أن يبدع الإنسان رغم حرمانه من نعمة البصر فهذا وارد كثيرًا؛ ألم يكن عميد الأدب العربي طه حسين أعمى؟! أن يبهر العالم بالروائع وهو أصم فهذا حاصل، أليس بتهوفن الموسيقار الشهير أصم؟! ولكن أن يأخذ الإنسان من كل أسباب المجد طرفًا وقد حرم من أهم حاستين تربطانه بالعالم الخارجي، فأنا أتكلم فقط عن هيلين كيلر. تتمثل معجزة هيلين كيلر في أنها تحدت ظلمات ثلاث، وتلمست طريقها خلالها مستعينة بشمعة الإرادة. فهيلين كيلر التي ملأت الدنيا في زمانها وشغلت الناس، وظلت قصة حياتها إلى يومنا الحالي مصدر إلهام للكثيرين، لم تكن إلا فتاة صماء عمياء بكماء، ومع ذلك فقد بلغت من الأهمية أن قال عنها Mark Twain الأديب الأمريكي الساخر:«أهم شخصيتين في القرن العشرين على الإطلاق هما: نابليون وهيلين كيلر». ولدت هيلين كيلر عام 1880 م طفلة معافاة سليمة الحواس، ولكن بعدما أتمت عامًا ونصف عام أصابتها حمى شديدة حار الأطباء في نوعها وعجزوا عن علاجها، فلم يجدوا وقد أدركهم اليأس إلا أن ينفضوا سائلين المولى أن يلهم والديها الصبر على فقدانها، ولكن إرادة الحياة كانت جلية في هيلين منذ طفولتها، فلم تمض عدة أيام حتى دبت الحياة في جسد الصغيرة وعادت الحمرة تعلو وجنتيها. ولكن والديها اللذين غمرتهما الفرحة بعودة الروح إلى صغيرتهما لم يدركا أن المرض قد سلبها قبل أن يغادر جسمها الصغير أهم حاستين وهما حاستا السمع والبصر. عاشت هيلين في سنواتها الأولى حياة عشوائية بهيمية لا تفقه من الحياة غير حاجاتها الفطرية. ولم تجد الصغيرة طريقة للتواصل مع الآخرين في عالمها الدامس إلا بعض الإيماءات والإشارات البدائية، حتى إذا ما فشلت في التعبير عن نفسها والحصول على رغباتها انتابتها نوبات غضب شديدة، وجنحت إلى البكاء والعويل وتحطيم كل ما يصادف طريقها. ولم تجد أسرتها وقد وجدوا أنفسهم أمام فتاة صعبة المراس أعيتهم الحيل في التعامل معها إلا أن يبحثوا عن معلمة تعاونهم في تربيتها وتضيء لها بعض ما أظلم من طريقها. ولم تكن هذه المعلمة إلا Anne Sullivan المعلمة الرائعة التي أضاءت لها الدياجير المظلمة وفتحت لها الأبواب المغلقة. لم تكن هيلين تدرك أن اليوم الذي التقت فيه معلمتها لأول مرة وهي لما تبلغ السابعة بعد، سيكون أهم يوم في حياتها كما وصفته لاحقًا. ولم تكن Anne Sullivan الشابة الصغيرة ذات الواحد وعشرين ربيعًا تتصور أن حياتها سترتبط بحياة تلميذتها منذ ذلك اليوم حتى آخر يوم في حياتها. فمنذ ذلك اليوم بدأت المعلمة محاولاتها الدؤوبة لتعليم هيلين. كان أول ما لفت نظر المعلمة هو عادات هيلين البدائية ومسلكها العدواني مع الجميع، فقررت المعلمة أن تعلمها قبل كل شيء الطاعة والنظام. ولم تمر فترة بسيطة حتى تحولت هيلين الفتاة المرعبة إلى طفلة وديعة هادئة. وكانت تكتب بإصبعها أسماء الأشياء على كف هيلين وبهذه الطريقة حفظت هيلين هجاء العديد من الأسماء، وإن لم تكن تدرك الصلة بين هذه الأشكال التي ترسمها والكلمات، أو تدرك الصلة بين الكلمة والفكرة التي تمثلها حتى أتت لحظة التنوير في حياة هيلين والتي سجلتها في كتابها الرائع The Story of My Life حيث تقول: ذهبنا إلى البئر وكان هناك شخص يضخ الماء، ووضعت معلمتي يدي تحت المضخة. وبينما كان تيار من الماء البارد ينهمر على إحدى يدي كانت معلمتي تكتب بإصبعها على يدي الأخرى كلمة water في البداية ببطء ثم بعد ذلك بسرعة. وقفت ساكنة وكل تركيزي منصب على حركة أصابعها وفجأة شعرت بحالة وعي ضبابية لشيء كان منسيًا، بالإثارة المصاحبة لفكرة عائدة، وهكذا تكشف أمامي غموض اللغة. وكم كانت فرحة هيلين عظيمة وقد انفتح لها باب العالم الخارجي الذي كان موصدًا دونها، ولم تعد إلى البيت إلا بعد أن سألت عن اسم كل شيء مرت به. منذ تلك اللحظة بدأت هيلين رحلتها مع المعرفة تلك الرحلة التي لم يكن زادها فيها إلا العزيمة والإصرار والإرادة. فتعلمت القراءة بطريقة Braille التي أصبحت متعتها المفضلة، وانكبت على الكتب تلتهم ما تقرؤه أصابعها، وعن طريق القراءة تعلمت الكتابة وتمكنت منها بل فاقت في أسلوبها الأدبي أقرانها من المبصرين. عندما سئلت عن سبب غرامها بالكتب أجابت: لأنها تحدثني عن الكثير من الحقائق الممتعة عن الأشياء التي لا أستطيع مشاهدتها، كما أن الكتب بخلاف الناس لا تتعب ولا تتضايق فتظل تحدثني المرة تلو الأخرى عما أود معرفته، ثم ما هي إلا فترة بسيطة حتى تسمع عن فتاة صماء استطاعت تعلم الكلام فأصرت على المحاولة والخضوع للتجربة، وبذلت العديد من المحاولات المضنية لتعلم المحادثة، وهي الفتاة الصماء التي لم تسمع الكلام فكانت تضع يديها على حنجرة المعلمة وشفتيها حتى تتبين مخارج الحروف. ورغم هذه المحاولات المستميتة فإن كلامها لا يفهمه إلا المقربون منها. دخلت هيلين الكلية لتدرس جنبًا إلى جنب مع فتيات مبصرات متحدية إعاقتها وجميع من تنبأ بفشلها أو أشفق عليها من مرارة الفشل، لتكون أول عمياء صماء تنال درجة جامعية. وكانت معلمتها الرائعة معها في قاعة المحاضرة تتهجى في يد هيلين بصبر متناه كل ما يقوله الأستاذ المحاضر، وفي المنزل كانت تنقب لها في القواميس عن معاني الكلمات الجديدة، وتقرأ لها مرات عديدة الكتب التي لم تكن مكتوبة بطريقة Braille .
بلغت هيلين من الثقافة شأوًا عظيمًا، وكانت إلى جانب ثقافتها الواسعة تتقن أكثر من لغة قراءة وكتابة، فبالإضافة إلى الإنجليزية أتقنت الفرنسية والألمانية واللاتينية. وبعد تخرجها دارت هيلين ومعلمتها المخلصة في جميع أنحاء العالم تلقي المحاضرات وتقوم بحملات لجمع التبرعات للجمعيات التي تعنى بفاقدي البصر، وتبصر العالم بحقوق العميان. وقد لازمتها معلمتها في جولاتها إلى أن توفيت عام 1936م. ألفت هيلين العديد من الكتب والمقالات التي نشرت في الصحف والمجلات والدوريات في تلك الأيام، والتقت جميع رؤساء الولايات المتحدة في عهدها، كما التقت بالعديد من الشخصيات المشهورة. ومنحت العديد من الأوسمة. توفيت هيلين عام 1968 م عن عمر يناهز الثامنة والثمانين لتسطر لها مكانًا بين الخالدين، ولتكون دليلاً ناطقًا على أن إرادة الإنسان أقوى من الألم والمحن وظروف الحياة، ولتضرب لنا أكبر مثال على قدرة الإنسان على فلسفة الألم. شهادتي جديرة بأن تسمع
تقول هيلين عندما يوصد في وجهنا أحد أبواب السعادة تنفتح لنا العديد من الأبواب الأخرى، لكن مشكلتنا أننا نضيع وقتنا ونحن ننظر بحسرة إلى الباب المغلق ولا نلتفت لما فتح لنا من أبواب.قصة حياة هيلين التي روتها في كتابها The Story of My Life هي قصة رحلة الإنسان من عالم الظلام إلى عالم النور، ومن عالم المجهول إلى عالم الإدراك.كتابها صور متلاحقة نعرف من خلالها وجهًا لوجه صفات خالدة مثل العزيمة والإرادة والصمود والقوة، بل إن روح الإرادة فيه واضحة حتى لنكاد نلمسها. هذه الصفات جميعًا أهلتها لتكون قدوة ليس لفاقدي حاستي السمع والبصر من أمثالها فحسب، بل للمبصرين سليمي الحواس من أمثالنا. وما يلفت النظر عند قراءة كتابها هو روح المرح التي تظهر جلية في كثير من فقرات الكتاب. وهيلين العمياء الصماء لا تعدم البهجة والإحساس بالجمال في هذه الحياة. بل إن هيلين تنقد في كتاباتها الكثيرة أقرانها المبصرين لأنهم لا يستغلون حواسهم التي وهبها إياهم الباري خير استغلال ولا يسخرونها للاستمتاع بجمال الطبيعة من حولهم. تقول هيلين في مقالها Three Days to See اعتدت من وقت إلى آخر أن أختبر أصدقائي المبصرين لأكتشف ماذا يشاهدون. كنت مؤخرًا في زيارة لإحدى صديقاتي التي كانت عائدة لتوها من أحد الحقول، وعندما سألتها ماذا شاهدت ؟ أجابتني لا شيء على وجه التحديد. كدت لا أصدقها لو أنني لم أعتد سماع هذا الجواب من غيرها. فقد توصلت منذ وقت طويل إلى القناعة بأن المبصرين لا يرون إلا القليل، ثم تقول: دائمًا ما أتساءل كيف يمكن أن نمشي لمدة ساعة بين الحقول ثم لا نشاهد شيئًا جديرًا بالملاحظة؟! أنا الإنسانة العمياء أجد مئات الأشياء التي تشد انتباهي من خلال حاسة اللمس فقط.و أحيانًا يقفز قلبي شوقًا لمشاهدة هذه الأشياء. إذا كنت أحصل على متعة من مجرد اللمس فأي جمال سيتكشف لي من حاسة البصر. ولكن الأشخاص المبصرين مع الأسف لا يرون إلا القليل. ربما هي صفة بشرية ألا نشعر بأهمية ما نملك ونتوق لما لانملك. من الخسارة أن تستخدم نعمة البصر في عالم النور كمجرد وسيلة لتسهيل المعيشة وليس أداة لإضافة بهجة للحياة. ولهيلين فلسفة رائعة في التعامل مع الألم وظروف الحياة القاسية فتقول في مقالهاOptimism عن طريق الاحتكاك بالشر فقط استطعت أن أشعر بجمال الحقيقة والحب والخير. وتقول أستطيع أن أجزم بأن الصراع الذي يحتمه الشر هو إحدى أعظم النعم. فهو يصيرنا إلى أشخاص أقوياء، صبورين ومحبين للخير. ويمنحنا نظرة ثاقبة في حقيقة الأشياء، ويعلمنا أنه رغم أن هذا العالم مليء بأنواع المعاناة فهو أيضًا يمتلئ بنماذج الانتصار وقهر الألم. وتؤكد هيلين أن السعادة تنبع من داخل الإنسان بغض النظر عن ظروفه، تقول هيلين معظم الناس يقيسون سعادتهم بمقاييس المتعة الجسدية والممتلكات المادية.إذا كانت السعادة بهذه المقاييس فإن الأشخاص الذين حرموا من نعمة البصر أو السمع لا يملكون إلا أن ينكمشوا مكتوفي الأيدي في إحدى الزوايا ويجهشوا بالبكاء. لكن إذا كنت سعيدة على الرغم من كل ما حرمت منه، إذا كانت سعادتي من العمق بحيث أصبحت عقيدة،إذا كانت متغلغلة في فكري بحيث أصبحت فلسفة حياة، باختصار إذا كنت متفائلة فإن شهادتي جديرة بأن تسمع حقًا، يا هيلين شهادتك جديرة بأن تسمع.
آن سوليفان..عندما تكون المعلمة هبة من الله !
بهرتني قصة هيلين لدرجة أني عكفت على قراءة كل ما يمت لها بصلة. كنت في قراءاتي أحاول أن ألمس بيدي هذه الروح الطموح الوثابة،كنت أسعى أن أقف وجهًا لوجه أمام صفات الإصرار والعزيمة والإرادة،كنت أطمح أن أنهل من معين التفاؤل والنظرة الإيجابية للحياة تلك النظرة التي لو اتخذناها منهجًا لحياتنا لم نجد فيها مكانًا لليأس والقنوط. أمسك بيدي مجموعة من صور هيلين وأتأملها لعلي أجد في تقاسيم وجهها الجامدة سر هذه الروح، ولعلي أدلف من خلال تعابيرها إلى داخلها المضيء فأقتبس منه نورًا يضيء لي بعض ما أظلم من طريقي. لكن يظل في داخلي سؤال: هل كانت هيلين ستصل إلى ما وصلت إليه لو لم يقيض لها الله معلمتها الرائعة ؟! ويقودني هذا السؤال إلى آخر فأتساءل أيهما أجدر بالثناء وأيهما أولى أن يتبع هل هي هيلين أم معلمتها المخلصة؟!
عندما قرأت قصة هيلين للمرة الثانية لم أكن أبحث عن هيلين بل كنت أفتش عن معلمتها، فكنت أجدها تارة مع هيلين تساندها في أحد المواقف، وكنت أسمعها تارةً تتحدث مع هيلين وتوجهها بحنان الأم، وكنت أراها أحيانًا ترقبها من بعيد، فلم أعدم لها أثرًا في كل صفحة من صفحات الكتاب. وكما بهرتني هيلين شدتني هذه المعلمة، وكما أعجبت بهيلين أسرني إخلاص هذه المعلمة، فما فرغت من قراءة الكتاب حتى تجدد إيماني بالدور الكبير الذي يؤديه المعلم في حياة تلاميذه، وزاد اعتقادي بأهمية الرسالة التي يحملها والتي أضحت مع الأيام وظيفة روتينية مجردة من أهدافها السامية وعقدًا بين طرفين يلتزم فيه الطرف الثاني بحشو عقل الطالب بالمادة العلمية شريطة أن يستمر الطرف الأول بتزويده بالمال. فما أكثر المعلمين! ولكنهم في كثرتهم غثاء كغثاء السيل.
منقول
أحبتي عليكم بكتاب هذه الفتاة الرائعة،فلم أتأثر بقراءة كتاب كما تأثرت بقراءة كتابها