قراءة في مسرحية «الغائب والبركان» لمحمد سعد بيومي
تقنيات العمل المسرحي في مسرحية "الغائب والبركان"
للشاعر الكبير محمد سعد بيومي
بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
..................................
شاعرنا الكبير الأستاذ محمد سعد بيومي ، مؤلف هذه المسرحية هو أحد الشعراء المعاصرين الذين أخذوا يثرون الساحة الأدبية بإبداعهم المتميز في مختلف مجالات الأدب : الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية النثرية والشعرية .. ولشاعرنا الكبير قدم راسخة وباع طويل في هذا الإبداع حيث وضع عددا من هذه الإبداعات الشعرية ما بين مجموعات شعرية ـ دواوين ـ وبين مسرحيات شعرية كانت باكورتها مسرحية " وينتصر الموت " الفائزة بجائزة أفضل نص مسرحي متميز لعام 2005 ، كما وضع مسرحية أخرى بعنوان " بلقيس " ، ووضع بعض الدواوين منها " رحلة آدم " ، ومنها أيضا بالاشتراك مع آخرين " حوار الأبعاد " ، و " نصغي ويقول الموج " وغير ذلك من الإبداعات الشعرية والنثرية التي تؤكد عبقريته ، وتجسد اقتداره الفذ على الإبداع ..
وقد جاءت مسرحية " الغائب والبركان " لتجسد مهارة هذا الشاعر وإبداعه في بناء المسرحية الشعرية خاصة لما وفر لها من تقنيات وجماليات دفعتنا إلى أن نقوم بهذه الرحلة العجلى في جنباتها نتحسس أطرافا من تلك الجماليات والتقنيات ..
وأول ما يتبادر إلى الذهن ونودّ التنبيه عليه في هذه المسرحية أنها تعالج قضية اجتماعية لها وجودها وأهميتها وتأثيرها البالغ في المجتمع الريفي المصري إلى يوم الناس هذا وهي قضية الثأر التي لم تفلح موجات التطور الاجتماعي الهائل التي اجتاحت هذا المجتمع في زعزعتها أو زحزحتها لتحتل مكانا متخلفا في مسيرة هذا المجتمع برغم كل المحاولات الإصلاحية والسياسية والتطورات الاجتماعية التي كرست لتحقيق هذا الهدف أو تلك الغاية فظلت هذه الغاية أو القضية تشغل بال المجتمع الريفي المصري ، وتتحكم في مسيرته الخلقية والاجتماعية والفكرية على السواء ، وعلى كافة مستوياته ، مما جعلها من أهم ، بل أهم القضايا الاجتماعية التي تشغل بال المصلحين الاجتماعيين ، وسائر المفكرين ، كما صارت هذه القضية من أهم الموضوعات التي عُني بها الأدباء والمبدعون ، وأنتجوا فيها كثيرا جدا من الأعمال الأدبية والفنية من أفلام وتمثيليات وروايات وأقاصيص ومسرحيات شعرية ونثرية .. وعلى الرغم من خفوت صوت حدة هذه الظاهرة الاجتماعية في هذه المرحلة قياسا إلى ما كانت عليه في المرحلة السابقة خاصة وغيرها من المراحل عامة بطبيعة الحال فإنها ما تزال تحرك المياه الراكدة ، وتلقي فيها بين الحين والآخر بعض الحجارة التي تثيرها وتنشر فيها الاضطراب ، وتعيدها جذعة بعد ما كادت تختفي وتنسحب من على خشبة المسرح الاجتماعي .. وهكذا ما تزال هذه القضية الاجتماعية البالغة التأثير تحرك التيار الاجتماعي ، وتشغل كافة مؤسسات الدولة والمجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية وغيرها ، وما تزال تلحّ وتضغط وتصرخ بقوة وعنف ، وبأعلى صوتها عسى أن يستجيب لها أقطاب الإصلاح ودعاة الفكر الاجتماعي ليوجدوا لها حلاّ جذريا ودواء ناجعا يمحو آثارها ، ويخلص المجتمع من شرورها وآثامها المدمرة ، ويوقف نزيف الدم المنهمر من شرايين المجتمع بين الواترين وأصحاب الأوتار الذين ما تزال تلك الترات تصرخ في آذانهم في كل حين ، تنشر فيها طنين الثأر ، وصراخ العار والهوان الذي لا يفارقهم حتى يأخذوا بثارتهم من واتريهم ..
هكذا وجد شاعرنا الكبير الأستاذ بيومي نفسه مدفوعا إلى رحاب هذه القضية الاجتماعية البالغة الأثر لتكون موضوعا لمسرحية " الغائب والبركان " في محاولة يائسة لتكريس الإصلاح الاجتماعي عبر محو قضية " الثأر" في المجتمع الريفي المعاصر .. ولكن ، هل يا تُرى نجح هذا الشاعر في تحقيق هذه الغاية ؟ أم أنه كان رقما على قائمة المصلحين الاجتماعيين الذين مارسوا محاولة الإصلاح الاجتماعي الخاص بهذه القضية ؟!
وسنرجئ الإجابة عن هذا التساؤل إلى نهاية الدراسة التحليلية لهذه المسرحية !
هكذا اختار شاعرنا الكبير " بيومي " موضوع الثأر ليكون موضوعا لمسرحيته " الغائب والبركان " محاولا علاجها وفق معطياته ومرئياته الثقافية والفكرية والاجتماعية الخاصة ..
فأما " الغائب "، فهو الأب " عبد الله الصابر" الذي غيّبه القتل بعد اعتداء زوج أمه عليه وتدبير قتله بسبب الطمع والرغبة في الاستيلاء على ثروة أمه ـ ممتلكاتها ومصاغها ـ والحيلولة دون وصولها إلى ابنها من قِبَل الزوج الطماع الجشع الشرس ..
وأما " البركان " ، فهو الثورة والتمرد على مرتكبي هذه الجريمة ، وعدم الركون والاستسلام لإرادتهم والمطالبة بثأرهم والانتقام لأبيهم المغدور.. كما نلمح في الكلمة الرغبة الهائلة للانتقام والثأر من قاتل أبيهم ، والاستعداد التام له .. (ص21)
ويتتبع المؤلف أحداث المسرحية منذ أن أخذ " الضبع " زوج الأم الشرس يمدّ يده إلى ممتلكاتها يأخذ منها ما يشاء ، أو يقدر عليه راضية مرة وكارهة مرارا .. ورأى الابن " عبد الله الصابر " ولمس معاناة أمه وآلامها وعذاباتها التي كان الضبع يصبها عليها بلا رحمة لم يطق السكوت والصبر على ذلك فقرر وضع حد لتلك التصرفات الشرسة العنيفة ، والتقى الضبع وتمكن من معاقبته وحذره من معاودة إيذاء أمه .. وأسرها الضبع في نفسه ، واستعان ببعض رجاله المجرمين لتأديب الصابر بل لتغييبه ليخلو له الجوّ مع الأم فيستولي على بقية ممتلكاتها ليتمتع بها وحده ، بل إنه أقام في القصر الذي استولى عليه من ممتلكات الأم التي ورثته عن زوجها الأول والد عبد الله الصابر ..
وتنقضي فترة طويلة بلغت عشرين سنة على هذه الأحداث سكت عنها المؤلف باعتبارها مرحلة ـ فترة الإعداد للانتقام وتهيئة الموتورين للأخذ بثأرهم من قاتل أبيهم .. وهي الفترة التي شهدت ميلاد الابن والابنة بعد قتل أبيهما .. وقد أسقطها المؤلف من حساب مسرحيته ليفتتحها عندما بلغ الابنان " زاهر وزهرة " التوأمان العشرين من العمر لتبدأ مسيرة الحدث المقرر للمسرحية والمتعلق بأخذ الثأر من قاتل أبيهما " الضبع " ! وهو الحدث الذي أدار حوله المسرحية ، والغاية التي تغيّاها منها وهي " الثأر وضرورة الانتقام من المجرم واستعادة الحق الضائع " .. على أننا لا ندري لماذا سكت المؤلف عن هذه الغاية إلى بلوغ الابنين العشرين من العمر إلاّ أن يكون من تأثير التطور الاجتماعي الذي عاشت فيه الأسرة المنكوبة في المدينة .. وهو مجتمع مخالف ومغاير لمجتمع الريف والكفور والنجوع الذي لا يطيق على الثأر كل هذا الصبر والانتظار.. المهم أن الشاعر هنا رصد لحظة التطور أو التحول عند بلوغ العشرين من العمر ؛ ومع ذلك وجدناه يسكت عن قضية الثأر ولا يشير إليها أية إشارة على لسان الأم " شمس " أو الخال " نور" ، وهما مناط الأمر ومداره ، بل هما محركا القضية باتجاه الثأر المنتظر .. ويدع الأمور تجري بتلقائية غريبة ويحس القارئ وكأنها لا تعنيه من قريب ولا من بعيد .. ثم يحدث انكسارا حادا ، وانعطافا مفاجئا غبّ طروحات متعددة حول غياب الأب واحتمالات ذلك الغياب غير المبرر صدرت عن زاهر وزهرة .. والغريب أن الأم هنا في هذه المرحلة نراها تتدخل لتوقف تلك الاحتمالات ، وتضع حدا لتلك المداولات الدائرة بين ابنيها وكأنها لم تكن تفكر في الأمر ، ولم يكن يعنيها أن يفكر الولدان في قضية الثأر والانتقام لوالدهما القتيل .. وكأنها على الأقل كانت تودّ أن ترجئ الأمر إلى وقت آخر بلا مبرر منطقي معقول .. وهكذا جاء موقف الأم غريبا ومنافيا للموقف وهي تحاول إيقاف سيل الاحتمالات المتدفق والذي أبدت تجاهه برما ظاهرا وضيقا بالغا .. ومن غير أن تشير أو تكشف لهما شيئا من أسرار غياب أبيهما وحقيقة غيابه الذي طال كثيرا الذي يمكن أن يضع حدا لتلك الاحتمالات .. بل على العكس وجدناها ـ أو دفعها المؤلف إلى أن يطرح الولدان كافة الاحتمالات غير المفيدة وغير المناسبة التي تشغلهما جانبا ، والالتفات إلى حياتهما ليمارساها بشكل طبيعي مناسب ، ويتمتعا بما فيها من سعادة .. ويطول الحوار بين الأم وابنيها حول " الأب الصابر " ، والسر الذي قد يكون وراء غيابه الطويل وتخفيه عنهما ..خصوصا وأن الأم لم تخبرهما بموته بل برحيله وسفره .. وهو أمر يدعو إلى الانتظار والترقب والأمل في اللقاء ..
وعلى غير العادة والمألوف في مثل هذه الحالات يغادر زاهر المكان في توتر شديد بلا داع أو سبب مكشوف لما يسود الأمر من تلقائية وطبيعية معهودة .. فكثرا ما يموت الآباء والأطفال صغار ، أو قبيل ولادتهم ، وتمضي الحياة بشكل طبيعي عادي خاصة إذا اعتادوا عليه وألفوه ولا يجدون مالا يدفعهم إلى البحث فيه أوالتنقيب على أسراره وخفاياه .. ولكن صاحبنا الشاعر المؤلف هنا أبى إلاّ أن يعقّد الحدث ويؤجج الصراع ، ويضع في قلب المسيرة عقبة كأداء ن أو يلقي في النهر حجرا ضخما يثير الأمواج محدثا الانحراف الحاد في مسيرة الحدث الذي قامت عليه الرواية أو المسرحية .. حيث اخرج زاهرا متوترا وفي عصبية هائجة لم تألفها الأم من قبل .. لماذا ؟ لا ندري ؛ ثم ردّه إلينا بسرعة خاطفة ، أو كما يقول المؤلف " كالبرق " ، وقد استلّ سكينا ويقف في مواجهة أمه وشقيقته زهرة ، واندفع يلوّح بها لهما مهددا أن يغرسها في أحشائه إن لم تكشف له الأم عن حقيقة أبيه وسرّ غيابه الطويل .. ولا تجد الأم بدّا من إماطة اللثام عن هذا السر الذي أخفته عنهما كل هذه السنين ، وكشف حقيقة غياب الأب مكتفية بتحذيره من مغبة التهور والرغبة في الانتقام وعواقب الثار الوخيمة .. أو كما يقول المؤلف ، من عواقب البركان الذي يوشك على الانفجار والثورة ، وما ينذر به من تدمير وهلاك للجميع وخصوصا لابنيها العزيزين اللذين سيكونان أول ضحاياه .. ثم تكشف لهما السر الذي اختزنته في أعماقها كل هذه السنين وأن الضبع زوج الجدة هو الذي قتل أباهما قبل ولادتهما بمساعدة رجاله الأشرار غدرا وغيلة لموقفه المدافع عن أمه وحمايتها من بطش الضبع الشرس وابتزازه الذي لا ينقطع ..
والذي نود الإشارة إليه هنا في هذه الحركة أو الجزء من الحدث فيما وراء ما أسلفنا من افتعال ظاهر غير مبرر، وحركة مسرحية فاترة غير منطقية مع انعدام المناسبة المعقولة فيها ، أن الشاعر المؤلف هنا يذكرنا ـ واعيا أو غير واع لذلك ـ بطرف من قصة قيس بن الخطيم الأوسي الذي قتل أبوه وجده قبل أن يتمكن أحدهما من الأخذ بثأر الآخر .. وكان قيس ما يزال طفلا حدثا ، فعمدت أمه إلى كومة من التراب جعلتها في صحن الدار وأوهمته أنها قبر أبيه وجده اللذين ماتا كما يموت الناس ، إلى أن نازع فتى من لداته فعيّره بقتل أبيه وجده وعدم الأخذ بثأرهما .. فانطلق إلى أمه يستخبرها حقيقة الأمر ، فأنكرت ما تناهى إليه مؤكدة ما أوهمته به كل تلك السنين خوفا عليه من نفس المصير الذي آل إليه أبوه وجده ، وأنهما ماتا كما يموت الآخرون .. فما كان منه إلا أن عمد إلى سيف وغرسه في الأرض ، ثم هددها بالاتكاء عليه ليخرج من ظهره إن لم تخبره بحقيقة الأمر ؛ فاضطرت كارهة لإخباره ، ثم دلته بعد أن تجلى عزمه للانتقام والثأر على من يمكن أن يساعده على ذلك إلى آخر القصة المعروفة المروية في أخبار قيس بن الخطيم في ( الأغاني 3/2ـ7) ..
على أن المشكلة هنا ليست في اعتماد المؤلف المسرحي الحديث على هذه الحكاية وتوظيفها في مسرحيته ، أو الإفادة منها في بعض جوانبها .. فذلك شيء مشروع وغير منكور ولا غضاضة فيه .. ولكن المشكلة أنه لم ينجح في التمهيد لها تمهيدا مناسبا وطبيعيا يشبه ما حدث لقيس بن الخطيم يساعد على تصعيد الحدث بتلقائية طبيعية مناسبة خالية من التكلف والاعتساف ، بل جاء به منقطعا مبتوتا ومبتورا دونما مبرر معقول ..
(يتبع)