أبو علم الضوء
مكث الأولاد ينتظرون خروج الجد بعيون شغوفة , وقلوب تتطاير فرحاً ، فقد غاب الجد لدقائق معدودة ، ثم خرج يلبس ملابس تعود إلي القرن العاشر الميلادي , الرابع الهجري ، بدا في هذه الملابس عالما من علماء عصور النهضة الإسلامية، وقال للأولاد : يا أولاد ، إن عرفتم من أنا سأعطيكم جائزة ، فلتسألوا عما بدا لكم وسوف أجيبكم عن الشخصية التي أمثلها ، ثم أسألكم من أنا فإن عرفتم نلتم الجائزة وإن لم تعرفوا سوف أمنحكم فرصة ثانية غداً و أزيدكم بعض المعلومات ، ما رأيكم ؟
قال محمد : تلك فكرة رائعة يا جدي ، نتعرف من خلالها علي العلماء العرب الذين أذهلوا العالم بعلمهم العظيم ..
وقالت إيمان : نعم يا جدي ، وأنت تبدو في هذه الملابس مثل العلماء الكبار حقا
فقال الجد : لقد كان عالمنا الذي أمثل شخصيته اليوم فعلا من أعظم العلماء الذين أثروا العلم الحديث في العالم العربي والغربي علي السواء ..
قال علي : يا له من عالم حقا .. ومتى ولد هذا العالم الجليل يا جدي ؟
قال الجد : لا تقولوا لي يا جدي الآن .. إنما أنا العالم العربي العظيم .. وقد ولدت يا أولادي في عام 354 هـ الموافق965 م .. أي في نهاية القرن العاشر الميلادي وأواسط القرن الرابع الهجري ..
قالت فاتن : من أي بلد أنت يا عالمنا الجليل ؟
قال الجد : أنا يا بُنيتي من البصرة العراقية ..
قالت الأم : كيف قضيت طفولتك يا عالمنا الجليل ؟
قال الجد : لقد ولدت لأب يعمل في مجال نسخ الكتب وبيعها ، وكان هذا الأب محباً للعلم بصورة عجيبة وكان لديه مكتبة ضخمة تحوي كتباً في شتى مجالات العلم الشرعي والطبيعي والطبي ، وقد نذرني والدي يوم ولدتُ للعلم والتعلم وقال " وهبتك يا ولدي للعلم بما ينفع الناس ، ودكاني بما فيه من كتب في الطب والشريعة سيكون تحت تصرفك .. "
قالت إيمان : حسن ، أيها العالم الجليل ، وهل كنت متفوقا في دراستك كشأن العلماء في كل العصور؟
قال الجد : لم يكن هناك مدارس ولا جامعات كما هو الحال عندكم اليوم ، وإنما كنت صبيا ذكيا أسأل عن كل شئ حتى أفهمه ، فإن لم أفهمه أضعه في عقلي حتى تتاح لي الفرصة لأسأل وأعلم .. وكان ما شغل عقلي وأنا صغير ، كيف نرى الأسماك في البحيرة القريبة من منزلنا ولا نقدر على الإمساك بها ؟ ولا نجدها حيث نراها ؟ وقد ظل هذا السؤال يشغل بالي حتى توصلت للإجابة عليه ، وتوصلت من خلاله لنظرية أذهلت العالم أجمع ألا وهي نظرية الضوء !!
قال محمد : إذن فمجال تفوقك كان الضوء .. ، وماذا اكتشفت أيضاً ؟
قال الجد : لقد تفوقت في مجالات عديدة منها الطب ، والشريعة والرياضيات والهندسة ولكن المجال الذي عُرِفْتُ به في العالم أجمع ومازالت كتبي تُدَرَّسُ وتناقش في أرجاء الدنيا ، كان مجال الضوء ..
قالت فاتن : وماذا اكتشفت يا عالمنا الجليل أيضاً ؟
قال الجد : لقد كان العالم يظن أن العين هي التي تصدر ضوءً مُسَلَّطَاً علي الأشياء للتمكن من رؤيتها .. وقد أثبتُ أن هذا الاعتقاد خاطئ وأن العين تتلقي الضوء المنعكس من الأجسام فقط لذا نتمكن من رؤيتها ؛ و إلا لماذا لا نرى في الظلام ؟ !! ثم توصلتُ إلي سر عدم القدرة علي إمساك الأسماك في البحيرة وهو السؤال الذي شغل بالي منذ كنت صغيراً ، فوجدت أن الضوء إذا انتقل من وسط شفاف وهو الهواء إلي وسط آخر شفاف أكثر كثافة وهو الماء فإن الضوء ينكسر ويغير اتجاهه لذا نرى الأشياء في غير مكانها ، وهذا كان فتحا علميا عظيما في عصري ، ووجدت أيضا أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة وأثبته بالتجربة والدليل ، حتى لقبني بعض العلماء بـ(أبو الضوء) مثلما لُقِّبَ نيوتن بـ(أبو الميكانيكا) ، وقد اكتشفت الأساس الذي تقوم عليه كاميرا التصوير الفوتوغرافي الآن بأن الضوء إذا مر من ثقب فإن الصورة ينعكس موضوعها وتظهر مقلوبة رأسا علي عقب علي السطح المقابل للثقب .. وهو الأساس الذي تعمل عليه عين الإنسان ، إلا أن العقل يقوم بتعديل وضع الصورة ؛ فتظهر معتدلة علي شبكية العين ، وحاولت كذلك استخدام الهندسة في إقامة سد علي نهر النيل للانتفاع بمائه في وقت يندر فيه الماء ولكن ضعف الإمكانيات وقلة الموارد المتاحة في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله حال دون إتمام هذا الأمر، واكتشفت كذلك أن الضوء له سرعة بوضع ستارة أمام ضوء شمعة ثم إزالة الستارة فيمر الضوء لينعكس علي الحائط المقابل.
قالت إيمان : يا لها من إنجازات عظيمة نشرف جميعا بأن من قام بها عالم عربي مسلم ، ولكن ما هي أعظم كتبك يا عالمنا الجليل فقد أوشكت علي التعرف عليك ؟
الجد : أعظم كتبي علي الإطلاق ؛ كتبته في مصر بجوار الجامع الأزهر الشريف ، وهو كتاب المناظر ، الذي أحدث أثرا عظيما في العلم في ذلك الوقت وطوال القرن الحادي عشر الميلادي في العالم أجمع ، وكتاب الذخيرة .
قالت فاتن : أوشكت أن أتعرف عليك يا عالمنا الجليل .. فهل أنت ...
قالت إيمان : انتظري يا فاتن فسوف أتعرف عليه أنا أولاً ..
قال محمد : لقد تعرفت عليك بالفعل أيها العالم الجليل .. ألست أبا الضوء .. ألست من ألف كتاب المناظر وكتاب الذخيرة .. إنك .. الحسن بن الهيثم .. صحيح ..
مد الجَدُّ يَدَهُ إلي القناع الذي يرتديه ونزعه عن وجهه وقال بسعادة بالغة ، أنت الفائز يا محمد وقد استحققت الجائزة عن جدارة ، فخذ ، هذا كتاب يحكي قصة هذا العالم الجليل واكتشافاته بالتفصيل ..
ثار الأولاد وقالوا : انتظر !! لقد كدنا أن نعرفه يا جدي .. كنا علي وشك الوصول إليه ..
قالت الأم : لا تغضبوا يا أولاد ، فغداً لنا موعدٌ مع عالمٍ جديد فاجتهدوا أن تتعرفوا عليه سريعا حتى تنالوا الجائزة ..
قال محمد : ولكن يا جدي متى تُوفي هذا العالم ، وأين ؟
قال الجد : توفي هذا العالم الجليل عام 1039 م بالقاهرة التي عشقها وعشق العيش في كنف نيلها ، وقد شيعه أهل القاهرة أجمعون في جنازة مهيبة .. فرحم الله العالم الجليل الحسن بن الهيثم ..
قصة : أيمن شمس الدين
شكراً جزيلاً