أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: بابا..من بقايا الفصاح على ألسنة الأطفال

  1. #1
    مستشار الرابطة الأدبي
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 16
    المواضيع : 5
    الردود : 16
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي بابا..من بقايا الفصاح على ألسنة الأطفال

    الشاعر الأميري...وكلمة " بابا "
    بقلم: د. محمد حسان الطيان*


    للشاعر الأميري – عمر بهاء الدين(1916-1992م) – ولعٌ خاص بكلمة " بابا " ولا غروَ فهو شاعر الإنسانية المؤمنة, بل هو شاعر الأبوة الحانية في أدبنا العربي الحديث, فقد استبدَّت به هذه العاطفة, أعني عاطفة الأبوة, فأعطاها مالم يعطه شاعر آخر فيما نعلم, حتى لقد خصَّها بديوان أطلق عليه اسم " أب " نفَحَهُ بكل ما حباهُ المولى سبحانه من حنوِّ الأبوة, ورحمة الأبوة, وعطف الأبوة, وشفقة الأبوة, ومسؤولية الأبوة, وأمانة الأبوة, وتربية الأبوة, وجمال الأبوة, وجلال الأبوة...إلى غير ذلك مما تختصُّ به الأبوة, وما أكثرَ ما تشتمل عليه كلمة الأبوة من معان ! وما أروع ما تشتمل عليه كلمة الأبوة من عواطف ! ولله در شوقي إذ قال مشبها رسول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم بالأب والأم:

    وإذا رحمتَ فأنتَ أمٌّ أو أبٌ
    هذان في الدنيا هما الرحَماءُ


    ولما كان الأمر كذلك عند شاعرنا الأميري كثرت في معجمه اللفظي الكلمات المعبرة عن الأبوة, من مثل قوله:

    وأنا أب في أضلعي مِزَعٌ
    تسعٌ من الأطفال تهتف بي
    هل في حنان الناس منزلةٌ
    أسنى وأرفع من حنان أبِ


    وقوله:

    يـا فـتـيـةً آذَوا أبـاً
    أفـنى بـبرِّ بنيه عمرَهْ
    وأبوكــمُ ما بينكــم
    ضيفٌ وفيمن مات عبرَهْ


    بل لقد تعدى ذلك إلى تلك الكلمة الدائرة على لسان كل طفل حين ينادي أباه, أو حين يحكي عن أبيه, أو حين يدعوه أبوه. إنها كلمة " بابا " التي تصلح عنوانا لرائعته ودرة ديوانه (قصيدة أب) التي يقول فيها مصورا فراق بنيه بعد أن ملؤوا عليه دنياه لعبا.. وشغبا.. وحبا.. وطربا:

    أيــن الـضـجـيج الـعـذبُ والـشـغبُ؟
    أيـــن الـتـدارسُ شــابـَـهُ اللــعـبُ ؟
    أيــن الـطـفـولــةُ فــي تـوقُّـدِهـا؟
    أيــن الــدُّمــى فـي الأرضِ والـكُـتُـبُ ؟
    أيــن الـتـشاكُــسُ دونَـمــا غَــرَضٍ ؟
    أيــن التـشـاكــي مــا لــهُ سَـبَـبُ ؟
    أيــن التـباكـي والـتضـاحُــكُ، فـــي
    وَقْــتٍ مـعــاً ، والـحُــزنُ والـطَـرَبُ ؟
    أيــن الـتسـابُــقُ فــي مُـجـاورَتــي
    شَـغَـفَـاً ، إذا أكــلوا وإنْ شـــربـــوا ؟
    يَـتَـزاحـمـونَ عــلـى مُــجالـسـتِـي
    والــقُــربِ مِـنِّـي حـيـثُـمـا انـقَلَـبوا
    يتوَجَّــهــونَ بـسَــوقِ فِــطْـرتِــهم
    نَـحْــوي إذا رَهــبـوا وإن رَغـــبــوا
    فـنـشـيدُهُــم "بــابـا" إذا فَــرحــوا
    ووعـيـدُهُـم "بــابــا" إذا غَــضِـبــوا
    وهـتـافُـهُـم "بــابــا" إذا ابـتَـعــدُوا
    ونَـجِـيُّهُـم "بــابــا" إذا اقــتَــرَبُـوا
    بــالأمــس كـانـوا مِـلءَ مـنـزِلِـنــا
    وكـأنَّمــا الـصـمـتُ الـذي هَـبَـطـتْ
    أثقـالُــه فــي الــدارِ إذ غَــرَبُــــوا
    إغــفــاءةُ المَـحْــمُـومِ هَــدْأتُـهــا
    فـيهـا يَـشيــعُ الهَـــمُّ والـتَّــعَــبُ
    ذهَـبُـوا، أجَـلْ ذهـبـوا ، ومَـسْـكـنُـهم
    فــي الـقَـلـبِ، مـا شطُّـوا ومـا قَـرُبـوا
    إنــي أراهــم أينمــا الــتــفــتـتْ
    نــفـسي وقـد سـكـنـوا ، وقـد وثـبـوا
    وأحِـسُّ فـي خَــلَـدي تــلاعُـبَــهُـمْ
    فــي الــدَّار ، ليـس ينـالـهمْ نَــصَــب
    وبَـريـقَ أعـيُـنِـهــم ، إذا ظَــفِــروا
    ودُمـــوعَ حُــرقـتِـهـم إذا غُلِــبــوا
    فــي كــلِّ رُكـــنٍ مِـنـهُــمُ أثَــرٌ
    وبـكـلِّ زاويــةٍ لَــهُــم صَــخَــبُ
    فـــي الـنـافِــذات ، زجاجَها حَـطمـوا
    فـي الحـائِـط المَــدْهـونِ ، قـد ثَـقَـبُـوا
    فـــي الـبـابِ، قـد كـسـروا مَزَالجَـهُ ،
    وعلـيـه قــد رَسَـمُـوا وقــد كـتَـبُـوا
    فــــي الـصـحـنِ فـيه بـعضُ ما أكلُوا
    فــي عُـلـبـةِ الـحـلـوى الـتـي نَـهبُوا
    فــــي الـشَـطـرِ مِــن تُفاحـة قضموا
    فــي فَـضـلـة الـمَـاءِ الـتـي سَـكَـبُوا
    إنــي أراهُــمْ حَـيـثُـمـا اتـجَـهَــتْ
    عـيـنـي كـأسـرَاب الـقَـطَـا سَـرَبــوا
    بــالأمْـسِ فـــي "قـرنـايـلٍٍ" نَـزَلُـوا
    والــيـوم قــد ضـمَّـتْـهــمُ "حَـلَـبُ"
    دمْـعــي الــذي كـتَّـمْـتُـهُ جَــلَـدَاً
    لــمَّـا تـبـاكَـوا عـنـدمـــا ركِـبـوا
    حــتَّـــى إذا سـارُوا وقـد نَــزَعُــوا
    مـن أضـلُـعـي قـلباً بِـهـــمْ يَـجِــبُ
    ألـفَـيـتُـنـي كـالـطِــفْــل عـاطِفَـةً
    فإذا بِـه كالــغــيــثِ يـنـســكِـبُ
    قـد يَــعـجَـبُ الــعُـذَّال مــن رجُـلٍ
    يَـبْـكـي، ولــو لــم أبــكِ فـالعَـجَبُ
    هَــيـهْــاتَ مـا كـلُّ الــبُـكـا خَـوَرٌ
    إنِّي وَبِـــي عَـــزْمُ الـــرجــالِ ، أبُ


    ولا يكاد قارئ للشعر, أو مستمع له, أو مستمتع به, أو متذوق لمعانيه, أو مفتون بمبانيه, ينكر على شاعرنا استعماله لهذه الكلمة, وتكراره لها,على نحو ما قرأتَ..وسمعتَ.. وتذوقتَ.. وفُتِنتَ! كيف لا وقد طار ذكر هذه القصيدة في الآفاق, ونالت من الشهرة والذيوع والانتشار ما جعل صاحبها نفسه يعجب من ذلك, حتى سماها ( القصيدة المحظوظة )! بل لقد أعجب بها عملاق الأدب والنقد عباس محمود العقاد, على قلة ما يعجبه من شعر المعاصرين, وعدَّها من عيون الشعر الإنساني, وقال عنها في ندوة من ندوات منزله في مصر الجديدة في رمضان 1381هـ:" لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته..! " .وترجمت إلى اللغة الفرنسية وقورنت بقصائد فيكتور هوغو في الأطفال, وعرضت في برامج تلفازية خاصة, ونشرت في الكثير من المجلات والكتب المدرسية.وكانت هذه القصيدة الدافع لإخراج الشاعر الأميري ديوان " أب ".
    ومع ذلك فقد أنكر قوم على شاعرنا استعماله كلمة " بابا "في هذه القصيدة, وذهبوا في ذلك كل مذهب.
    إذ كيف يجوز لفصيح مثله أن يستعمل كلمة عامية؟؟
    بل كيف يجوز لبليغ مثله أن يرطَنَ بكلمة أعجمية؟؟
    بل كيف يجوز لشاعر كبير مثله أن يناغي بكلمة طفولية؟؟
    وكان من سوالف الأقضية أني حضرت حفلا بهيجاً .. ضمَّ ثلَّةً من العلماء والأعيان والأفاضل , وتقاطَرَ فيه الخطباء يتحفوننا بأفانينَ من القول والوعظ والإرشاد , وكان منهم خطيب فاضل أديب استهلَّ كلمته ـ وما أحسن ما استهلها ـ بقصيدة الأميري هذه, وما إن وصل الخطيب إلى كلمة بابا في القصيدة حتى همس لي صاحبي بالجَنْبِ في أذني يسأل مستنكراً : أليست كلمة بابا أعجمية ؟ فأشرت إليه أن لا , وتابعت الاستماع مستمتعاً بالقصيدة والخطبة , ثم بدا لي أن أنبِّه على أصالة هذه الكلمة في العربية فقمت شِبْهَ خطيب, وعلّقت على الأستاذ الأديب, مبيناً أن كلمة بابا عربية الأصل كريمة النِّجار والمَحْتِد مستدلاً بما جاء في المعاجم العربية من أنه: ( بأبأ الصبيُّ إذا قال بابا ) . وكثر الهمس والتعليق , وتعدّى صاحبي بالجَنب إلى أصيحابٍ جُنُبٍ, بل إلى أساتذة أجلاء, ما كانوا ليوافقوني على ما ذهبت إليه بعد أن أتى عليهم حين من الدهر يسمعون هذه الكلمة تتردد على ألسنة أعجمية أو ترطَن بها ألسنة عامية لا عهد لها بالفصحى وأهلها .
    وأدركت لتوّي أن ما سقته من حديث المعاجم في تلك العجالة لم يُجْدِ عندهم نفعاً, ولم يجِدْ لديهم مقنعا,ً في أصل كلمة غَبَر على الناس زمان يعتقدون فيه أنها أعجمية تسرّبت إلينا من اللغة الفرنسية ( Papa ) أو من غيرها, بل لقد نادى بعض الخواصّ بإلغاء تعليمها لأطفالنا في مراحل تعليمهم الأولى لما تحمله من أوضار العجمة !
    وإن تعجَبْ فعجَبٌ أمرُ مَن يُنكرُ وجود هذه الكلمة في المعاجم العربية , ثم حين يتبدّى له على وجه اليقين أنها موجودة يُعجزه استخراجُها , لأنه لا يعلم من أي باب تخرج أوتحت أيِّ أصلٍ تندرج ! . مع أن الأمر في غاية السهولة واليسر , ولو أنه فتح الجزء الأول من معجم اللسان لقرأ في صفحاته الأولى ( مادة بأبأ ) الكلامَ التالي :
    ( ... وبأبأتُهُ أيضاً , وبأبأتُ بِهِ قلت له : بابا . وقالوا : بأبأ الصبيَّ أبوه إذا قال له : بابا . وبأبأه الصبيُّ إذا قال له بابا . وقال الفرّاء : بأبأتُ بالصبيِّ بِئْباءً إذا قلت له : بِأَبي . قال ابن جني : سألت أبا عليّ فقلتُ له : بأبأتُ الصبيَّ بأبأةً إذا قلت له بابا , فما مثالُ البأبأةِ عندك الآن ؟ ... ) [ لسان العرب ( بأبأ ) ] .
    وتكاد معاجمنا العربية القديمة والحديثة تجمع على هذا الذي نقله صاحب اللسان , فقد أورد المادة بهذا المعنى كلٌّ من الفيروزآبادي في قاموسه والزبيدي في تاجه , كما جاءت في معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا والمعجم الوسيط [ انظر مادة ( بأبأ ) في القاموس المحيط , وتاج العروس , ومتن اللغة , والمعجم الوسيط ] .
    ولو ذهب الباحث ينقِّرُ في كتب اللغة وعلومها لظفر بكثرةٍ كاثرة من النصوص تثبت هذه اللفظة بمعناها الذي تعارف عليه الناس اليوم , فقد جاء في نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري ( 119 ـ 215 هـ وهو المعنيُّ بقول سيبويه في الكتاب : حدثني الثقة ):
    ( قال العنبريّون بأبأ الصبيُّ أباه , وبأبأه أبوه : إذا قال له : يا بابا , ومأمأ الصبيُّ أمه فهو يُمأمئُها ويبأبئُ أباه بأبأةً ومأمأةً . ويقال : دأدأتُ الصبيَّ دأدأةً إذا سكتُّه تسكيتاً ) . [ نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري ص 254 ] .
    وجاء في رسالة الاشتقاق لابن السرّاج ( 316 هـ) :
    ( ومنه أن تجيءَ اللفظة يُرادُ بها الحكاية , فهذا الضرب لا يجوز أن يكون مشتقًّا , وذلك نحو : بأبأ الصبيَّ إذا قال له : يا بابا , وكذلك غاقِ وما أشبهه ) [ رسالة الاشتقاق لابن السراج ص 31 ] .
    وفي كتاب الأفعال للسرقسطي ( توفي بعد المئة الرابعة للهجرة ):
    ( بأبأ : قال أبو عثمان : قال أبو زيد : بأبأ الصبيُّ أباه وبأبأه أبوه : إذا قال له : بابا ) [ كتاب الأفعال للسرقسطي : 4/133 ] .
    ولا أخفي على القارئ الكريم أن هذه النقول والنصوص , على كثرتها وتنوّعِها وقطعيةِ دلالاتها , لم تكن لتشفي غلّة الباحث الصدي , فقد أنكر عليَّ بعض الفضلاء كلَّ ما سقته من هذه النقول, وطالبوني بنصٍّ عربي قديم وردت فيه لفظة بابا على نحو صريح لا لبسَ فيه ولا مظنة تحريف أو تصحيف , وأغراني البحث فرحت أنقِّبُ وأنقِّرُ في المعاجم الأمات وموسوعات النحو والصرف واللغة .
    ولكن هيهات ! لقد كنت كمن يعمل في غير مَعِمَل , أو ينفخُ في غير فحم , فما في هذه الكتب , على سَعتها وبسط الكلام فيها , شاهدٌ واحد على ما أنا بسبيله .
    وربَّ رميةٍ من غير رام , فقد عثرت على ضالّتي خلال مطالعة عرضت لي في كتاب عبقرية اللغة العربية للدكتور عمر فروخ , وكانت أبياتاً رقيقة للشاعر العربي الغَزِل العباس بن الأحنف ( 192هـ ) جاء فيها :

    وكانتْ جارةً للحُو
    رِ في الفردوس أحقابا
    /
    فأمسَتْ وهْيَ في الدنيا
    /
    لها لُعَبٌ مصفَّفَةٌ
    /
    تنادي كلّما رِيعت


    [ جاءت في الأصل : ( من العزة ) انظر عبقرية اللغة العربية ص 219 . والتصحيح من ديوان العباس بن الأحنف طبعة دار الكتب المصرية شرح وتحقيق عاتكة الخزرجي حيث وردت القصيدة ص 16 ـ 18 ] .
    وما كان أشدَّ فرحي بأبيات ابن الأحنف هذه, لقد تأبَّطتها وانطلقت إلى شيخ العربية في بلاد الشام الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله, ولما التأم المجلس سألته عن كلمة بابا وأصالتها في العربية, فبادر الأستاذ يوسف الصيداوي _ وكان من رواد المجلس عليه رحمة الله _ إلى إثبات عربيتها وتوثيقها محتجا بذكر الجاحظ لها في البيان والتبيين, غير أن الأستاذ الأفغاني عقب بأن الجاحظ ليس بحجة*, عند ذلك أنشدته أبيات ابن الأحنف هذه, ونسبتها إلى صاحبها العباس بن الأحنف, فقال الأستاذ سعيد الأفغاني: أما هذا فنعم!
    ومع كل هذا الذي قدمت فلستُ أزعم أن هذه اللفظة جذر عربيّ خِصب أو مادة عربية قابلة للاشتقاق و التوليد , وإنما هي اسم من أسماء الأصوات يُروى على سبيل الحكاية . وأسماء الأصوات , كما هو معلوم , جانب من جوانب اللغة تشترك فيه مع غيرها من اللغات , بل لقد عده بعض اللسانيين ـ في علم اللسانيات الحديث والقديم ـ أصل اللغة الإنسانية , منه استمدت ألفاظها , وعن محاكاة الأصوات الطبيعية كدويِّ الريح وخرير المياه نشأت كلماتها . وهي إحدى النظريات المشهورة في نشأة اللغات , وبها أخذ ابن جني في بعض أقواله [ انظر الخصائص 1/46 ـ 47] واللغوي الألماني هردر كما جاء في المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي للدكتور رمضان عبد التواب ص 112 . كما أخذ بها من المتأخرين آدم سميث ( متن اللغة /18 ) .
    دع ذا وتدبَّر معي بنية لفظة بابا تجدها تعتمد على حرف الباء , وهو حرف شفوي سهل النطق طيّع المخرج , ولذا سارع الطفل إلى ترديده والمَذْلِ به , فكان أول الحروف تردداً بين شفتيه وكذا حرف الميم , وقد علَّل علماء الصوت ذلك بأن الطفل يرى حركة الشفتين حين يسمع هذه الأصوات من أمه أو أبيه , في حين ذهب الدكتور إبراهيم أنيس إلى أن عضلات النطق بهذه الأصوات هي نفس العضلات التي يستخدمها في الرضاعة [ الأصوات اللغوية 216 ـ 217 وانظر كتاب الألسنية ولغة الطفل العربي لجورج كلاس ص80 . وفقه اللغة للدكتور علي عبد الواحد ص 131 ] يستوي في ذلك الطفل العربي مع الأعجمي , والتركي مع البربري , فلا غرو بعد ذلك إن وجدت هذه اللفظة في كثير من اللغات العالمية , ولا ضير على العربية إن اشتركت في استعمال لفظ ما مع غيرها من اللغات .
    جاء في تكملة المعاجم العربية لدوزي : ( وبابا بالبربرية والتركية : الأب ( ابن بطوطة 2/416 ) وكذلك هي في لغة الفولة أو الفولان أو فلان ( هجسون ) وكذلك في العربية ( شيرب لغة العرب 32 , ومحيط المحيط ) ) . [ معجم دوزي 1/225 ـ 226 ] .
    على أن ما يدور في فلك بحثنا هذا هو التأكيد على أن أسلافنا العرب الفصحاء الذين عنهم أخذت اللغة حاكَوا أطفالهم فيما تردد بين شفاههم كما تؤكد معظم النقول السابقة , وما الغرابة في ذلك ؟ ألم يحاكوا ما هو أقلُّ من الطفل منزلةً وفصاحةً , وهي الأنعام والسوائم على اختلاف أنواعها ؟ بلى فقد حاكَوا صوتَ الغراب فقالوا : غاقِ , ودعَوا الحمارَ للشرب فقالوا : سَأْ . ومن أمثلتهم : ( قفِ الحمار على الردهة ولا تقل له سَأْ ) [ جمهرة اللغة 3/293 . والرواية في مجمع الأمثال 2/94 ( قرِّبِ الحمار من الردهة ... ) يضرب للرجل يعلم ما يصنع ] , وزجروا البغل فقالوا : عَدَسْ , وعليه شاهد النحاة المشهور :

    عَدَسْ , ما لعبَّادٍ عليكِ إمارةٌ
    أمنتِ وهذا تحملينَ طليقُ

    [ انظر في أسماء الأصوات : شرح المفصل 4/15 وشرح الكافية 2/79 وجامع الدروس العربية 1/192 والنحو الوافي ] .
    بل لقد تعدَّوا ذلك إلى تسميةِ صاحب الصوت باسم صوته المنسوب إليه , فسمَّوا الغرابَ غاقِ , والبغلَ عَدَسْ , وعلى ذلك قول الشاعر :

    إذا حملتُ بدني على عَدَسْ
    على الذي بين الحمارِ والفَرَسْ
    فلا أبالي مَنْ غزا ومَنْ جَلَسْ

    [ جامع الدروس العربية 1/163 , وشرح المفصل 4/79 ] . وزادوا فألحقوا أسماء الأصوات بأشرف الكلمات أي بالأسماء ليكون أدل على دخولها في ظاهر أقسام الكلمات فصرفوها تصريفَ الأسماء [ انظر شرح الكافية 2/81 ] .
    ولعل خير ما أختم به الكلام طائفة من الأبيات لشعراء قدامى ومحدثين, كان لكلمة
    " بابا " في شعرهم نصيب.
    أما أولهم فهو ابن الوردي ( 691 – 749 هـ ) عمر بن مظفر, صاحب اللامية المشهورة,حيث يقول:

    أيا دادا حكت صِدغاكَ واوا
    فـما أحلى ثناياكَ الـعذابا
    /
    لقد صدتْكَ أمُّكَ عن رضانا


    وأما ثانيهم فهو أحمد تقي الدين (1888 – 1935 م ) الشاعر القاضي,حيث يقول:

    هو طفل فوق السرير صغيرٌ
    ذابل الطرف يسحر الآناما
    وعليه من الجمال غشــــاءٌ
    نسجته بنات موسى اليتامى
    إنما يقظة الغرام غشــــــته
    فرمت قلبه صريعا غراما
    تهــموه بالحـب وهو يتــــيمٌ
    أعـجميٌّ يـقـول بابا وماما


    وأما آخرهم فهو أميرهم, أحمد شوقي , حيث يقول:

    هناك ألقت بالصغير للورى
    واندفعت تبكي بكاءً مفترى
    تقول بابا أنا دحّا وهو كخّ
    معناه بابا لي وحدي ما طبخْ
    فقل لمن يجهل خطب الآنيهْ
    قد فطر الطفل على الأنانيهْ


    **************************

    ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
    *رئيس مقررات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت, وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق.

  2. #2
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    المشاركات : 3,415
    المواضيع : 107
    الردود : 3415
    المعدل اليومي : 0.50

    افتراضي

    تعمق وسعي تشكر عليه أخينا الفاضل / د. محمد حسان الطيان

    والدفاع عن الشاعر الرائع ـ عمر بهاء الدين
    يستحق حقاً هذا كتكريم ممن كان في أصله كريم
    تحياتي أصيل العنصر والجوهر الأديب والدكتور / محمد حسان الطيان
    دائما سنسعى وراء حرفك لنستفيد .

  3. #3
    الصورة الرمزية مصطفى بطحيش شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 2,497
    المواضيع : 135
    الردود : 2497
    المعدل اليومي : 0.36

    افتراضي

    د.محمد حسان الطيان

    أمتعتنا بهذه المادة
    استعراض جميل لقصيدة الشاعر الأميري ولهذه الروح الانسانية السامية التي تفيض بها القصيدة
    ومادة علمية غنية وتأصيل مستوف اغراضه لمفردة بابا

    للتثبيت
    تحية لك

  4. #4
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2003
    المشاركات : 5,436
    المواضيع : 115
    الردود : 5436
    المعدل اليومي : 0.72

    افتراضي

    الفاضل و الأستاذ الكبير

    ترحيب كبير يليق بك ، و سعادة غامرة أنك هنا في واحتي ... واحة الخير و الفكر و الأدب ، و كل المنى أن أنتفع و ينتفع غيري بفيض علمك و غزير حرفك .

    مقالة رائعة و بحث يغري بمتابعة حريصة لكل إبداع هو لك ، و الحق أن الكثير مما تفضلت به صحيح غاية الصحة ، فما زلت أذكر قولهم أن اللغة تنتحل على ألسنة النساء و الأطفال !

    كل التقدير و الاحترام لشخصك .

  5. #5
    الصورة الرمزية د. سلطان الحريري أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2003
    الدولة : الكويت
    العمر : 58
    المشاركات : 2,954
    المواضيع : 132
    الردود : 2954
    المعدل اليومي : 0.39

    افتراضي

    أستاذي الحبيب الدكتور محمد حسان الطيان:
    لا يسعني إلا أن أعبر عن عميق تقديري لقلم سامق خط دررا ، وقد سمعتها منك سابقا ، ولكنني وأنا أقرأها الآن أجد متعة خاصة ، ربما لأنها نشرت في واحة الخير ، بوصفها أول غيثك الذي نرجو أن ينهمر ، فأنت- أستاذي - ممن تشد إليهم الرحال ، وقد كنت في مقالك اللغوي هذا متتبعا للغة بمنطق المتذوق ، فقد عشنا معك روعة اختيار القصيدة ، وعمق الغوص عن معاني اللغة في المعاجم ، وفي كتب الأدب، وقدمتها لنا على طبق من ذهب .
    فهنيئا للواحة بك ، وسنكون تلاميذ متابعين لمدرستك التي نشرف بها.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.50

    افتراضي

    أستاذي الفاضل د.محمد الطيان:

    مقالو وبحث رائع بحق

    لكم استفدت برائعتك

    سلمت لنا ولا حرمنا الله منك

    تقبل خالص إحترامي وتقديري

  8. #8
    الصورة الرمزية محمد إبراهيم الحريري شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    المشاركات : 6,296
    المواضيع : 181
    الردود : 6296
    المعدل اليومي : 0.95

    افتراضي

    الأخ والأستاذ والدكتور الفاضل محمد حسان الطيان
    سلام من الله ورحمة من لدنه وبركات
    كلمات لا تقي حرقة شوق ، ولا تفي بواجب شكر فالعجر سمة تلميذك والعذر صفة مؤدبه الدكتور محمد حسان الطيان .
    ولكن ألا يحق لمجتهد بشر أن يلقي تحية الإجلال والتقدير لمن يستحقها ، ؟؟؟
    بلى وايم الله ، فالتحية والشكر لك أستاذ القلب ومنهل العلم الذي لا يجف نميره ، ولا يستعصم على الوارد شربة علم ورشفة فكر .
    لك جل احترامي على موضوع أنت أهل له ،
    ولك التقدير على كلم طيب أنت من يمهره بخاتم الفضل .
    تلميذك محمد
    إنا وإن قال منا والد بابا
    شنت عليه فتاوى الرفض أوصابا
    قالوا يجوز ولا تثريب في كلم
    أما الأبوة لما تأت من بابا
    ومن سواه بوجهي حيرة سبكت
    والوجه منها سيقى للورى بـَابـَا
    شكرا صدقت فمن بأباء بؤبؤة
    باب وفصل سيأتي الفكر تسكابا
    يا أيها الفضل من حسان منهله
    طيب الكلام نراه اليوم أحبابا
    ــــــــــــــــــــــ
    أشكرك سيدي / مشاركة مرتجلة
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. قلة الشعر على ألسنة الفاتحين في العهد الراشدي:حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-06-2016, 02:18 PM
  2. مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 27-02-2009, 06:46 AM
  3. بقايا حب .. بقايا قلب ... بقايا حرب !!
    بواسطة ياسمينا مسلمة في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 20-10-2007, 10:45 PM
  4. بقايا أحزان...بقايا انسان
    بواسطة مرآة النفس في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 05-08-2007, 10:01 PM
  5. فراشات تطاردها ألسنة اللهب
    بواسطة سعد يحيى في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 08-05-2003, 11:48 PM