من يوصلني إلى منابع الصفاء
توقفت عيناه عن متابعة الكلمات... طوى الكتاب بين يديه؛ وحدّق بسقف الغرفة؛ وفي ذهنه تختلط الصُّور وتتقاطع الكلمات... وتتدافع الأفكار ...
كم تمنى لو أنه يستطيع أن يدفع كل الكلمات وكل الصور والأفكار جانبا... ليبقى في ذهنه شيء واحد... فكرة واحدة حبيبة أثيرة على قلبه... بل تملك كل قلبه... أو هكذا أرادها ان تكون !!
استعاد للحظة صفاء فكره... وتركز تفكيره في آخر ما قرأ لهذه الليلة:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
كرر بيت الشعر في ذهنه مرّات ومرّات... واستدرك هاتفا: أنا لها والله... فما خلقت للعمل وللتعب وللشقاء؛ ولا أنا من أهله... ما خلقت إلا لأركب موج العز السهل؛ وأعلو وأعلو وبلا حدود! أنا ملك الأدب والفصاحة والبيان... أنا الخطيب المفوّه... مكاني هناك... فوق المنابر... وسط المحافل... فليصفق الناس كل الناس لي... وليحملوني فوق الأكتاف... وليهتفوا لي... وليرددوا أقوالي بإعجاب وإكبار! لهذا ولدت، ولهذا يجب أن أسعى !
أغمض عينيه لبرهة محاولا الإبقاء على هذه الصّورة في ذهنه والاستسلام للنوم على أطيافها وأصدائها .
"أريدها واقعا " هتف في نفسه، واستطرد: لماذا يطاردونني ويثقلون عليّ؟ أنا لم أولد للتعب والشَّقاء... أنا لم أولد لحرث أو لزرع أو حصاد... أبي... أمي... أخوتي... ليعملوا... ليزرعوا... ليحصدوا... وليتركوني أفكر... نعم ... هذا هو الصواب... مفكِّرٌ أنا؛ للتفكير؛ وفقط للتفكير ولدت... فليسمع العالم لصوت فكري! ولينعموا بأفيائه... وليتركوني أعيش بفكري !
في الأرض خبز للجميع... أكف تعمل.. أفواه تأكل... أطماع تتصارع في كل زمان ومكان... بفكري سأعرف كيف أستل لقمتي من بين الأكف والأفواه والأطماع... وبمنطقي أنا السيد!!
فتح عينيه... سرّته الفكرة... أخذ يرددها برأسه... يرنِّمها... "بـــ .. فــكـــ .... ري.." "بـــ... مَنـــــــ ...طقـــــييييي" ..
توقف قليلا... قلّب الفكرة برأسه... تمعّن بها جيدأ... "بـــ ...فـــ ... كـــ ..ري " ثم همس لنفسه بإعجاب: لماذا أصعِّب الأمور... المعادلة سهلة!! أنا الفكر... هم العمل... أنا النظرية... هم التطبيق... التكامل! نعم هكذا يكون التكامل... أنا أرسم... وهم ينفذون... أنا أقول... وهم يسمعون... أنا أفكر... وهم يعملون !!
تأمل دستوره الجديد... ردّد العبارات في ذهنه... وجدها متناسقة... أغمض عينيه... تلوّن الجو بألوان دائرية في الأفق... صرف عن ذهنه فكرة لطالما ألحت عليه... بأن يلاحق هذه الدوائر الملونة في متعة الإغفاء البطيء... ليتركز بفكرته الخارقة : " يجب أن أضمن لنفسي السيطرة الكاملة على الموقف... أن يخرج الموقف من يدي... يعني ضياع كل شيء... فلا شيء أضمن من أن تكون سيد الموقف... والمعادلة سهلة: الفكر لي... ولي فقط! والعمل لهم... الأمر لي؛ والطاعة عليهم... الرأي لي، والتنفيذ عليهم... الصوت لي، وكلهم آذان ! "
توقف قليلا ، ثم استطرد : " هكذا فقط تستقيم الأمور... ومن لم يعجبه ذلك... فليذهب الى الجحيم! وليمارس هناك ما شاء... ولكن بعيدا عني ."
أعمض عينيه بقوة هذه المرّة.. كأنما يريد أن يرغمها على الإغفاء... الإغفاء في هذه اللحظة... وعند حدود هذه الفكرة تماما ! ولكن الأفكار لم تنفك تلاحقه... تساءل في نفسه: "وكيف أضمن أن أبقى سيد الموقف؟" واستطرد:" هذا هو السؤال الصعب! إذ ليس المهم أن تكون سيدا في نفسك... الأهم أن يراك الآخرون سيدا !"
أعجبته الفكرة... قلّبها بذهنه على وجوهها... تنهد من أعماق قلبه كمن نجا من كارثة محققة: "آه... لن يروك سيدا؛ إلا إذا رأوك كبيرا... ولن يروك كبيرا؛ إلا إذا رأوا أنفسهم صغارا..." شدّ على أسنانه وقد جحظت عيناه : " يجب أن يظلوا صغارا... وأن يروني كبيرا!" ثم توقف للحظات ليزن الأمر في ذهنه جيدا، وليطمئن الى تنظيم أفكاره... المعادلة واضحة تماما... كبير- صغار... قمة- قاعدة... مفكر – منفذون...
تبسم ملء نفسه وقال: عبقري ولا شك هذا الذي اهتدى الى أن الاستعلاء عند البعض... يوضح تماما مدى تأصّل الدونية عند البقية... لن يحتاج مني الأمر كبير جهد لأقنعهم بقدراتي العظيمة؛ في مقابل عجزهم وتقصيرهم... وهكذا ستستقيم الأمور... نعم هكذا تستقيم الأمور !
رددها في نفسه كثيرا حتى استقرت في ذهنه واطمأن لها... أرخى جفنيه قليلا... واسترخى معهما تماما وهو يهمس لنفسه برضى: " سوف أطلع عليهم كل يوم بفكرة جديدة... وفلسفة غريبة... وحيلة مذهلة... لن يملكوا سوى التخبط.. فالإذعان لفكري مرغمين !"
اطمأن تماما للفكرة... واسترخى كلية مستسلما للنوم ، وفي عقله يتردد صدى ...
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها.
وحبالٌ تتدلى من غيوم سوداء... خيوط هنا وهناك تتشابك... تلتف حول جسده... حول عنقه... يكاد يختنق... يحاول الإفلات... حبال... خيوط تلتف... تتشابك أمام وجهه حيثما توجه... لا مفر... الصعود! الصعود هربا... تشبث بالخيوط... بدأ رحلة الصعود من خلالها... أنا لم أخلق لتخنقني الخيوط أو تقيدني! مدّ بصره... انتقى خيطا سميكا... أحكم قبضته حوله... بدأ رحلة الصعود... بكل ما أوتي من قوة يقاوم تشابك الخيوط محاولا الصعود من بينها... أصوات مبهمة تأتي من البعيد... ومن الجوار... ريح... عواصف... مبهمة وتلاحقه... صفير... أصوات... إرجع... قاوم... إصعد... أصمد... فكِّر... أهرب...
صفير ... قعقعة... رياح وخيوط... صمّت أذنيه... سمّرت بصره... جسده والحبل... شد على أعصابه بكل ما أوتي... بدأ رحلة التسلق... إرتَفع ... ارتفع... ارتفع ... الغيوم تقترب من رأسه... والخيوط تبتعد.. تتشابك وتبتعد... والحبل بين يديه يمتد... ويمتد... ويدق... يكاد يتلاشى... الغيوم... الخيوط... سواد... وأصوات.... لم يعد يتقدم... الخيط يتلاشى... تشبث به بكل قوته... بيديه... بجسده... بأسنانه... ليس سوى الغيوم... سأنتهي في حضنها... بكل ما تبقى من قوة في كيانه ألقى بنفسه إلى الأعلى... الخيط تلاشى... ذاب تماما.. والغيمة... أين الغيمة؟!! يهوي إلى الأرض... طين... تراب... عرق... وحل... يمد يده من جديد... الخيوط... أين الخيوط... لا بدّ ان هناك طريق... بعيدا عن هذا الوحل... يمد يديه بكل قوة... الخيوط... الصعود... الى هناك... إلى الغيوم.. إلى منابع الصفاء...من يمد لي خيطا... من يأخذي إلى منابع الصفاء...