أحدث المشاركات

قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: مذكرات معلمة

  1. #1
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي مذكرات معلمة

    مذكرات معلمة
    سلوى محمد العوا
    بين يدي معلمي الأوائل
    تقديم وإهداء

    ".. غير أني أدركت أن العالم لم يصبح أكثر مسالمة بفضل نصائحي الكثيرة العظيمة والمفيدة ، فالحماقة غزيرة وسائدة ، واللا كفاية رائجة , والاستقامة سقيمة ، والطلاب متمردون والأبناء جاحدون واللصوص كثر ، السلطة تفسد ، وعظامي تئن في الصباح . ومع ذلك ، فما زال الفضاء يشهد أمورا رائعة : ميلادا ونجاحا وأحلاما صغيرة أحيانا تتحقق وصغارا يكبرون .. أشكالا وألوانا وتحركات وتشكيلات غيوم ولوحات شمس شارقة وغاربة فيها من الروعة ما يحضُّني على إنهاء كل يوم ضاحكا ومملوءا بالأمل وطالبا المزيد .."
    * كنت صغيرة جدا عندما تمنيت أن أكون معلمة ، وقد كبرت أمنيتي معي وكبرت معها مساندة أسرتي ومعلميّ . وكنت دائما متأكدة أني سأكون معلمة ، ولم يكون لدي تصور آخر "لعمل جيد ".
    طبعا سأكون معلمة ، إذ يجب أن أكون مثل جدي الذي أذكر وجهه في مشاهد قليلة من طفولتي ، ولكنه كان معلما عظيما كما قالت أمي .
    ومثل جدتي ، التي لم أرها ولم أعرف عنها غير أنها "كانت من أوليات المعلمات في جيلها " كما قالت أمي .
    ومثل أمي نفسها التي تولت الحكايات عن معنى المعلم وما يقوم به ، وتولت التأكيد الدائم على أني سأكبر ، " وسأكون معلمة ، وأعلم طلابي كيف يعيشون حياة سعيدة ويكونون أقوياء وعادلين وسأغير بما أعلمهم العالم وأقلل ما فيه من ألم وظلم ، ولذلك عليّ أن أتخلص من مخاوفي وأحزاني وأستعد لأكون معلمة حقيقية وصالحة ".
    وسأكون معلمة مثل أبي الذي تولى الحكايات عن المعلمين الأوائل ، الرسول عليه الصلاة والسلام , والأصحاب والتابعين ، وكفاحهم الذي لم ينقطع لنشر ما كانوا يؤمنون بأنه الحقيقة والصواب وأن الناس يحتاجونه إصلاح حياتهم ، وعن العلماء والمحدثين والفقهاء ، الذين نحتو الشكل الأول للعلم وشقوا الطريق لطلابهم كي يكونوا كبار العلماء الذين نتطلع إليهم في انبهار بشموخهم وفزع من ضآلتنا ، وعن معلمه شيخه تلميذ المشايخ ، الذي علمه طلب العلم ، على قسوة الحصول عليه ، وإعطاءه على ندرة من يستقه ، وأيضا عن معلمين آخرين ، غيروا العالم ، غيروا الجامعة ، وحاربوا من أجل الحق ، وصمدوا حتى شقوا لطلابهم طريقا في شعابها المتشابكة والعسيرة.
    وأبي أعطاني كل الكتب وأقرأنيها ، وتركني لأخوض ما أردت أن أخوضه من شعاب ، مصيبة كنت في ذلك أم مخطئة ، وكان هناك دائما حيث أردته أن يكون في بداية الطريق ونهايته ، يدفع قلبا وجلا أو يأخذ بيد مكسورة . تستمر دائما حكاياته عن الطلاب والمعلمين والحق والباطل واستمرار الأمل الذي هو مستمر ..لا محالة ، " كره ذلك ما كره وأحبه من أحب ".
    * وأردت أيضا أن أكون معلمة لأكون مثل أساتذتي الأوائل في الطفولة التي كبر على درجها أملي وكان يأخذ في التحقيق في كل يوم أحضر دروسي وأراقب خلالها سلوك معلميّ واستجابات زملائي الطلاب ، وأثر كل ذلك ، وأشغف به أكثر من أي علم آخر كنت أتلقاه في المدرسة .
    ولذلك ، لم يكن من بد من أكون معلمة كما قالت أستاذتي فادية القاضي التي لم تغضب أبدا إذ صوبت لها يوما خطأ في العربية ، وأنا طفلة صغيرة ، بل قالت لي إنني سأكون معلمة اللغة العربية ، وستعتز هي بذلك وتفتخر بأن ابنتها الصغيرة التي صوبت خطأها قد غدت معلمة كبيرة .
    ومثل أستاذتي إكرام حسن التي كانت تسعدنا جميعا بابتسامتها الطيبة ، وتريحنا جميعا بتفهمها إذ نشكو ما يشكو الأطفال أو نتذمر مما لا نفهمه من النحو ، وتجعل درس النحو وقتا للرحمة والحب والتفكير المنطقي والتحليل الهاديء واتساع الأفق لفهم ما نقوله ونسمعه .
    ومثل أستاذتي أميرة القصاص التي كانت تقاوم متاعبها في حياة شاقة ، وترابط صابرة لتعلم العربية لحفنة من الصغار التافهين عديمي التقدير .
    ومثل معلمتي فايزة صايمة التي جعلت من قلبها مزارا لكل البنات اللاتي أحببنها بشغف الطفولة وأدمن الاهتمام بالعربية ، طمعا في رضا معلمتها المحبوبة لا لأي سبب آخر .
    ومثل معلمتي أميرة وايناخ التي راسلتني بعد رحيلي عن مربع الطفولة حتى حين ، قرأت رسائلي ولم يكن من واجبها أن تقرأها ، وأفرحت قلبي الصغير بجوابها ، شدت أزري وعلمتني أن أحب المكان لأنه مكاني لا لأنه كما أريد .
    ومثل معلمنا الصابر المكافح الأستاذ سيد بهنس الذي علمنا أن الصوت المرتفع يزعج ولا يسمع , وظل صامدا – بما في قلبه من إيمان – على ما في عالمه من محبطات .
    ومثل معلمي المهيب الرجل العجوز طيب القلب مخيف الحزم الأستاذ محمد خلف الله الذي كان به من حب طلابه ، وتقديره عظمة ما يعمل ، إذ يعلمهم العربية ، ما يعزز غضبه لصغائر لم يرها لائقة بهم ، وهو من لم تمنعه غربته في هذا العالم القاسي أن يحب الطلاب إذا أحبهم ولا أن يقول الحق إذا انبغى أن يقال .
    ومثل الأستاذ محمد عبد الصمد الذي أحب اللغة العربية حبا صوفيا عجيبا ، جعل دروسه قصائد قصيرة في حبها ، لم يتمتع بها إلا من " ذاق " ، وهون عليه حبه ذاك مصاعب الحياة.
    * ومثل معلمين آخرين أردت دائما أن أكون ، مثل معلم علمني ألا أتكلم بسرعة لا يفهمها طلابي ولو كان هذا أسهل علي ، وأكثر اقتصادا في وقت يحتاج إليه برنامج مكثف ، بل أن أبحث دائما وبدأب ، عن طريقة عملية بديلة ، أعوض بها قصر الوقت أو كثافة البرنامج ، وأحفظ لطلابي – في الوقت نفسه – حقهم في الاستماع إلى لغة مفهومة والاسترخاء في حضور مدرس رحب الصدر .
    ومعلم علمني ألا أجعل من علمي حرفة أبدا ، ولو كان عملي مصدر رزقي الوحيد ، فإني لن أنجح فيه أبدا إلا إذا فعلته دائما بحب ، وفقط من أجل هذا الحب ، وبهذه الطريقة سيفتح لي عملي أبوب رزقه ، لأن الحب الصادق هو الذي يمنح الصادقين عطاياه .
    ومعلم علمني ألا أترك فصلي إلا وفي قلب كل من طلابي علامة جميلة ، كلمة طيبة لا تنسى سيعرف من خلالها نفسه ، وتساعده حتى يتعرف على ما يريد ، أو تؤكد له أنه يستطيع أن يحقق ما يريد ، هذه العلامة التي ستكون نجما له مضيئا في درب مستقبل يجهله وأجهله ، ولن أكون هناك لأسانده ، لكن كلماتي ستكون هناك ؛ ستأخذ بيده وتهدي عينيه ، حيث لا يصدر العالم إلا الضوضاء وفوضى مضلة ومشوشة .
    ومعلمة علمتني ألا أقول إلا كلمة جميلة , فلا تمتليء لحظات قصار أقضيها مع طلابي إلا بكل الحب الذي يعيدهم إلى الفصل في موعد الدرس التالي بشوق ، لا بملل ورغبة عنيدة في الإفلات ، وتهون علي ذكرى وقت الفصل الجميل ، أداء واجب العود كل صباح إلى نفس المكان في نفس الوقت بنفس الملابس لأعمل نفس العمل ، على صعوبته ورتابة تكراره ، وعلى الرغم من منغصاته الإدارية والاقتصادية ، التي تعكر صفو كل صباح .
    ومعلم علمني أن التجارة تفسد التعليم ، وأن أسوأ ما يمكن أن يعمله المدرس في الفصل هو الترويج لبضاعته عوضا عن منحها للطلاب الذين سيدفعون ثمنها على أية حال ، وهم أيضا سيعرفون بأنفسهم أنها بضاعة جيدة ، إن كانت كذلك ، لأنهم في الفصل ولا عمل لهم سوى أن يجربوها . ولا عمل لنا إلا أن نجعلها حقا جيدة . إن وقت الدرس جعل لهم ليحصلوا على بضاعة العلم ، التي جاءوا طالبيها ، لا لإعلامهم بأنها حقا جيدة ومهمة.
    ومعلم علمني أن الخطر على المدرس ليس هو اقترابه من طلابه إلى درجة يظن معها أنهم قد غدوا أصدقاء وفقد بذلك هالته المهيبة ، بل إن الخطر الحق هو الابتعاد عنهم حتى يفقد طلابه شعورهم بوجوده في عالمهم نفسه ، ويفتقدون إيمانهم بأن عمله الوحيد هو تعليمهم : ترقيتهم ومساندتهم وتعزيز ثقتهم بقدراتهم وبالعالم الخيّر ، فيضيعون منه في الحقيقة ولا يبقى أي فارق يذكر بين تلقيهم علما من أوراق يجمعها مجلد واحد ، يسمى الكتاب ، أو من دوائر بلاستيكية لامعة تسمى الاسطوانات المضغوطة ، حاملات العلم المركز في كبسولات سريعة الهضم ، وبين تلقيهم إياه من روح حية تعرف الحب والإيمان .
    * ثم وهبني ربي أمّا ثانية – بعد أمي – استمعت إلى حكاياتي باستمرار وبحب ، وعلمتني درسا متجددا عن الاهتمام الصادق بما يكرر أولادنا حكايته من تفاهات مملة حتى يستمروا بثقة في خوض تجربتهم ونسج حياتهم ، على طريقتهم الخاصة ، عوضا عن فرض رؤيتنا وطريقتنا . وأما حين ينبغي توجيههم لئلا يحيدوا فإن تساؤلا بريئا أو ملاحظة هادئة في صيغة : " أظن ، وربما ، ولعل ، وألا يمكن أن يكون .. " يستطيع أن يفعل ما لا يفعله تقرير آلاف الحقائق بطريقة المواعظ الأبوية التقليدية .
    وبمساندتهما ، الواحدة تلو الأخرى ، ومساندة أبي ، وبثقة هائلة وضعوها جميعا فيما اخترته لحياتي وأردت أن أكونه ، وبتسامح جليل من كل أخطائي الجسيمة ، وبتأييد مستمر لي جعلني استطيع عبور هوىً حفرتها أخطائي التي كانت دائما قادرة على تحطيم طموحي إن ترك لها الطريق مفتوحا حتى تلتهم ضميري تبكيتا وتأنيبا ..
    بكل ذلك .. وبذلك فقط استطعت أن أكون ما أردت أن أكونه .
    * ولما كنت فيما بعد معلمة ، كانت أولى مفاجآت حياتي الكبرى : أن الحقيقة أجمل وأغنى كثيرا من الحلم ، وفرحت بها فاغتنمتها بحماس ، وعلى طريقها تعلمت دروسا أخرى من الفصل ، ومع الطلاب الذين بذلوا بدورهم جهدا غير متعمد ليجعلوني معلمة حقيقية .
    وعن هذه الحقيقة الجميلة ، بما فيها من مصاعب ومشاق عملية تتعلق بالاختيار والتعامل الإنساني وتحويل المثاليات إلى واقع ..
    عن أول تجاربي في الفصل بدأت أكتب هذه المذكرات . حاولت أن أفصل فيها الجواب عن أسئلة حيرتني وكان مدراها كيف أنجح في تعليمهم ما أريد . وأن أصف طرقا وجدتها أنجح من غيرها في تحقيق هدف التعليم ، مختلطا كل ذلك بما تكتنفه حياة المدرسين والطلاب من تداخلات وتجارب إنسانية مؤثرة.
    كمثل كل معلم تعلمت منه درسا غير مكتوب على لوح ولا في كتاب مدرسي ، أردت أن أسجل دروس الفصول على أوراق أقيد فيها لكل معلم يتعلم ، كل يوم ، كيف يكون معلما حقيقيا .
    إنها بعض دروس تعلمتها على الطريق الشاق الغامض الذي يجمعنا كلنا دون أن ندري أنا معا .. شخص واحد كبير هائل .. يغير محتوى حياة الآخرين ، وبأنامله يشكل ملامحها .
    " لكن ثمة أمرا مطمئنا حين ندرك أنا لسنا معنيين بإنقاذ العالم وحدنا أو بمنع الشمس من الهُوىّ والكرة الأرضية من التوقف عن الدوران . ما نحن معنيون بفعله ، وهذا رجائي ، هو أن نملأ مؤقتا شقا صغيرا ضيقا لبرهة قصيرة ثم نستريح . أنا مرتاح إلى مفهوم كوني صوتا صغيرا واحدا من أصوات كثيرة ، ليس الأحكم ولا الأفضل لكنه صوتي أنا "


    ( يتبع )

  2. #2
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    1
    الدرس الأول
    انتظرته لعشرين سنة مضت، وانتظرته منذ بدأت أتمنى أن أكون معلمة ، هذا تاريخ قديم جدا ، لكنني أخيرا وصلت إليه . ويا للعجب ، في عشرين سنة فقط ، بدأت أحلامي تتحقق، أليس هذا خياليا بالنسبة لعالمنا هذا ؟!
    " وأخيرا جاء الدرس الأول " هكذا كنت أفكر قبله بيومين ، " كيف سأبدو يا ترى ، هل سأخفق ؟ هل سأرتبك ؟ هل سأنجح؟ ".
    كان على ألا أفكر في الدرس أو الطلاب , لأنني سأذهب أولا لحضور امتحاني الأخير في السنة الأخيرة , من سنوات دراستي الجامعية ، بقسم اللغة العربية.
    ذهبت إلى الكلية , حضرت الامتحان ، وفي منتصف ذلك النهار ، انتهت مرحلة من حياتي.
    وكان علي , بعد ذلك , أن أدخل المرحلة الثانية بأسرع مما تخيلت طوال السنوات العشرين الماضية.
    في البيت.. كان ثمة كثير من الأعمال لقضائها ؛ طعام غداء الأسرة ، إزاحة أوراق وملخصات ومسودات تخص جميعها آخر مواد امتحانات السنة الرابعة ، ثم مجالسة أمي قليلا لأحكي لها عن الامتحان ، والاتصال بأصدقائي لطمأنتهم على حسن أدائي فيه، وهكذا سرعان ما صارت الساعة الخامسة .. آه ..
    درسي في السادسة !
    " أمي ساعديني .. ساعديني في اختير ملابسي , ماذا تظنين , أريد ملابس تعبر عن شخصيتي وتكون في الوقت نفسه كلاسيكية نوعا ما ، ولا يكون مظهرها ثريا ، لأنني أكره أن أبدو ثرية ، وأيضا تكون فضفاضة لكي لا أضيق بها في الدرس.
    الدرس .. الدرس الأول يا أمي ، أخيرا أصبحت معلمة .. هل سأنجح؟ هل تظنين أني سأنجح في الدرس الأول؟ كل شيء يتوقف على الدرس الأول !".
    ابتسامتها كانت فرحة, حانية, وفخورة, وقالت, " ويجب أن تكون محتشمة أيضا ، أنت معلمة اللغة العربية !".
    وبعد مناقشة طويلة فحصنا خلالها كل ما تحوي خزانتي من ملابس ، واتفقنا على أنسبها للدرس الأول, ذهبت إلى غرفتي ، وحدي دون أمي ، وينبغي أن أواجه الحياة وحدي ، وفي الدرس الأول سأكون بين الطلاب وحدي .. وفتحت خزانتي ، وبنظرة واحدة سريعة وشاملة , عرفت الثوب الذي سأختاره.
    في الحقيقة كان هذا سهلا جدا, أسهل كثيرا من مناقشتي الطويلة مع أمي , ومن شروط كلتينا ، ذلك أن صندوق الملابس المتسخة كان يفيض بحمله , وخزانة الملابس لم يكن فيها سوى ثوب واحد وغطاء للرأس يلائم ذلك الثوب!
    ولكن .. لم أعد الدرس الذي سأدرسه، لم أعد الدرس الأول.
    مشيت عشر دقائق من البيت إلى المدرسة , فكرت خلالها : ماذا يمكن أن أقول للطلاب في الدرس الأول ؟ وصلت قبل الدرس بعشر دقائق ، لم أعد شيئا ، كنت أفكر هل سأدرك الموعد؟ هل سأصل متأخرة ؟ هكذا سأترك انطباعا سيئا لا أريد أن تكون العلامة الأولى سوداء .. قلبي كان يدق بعنف ، لسرعة مشي الشديدة. ولاهثة رأتني مديرتي عندما فتحت الباب بعد دقات جرس طويلة ، وضاحكة قالت: دقة جرسك مميزة جدا ، تعالي نعد القهوة قبل أن يبدأ الدرس، أريد منك بعض الأعمال الكتابية ، ستكتبين رسالتين لسفارة تركيا وسفارة أوزباكستان لتخبريهم ببدء دورات اللغة العربية للدبلوماسيين وتعطيهما للسكرتارية ثم تصححينهما، أريد أن تصل الرسائل في وقتها قبل بدء الدورات بشهرين، أستاذتي ( هكذا كان من عادتها أن تدللني في ساعات الرضا النادرة!) ، كم ملعقة سكر لقهوتك؟
    اثنين.
    سكرك كثير، الأتراك سكرهم قليل عادة.
    حقا ؟ ليسوا مثلنا ، أنت سكرك قليل أيضا ، وماذا سأفعل غير الرسائل؟
    هل جهزت الأوراق الإدارية للطلاب؟
    معذرة الجرس يدق سأفتح، فتحت وبيدي كوب القهوة.
    عشرة رجال كبار السن متحفظون خلعوا الأحذية، دخلوا، نظروا مستفهمين قلت لهم تفضلوا الفصل هناك. رجعت إلى مديرتي التي لم تكن قد توقفت عن الكلام بعد؛ " حدث خطأ في ترتيب الطلاب , على أن أخبرهم؟ لا ، الأستاذ طارق سيخبرهم انتبهي يا سلوى : الأتراك متحفظون جدا ولا يضحكون كثيرا ، بالمناسبة أصغر طلابك هؤلاء عمره 35 سنة , يجب أن تحترميهم إنهم أساتذة" فكرت :" هل أنا الشخص المناسب ، هل سأتفاهم مع هؤلاء الرجال كبار السن وأنا أصغرهم؟".
    دخلت مديرتي معي؛ هذه هي الأستاذة سلوى ، مدرسة المحادثة ، إنها ثرثارة جدا ستعلمكم التكلم العربي أفضل من العرب..
    كنت أفكر في هذا الوقت : ثرثارة جدا؟ إذن لن تعطيكم فرصة للتحدث، إذن كيف سيتعلمون المحادثة؟ أليس هذا الوصف غير دقيق لمدح مدرسة محادثة؟
    اسمي سلوى سأدرسكم المحادثة العربية.
    المحادثة يعني التكلم. هدف دروس المحادثة هو التكلم . والعمل الوحيد فيها هو التكلم. نظام الدرس:
    1- ممنوع لتكلم باللغة التركية.
    2- ممنوع الضحك عن خطأ أحد منا.
    3- لا تخف أن تخطيء نحن سنخطيء معا وسنتحدث معا.
    والآن .. من انتم؟
    نظر بعضهم إلى بعض .. ثم نظروا إليّ خلسة.. بتوجس، ولم ينطقوا.
    قلت: أعني، أريد أن يخبرني كل منكم ببعض الأشياء عن نفسه.
    في دقائق الصمت التالية لهذا فكرت : هل أنا مرتبكة ، تأملت وجوههم الصافية المشرقة، لا لست مرتبكة ، أليس هذا عجيبا؟ هذا هو الدرس الأول وأنا لست خائفة!
    أشرت لأحدهم وقلت : إبدأ أنت من فضلك.
    قال: اسمي محمد. سكت .. قلت : لك أسرة؟ لك عمل؟ هل تعمل شيئا في تركيا؟ ضحكوا .. محمد عمره 35 سنة، وله طفلان وهو مدرس اللغة العربية وهو من مدينة قيصرى و ......... و.......... وبعد أن تكلموا جميعا ، وصمتوا كعادتهم المفضلة قال محمد : وأنت يا أستاذة؟ قلت: اسمي سلوى ، مدرسة اللغة العربية، عمري واحد وعشرون سنة، ابتسموا جميعا بأدب وتحفظ. قلت : أي أنني أصغر الجميع ، قالوا جميعا بحماس: أستغفر الله أستغفر الله. فكرت : أدب الأتراك!!
    قلت: أهم شيء يجب أن تعرفوه عني أنني لا أعرف شيئا عن تركيا، وأريدكم، وأريدكم أن تعلموني كل شيء عنها، خلال الشهر القادم (زمن الدورة) أي أن عليكم الكثير من التكلم .. اتفقنا؟
    ابتسموا بسعادة قالوا بحماس: إن شاء الله ..
    أخبرتهم أن الدرس انتهى..
    وعندما دخلت غرفة الاستراحة، أغلقت الباب الخلفي، وأسندت ظهري إليه, وابتسامة كبيرة لم تفارق وجهي بعد، وكنت أفكر.. انتهى الدرس الأول.. كيف كان يا ترى؟ لقد تكلموا كثيرا، ثم بدوا سعداء في نهاية الدرس.
    ولكن كيف بدأت الدرس؟ حاولت أن أتذكر، كأنني لم أبدأه بالفعل، لقد بدأ دون أن أفكر، شغلتني المديرة بثرثرتها، ثم قالت إنني ثرثارة، ووجدتني فجأة غارقة في الدرس، لم أنتبه إلى البداية، ولم أخف كذلك!
    ومع ذلك فقد كنت مستعدة طول حياتي للخوف في هذا اليوم، ورغم أنني لم أعد الدرس إعدادا مسبقا، فقد ألهتني مديرتي بثرثرتها، حتى نسيت أن أخاف، ونسي قلبي أن يدق ، ونسيت أسناني أن تصطك قليلا، كأنه لم يكن الدرس الأول!!
    استمعت أسرتي كلها في المساء إلى قصة الدرس الأول ، وقالت أمي : الخوف فكرة في العقل وليست شيئا في الحقيقة ، فكرت : أظن أنني لن أخاف من التدريس أبدا ، وسأحبه حتى الموت.



    ( يتبع )

  3. #3
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    2
    أيها المعلم ..أغلق فمك !!
    ا - نظرة فابتسامة ..فكلمة تشجيع
    أحظى بأن يكون الأستاذ الدكتور أحمد المهدي _ من كبار التربويين العرب _ عماً لي ، وفي أيام عملي الأولى حنيت بإحدى نصائحه القيمة ، إذ قال لي إن هناك حكمة تربوية تقول بأن : "مهارة المعلم تقاس بقدرته على إغلاق فمه " ، وقد كانت نصيحته هذه مثيرة لدهشتي وشعوري بعدم الفهم 0 لكن صمته الطويل ونظراته المهتمة جداً بما أقول عندما كنت أحكي له تجاربي التعليمية كانا مرشدين لي فيما بعد واستفدت منهما في إعمال الحكمة التي منحني إياها .
    واعتقدت أنني استفدت من هذه الحكمة حول صمت المعلم 0 لأنني أولاً كنت مستعدة لهذه الاستفادة ، إذ كان هدفي الأول في ذلك الوقت أن أتعلم التعليم جيداً ، إنني أريد أن أنجح كمعلمة 0 فسأجرب كل شيء وكل فكرة جديدة وكل نصيحة وكل ما أراه ممكناً (بشرط ألا يخالف مبادئي الأساسية ) ، مهما كان غريبا أو جديدا ، حتى أحقق هدفي .
    * * *
    وهكذا في التالي . . دخلت الفصل ، وألقيت بتحيتي المعتادة على الطلاب ، والتفت إلى اللوح أخفي في عملي الصغير ارتباكي واختلاط أفكاري . هل سأستطيع أن أجعل الطلاب يتكلمون أكثر مما أتكلم ؟ هل سأستطيع حملهم على التكلم وهم الذين يعتقدون أنهم لا يستطيعون التكلم بالعربية؟ الحمد لله لم أكتب هذه الأفكار، وكتبت :
    بسم الله الرحمن الرحيم المحادثة (7)
    واستدرت في ثبات وعلى وجهي علقت تلك النظرة العميقة القوية بابتسامة لا تكاد تلحظ ، وبقلب واجف تحركت ببط ء متعمق يخفي شيئا من الارتباك وجلست هناك في ركني الأثير وبدأت . . بدأت أتكلم ! ! نعم . . كان ينبغي أن أقدم لصمتي التالي بجملة واحدة على الأقل ، وهكذا أعطيت نفسي عذرا قويا . . وقلت : "اليوم ستتكلمون " ، ابتسم الطلاب ، "عن مدنكم " ، سكتُ ، سكت الطلاب أيضاً . والآن ماذا أفعل يا عمي المهدي؟ هه ؟ إنني متورطة الآن 0 من سيتكلم ؟ هل ينبغي أن أقول شيئاً أوضح به الجملة أم ماذا؟ ولكن لا ، لقد قررت ألا أقول أكثر من جملة خبرية واحدة ، وقد استنفدت فرصتي الوحيدة بهذه الجملة المقتضبة ماذا سيحدث الآن يا ترى؟
    الطلاب ما زالوا صامتين وعلى وجوههم بدأت تظهر تعبيرات من الحيرة ، لاحظ أن الأتراك مقتصدون في تعبيراتهم إجمالاً، فيبدو أنهم كانوا حائرين جداً ، ماذا سيحدث الآن ؟ لابد أن أفعل شيئاً ما كما ينتظر مني . التفت إلى أقربهم مجلساً ، وأضفت إلى التعبير الثابت ، الذي كان معلقا على وجهي منذ بدأت ، نظرة تشجيعية مرحبة 0 وحدث سحر مفاجيء ؟ فتح محمد ( 35سنة ) فمه وقال شيئاً : أنا من قيصري . وسكت مرة أخرى . ماذا أفعل الآن ؟ بالتأكيد هو يشعر أنه فعل شيئاً كبيرا وينتظر شيئاً مني، عززت نظرتي المشجعة بنظرة مهنئة , وقلت : قيصره ؟ كان خطأ رائعاً مني , غير متعمد طبعاً . لكنني اعتمدته في دروس كثيرة تالية كأسلوب تحفيزي ، انظر ماذا حدث . . .
    استثير التركي جداً قال : لا قيصره خطأ 0 مديتي قيصري (قال مشددا النبر على المخارج كمعلم يوضح صحة النطق لأحد طلابه ) ، قيصري أشهر مدن تركيا ، لا تعرف قيصري يا أستاذ؟ هو أيضاً أخطأ خطأ رائعا ، أخطأ خطأين . أولاً قال إن مدينته أشهر مدن تركيا فاستثار الطلاب من المدن الأخرى ليتنافسوا في شرح أهمية مدنهم هم الآخرين . وثانيا خاطبنى بصيغة المفرد المخاطب وكان ينبغي أن يخاطبني بضمير المؤنث . ولأن الأتراك طلاب مؤدبون وملتزمون بقواعد التهذيب فقد نظر مظفر (45 سنة ) إليّ (23 سنة ) نظرة استئذان ، فأجبته بنظرة إباحة (أتبعتها بإيماء من رأسي) فقاطع محمد قائلا في صوت خفيض : أنت . . . مفردة مؤنثة مخاطبة . انتبه محمد قال : لا تعرفين قيصري يا أستاذة ؟ إنها المدينة المشهورة بالجبل وبلحم قيصري الشهير و، . . وبـ. . وبدأ محمد يتكلم لمدة 20دقيقة عن قيصري . . حتى انتبهت إلى أنه ينبغي على أن أوقف هذا التيار، وكان صديقه الملازم له جالسا بجواره ،
    فنظرت إلى محمد نظرة شكر، وظننت أنني بعد هذا النجاح الهائل الذي حققته يحق لي أن أنطق بكلمة فقلت : شكراً لك يا محمد . . ونظرت إلى مصطفى (34سنة ) نظرة تشجيع ، وسألت : وأنت أيضاً من قيصري يا مصطفى؟ هكذا تجاوزت الحد المسموح من الكلام ، لكن مصطفى تجهم وقال بنبرات مميزة مازالت ترن في أذني بعد مرور السنوات ، قال : لا . وسكت.
    ماذا يجب على أن أفعل الآن ؟ لقد تكلمت كثيراً أكثر مما كان يجب ، لماذا سكت مصطفى؟ كيف لم يفهم تلقائيا أنني أردت بسؤالي أن يبدأ بالحديث عن مدينته ؟ بعض الطلاب ، أكثر الطلاب ، يكونون مبالغين في استعمال اقتصاديات الكلام كأسلوب للتخلص من ورطة الإجابة ، والأمر لم يكن دائما يتعلق بمعرفة الإجابة بل إنه غالبا ما لا يتعلق بها البتة . الأمر كله مركز في أن الطالب يظن أنه لا يعرف . وتستطيع النظرات الترحيبية والتشجيعية والمهنئة أن تؤكد له أنه يستطيع ، وأنه كلما تكلم نطق سحراً ! ! !
    هذا في البداية . . . بعد ذلك يمكن إضافة تصحيحات تدريجية . إن الطلاب يحتاجون باستمرار إلى التشجيح المعنوي ، وقد ساعدتني تجربتي في تعليم الكبار على اكتشاف قيمة التشجيع المعنوي ، أكثر من المادي ، وقد ذكر لي كثير منهم بعد ذلك صراحة وخاصة بعد انتهاء دراستهم بمدرستنا ، أن كلمات التشجيع ، ونظرات التأمين على كلامهم ، والاهتمام العميق الحقيقي بمعرفة ما يقول ، كانت تلعب دورا كبيرا في تقدمهم وإقدامهم ، أعني إقدامهم على محاولة التكلم ، وبالتالي تقدمهم في اللغة ، مع اكتشافهم التدريجي لقدراتهم فيها من خلال كلمات التشجيع تلك . والآن سأكتب قائمة بكلمات التشجيع الأساسية التي نجحت أكثر من غيرها في تحفيز الطلاب على المحاولة في مجالات مختلفة من الدروس ، ومستويات لغوية ومراحل عمرية متباينة ، مع ملاحظة تنوع النظرات بحسب الموقف ، واختيار التشجيع الذي ينطبق على مزية حقيقية في الطالب وهذا الذي يكشف له موهبته ويساعده على تنميتها ، مع الاحتفاظ الدائم بتعبيري المودة والاهتمام . ا _ شكرا لك ، أنت ممتاز (مع ابتسامة كبيرة ) بعد انتهاء طالب من إجابة أي سؤال مهما كان السؤال ساذجا , وهذا الشكر صادق , ما دام الطالب قد أجاب جيداً .
    2_ تكلم . . . أنت تستطيع (مع نظرة دهشة وتأكيد) لطالب صامت ينظر إلى حذائه بوجه محمر وأذنين ملتهبتين خجلا .
    3_ أنا أعرف أنك تستطيع (مع تجهم قليل ونظرة عتاب ) للطالب نفسه ، لأنه لن يتكلم إلا بعد ثالث كلمة تشجيع على أحسن تقدير .
    4_ أنا أنتظر يا فلان (تذكر اسمه بنظرة العتاب نفسها) هذه هي المرة الثالثة وينبغي أن تتبعها بنظرة تشجيعية أقل ابتساما وأكثر صبرا . . وتنتظر بعض الوقت .
    5_ أرأيت . . قلت لك إنك تستطيع . . (مع ابتسامات هائلة وفخورة )
    6_ أرأيت . . أنك ممتاز . . شكرا لك . .
    لقد أسعدتني . . شكرا لك .
    (للطالب نفسه بعد أن تكلم أخيرا ، مهما يكن ما قاله ) وغالبا ما يكون قد أخطأ عدة أخطاء يمكن أن يصححها المدرس فيما بعد ، ويمكن أن يتركها إن كانت غير أساسية ، المهم في عمليات التشجيع الأولى ، أن يعتقد الطالب أنه يستطيع ، في المرات التالية سيتحمس ويحاول ، وسيبحث عن الصواب . (ومن الممكن لأي مدرس أن يختار ألفاظاً عديدة متباينة للتشجيع . المهم أنها جميعاً تؤدي هذا الغرض ، بحسب أنوع الطلاب والدروس المتباينة أيضاً) . وقد يحدث أحياناً أن يميل زملاؤه لتصحيح أخطائه ، وهنا يكون اللجوء للنظرات الرادعة التي تعني : اتركوه يتحدث كما تحدثتم ، أعطوه فرصته المناسبة في التعلم . . والطلاب عموما يجيدون فهم هذه الرسائل ولو تظاهروا بعكس ذلك . إن القوة المعنوية للطالب لها مصدران :
    1_ إدراكه أنه يعرف الصحيح ويستطيع .
    2_ مساندة معلمه وإيمانه بقدرات الطالب .
    وهذان يحملان على عاتقهما 50% من مهمة تقدم الطالب ، إن لم يكن أكثر . ملاحظة لقد استعملت هذه الأساليب حقاً ورغم أنها قد تبدو مبالغاً فيها ، فإنها قد حققت نجاحاً فعلياً ، عندما أغلقت فمي عن التدخل وكثرة التصحيح والتوجيه ، حيث لا يلزم وفتحته فقط _هو وقلبي _لتشجع الطلاب ومنحهم ثقة يحتاجونها بأنفسهم . وهناك طرق أخرى لتنظيم إغلاق الفم وفتحه سأكتب عنها فيما بعد . 3


    ( يتبع )

  4. #4
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    3
    أيها المعلم . . أغلق فمك !
    2 ـ أنت تستطيعين
    في درس المحادثة رقم (7) ، كانت تجربتي الأولى لأسلوب الصمت لدفع الطلاب إلى التكلم ، فهناك مساحة من الوقت ولابد أن يتم فيها عمل ما ، وكلا الطرفين يشعر بهذه المسؤولية مهما اختلفت درجة إحساسه بها ، أو تباينت طبيعته ، وكلاهما يعرف في قرارة نفسه أن المساحة المتروكة إنما هي متروكة له ليكمل العمل . وقد اعتمدت _ لمل ء فرغ الوقت وتحميل الطلاب هذه المسؤولية بنجاح _ على أمرين :
    1 _ توجه أسئلة غير عشوائية 0 (وإن بدت كذلك ) .
    2_ توجيه كلمات التشجيع التي ذكرت بعضها في قائمة سابقة .
    عندما التزم مصطفى الصمت بعد قوله (لا) ، كان على أن أقول شيئا ، لم أكن أدري ما هو، وكنت أعرف أنني ينبغي أن ألتزم الصمت . وكان الشَرَك الذي وقعت فيه من صنعي أنا ، لأنني سألت مصطفى : هل أنت أيضاً من " قيصري " ؟ وكل مدرس لغة عربية في العالم يعرف أن السؤال المبدوء ، "هل " جوابه " نعم " أو " لا". وطبعاً عندما قال مصطفى " لا " بهدوء ، أحرجت تماما لأن الباب قد صفق في وجهي بعنف وشعرت بقسوة الإخفاق . احتفظت بابتسامتي الهادئة الواثقة ، وفكرت : " لابد أن هناك شيئاً يقال " هل استمر في الصمت ليشعر مصطفى أن دوره قد جاء ليتكلم ؟ نظرت إليه نظرة مشجعة أخرى ، لكن مصطفى ظل محتفظاً بملامحه الجامدة ! " لم تنفع هذه المرة إذن " هكذا فكرت ، " إذن نجرب نظرة استفهام " ، ونجحت هذه المرة . . . اندهش مصطفى قائلاً "ماذا؟ !"
    " يا للممصيبة ! " أصبحت أنا الآن في دور الطالب وعلى أن أجيب ، وكنت أريد أن أجرب الالتزام بالصمت حتى يصبح مستحيلا، ولمعت في ذهني فكرة !
    قمت ، التفت إلى اللوح ، كتبت : محمد : من مدينة قيصري ؟ قيصري مدينة جميلة تقع على سفح جبل وتمتد إلى أعلى، وهي من المدن التاريخية في تركيا . وأكملت تلخيص ما قال محمد . مصطفى: من مدينة . . .؟ مظفر: من مدينة . . .؟ قال مصطفى بحماس " قونية . . قونية يا أستاذة أجمل مدن تركيا وأكبرها ، وقد كانت مدينة مهمة جداً في عصر العثمانيين . الحمد لله . . .
    تكلم شخص ما . . . وصاحبت كلامه طبعا نظراتي المشجعة وابتساماتي المهنئة ، وبين الحين والآخر في سكتاته الصعبة كنت أقول : جيد جداً . . . استمر أو أتعجب : " حقا؟ ! " . . أو أعلق بكل اهتمام : "هذه معلومة مهمة . . لم أكن أعرف . . وماذا أيضاً؟)
    وهكذا . . دارت الحصة في هدوء، وقد عرف كل مهم ما ينبغي عليه عمله بعد أن يسكت زميله ويسمع كلمات الشكر والتهنئة:
    ا . جيد جدا.
    2. ممتاز.
    3. أنت تعرف العربية جيدا.
    4. لقد شرحت بطريقة ممتازة. .
    5. جعلتني مشتاقة لزيارة مدينتك .
    ثم يتلقى هو نظرة التشجيع والاستفهام ويسمع : "وأنت يا . . . "
    وتعلمت - كما يرى - ألا أسأل : "هل أنت " ؟ بل : "وأنت ؟"
    ومع مرور الوقت والدروس تعلمت أسئلة أخرى .
    مع مرور الوقت أيضاً حفظ الطلاب كلماتي وتعبيراتي ، وبدا الطلاب الصغار خاصة _ يا للمصيبة _ يقلدونني فعندما يصمت أحدهم أحيانا يلتفت إليه آخر مبتسماً ابتسامة ماكرة قائلا " تكلم ، أنت جيد جدا" أو "أنا أعرف أنك تستطيع" .
    وكنت أسمع هذه المزحات وأبتسم في سري وأفكر : "الآن يسخرون ، وعندما يكبرون سيصبحون معلمين جيدين لأنهم قد تشربوا الطريقة على ما يبدو" .
    وكتمت ابتسامتي حتى جاء يوم ، سألني طالب سؤالا فصمت مفكرة في جواب .
    فإذا به يقول : " تكلمي أنت تستطيعين . . أعرف أنك تستطيعين . . "
    وانفجر الجميع ضاحكين عندما رأوا ابتسامتي وسمعوا ضحكتي وقلت له : معك حق . . أنا أستطيع .


    ( يتبع )

  5. #5
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    4
    أيها المعلم أغلق فمك!
    3ـ القط و الفأر
    "هل أنت أيضاً من قيصري"؟
    . . صمت تام . . .
    ما له من إحباط جعلني أحذر الوصول إليه مرة أخرى وأجتنبه اجتناباً . .
    لأنني بدوت كالغبية ، كيف خط ببالي أن أسأله سؤلاً يبدأ ، بـ "هل " ، وأنا أريد أن يتكلم ؟ بعد ذلك أصبحت أذكر نفسي في بداية كل حصة محادثة : ممنوع الأسئلة بـ "هل " .
    وفي الحقيقة لم يكن استمرار الطلاب في التكلم كآلة تسجيل لا توقف إلا عندما أضغط على الزر .
    بل إنهم لم يكونوا يتكلمون في معظم الأحيان إلا بعد أن يتلقوا أسئلتي » خاصة فيما بعد تلك الدورة من سنوات ، لأن معظم طلابي بعل ذلك كانت أعمارهم تتراوح بين (18 - 20) ، لمدة سنتين بعد ذلك ، ثم أصبحت بعد ذلك بين (18 -19 ) فقط .
    وهذا نوع لعين من الطلاب يحتاج إلى كتابة مئات الكتب لوصف طرق تعليمه أو قل "طرق استئناسه " لأنهم حقا جامحون ، وقد بلغ من جموحهم أنك يمكن أن تحفظ خطتهم بسهولة ، فهم ما أن يعرفوا ماذا تريد منهم حتى يسارعوا إلى مراوغتك ومحاولة إثنائك عن هدفك وتحطيم حماسك ويهربون منك كالفأر من القط . .
    على حين ينبغي عليك ألا تستثار كقط ، بل أن تتماسك كمعلم ، وتراوغ كقط .
    نعم نحن لم نكن نقصد أن نكون قططاً عندما تسلمنا أعمالنا كمدرسين ، لكنها الحقيقة . . لابد لنا أن نستفيد من ذكاء القطط في المراوغة ومن دأبهم على ملاحقة الفئران اللعينة ، ولكن . . .
    لعقد صداقة لا للالتهام !
    فعندما تتمكن منه . . بسرعة أمسك به ، و. . . ألق عليه سؤالا
    ولكن . . أي سؤال ؟
    هذا هو الموضوع . . اختيار السؤال .
    لكي تحكم شركك بحيث لا يفلت فأرك ، أبدأ بسؤال لا يمكن ألا يعرف جوابه ، أو بعبارة أخرى ، أنت تعرف طلابك جيدا فعندما تمسك المشاكس ،إسأله السؤال الذي تكون متأكداً أنه يعرف جوابه . .
    فإن راوغ في محاولة مستميتة أخيرة للهروب الجأ إلى أسلوب "نظرة واحدة تكفي" أرسل إليه النظرة الثاقبة : "أنا أعرف أنك تعرف ، ومن مصلحتك أن تجيب الآن ، وإلا . . " وأتبعها بسرعة بالنظرة المهدئة : "لا تخف تكلم أنا معك " أو أتبعها ببلسم جروح الهزيمة : "تكلم . . أنت تستطيع " . في 95ِ% من الحالات سيجيب الطالب عن سؤالك (هكذا تعلمت بالملاحظة ) ، ولو كانت إجابة خاطئة أو غير دقيقة ، فلا بأس بكلمة تشجيع أو . .
    وفي الحقيقة إن أحداً من الطلاب لم يفلت من حيلة السؤال الذي يعرف إجابته ، فإن ظهرت هذه الحالة النادرة يمكن اللجوء إلى طريقة "أنت تعرف " و "أنا أعرف أنك تعرف " .
    وهم لا يفلتون أبدأ من شرك هذا السؤال لأنهم في الحقيقة لا يريدون أن يبدو حمقى أو أغبياء أو مهملين . . .
    حتى إذ لم يعرف الطالب الجواب الأخير ، فإنه سيكون في الطريق قد عرف بعض إجابات هذه الأسئلة وسيرفع هذا معنوياته بما يكفي لكي يحاول في المرة التالية أن يتعلم الطريقة (طريقة التفكير) أو أن ينتبه في الدرس إلى أسئلة المعلم لزملائه .
    إن قدرته على إجابة السؤال تجعله يشعر بأنه عنصر مشارك وفعال في الفصل ، فينتبه ليحصل على مزيد من الاهتمام ويحقق مزيداً من الإيجابية والمشاركة اللتين تعززان إيمانه بذاته وإعجابه بها .
    وعلى المدرس إن أراد أن يمتلك قلب " الفأر" ، أن يسأله مرة أخرى قبل نهاية الدرس سؤالا يكون متأكدا أنه يعرف إجابته!
    والآن سأعود إلى أرضي ، لأكتب لمدرسي اللغة العربية الأعزاء ولزملائي المدرسين عموماً قائمة بالأسئلة المفيدة والأكثر نجاحا من السؤال بـ: "هل" .
    * لماذا . . . ؟
    * ماذا . . . ؟
    * كيف . . . ؟
    * بالتفصيل من فضلك .
    * لم أفهم هل يمكن أن تشرح لي؟
    * وماذا أيضاً؟
    * من . . . ؟
    * ما . . . ؟
    * ما هو بالتحديد؟
    * كيف تعبر عن هذا بجملة أو باصطلاح علمي؟
    وهذه قائمة بالأسئلة المحبطة للطلاب والمعلمين أو لنقل : بالشراك التي لا تنجح في اصطياد الفئران :
    * هل ؟
    * أنت لا تعرف؟
    * لم تدرس الدرس ؟
    * لماذا جئت إلى الفصل ؟
    * لماذا نسيت الواجب ولم تنس نفسك ؟
    لا نسأل بهجوم :
    هل قضيت المساء في اللعب بدلا من كتابة الواجب ؟
    بل نسأل بحب :
    ماذا فعلت أمس ليلا فمنعك من كتابة الواجب ؟
    ولا نعلق بهجوم :
    وكيف لم تفهم هذا . . لقد شرحته ثلاث مرات . . .
    أنت شارد طول الدرس . .
    أنت لا تريد أن تتعلم . .
    بل نسأل بحب وحرص ودون دهشة أو صراخ :
    ما هو بالتحديد الجزء الذي لم تفهمه ؟
    قل لي فقط أين هو وأنا سأشرحه مرة أخرى . .
    هل كنت شاردا؟ (بنظرة عتاب )
    (بنظرة تسامح ) لا بأس ، سأشرح مرة أخرى ، وأنت (مع نظرة تحذير خفية ) لن نشرد مرة أخرى . .
    لقد مرت معظم دروسي بسلاسة على هذا النحو ، ووثق الفئران بأنني لا أريد افتراسهم . . . فبدأوا يستجيبون للتعلم ، وتحولوا أخير من فئران إلى طلاب .


    ( يتبع )

  6. #6
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    5
    أيها المعلم أغلق فمك !
    4- المحادثة . . ودروس أخرى
    لاحظت خلال مناقشاتي مع زملائي مدرسي المدارس الأخرى ، أن ما أقوله أنا عن دروس المحادثة التي تعلمت فيها فنية الأسئلة ، وأساليب استبقاء الطالب داخل دائرة التحدث عن الموضوع ، يمكن أن يفيدهم في تنفيذ ما يطالبهم به المفتشون والموجهون من الاعتماد على الأسئلة الشفهية وإشراك الطلاب في العمل ، وتوجيههم لكيفية اجتناب أسلوب الإنشاء والشرح التقليدي ، حيث يدخل المدرس الفصل ويفتح فمه ولا يتوقف عن التكلم أبداً إلا عندما يدق الجرس .
    ويمكننا أن نقسم العمل بالأسئلة خلال الحصة الدراسية إلى مجموعات ؟ فهناك المجموعة الأولى وهي الدقائق العشرة الأولى ، وهي سهلة جدا : إلقاء الأسئلة (مصحوبة بنظرات ) يراجع بها الدرس الماضي ، وهي نفسها تقويم لمدى استفادة الطلاب منه ، وبتعبير تقليدي لتعرف هل " ذاكروا أم لم يذاكروا " . ثم تنتهي هذه المجموعة بسؤالين ممهدين للدرس الجديد ، وهذان هما المجموعة الثانية من الأسئلة التي تتكون منها الدروس من هذا النوع . مجموعة الأسئلة الممهدة : في حصص النصوص والنحو والقراءة والقصة يمكن للمدرس أن يمهد بأسئلة أخرى غير شفهية . . . يمكنه أن يكتب جملة تتضمن شيئا من الدرس الجديد ويسألهم عن كثير من التفاصيل التي تدور حول الدرس دون أن يشعروا ، وسيرى في عيون الأذكياء منهم أنهم فهموا مرماه بل إن بعضهم سيحيد بالأسئلة بواسطة الأجوبة المميزة التي يقدمها ليكشف حيلة "القط" ، لكن على القط لتفادي هذا الشرك ؛ أن يجتنب أن يسأل أذكى الطلاب في هذه المرحلة ، ويعتمد على المتوسطين والضعفاء بحيث يقدم لكل مهم سؤالا يعرف إجابته أو يسمح له مستواه بالتوصل إليها . . .
    وهكذا يمكن الدخول في الدرس بطريقة جذابة ، وعندما يخطىء طالب يمكننا أن نستفيد من هذا الخطأ بسؤال لطالب آخر بعد أن نمنح الأول ابتسامة مشجعة ، فنقول للآخر : ما رأيك يا فلان؟ على أن نختار فلانا الذي سيصل بنا إلى الصحيح فإن لم يعرف ، سننتقل إلى فلان ثالث ليعرف الصحيح ، ويكمل المدرس "القط " الأسئلة على هذه الوتيرة ، فيفهم الفأر الأول أنه أخطأ دون أن يقع في الحرج والإحباط .
    وبعد الأسئلة والتدريبات التمهيدية يأتي دور العمل .
    أسئلة للعمل:
    وتكليف الطلاب بالعمل ليس صعبا ، وليس بعيداً عن أسلوب الأسئلة ، فما هو إلا مجموعة من أسئلة جوابها أداء عملي كما يلي :
    هناك بدائل :
    كأن ترسم شيئا غامضا على اللوح وتسأل : ما هذا؟ (أو في دروس مواد أخرى يمكن أن تكتب اصطلاحاً جديدا أو ترسم جهازاً وتطلب منهم الاستنتاج أو معادلة يعرفون نصفها . . الخ ) .
    ثم تفتح من هنا سلاسل الأسئلة على النحو التالي ، كنموذج فقط :
    أقرا يا محمد
    اشرح أنت يا سلطان
    صحح يا علي
    هل توافق يا حسن ؟
    لمذا؟
    هيا يا عبد الرحمن اكتب ما قلنا .
    والآن إملاء . .
    طيب ننتقل إلى الجزء التالي . .
    اقرأ يا محمود ، وصحح له يا محسن . .
    هل ترك محسن خطأ ما يا علي؟
    ما هو؟
    هل هذا صحيح يا خالد؟
    خالد . . هل كنت منتبها؟ (مع ابتسامة معاتبة )
    أقرأ أنت الآن . .
    أعرب يا محمود هذه الكلمة .
    سالم . . هل درسنا شيئا يشبه هذا من قبل ؟
    جيد. . .
    والآن سأقرأ أنا مرة أخرى . .
    (يمكن استبدال تعليقات أخرى بهذا الأخير مثل : سألخص الموضوع الآن ثم في النهاية تسألونني أنتم . . )
    الواجب . . .
    لا تنس يا عبد الله أن تحضر دفترك غدا ، وأنت يا علي . . . (بنظرة عتاب ومحبة ) لن أقبلك غدا بدون واجب .
    أما زالت والدتك مريضة يا حسن ؟ أرجو أن تكون بخير . . . شفاها الله .
    دق الجرس.
    طبعاً هذا أحد نماذج الحصص الناجحة . . . هناك حصص كثيرة لم ينجح فيها العمل . .
    لكن "القطة " تستمر في المحاولة . . . وستستمر حتى تتحول إلى "معلمة حقيقية " .

    ( يتبع )

  7. #7
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    6
    مكالمتان عبر البحار
    أنا أحب الشعب الألباني حقاً ، أحب ذكاءه وحرارته ونشاطه ، هذه الصفات المميزة التي ربما تكون سبباً في صفاته الأخرى السلبية أو منبعاً لها ، الألبانيون غضوبون تسهل استثارتهم ، معتزون بالذات إلى درجة لا يمكن تجاهلها ، فكل منهم يظن نفسه إله الحرب الروماني القديم ، وهو ظن يتلاءم مع ملامحهم المميزة بعلامات الوجه الروماني الأصيل كما تصفها الكتب , وكأنهم سلالة صافية منعها انغلاق السنوات الطويلة والاعتزاز القومي العنيف من الاختلاط بغيرهم من الأجناس فبقيت ملامحهم كما ورثوها عن جدهم الأول " إلير" الذي عاش في قرون ما قبل الميلاد . كنت أتكلم مع أحل طلابي الألبانيين القدماء في مخابرة عبر البحار كما يطلقون عليها ، وسألته : أنت تتصل ببطاقة مغناطيسية ؟ قال : لا , لأن البطاقات التي تستعمل في ألبانيا تصنع في اليونان ولذلك تنفد بسرعة جدا , ثم عقب : الألبانيون لا يفعلون شيئاً , فقط ينجبون الأطفال . هكذا قال تلميذي القديم , الذي انتهى في عام ونصف من دراسته اللغة العربية معي , وأحرز مستوى متقدما جدا فيها , وبحث لمدة سنة ونصف عن منحة للدراسة الجامعية في جميع البلاد العربية ولم يجد بعد طول البحث لطلبه مجيبا . وقال لي : أنا لا أتخيل أنني سأدرس الإسلام أو لغته في بلد غير عربي , أنا لا أستطيع أk أتصور هذا , أنا سأستمر في البحث عن منحة دراسية , لن أيأس أبدا . فكرت : أنا يئست وكيف لم ييأس هو بعد؟ في الحقيقة , إنه يعيش الآن حياة أشبه بحياة اليائسين , رغم أنه يظن أنه لم ييأس . سألته : ماذا تفعل هذه الأيام ؟ كيف تقضي الوقت ؟ قال : أخرج , أجلس في المسجد الكبير في تيرانا , أبقى في البيت مع أمي ، أتجول مع صديقي الذي رجع من اليونان بسيارته ، وهكذا . . قلت : أعني هل تفعل أي شيء مفيد في حياتك غير هذا التجول ؟ ارتبك لعله تذكر بهذه النبرة صمت معلمته القديمة كانت تغضب في الفصل منذ سنوات وهي التي لم تكن تغضب عليه أبدا ، هو أفضل طلاب فصله , هو أفضل طالب صادفته في حياتها على الإطلاق , هو الذي لم يغب عن الدرس أبدا لمدة سنة ونصف ، ولم يتخلف عن إنجاز واجب أو عمل يطلب منه ، هو الذي كان يتقدم في اللغة بسرعة ومهارة أعجزتها عن فهم موهبته , فما أعدت له برنامجا إلا نجح في إتمامه قبل منتصف الزمن الذي أعدته له , هو الذي كانت تعطيه كتابا ليقرأه فيسهر طوال الليل يقرؤه , ثم يتصل صباحاً ليقول : كيف حالك يا أستاذتي؟ فتقول : الحمد لله , هل أنت بخير فيجيبها نعم , انتهيت منه . فتقول : من ماذا؟ تفاجأ : من الكتاب الذي أعطيتنيه أمس . بهذه السرعة ؟ بالتأكيد لم تستخرج الكلمات والتعبيرات الجديدة. إنها جاهزة يا أستاذتي , تريدين أن تريها اليوم؟ !
    أفهم من قولك أنك مستعد للامتحان في لغة هذا الكتاب ؟ نعم يا أستاذتي . متى ؟ ! الطالب المثالي عندما كان يتكلم عبر البحار بعد سنوات ، وقال : عمل مفيد . . سأفعل قلت : سـ . . سـ. . سـ . . هل أصبحت عربياً؟ قال بحرارة ومرارة : لا يا أستاذتي ، هل وعدتك بشيء من قبل ولم أنفذه ؟ سأقرأ , سأرجع للقراءة اليوم يا أستاذتي . هذا وعد , وعد رجل ألباني , سينقطع الخط الآن يا أستاذتي , كيف حال إلير هل هو بخير؟ هل ستدرسينه ؟ سينقطع الخط . . إلى اللقاء إلى اللقاء . إلى اللقاء يا بني العزيز . . تمتمت بهذا وأنا أضع السماعة , وأفكر : هل سيكون ثمة لقاء؟ وهل سيكون هو نفس الشخص نفسه الطالب المثالي الذي لم يخلف وعداً ولا موعداً؟ وهل ستبقي البطالة ويبقي الفراغ " والأمل المرجو قد خاب آمله " . . هل سيبقون منه شيئاً أكثر من الذكرى الجميلة كشواهد القبور؟
    خرجت من أفكاري بسرعة ، على صوت دقات جرس آخر ، ليس عبر البحار هذه المرة ، إنه إلير، قال إلير : متى سنذهب إلى المركز لتصل بصديقي في اليونان؟ قلت : هل قررت نهائياً يا إلير؟ تال : نعم يا أستاذة . لم تفكر يا إلير في كلامي الذي قلته لك أمس؟ عن الخوف ، عن رصاصة في ظهرك ، عن العيش لصاً هارباً طول حياتك ؟ أنا لن أسرق يا أستاذة لقد وعدتك وعد رجل ألباني ، لن أسرق ولن أشرب الخمر ولن أفعل الحرام ، فقط سأعمل في اليونان هناك يا أستاذة قلت لك ، هناك ثلاثون دولاراً في اليوم أي تسعة أضعاف راتبك في الشهر يا أستاذة ، أبي عجوز أنت تعرفين ، وفي أسرتنا شاب مريض أنت تعرفين يا أستاذة ، وإلى متى يمكن أن ننتظر الموافقة على دخول الجامعة هنا؟ ومتى سيأتي جواب الجامعة ؟ هذا أمل مستحيل ، قلت : ستنسى اللغة العربية يا إلير قال : سأقرأ القرآن ، سأكتب لك بعض الرسائل 0 قلت : من يعيش هارباً ، لا يجد وقتا للرسائل والقرآن يا بني . قال : أنا سأموت على أرض ألبانيا يا أستاذة ، لكن فقط سأعمل قليلاً في اليونان ، ليستريح أبي بعد ذلك . قلت : حسن يا إلير، نلتقي في الثامنة ، لنتصل في وقت المكالمات الرخيصة . وضعت السماعة . انتهت هذه المكالمة أيضاً .
    * * *

    عندما كانت هذه المذكرات تحت الطبع ، كان إلير يعيش في إحدى قرى اليونان ، ويعمل نادلا في مطعم أحيانا ، وعامل بناء أحيانا أخرى 0 وعندما تشدد الشرطة اليونانية نشاطها في ملاحقة العاملين بغير ترخيص يقبع في البيت لعدة أيام حتى تهدأ الحملات 0 وكان يتصل بين الحين والآخر، ليعفي نفسه من الوفاء بوعد الكتابة بالعربية إلى المدرسة للاطمئنان على أحواله كما هي عادة كثير من زملائه القدامى ، وهو حتى الآن يسأل في كل مكالمة ، ألا توجد فرص عمل جيدة في مصر، ألا يمكنني أن أحصل على منحة دراسية جديدة ؟ هل عودلت الشهادة الثانوية "بتاعنا" لنقبل في الجامعة ؟ إن إلير ما زال يسأل .


    ( يتبع )

  8. #8
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    7
    الماء والهواء
    وجدت بين صفحات مذكراتي القديمة هذه العبارة : " ماذا علمت طلابك أخبريني؟ إلى الآن لا يعرفون أنه لا توجد علاقة بين زال وما زال ، لا يعرفون حركات الفعل حرص ، لا يعرفون كثيرا من الأشياء . لماذا لم تقولي لهم إنهم أخفقوا وإنك أخفقت معهم ؟ هل عرفت أنك متخاذلة وحمقاء وتافهة أيضاً؟ هل عرفت الآن ؟ وأنك لا تختلفين عن إلير في شيء سوى أنه غير متخاذل ملك بل قوي وشجاع 0 وأنك لهذا السبب لم تستطيعي أن تعلميه شيئاً وربما لن تستطيعي . . " . لا أستطيع أن أتذكر متى كانت أول مرة خطرت ببالي هذه الملاحظة ، أنني لم أنجح حقا مع إلير ، وربما في أول مرة لاحظت أنه لا يتعلم المزيد ، هذه حالة تستحق تفكيرا طويلا ، لقد كنت دائما نادمة إزاءه وشاعرة بأن على أفعل شيئا لكي يمحى هذا الذنب . هل كنت حقاً مخفقة معه مذ البداية أم أنه هو الذي لا يتعلم ؟ أم أنه قد تعلم لفترة ثم لسبب ما توقف عن التعلم فجأة والى الآن لم يعرف أحد ما هو السبب ؟ ربما يكون الاحتمال الأخير هو الأرجح ، وربما أرجحه لأن الأول يلقي بالخطة كاملة علي وهو ما لا أحب أن يحدث لي 0 والآخر يعفيني منها تماما ويبدو نوعا من الهروب وهو ما لا أحب أن أفعله فيما يتعلق بمشكلات عملي . والحقيقة أنه إذا كان ينبغي أن نختار بين الأول والثاني فقط فإن الاحتمال الأول هو الأقرب لعدة أسباب : أولاً لأنه يوجد في هذا العالم مئات بل آلاف المدرسين الفاشلين ولماذا لا أكون أنا واحدة من هذه الأغلبية ؟ وثانياً : لأننا لم نسمع أو نقرأ أبداً عن حيوان لم يتعلم طريقة أمه في المشي أو الطيران إلا إذا كانت أرجله مكسورة ، والأرجل اللغوية لإلير ليست مكسورة بالتأكيد فالأرجح أن تكون معلمته لم تستطع لفت نظره إلى أن اللغة طريقة في المشي أو الطيران عبر هذا العالم . يمكن أن يفكر البعض هكذا : ولكن الحيوان يتعلم هذه الأشياء بغريزته هذا صحيح 0 والإنسان أيضاً يتعلم اللغة بغريزته . الفرق فقط إن الإنسان يفكر ويطمح فيهتم بأشياء أخرى غير ما تقوى عليه غرائزه أعني ما يقوى عليه بفطرته ، وما يحتاج إليه حاجة الطير للطيران ، فتبقى غرائزه وقدراته الفطرية مهملة جداً حتى تكسل وتصدأ كأي قطعة حديد ملقاة في العراء لنوات طويلة . ولهذا إذن خلق الله المدرسين ، أعني ليجتذبوا انتباه الأولاد ، وليعلموهم بطريقة خفية أن ثمة أشياء أخرى مهمة في حياة الإنسان لأن الإنسان لن يستطيع الطيران دونها ، وليحافظوا على انتباه الأولاد إلى هذه الأشياء لسنوات طويلة ، ويكشفوا لهم دائما أنهم يستطيعون أن يتعلموا بعض الأشياء التي تبدو غير قابلة للتعلم كاللغة والرياضات ، لأنهم بغريزتهم وفطرتهم مهيؤون لتعلمها . ربما هذا هو السبب أيضاً في وجود ألاف المدرسين الفاشلين في هذا العالم ربما لأنهم هم أيضاً لم يعرفوا السبب وراء وجودهم ، أعني لم يعرفوا حقيقة وظيفتهم التي من أجلها جاءوا إلى هذه الدنيا ، وربما يكون بعضهم قل قرأها ذات مرة في كتاب ما لكنه لم يعرف ما العلاقة بين هذه الكلمات المكتوبة وبين السبورة الخضراء ، وإصبع الطباشير، والستين رأسا المكومة أمامه في حجرة فصل ضيقة كئيبة , أو ربما لم يعرفوا العلاقة بين الكلمات المكتوبة وبين الرياضيات أو الجغرافية أو اللغة أو الرسم أو الألعاب الرياضية أو حتى الدين والعلوم . ولهذا السبب لم يستطع هؤلاء المدرسون أن يشرحوا للأولاد معنى العمل الذي من أجله وجودوا وإياهم في الغرفات الضيقة المسماة فصولا ، ولذلك لم يفهم الأولاد بدورهم أيضاً هذه الاجتماعات ذات الخمس وأربعين دقيقة المتكررة على مدى سنوات طويلة مملة 0 فلم يتمكنوا من معاونة المدرسين المساكين في أداء عملهم . وربما حاول بعضهم كما كنت أفعل أحياناً_ أن يشرح هذا العمل للأولاد فقال شيئا من قبيل " أرجوكم أن تساعدوني لكي أعلمكم ، فالعلم مهم جدا كالماء والهواء ، ليتكم تحبون الدروس كما تحبون الأغاني والكاراتيه وحلوى الحفلات " . لكن الأولاد_رغم الإخلاص ألشديد الذي قدم إليهم به هذا الرجاء _ لم يعاونوه ، وهو يظن أنهم أشرار رافضون للتعلم ، وجاهلون بقيمة ما بين أيديهم من نعمة المعلم . وكل ما في الأمر أنهم كانوا ينظرون إليه على أنه أبله أو غامض أو محروم من متع الحياة ؛ كيف يقارن هذه الدروس الرتيبة المملة عن الفاعل والمفعول وصياغة الجمل المختلفة ، بالأوقات الممتعة التي يشعرون فيها بأجمل المشاعر عندما تطرب قلوبهم للأغنيات ، ويتلذذون بنشوة الغرور عندما يلمسون قوة أجسادهم وقدرتهم على جذب الآخرين أيضاً ، بل وعندما يعودون إلى بيوتهم منتفشين نافشين عضلاتهم داخل قمصانهم الضيقة فتنظر إليهم أمهاتهم منبهرة كل منهن بطفلها الذي أصبح رجلا قويا مهيبا ، فأين نظرات الأمهات المبهورة هذه من نظرات مدرسيهم الجافة اليائسة الخالية من كل شعور أو إلهام ؟ ! وأين وجه المقارنة حقا بين الدقائق المرة في غرفة الدرس وبين الحلوى اللذيذة التي يلتهمونها في الحفلات الموسيقية مع أصدقائهم يضحكون ويتضاحكون بينما أساتذتهم في الغرفات الكئيبة المسماة فصولا يمنعون الضحك والتكلم منعاً باتا كأنهما جريمتا خيانة عظمى . . وهكذا لم يكن مصير أي مدرس ظن مثلي أنه يعرف معنى وجوده في الفصل مختلفاً عن مصير أخيه المسكين الذي لم يعرف أبداً معنى هذا الوجود الإجباري الثقيل. ربما يشعر إلير بأنني مدرسة بلهاء التي تربط بين أشياء لا علاقة بينها ( التعلم ، و الماء والهواء ، ومتع الحياة ) أو ربما أنا لم أشرح له أبدا أن التعلم مهم كالماء والهواء . . لا أدري . . ربما يوجد سبب آخر . . سأفكر في هذا الأمر فيما بعد . .


    ( يتبع )

  9. #9
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    8
    البحث عن طريق
    ا - أول امتحان
    خرجت من الفصل بعد أن علقت على لوح الإعلانات نتيجة تخرج الطلاب ***** ضميري كان يعذبني ***** ويخنقني بأذرع عنيفة كإخطبوط هائل . قررت أن أعذب نفسي ***** وبدأت هكذا : "كذبت على الطلاب اليوم ***** هل أعطيتهم درجاتهم الحقيقية ***** لا تنكري أنك أخفيت الحقيقة عنك وعنهم وأنك قست قياسا خاطئا ثم قياسا غير دقيق ثم كتبت على لوحة الإعلانات نتائج تعبر عن الفروق بينهم ولا تعبر عنهم . . وجدت نفسي ثائرة ومتحاملة عليها ***** على نفسي***** وقررت بعد ليلة نوم عميق أن أفكر في الأمر بموضوعية . . فبدأت هكذا . . " لا بأس بإضافة أخرى إلى مجموعة التجارب الفاشلة . . ثم وجدت أن هذه البداية لا تبشر باستمرار التفكير الموضوعي 0 وقررت أن أبدأ مرة أخرى بموضوعية أخرى . . فبدأت هكذا . . " لا بأس ***** هذا خطأ آخر ستستفيدين منه بالتأكيد كما تستفيدين من كل الأخطاء ثم وجدت أن لفظة " كل " تخرجني من الموضوعية ***** في أنا لم أستفد في الحقيقة من كل أخطائي ليس لأنها أخطاء غير مفيدة ***** فلا توجد أخطاء غير مفيدة ***** لكن السبب على ما أظن هو أنني لست شخصية استثمارية ***** وهذه محاولة أخرى متظاهرة بالموضوعية لتبرئتي من عدم الاستفادة من أخطائي ؟ طبيعتي هكذا ***** ماذا أفعل ! !. الحقيقة هي أنني كسلانة وخوافة . أحياناً أكسل عن الاستمرار في متابعة نفسي ***** متابعة تجاربي ومتابعة معدلات تطوري ***** وأحياناً أخاف أصلاً من تحليل التجربة لئلا أفجع بمواجهتي درجة فداحة الخطأ ***** فأختصر الطريق وأرفع قدمي هكذا . . ثم قدمي الأخرى أعبر التجربة ***** وأنساها . . أنساها تماماً لأنني كثيرة النسيان كالعجوز***** وهكذا أقول لطلابي لكي يذكروني بكل ما يجب على عمله لأدربهم على أن يكونوا معلمين حقيقيين وفي الحقيقة ***** أعني عمق الحقيقة أنا أكسل أن أكتب بعض الأشياء لئلا أنساها ***** أو أكتبها وأنسى أن آخذ القصاصات معي في الصباح وأنا ذاهبة إلي الفصل ***** أو أنسى أين وضعت القصاصات . فأنا كسلانة وخوافة وكثيرة النسيان . في الحقيقة ربما يجب على أن أجد طريقة أكون بها موضوعية ***** لأنني أعرف أن ذاكرتي الضعيفة لن تسعفني هذه المرة بنسيان التجربة ***** فليس في المتسع أن تنسى خطأ في موقف ستتعرض له مرة أخرى . . ودائماً ***** كل أسبوعين ***** طالما أنت متمسك بوظيفتك هذه .
    * * *
    لنا في مدرستنا الناشئة مديرة صارمة . وهي قررت أن يكون نظام الامتحانات الدورية ثابتاً ***** مرة كل أسبوعين ***** وهذا مطبق في جميع الدورات وفي جميع أنوع الدروس . ونحن لا نستطيع أن نناقشها لأنها قوية جداً ***** ولها عينان خضراوان مؤثرتان ***** إذا نظرت إليهما لم تستطع أبداً أن ترفض أوامرها ***** فهي مخيفة القوة والوضوح والتحديد . ولأننا مازلنا في طور النشوء ***** ومازلنا نبحث عن صيغة نهائية ***** ولأن مديرتنا القوية تؤمن بالحرية ***** لكل ذلك ***** مازال من حق المدرس أن يختار طريقة الامتحان وموضوعاته ***** وطريقة توزيع الدرجات ***** وكذلك الدرجات المعلنة في النهاية ***** لا أدري هل يسمون هذا في التربية بقياس النتائج أم التقويم أم بكليهما معاً . المهم أنني كنت ***** أعني مازلت ***** حرة تماماً في تقوم طلابي وإعلان نتائجهم ***** لكن هذه ليست أول تجربة في التقويم . أعرف جيداً أك التقويم له فوائد عديدة ***** وله أنوع كذلك ***** وكنت أشكو عندما كنت طالبة بالجامعة ***** أن التقويم غير متكرر*****وغير صادق ***** وأن النتائج لا تعلن وأن توزيع الدرجات لا يقيس مهارات الطالب ***** وأن المعيار غير ثابت . عندما أصبحت في هذا الموقف الصعب . . أعني معلمة 0 صار على أن أجرب هذه الأفكار التي حملتها لأربع سوات الدراسة الجامعية .
    * * *
    أولى تجاربي في التقويم وقياس التطور كانت في فصل المحادثة ***** استعملت فكرة واحدة فقط من أفكاري المثالية ***** ولشدة صعوبة التجربة ***** لم يكن بعد امتحان المستوى سوى امتحان واحد وهو امتحان التخرج . الفكرة الواحدة كانت (مستمدة من أمي طبعاً) : تحديد أمور معينة يريد الامتحان قياسها أو بعبارة تربوية : هدف الامتحان قياس مهارات محددة . كانت المحادثة تتكون من : الطلاقة = السرعة + الصحة ***** هكذا فكرت في ذلك الوقت . والصحة : صوتيا+ حرفيا + نحويا ولذلك كتبت في الورقة أسماء الطلاب وتحت اسم كل منهم النقاط الآتية : الأصوات ( النطق الصحيح ) : النحو(تركيب الجملة ) : الصرف ( بناء الكلمة ) : السرعة (عدم التردد والثأثأة ) : التوصيل (القدرة على إفهام المستمع) : وعندما بدأ الطلاب يتكلمون أمامي ***** متفادين النظر إلى تعبيرات وجهي الجادة الواثقة ***** (كأنني أفهم تماما ما يحدث ) ***** بدأت أكتشف أن هذه النقاط غير كافية ***** أو أنها أحياناً غير دالة وأن بعضها يتكون من عناصر أخرى ***** أو أن انطباعي العام عن مستوى كل منهم في النهاية يختلف عن مجموع درجاتهم في هذه الأمور***** ناهيك عن إشكال تحديد عدد الدرجات (من خمسة أو من مائة ) التي يستحقها الطالب . فهناك المسافة بين 65% و75% وهى أصعب مسافة ***** أين هو منها؟ وهناك ما بين 92*****98***** وما بين 80%***** 88%***** كل هذه مسافات لم أختبرها حتى اليوم ***** ولم أستطع التحقق من الفروق الدقيقة بينها إلا بعد سنوات ***** وبطرق تقويم غير هذه الطريقة الساذجة التي بدت لي يومذاك الوحيدة والأفضل . أما بالنسبة لامتحان المحادثة المذكور فقد انتهى الأمر بكتابة تقدير عام (يعبر عن انطباعي) لكل من الطلاب ***** ووضع ورقة الأسماء والنقاط في درجي ***** مضافا إليها بعض التعديلات غير الثابتة لدى كل منهم ***** فبعضهم لا تجد أمام اسمه نقطة للنحو***** وبعضهم تجد التوصيل مقسما إلى الوضوح الصوتي+ وضوح التركيب وبعضهم الآخر غير مقسم . . النتيجة النهائية هي أنني كنت انطباعية ***** لا فرق بيني وبين كل أساتذة الجامعة الذين شكوت منهم وأنا طالبة قولهم : أنا أعطي درجة بعد نظرة واحدة ألقيها على الورقة. ولعلهم أيضاً كانوا يقولون كما قلت في ذلك الوقت : لا تخافي ألا تكوني عادلة ***** فانطباعك هذا بالتأكيد ليس منفصلا عن مراقبة تلك التفاصيل و إلا من أين جاءت التفاصيل أليس من عقلك أيضاً . . لا تخافي ***** انطباعك لا يخلو من أن يكون علميا ***** لا تخافي أنت لم تظلميهم . لكنني رغم ذاكرتي الضعيفة ***** ورغم أن الطلاب الأوائل هؤلاء قد استفادوا حقا من دورة المحادثة وتقدموا وصاروا يتكلمون العربية بأفضل مما كانوا قبل الدورة ***** رغم كل هذا ***** لم أستطع أن أنسى كيف كنت عاجزة عن إجراء قياس دقيق لمستوى الطلاب ومازالت أذرع الإخطبوط تلتف حولي ***** تضيق على وتريد أن تجبرني على مواصلة البحث عن طريق .


    ( يتبع )

  10. #10
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    9
    البحث عن طريق
    2- أحد عشر سؤالا
    التجارب التي تلت ذلك في القياس لم تكن بنفس درجة الإخفاق ، لكنها لم تكن ناجحة هي الأخرى ، واستعملت فيها بعض الأفكار المثالية الأخرى ، مثلا في التجربة الثانية قررت الاستفادة من أخطاء التجربة الأولى ، وفكرت هكذا : أولا : بجب تحديد الدرجة النهائية من البداية0هل هي 5 أم : 20أم : 100. ثانياً : يجب أن أفكر قبل دخول غرفة الامتحان ، ما هي الأشياء التي أريد قياسها . ثالثاً : يجب أن يقيس هذا الامتحان هذه الأشياء . رابعاً : إذا تبينت خلال الامتحان نقاطا أخرى أريد قياسها، أقيدها في قصاصة وأستفيد منها في الامتحان التالي وليس في هذا الامتحان نفسه ، (هذا ليتحقق عنصر الثبات في المقياس أعني أن تكون وجهة نظر المعلمة ثابتة لا مذبذبة ). ومن هنا تعلمت أنه ، ليس بالضرورة أن تكون المعلمة مذبذبة لأن شخصيتها مذبذبة ومارست الفصل بين الشخصيتين طويلاً بعد ذلك . ربما ساعدني على أن تكون هذه التجربة الثانية أقل إخفاقا من الأولي ، أن الدورة لم تكن دورة محادثة ، كنت قد درّست أشياء يمكن وضع اليد عليها ( إدراكها بالحواس ) واختيار الأهم من بينها ليدخل في الامتحان ، واستعنت بفكرة مثالية أخرى : اجعلي الأسئلة في أشياء يمكن قياسها. أي يمكن إدراك الصواب والخطأ فيها . وفكرة مثالية أخيرة : كل سؤال بتضمن نقطه واحدة. كل سؤال عليه درجة واحدة. معالم التجربة كانت أكثر وضوحا في ذهني تلك المرة ، وكل شيء كان يبشر بنجاحها ، لذلك كتبت أسئلة الامتحان مقتفية أثر القواعد أو الأفكار المثالية بدقة وكان الآتي :
    )) أمام الصحيح (" ضع علامة ( أمام الخطأ ثم اكتب تصحيحه" .
    هنا فكرة مثالية أخرى ، نص السؤال يجب أن يكون واضحا ودقيقا وليس فيه احتمالات تؤدى لأن يفهم كل طالب فهما مغايرا للآخر .
    تحت هذا النص ( الواضح الدقيق الخالي من الاحتمال ) ، كتبت جملا عشرة (لكي يسهل على الحساب ) وتتضمن الجمل العشرة أخطاء لغوية ، درّست الطلاب صحيحها ، فيفترض فيهم أن يدركوا خطأها . والآن، ستكون الدرجات عشرين ، درجة على تمييز الصواب من الخطأ ودرجة على معرفة الصحيح ، فأما الجمل التي ليس فيها خطأ فيحصل الطالب فيها على درجتين كاملتين
    أظن أن التجربة ستنجح هذه المرة . لكن الحقيقة أنني رغم أفكاري المثالية وأحلامي في تطبيقها نسيت شيئا مهما جداً اكتشفته عند تصحيح الامتحان : ا _ أنني جعلت الامتحان من " جملة بدلاً من 10 ، سهواً فقط . 2- أن بعض الجمل يتضمن أكثر من خطأ . 3_ أن هناك أخطاء غير مقصودة اكتشفها الطلاب كأخطاء مطبعية نسيان نقطة أو نقطتين ، أو عدم وضوح التشكيل ضمة مطموسة الرأس بدت فتحه ، وقد صححها الطلاب ومن حقهم أن يأخذوا درجات عليها . وهكذا . . . وقفت أمام المرآة أنا وورقة امتحاني لأرى مرة أخرى أساتذتي وامتحاناتي الذين شكوت منهم طويلاً . . عندما كنت في موقع الطالبة . وها هو قياس غير دقيق آخر يضاف إلى مجموعة تجاربي غير الناجحة في الحياة والتعليم ، وكأنني أحرص على اقتنائها بلهف جامعي الطوابع النادرة .


    ( يتبع )

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. 000 برزخ معلمة 000
    بواسطة ماجد سليمان في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 22-04-2019, 10:21 AM
  2. معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية
    بواسطة عبد الرحيم بيوم في المنتدى المَكْتَبَةُ الدِّينِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 18-05-2013, 09:49 PM
  3. نصيحة معلمة
    بواسطة إيمان رمزي بدران في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 20-12-2009, 07:25 PM
  4. رسالة حب من معلم رياضيات إلى معلمة رياضيات
    بواسطة عطية العمري في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 18-04-2009, 10:34 AM
  5. مقتل معلمة في غزة
    بواسطة أم محمد العمري في المنتدى الإِعْلامُ والتَّعلِيمُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12-12-2004, 06:10 PM