح من المصطلحات الأجنبية الغربية الدخيلة على الثقافة الإسلامية والمفردات الشرعية. والواقع أنّ هناك العديد من الألفاظ التي قد يُتصوّر كونها غربية، وهي في حقيقتها عالمية موجودة في كلّ الثقافات البشرية ومستعملة عند البشر كلّهم. من ذلك، لفظة العدل، والحرّية، والجمال، والخير، والشرّ، والحُسن، والقبح، وغيرها من الألفاظ التي اتفق البشر على استعمالها، فجَرت على ألسنتهم، ووجدت في ثقافاتهم مع خلاف في المفهوم منها والمعنى المراد بها.
والتسامح فضيلة أدركتها البشرية، واحتاجت إليها لتسيير معاملاتها، وتسهيل ديمومة علاقاتها. فهي، شأنها شأن بقية الفضائل الأخرى كالصدق، والأمانة، والشجاعة، والعفة، والجود، وغير ذلك، مما وجدت عند كلّ البشر، فاتّصفوا بها، وجعلوها خُلقا حسنا يُمدح المتحلّي بِها.
إلاّ أنّ درجة الإلتزام بالفضائل متفاوتة بين البشر، فتجدها عند أحدهم ولا تجدها عند الآخر، وتظهر في جماعة ولا تظهر في الأخرى، وهذا عائد إلى الدافع إلى الالتزام بها والمقصد منها، وهو ما يختلف فيه البشر بوصفهم الفردي والجماعي؛ لاختلاف عقائدهم، والمفاهيم المنبثقة عنها المنظمة للسلوك الفردي والجمعي.
وقد كان التسامح في أوروبا إبّان سيطرة الكنيسة على الحياة فيها معدوماً، مما أنتج الحروب الطائفية فيها، والقتل، والتعذيب، والحرق، والمقصلة. فكان من الطبيعي أن يدعى إلى التسامح كحلّ للمشكلة تُحقن به الدماء، وتُطفأ به نار الفتنة في المجتمع.
بناء عليه، فإنّ الغرب لم يبتدع مصطلح التسامح، ولم يبتدع مدلوله ومعناه، وكلّ الذي فعله هو أنّه أظهره وأبرزه واعتنى به، فأصّل له وفرّع عنه، فكان منه المقبول، ومنه المردود عليه.
تحقيق واقع قبول الآخر
التسامح هو قبول الآخر. وهو من المعاني المجرّدة التي لا تمثّل واقعاً ولا تضبِط أمراً حسياً، ولا ينتج عنها أيّ التزام أو مسؤولية، شرعية كانت أو قانونية وضعية؛ لذلك كان لا بدّ من ضبط المعنى بتحديد موضوع القبول وواقعه الذي ينصبّ عليه.
وقد ذهب رجال الفكر والقانون في الغرب إلى اعتبار العرق واللّون والدّين والانتماء الفكري والسياسي والطبقة الاجتماعية والجنس موضوع القبول.
فهم قد انطلقوا من أنّ الآخر الذي هو الإنسان بوصفه الفردي والجماعي يتميّز عن أخيه الإنسان في الاعتبارات المذكورة آنفاً. وبناء على هذا الواقع عندهم الذي تبلور في أذهانهم تدريجياً منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، صاغوا مفهوم التسامح وقنّنوه وجعلوه قيمة بشرية وقانوناً عالمياً ملزماً.
ولما كان الإنسان هو مركز البحث والأساس فيه وبناء على نظرتنا إليه يتحدّد مفهوم التسامح، كان لزاماً علينا من هذا المنطلق أن نُلقي بنظرة فاحصة عميقة على الإنسان، نحدّد من خلالها ماهيته، وما يميّزه عن غيره من بني الإنسان بوصفه الفردي والجماعي.
والنظرة العميقة إلى الإنسان تري أنّ فيه غرائز وحاجات عضوية تدفعه إلى السلوك في الحياة من أجل إشباعها، ولديه عقل ينظّم له عملية الإشباع وكيفيته. والملاحظ لدى كلّ ذي عقل سليم أنّ الإنسان من حيث هو إنسان لا يختلف عن أخيه الإنسان في غرائزه وحاجاته العضوية. فالجوع، والعطش، والخوف، والتقديس، والرغبة في ممارسة الجنس، والإنجاب، وغير ذلك، كلّها مظاهر الغريزة والحاجات العضوية، نجدها عند الأسود والأبيض، وعند العربي والأوروبي، وعند المؤمن والملحد، لا فرق في ذلك بينهم. والملاحظ أيضا عند كلّ ذي عقل سليم أنّ الإنسان يختلف عن أخيه الإنسان في كيفية الإشباع، أي في النظام الذي يسير عليه في عملية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، وفي الأشياء محلّ الإشباع. فنجد الخنـزير عند أحدهم مما يجوز إشباع الجوع به، وعند الآخر مما لا يجوز، ونجد الزنا عند أحدهم مما يجوز، وعند الآخر مما لا يجوز.
بناء عليه، فإنّ النظرة العميقة إلى الإنسان ترينا أنّ الغرائز والحاجات العضوية، وما نتج عنها من مشاعر وأحاسيس ودوافع، مما يشترك فيه البشر قاطبة لا فرق فيه بينهم البتة، وأنّ النظام الذي ينظّم عملية الإشباع لدى البشر والمفاهيم الضابطة لسلوكهم عن الأشياء محلّ الإشباع وكيفيته مما يختلف فيه البشر ولا اشتراك فيه بينهم. وبعبارة أخرى فإنّ المشترك بين البشر هو ما جبلوا عليه وكان فيهم خِلقة، أي هو الفطرة أو ما يسميه الغربيون "الطبيعة"، والمختلف بينهم الذي يميّزهم أفراداً وجماعات هو المكتسب لديهم الناشىء عن تفاوت الرؤى إلى الأمور والأشياء. فالرغبة في التملك، والرغبة في ممارسة الجنس والتقديس، والحاجة إلى الأكل والشرب، فطرة في البشر يستوون فيها ولا يتميز بها أحدهم عن الآخر. والعقائد والأنظمة والمقاييس والأفكار مكتسبة عند الإنسان، يتميّز بها أحدهم بوصفه الفردي أو الجماعي عن الآخر.
ومما يضاف إلى ما يتميّز به إنسان عن أخيه الإنسان، العرق واللون والجنس. فهذه الأمور الثلاثة وإن كانت غير مكتسبة عند الإنسان إلاّ أنّها مما يتميّز بها إنسان عن آخر. فالمغولي غير الأوروبي من حيث العرق، والأسود غير الأبيض من حيث اللون، والذكر غير الأنثى من حيث الجنس.
تحقيق معنى قبول الآخر
معنى قبول الآخر هو الموافقة والرضا. وهو أيضا من المعاني المجرّدة التي تحتاج إلى ضبط واقع وتمثيل حسّي حتّى تدرك، وتتصوّر، ويصبح بإمكان العقل البشري فهمها. وهذا لا يتأتى إلاّ ببيان الموضوعات التي ينصبّ عليها القبول أي ببيان ما يراد الموافقة عليه والرضا به.
والبديهي، أنّ قبول إنسانٍ الآخرَ أو رفضه ينصبّ على ما يجعل هذا الآخر مختلفاً عن ذاك الإنسان ومغايراً له، ولا ينصبّ على ما يشترك فيه الاثنان ولا يتميّز به أحدهما عن الآخر.
ذلك، أنّ الإنسان من حيث الفطرة وأصل الخلقة هو الإنسان، لا فرق فيها بين شخص وآخر، ذكراً كان أو أنثى، أسودَ كان أو أبيض، عربياً كان أو أوروبياً. فالغرائز والحاجات العضوية هي هي عند جميع البشر. فلا ترد هنا مسألة القبول أو الرفض، بل لا ترد هنا مسألة الآخر، لأنّ الآخر هو المقابل لك المختلف عنك بسمات وميزات جعلته بالنسبة لك كياناً منفصلاً قائم الذات.
وعليه فإنّ قبول الآخر أو رفضه يكون في الأمر الذي ميّزه عن أخيه الإنسان، وهو كما مرّ معنا منه ما هو مكتسب كالأفكار، ومنه ما هو غير مكتسب ولا إرادة للبشر في اختياره كالعرق واللون والجنس. فالإنسان يولد أوروبياً أو أميركياً، أو يولد أبيض أو أسود، أو يولدا ذكراً أو أنثى، دون إرادته واختياره.
والموافقة المرادة هنا، إمّا أن تكون على وجود الآخر أي توافقه على حقّه في الوجود بوصفه الفردي أو الجماعي، وإمّا أن تكون على مطلب للآخر كالعيش معك، وإمّا أن تكون على ما جَعل الآخر في نظرك آخرَ، أي توافق على تميّزه عنك بأفكاره وعقيدته ولونه وعرقه وجنسه وغير ذلك.
والرضا المراد هنا، إمّا أن يكون رضا بالآخر بالرغم مما هو عليه، أي ترضى بالآخر كما هو بسماته التي ميّزته عنك، وإمّا أن ترضى له ما هو عليه، وإما أن ترضى عمّا هو عليه.
هذا هو معنى قبول الآخر، وهذا هو المراد منه المتبادر إلى الذهن حين بحث المسألة، فما هو حكم الإسلام في هذا؟ وما هي المعاني التي اعتبرها الإسلام، وما هي المعاني التي لم يعتبرها؟
والجواب على هذا يقتضي منّا التفصيل
يتبع