هواجس فى طقس الوطن ..
دراسة نقدية حديثة حول قصيدة الشاعر عبد الله الصيخان!!


بقلم : سمير الفيل


" هواجس فى طقس الوطن " .. نص الدهشة الأولى ، وعبقرية الكائن البشرى فى مواجهة وطن يتخلق .. هكذا خيل إلى وأنا أقرأ هذا النص البديع المذهل فى أوائل التسعينات لشاعره المجيد عبد الله الصيخان حينما كنت أشارك فى إعداد ملف حول " الحركة الأدبية فى السعودية" ، قبل مجيئى بأشهر قليلة للعمل ب" اليوم " ، والتعرف عن كثب على أدبائها، و كان الملف مخصصا للنشر فى مجلة " أدب ونقد " . هاتفنى الصديق الشاعر حلمى سالم :" الدراسة طويلة فلنؤجلها للعدد القادم" ، وافقت ، وقدكان أن نشرت بعد أن أثار الملف جدلا قويا بعد مقدمة فريدة النقاش حسبما تسعفنى به الذاكرة .
كانت تلك الدراسة تتضمن قراءة فى أوراق عشرة شعراء من المملكة ،اخترت لها عنوان " من أصوات الحداثة فى السعودية " غير أن هذا النبر القوى، والترقرق العذب لدموع المغترب والحزن الدفين الغامض للهواجس ظل يتردد داخلى لفترة طويلة .
ليست هواجس تماما ، بل هو احتشاد موجع للنفس ، وزفرات حب ، وأنين اغتراب يسوقها الشاعر فى نصه حتى لتظن أن القصيدة صارت وطنا ، وأن الوطن تماهى والقصيدة ، فى وجود خاص تتميز به الصحارى بتمويجات كثبانها، وندرة أمطارها ، وفكرة الطلل ، وطيف الحبيب الذى يلوح بعيدا ولا يظهر قط ، مع الحرمان الطويل المأساوى للفرد المغرم بأرضه غرام قناعة واختيار .
على طريقة الشعراء القدامى يبدأ الشاعر نصه باعتذار أقرب إلى العتاب ، ويغمس ريشته فى دمه ليكشف لهذا الوطن الذى سكن الضلوع قصته مع النزف والترحال القسرى ؛ فغبار السفر يكسو الوجه ، أما العينان فمبصرتان رغم الإعياء ، لم تكونا ضريرتين بل هما احتويتا صورة القاتل ومشهد الرحيل الدامى . بترنيمة عربية يسأل والالتياع يحاصره :

(( إن جئت ياوطنى هل فيك متسع
.. كى نستريح ويهمى فوقنا مطرْ ..
وهل لصدرك أن يحنو فيمنحنى ..
.. وسادة حُلما فى قيظه شجرْ )) .


إن المفردات المنتزعة من قلب الجزيرة العربية بكل تداعياتها ليست إلا الخيمة البدوية التى يستظل بها هذا المسافر الذى ينتظر سقوط المطرفى لهفة وحسرة معا .
يعنى هذا أن الصيخان قد وعى منذ البداية جذره التراثى ، وأوغل فيه ، للدرجة التى بدأ بها نصه ليعانق النص الجاهلى فى عافيته وعفويته ، وحساسيته المفرطة لقدرة الكلام على استحضار المكان ، والألم فى آن :
((يانازلا فى دمى اصعد وخذ بيــدى ..
.. صــحوى ، والتم فى عينىَ ياسهر
واجمع شتات فمى واغزل مواجعه ..
.. قصيدة فى يد أسرى بها وتـــــر )).


هناك مستويان من الكلام : معجم الألفاظ الصحراوية التى تشد الشاعر إلى جذوره بقوة ، وتثبته بأرض الأجداد، هذا مستوى أول .
ثم سياق الوعى بالمرحلة التى يعيشها ، تلك التى تجعله يتمرد بكبرياء وأنفة على كل قيد كبل القدامى وقهر نفوسهم ، وهذا مستوى ثان .
يستند الشاعر على لغته القديمة ، لكنه ينحو نحو تحريرها من سقط الكلام ، فيسرى ماء الحياة فى الأشطر المتوالية لتبث غربته ، وربما نحت القصيدة فى بدايتها نحو المجاز الذى عرفه أسلافه ، لكنه ، وبسبب حساسيته ، ونسقه
الجمالى المغاير يمنح أنشودته البعد والقرار ، كنغم لحنى متصاعد :

(( وافضح طفولتى الملقاة فوق يد ..
.. تهتزُّ ما ناشها خوف ولا كبرْ ..
وصبَّ لى عطش الصحراء فى بدنى ..
.. واسكب رمال الغضى جوعا فأنحدرْ )) .


هذا الكلام البديع ، والتناجى المرهف ، يتبعه الشاعر بدخول موفق ، لكنه مفاجىء فى بنية النص الجديد ، لكأنما مامر بنا هو الماضى الذى لابد من استعادته : مادة وإيقاعا .، وحق له أن ينثنى ليدخل إهاب اللغة الجديدة .
إنها لغة لاتخاصم الماضى ، ولا تناوشه ، لكنها تنظر إليه نظرة مختلفة .
ينثر الشاعر مفردات بيئته أمامه ، واضح تماما أنه يعاود التفكير فيما سيأخذه ، وما سيتركه . هو يعيد ترتيب فوضى ذاته ، وفوضى بيئته التى عشقها ، فألقت به وحيدا :


(( قهوة مرة وصهيل جياد مسومة ، و" المحاميس " فى ظاهر
الخيمة العربية .
راكة فى الرمال وفى البال .
كيف" المطاريش " إن" زهبوا " للرواح
مطى السفر ؟ ))


قطعة من الصحراء الموحشة ، ممتزجة بأنفاس الصيخان ، ومن الصعب أن تفصل هذا عن ذاك !!
النص يسير على مهل ، يسأل أسئلة ما كان حادى الأبل يسألها فى الزمان المنصرم ، يتحد الشاعر وبيئته ، بنية وتعبيرا ، كأنه يشاهد قسوة الصحراء فى خطوط جبهته لأول مرة . والنص يحتمل تأويلات عديدة غير أن السؤال المحورى يتأكد مع هذا الاستفسار التقليدى الذى يلقيه الشاعر فى وجه القبيلة بقدر من التحدى .

(( وكيف هى الأرض قبل المطر ؟
وكيف الليالى . أموحشة فى " الشعيب " إذا ما تيمم عودُ الغضى
واحترى أن يمر به الوسم صبحية . و " النشامى " .. ))


هو سؤال عن المكان ، لكن هذا المكان يتحدد بالزمان الذى يعيشه هذا الشاعر تحديدا ، ومن هنا كان لابد من التمييز بين اللسان كمنظومة دلالية للتواصل ، والكلام الذى هو مجال للانحياز . للبعد أو القرب من الجماعة . وهو موقف اجتماعى وربما وصل إلى تخوم السياسى .
ليست مجرد مفردات : القهوة ، الجياد ، الخيمة ، الرمال ، الرواح ، الشعيب ، الوسم ، النشامى ..
هى استحضار قوى للقبيلة بأجل ماتملكه : اللغة .
تلك اللغة التى كانت يوما جسر تواصل مع الآخرين ستكون مادته الغفل ليقدم لهم الحقيقة دون تهذيب وتشكيل . فلم تكن اللغة فى يوم ما معزولة عن نسقها الاجتماعى ، والشاعر يقف حائرا بين موقفين :
الأول : تمرده المعلن على مضارب القبيلة ، وأفكارهم التى أورثته هذا التمرد المستحيل .
الثانى : عشقه الأكيد لأهله ، وأرضه ، للمطر الذى ينتظره مثلهم تماما فى صلاة خافتة .
هذه إشكالية النص عند الصيخان ، وهى عبقرية القصيدة المستحيلة . لا الشاعر بقادر على أن يغادر المكان ، ولا بإمكانه أن يقبل الظروف التى يتضاد معها . ثمة أفكار وتداعيات ، مفردات ورواسم ، ليست مستقلة عن إرث مشترك بين الفرد والقبيلة . فمن يفض الاشتباك ؟

(( لا أحد غير رمل الجزيرة ،
لا نجمة يستدل بها فى السَرى
غير قلب المحب . وهذا الحصى شرهٌ .
ماطوته القوافل من زمن.
ثم كيف النوى إذ يطول لنا ))..


كيف تكشف عن هذه البنية الجمالية التى تجمع قلب المحب العطوف بامتداد شاسع لصحراء قاتلة ؟ وهذا سؤال أبدى فى المكان لمسته عند الكونى فى كثير من رواياته . الروائى يحتمى بالأسطورة ، أما الشاعرفيلوذ بحداء الأبل ، بتضاريس الكثبان المتنقلة ، بنجمة بعيدة فى المدار .
شد ما أنا مبتهج وحزين ، فاللغة تكشف عن رونقها البهى ، والصيخان يحاول إنشاء نصه فى المكان مرتحلا كقومه ، حاملا إرث جماعته فى كبرياء . ليست أسئلة الصيخان إستفهامية ، وليست استنكارية خالصة ، ولا هى فى ُصرة الأسئلة التأملية . هى أقرب ما تكون إلى الأسئلة الكاشفة عن معان خبيئة .
ينزع الشاعر قناع الكلام الاعتيادى ويواجهنا بحشد من رؤاه . هنا يتحول الكلام كائنا يعيش بيننا ، لكنه متخيل ، أقرب للنبع المقدس الذى جاءت من نسله المزامير، والاصحاحات ، واللهجات . فتجمعت أمم ، وتفرقت أخرى .
يتحرك النص فى جسارة متجها لإنشاد مجهرى يليق بالمنشدين البررة :

(( قم بنا
أيها الوطن المتعالى بهامات أجدادنا
أيها المستبد بنا لهفة وهوى
أيها المتحفز فى دمنا
والمتوزع فى كل ذراتنا
اعطنا بصراً كى نراك ،
وأوردة كى تمر بنا ،
فيه نلقى مساء جميلا ،
قرنفلة فى عرى ثوبك الأبيض المتسربل ضوءا )).


معذرة ، قد أعدت تنسيق المقطع ، لأصل إلى الجوهر : مناجاة رائقة تقترب مع تخوم الصلاة ، والانحناء فى إجلال ، والتضرع للوطن أن يلقى بثوبه كى نسترد أبصارنا الكليلة . لن أقوم بمعايرة تأويلية ، تحدد الإطار المرجعى للنص ، فالرؤية من نصوعها تكاد تعلن عن جسارة الخطاب ونصوعه فى آن .
أتذكر الآن أمل دنقل فى قصيدة الفجيعة وهو يحادث زرقاء اليمامة ، بجرس موسيقى يشكل خطا جنائزية يعاودها الصيخان ، ومن قبلهما كان السياب يناجى " جيكور " ويعدد " مطر .. مطر " . لذا قلت إن المكان هو الحاضر ، حيث تشكله أصابع الشاعر ، وقد ثقف الشاعر لسانه وقوّمه ، فجاء شعره مترقرقا ، عذبا وهو يعبر عن ضياعه وسط رمال هائجة ، وريح جاهلة ( حسبما وصفها أخونا محمد عبيد الحربى فى ديوان له ) . لكننا الآن مع الصيخان وهو فى تجييشها البيانى تستعيد مفردات الذاكرة الدينية ، بقدر من النبر التحريضى الذى يتخلى شيئا فشيئا عن رنة الأسى ، ليتحول إلى صخب التحدى ، وشموخ الصمود الذى يأخذ من النخيل جسارة لا تقاوم :

(( لثمتنى أ يا أيها الوطن المتعالى
إذا ما ارتدانا
الظلام إليك
خد يدينا إذا ........
صفنا ..
وأقم يا إمام الرمال صلاة التراويح فينا
مقدسة أن تظل لنا شامخا كالنخيل الذى لا يموت )) .


بحسب هذا السياق فى اللغة يتحول الوطن ثانية ملاذا ، ولا تكون قبلته الحانية إلا استضاءة للدروب التى تقودنا برفق إلى أمان طال انتظاره . لا أرى الصلاة هنا طقسا أو عبادة بل هى رصف للصفوف التى تفرقت ، وجمعا للقوى المبددة . ألم يكن الشاعر قادما من سفرشاق فى أول القصيدة ؟
وقوف الفرد على قدمين ثابتتين لا تعرفان الركوع هو انصاف للبطل الضائع فى التخوم البعيدة :

(( وطنى واقف
ويدى مُشرعة
ابنك البدوى أتى يستزيد هواجس أيامه المسرعة
مرسلٌ من سنى الفراغات كيما أفتش عن لغةٍ ضائعة
بكيت على باب مكة . فتشتُ أركانها الأربعة
وفى فمى معزف كسرته الليالى وامحت ترانيمه الزوبعة )) .


كلما جوبه الشاعر بظلام يلفه والقبيلة تحول إلى تراثه مقلبا أوراقه كى ينقب عن كوة ضوء تغمره بالإشراق . لا ينفى الشاعر بدويته أبدا ، بل أراه معتزا بها أيما اعتزاز ، لكنه يحمّل أمته هذا الأرث بعد أن ينفض عنه غبار التأويلات المفسدة ، وركام المعانى المكرورة ، وربما تداعيات الانكسار الذى أصابه فى مقتل : هواجس من ماض بعيد يقيده ، ومستقبل لا يرى آفاقه إلا كمجرد أطياف شاحبة !!
اللجوء إلى الوطن فى هذه الظروف العصيبة حق وضرورة ، التفتيش على اللغة هو بحث عن الوطن : الجاحظ ، المتنبى ، المعرى ، أبى تمام .. وكل أصحا ب المقامات الرفيعة فى اللغة .
ما أصعب التحدى الذى يواجهه الشاعر وهو يعود إلى وطنه مستعذبا هواءه النقى وصحراءه الشاسعة ، وسط رماله التى طالما عذبته . هنا تتحول اللغة كلاما ، فيعيد صياغة علاقته بالوطن على مهاد واقعى ، إذ يبدو صراع الشاعر مع قبيلته هو صراع وجود لإنقاذ بنى جلدته من هلاك محقق .
وفى عودته إلى مكة لا تصل إلينا ترانيمها الروحية ولغتهاالجليلة فحسب ، بل تصلصل فى أرواحنا أنشودة " فيروز " أكثر من أى شىء آخر ، وهى تنشد " غنيت مكة " ، وترفرف طيور الحمى حول البيت ، وهو عائد بقلب جسور للوطن الذى أحب أهله ، وقبض على جمر لغته :

(( إننى واقف خلف ظهرك مفتتحا وجعى باعتذار المحبين
حين يطول النوى ،
خاشعا من مُحياك ياوطنا نتعالى به
غيمنا إذ يجف بنا الوردُ .
سلوتنا فى مساء التغرب
فى الصبح وردتنا ورغيف الفقير، وأنت البسيط. البسيط )).


لا يعرف قيمة الوطن إلا من تغرب ، ولا يحس بمرارة الضياع غير من فقد لغته وساح فى الأرض فقيرا معوزا . تنبجس هنا مياه الرحمة من صلب الاعتذار الرهيف الذى لا يعرف مداورة أو إخفاء . لكن الاعتذار هنا يبدو للمتأمل أشبه ما يكون باعتذار متبادل بين ندين ، وإن تخفى الشاعر فى تواضع بلا انكسار . يلوذ الشاعر بالوطن ، فيبدو المشهد كأنه يعود لطفولته البريئة ، ولحبوه الأول فى مضارب قبيلة يشعر أنه انحدرمن أصلاب واحد من رجالها المغاوير .
وحين يُطوى النوى يسترد المحب عافيته وعنفواه ، وتضىء النفس بهجة ، حتى كأن الصحراء التى هجرها خصاما بدت مظللة بغيمة ووردة .
تأمل يفضى إلى حب لا ينفصم ، وعروج للروح إلى سماوات صافية ، وهنا يمكن أن نقول أن الأشياء التى يتعامل معها الشاعر قد منحها بعدا خلاقا يسمو على المادة وإن لم يفارقها .
اللغة التى استعادها الشاعر من مدينته المقدسة لم تكن مادة غفل ، ساكنة ، محايدة ، بل على العكس هى لغة جليلة،متحركة ، مكتنزة بالفكر والمعنى والأنساق التى جعلته يرى الكون رؤيا جديدة ، ليت قومه يفقهون !!.
يفارق الشاعر رومانتيكية التجلى الأول لمواجهة وطنه الذى استعاده ، فإذا به بسيطا : يعطى وردة ورغيفا .
وهذا معطى سياسى يتجاوزه النص ، لكنه يضع إشارة ذات معنى ، لا يمكن لناقد حصيف أن يتجاهلها ، وبعد أن استعاد الشاعر وطنه تأتى المناجاة الرائقة كسلسبيل عذب ، ينهمر دونما انقطاع :

(( فقل للعصافير إن الفضاء مديحُ
اتساع لعينيك كى لا تطيرَ ،
فإذا العصافير خائفة ،
فكن ياوطنى شجرا ممعنا فى الهدوء
لكى تعتلى ذروتك
وكن فى المساء حنيا عليها لكى تمنح السر لك )) .


عند هذا التوجه الجميل الذى يشبه عتابا هادئا بين محبين تمضى بقية القصيدة ، ويصبح الفضاء هو الوطن ذاته الذى عليه أن يشعر عصافيره بالآمان المطلق : كيف تتوقع ياوطن أن تغرد عصافيرك ، وهى تطير مذعورة ؟
تأمل هادىء ، وكشف رصين ، حيث تنبثق حيوية اللغة من تحرك المشهد فى العمق ليبسط المعنى الكامن : (( فقل للعصافير إن الفضاء مديح ! )) .
ليست اللغة معجما ومعنى وفقط ، بل هى دلالة وإيحاء ، تستمد مشروعيتها من الملاءمة ، وحسب "أدونيس " فليس للمادة وجود مستقل عن اللغة ، لذا تحلق العصافير فى النص باحثة عن الشجر الذى لا يفزعها، و لا يخيفها .
إن اعتلاء الذروة هنا حكم قيمة ودلالة نسق ، بالبروز والتحقق .
وما ملا مسة النص لهذه القيمة المطلقة إلا تصالحا حقيقيا مع الوطن الذى يحنو ، ويمنح السر لخلصائه :

(( سماءً لنا وسماوات لك
وأنت فضاء البياض إذا ما استفاض على القلب شك
وأنت الشهادة فيمن هلك
سماء لنا
وسماواتٌ أولها أنت وآخرها أنت ،
وأنت لنا الضوء إذ ... يستدير الحلك )) .


ما علاقة هذا المقطع بما قبله من أبيات تأخذ وتعطى فى جدل لاينقطع مع وطن يستمد رونقه من اللغة ، ويستعيد عافيته من جرسها الحلو ، شكل النخيل ، أهازيج الحادى ؟
على الصعيد الشعرى الخالص تكمن أهمية هذا المقطع فى هذه المناجاة الصوفية التى تتردد فى فضاء القصيدة ببهاء وعذوبة .
مأخوذة أخذا من لغة الطير وهى تسبح فى السماوات لله سبحانه وتعالى ، فيصبح الفرد مجرد حصاة صغيرة فى فلك بلا حدود ، لكن لننتظر قليلا ، فهناك نظام هندسى لا يعرف الفوضى ، وإلا اختلت المدارات ، وهذا لا يجوز واقعيا أو شعريا!!
لا يعتمد النص إذن على الموضوع فقط بل يأخذنا إلى الحضرة البهية كى نردد مع الطير " الملك لك .. الملك لك " ، ونلاحظ أن الشاعر لم يقف عند شيئية الصورة بل توجه بكل قوة إلى إيحاءات النسق الايقاعى التى تضرب بقوة وعمق فى ذاكرتنا العربية .
يواصل الشاعر إنشاده الجميل بعد أن اطمأنت العصافير للفضاء ، ورفرفت كافة الطيور ببهجة وهى تحط على الأشجار فلا تشعر بأن ثمة ما يتهددها من خطر :

(( وطن..ٌ
تعبت رملة ٌ فى " النفود " فقلت لك القلب متكأ
والغمام فلك
فاستديرى به ثم خطّى على جبهتى
أنا واقف لمجيئك
أعرفُ
بعد الغمام تغنى السماء لنا أغنية
تصب لنا الماء فى عطش الكأس
و قتئذ مطرا أشعلك ))