لست كما قد تتصور مهما كانت سعة خيالك، فكر بي ما شئت فإني أعيش في عالم أغرب من الخيال. أراك تعوم في الوحل ولا تبصق، ولا تتقزز من العفن. إن الماء الأسن الذي يزيد لزوجة الطين الذي يطمر قدميك، يرشح عبر رمال صحراء مترامية الأطراف قبل أن يمر عبر صخور، ليصل إلى جذور الزنابق التي تراها عيني على نور الصباح المتحدى كل الظلمات. الدمع في عيني الطفل الجائع يسيل رقراقا ؛ يمحو ما كتبه الخائنون منذ ألف حزن، وأراه أنا دمع فرح يبشر بانبلاج فجر المبادئ والقيم النبيلة، فالطفل لا يبكيه الجوع المادي كما قد تتوهم، لأن ثدي أمه المذرار قد أشبعه لبنا سائغا لوجبة يدوم شبعها قرنا من الزمن. أما دماغه الصغير، فما يزال فارغا إلا مما زود به من فطرة هي أنقى ما يجيء به الإنسان لهذا العالم المجنون. وكأني أسمع من يردد حديث رسول الرحمة والشفاعة "يولد المرء على الفطرة السليمة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه" صدق رسول النور المبين. ها نحن نرى الأطفال يولدون كل يوم في شتًى بقاع العالم على تلك الفطرة، ونرى في عالم جُنّ جنونه نوافذ مفتوحة في كل بيت، تستقبل الصغار بسمومها وهمومها مذابة في ارتسامات للأحاسيس تلبستها شخوص "كرتونية" ما أنزل الله بشكلها ولا بمضمونها من سلطان... لا تحاول أن تفهم كيف أفكر، لأنك ستتعب ساكن جمجمتك دون جدوى. فلست من دعاة الإصلاح، ولا أنا سياسي، ولست من علماء الاجتماع، ولا أنا من المؤرخين، ولست إعلاميا يعرض حبر قلمه للارتزاق. فحبر هذا القلم الذي يخاطب عقلك هو دم ضمير لا يقبل المساومة، ولو قبلها في عدد الأحزان الفائتة لكنت أنت الآن في تجاويف كرشة صاحبه..
دعني أخبرك شيئا صحوت عليه اليوم، وليتني لم أصح على مثل ما أفار دمي هذا الصباح ؛ رأيت العفن ذائعا في ساحة كانت محرمة عليه من قبل، هي ساحة الذين امتهنوا وصف الدواء للأجساد العليلة. يا خسارة ما آمن به مجتمعنا! ويا خسارة المباني الأنيقة والمعدات باهضة الثمن في مختبرات الكليات الطبية، ويا خسارة الأموال التي أنفقت على سبك عقول سكنها العنكبوت المادي حتى غطى نسيج بيوتها النور عن بصائرها.
رائحة الموت في كل مكان فيك يا وطني، رائحة الأنسجة النبيلة تتحلل، وعلى قدر نبل الأنسجة، تكون شدة رائحة عفنها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. محكوم علي ألا أهرب من رائحة العفن، بل محكوم علي أن أكون أول من يقدم لها خياشيم أنفه هدية كل صباح لتذكره بواجبه، برسالته، فهي الجهاز الوحيد الذي ينبئ عن نجاعة الدواء الذي يسيل من هذا القلم البائس.
لم أدر لماذا لم يفهم المرضى أن المبادئ تنمو دائما من بذرة صغيرة، ثم تكبر وتتنامى عبر العصور ليعم خيرها الأرض بمن عليها. وكم مرة قرأ أحدهم تاريخ الحضارات، وعرف كيف بزغ خيط من نور قاومت مصدره العيون المريضة فلم تفلح في حجبه عن الدنيا... كيف بدأت بشائر الديانات السماوية؟ وكيف كانت حال من بشروا تلك الأقوام؟ وكم منهم قتل؟ وكيف بانت نعمة الإسلام؟ وكيف استقبلته قريش؟ كل هذه أسئلة يرد عليها الجهلة بأسلوب التغاضي عن الحقيقة فيقولون: تلك كانت حقبة من التاريخ مختلفة عما نحن فيه... وأنا ما زلت أتساءل؟ أو لم تكن لأولئك الأقوام أنماط حياة فيها ما فيها من المشاغل والاهتمامات اليومية كانت تصرف الناس عن سماع نداء الحق؟ ألم يكن هناك لهو، وتجارة، وتسلط وجشع، وتذمر وسخط وغفلة وانسياق وراء الأهواء؟ إذن فالإنسان هو هو، مهما اختلفت الوسائل التي يتعامل بها مع شؤون حياته... والطبيعة ما زالت في عموم حالها، تكفل للإنسان الماء والهواء والحرارة والرطوبة والضغط التي تمكنه من استمرار الحياة على سطح الأرض. وما زال وسيبقى خالق الكون في تجليه وعلمه وحكمته مدبرا رحيما بمخلوقاته. ما الذي اختلف؟ إنه فكر الإنسان الذي تمادى في طغيانه وغيه، حتى جعل من عبارة فكر صورة كفر وقلب الفك كفا، وبات لا يرى غير الصور المتداعية في سرعة على لوحة أيام ستشهد كسابقاتها على هذا العصر، وقد بات أشبه بعصر من خسفت بهم الأرض، أو عصر من أغرقهم الطوفان، وقد يبيد إنسان هذا العصر الحياة بجهله وتهوره وهو في غمرة الغفلة المقيتة...