عشت على وهم أنك كل شيء في حياتي هها! قلبت أوراق السنين في أعماقي تريد الخلود، حولت جهلي مدعاة للشفقة، وسرت تجرني في دروب عالمك اللامتناهي، وعجنت تجاويف ما بجمجمتي ألف مرة، عساك تصنع دمية تشبه معشوقتك الضائعة. ألبستني أثوابا ما حلمت بها قط؛ مطرزة بأزهى الورود، ولكني احتفظت بكل خيط مما كنت تلون من أوهام، وذاب شعر رأسك الجميل في الهواء الذي ظلت أستنشقه طوال أيامي معك، هاهاها...
هذه المُدية البراقة، هي كل ما أعددت ليومك هذا، لأني عرفت منذ أول عهدي بك أنك البطل، وتعلمت من التاريخ أن الأبطال يؤتون من مأمنهم دائما... تربصت بك حتى نامت عيون الحذر في عقلك الوقاد. هاهاها. وها أنذي أقطع من عنقك الودجين في برود، وها دمك يدفئ ظهر يدي الآن! عيناك الشاخصتان ما زالتا تبصران معالم وجهي، في صورة تتلاشى في الأفق الأزرق، الذي تغنيت بجماله، مثلما تغنيت بمُثلك الوهمية التي مسح الزمان أوراقها من كل الدنيا، وعلق مكانها لافتات الإشهار والدعاية. ها أنذي أمسح مُديتي البراقة من دمك على صفحة صدرك. وأي صدر هذا؟! كم احتوى رأسي في غابر الذكرى، وسقاني حنانا... يداك وقد أسلمتا ذلك القلم لغور النسيان، وانبسطتا تتأهبان لمصافحة الراحة الأبدية. شفتاك استسلمتا لهدأة الموت موردتين. ما كان أشهاهما لنبض القبل، دعني أودعهما بآخر لثمة يا بطل! حلمت دائما بالشهادة في ساحة الوغى أو تحت مقصلة القانون. كم كنت واهما يا بطلي حين اعتقدت جازما في نظرية الحق والقانون وصدقت من بشروا بالعدالة. مثاليا عشت كل تفاصيل المسرحية، وانطلت عليك حيل الدعاة ؛ وكم قلت لي إن دعاة المفاهيم أعداؤها. فلتشكر لي أن أرحتك من عذاب دام عقودا... نم قرير العين واهدأ، فلن ترى النور كتاباتك المجنونة، ولن يسمع صوت قلبك الفائر بعد اليوم. أنت في قاموسي نكرة، وفي أعين الناس كذبة كتبتها الصدفة ومحاها العرف... أين ما حلَمت به من مجد؟ وما دَعوت له من وهم؟ تاريخ ميلادك كذبة، ومكان ميلادك كذبة، وطفولتك كانت خليطا من دموع الحرمان والضحكات الصفر. وآمالك كانت نسيلا من جناح العنقاء، تتلاعب بها الريح. وشبابك كان مجرد رسم على رمال الشط الحزين ؛ أما كهولتك فقد خرجت عليك من دوامة الخوف، وداهمتك كالعاصفة، رمت بك في حدائق الحب والجمال... أنا الجميلة المخلِّصة ؛ هاهاها. أنا التي نقش القدر على كتفي بدم القربى تفاصيل خلاصك من آلام الحب والشوق الملهب. ملَّكتني أمرك يوما، وفاء بوعد لم تقطعه على نفسك لأكون نهاية لمأساتك أيها البطل. أشهد أنك كنت شهما وكريما، فأبت علي غيرتي أن تعرف شهامتك وخصالك أنثى غيري... هاهاها. أنا البطلة الآن، وأنت الصريع. دماؤك تخضِّب قدمي بعد أن شربت منهما مغتسلا أمام الشهود... وددت لو أمكن أن تخبرني ما طعم الذبحة التي أهديتك، وكيف كان شعورك حين حزَّت مديتي شرايين عنقك. لكنك لن تستطيع إخباري. هاهاها...
لن أخفي جثتك، بل سأنفخ فيها حياة بهيمية، لأنعم كل يوم بمتعة النظر إلى جسدك تحركه أوامري، أوقظه متى أشاء وأرقده أنى يحلو لي الرقاد ؛ لن أنسى آخر رسالة من عقلك تلتها عليّ شفاهك بالأمس حين حولتك إلى جسد بلا روح قبل أن آتي على آخر نبض من قلبك الأحمق... أيها البطل المغفل. لست وحدي من تستهزئ بقلبك، فإني سيدة ذات سلطان، قلدني العرف مهمة إنهائك ومع حشد كبير من الجنود الأوفياء... وأنت؟ من كان في صفك؟ أحلامك؟ قصائدك؟ هاهاها. ألف قصيدة مما غنيت لا تساوي سعر منديل أمسح به وجه مديتي البراقة من آثار دمك يا بطلي. فهل وعيت الآن معنى أن يبصقك العالم خارج دائرته؟