( 19 ) قصة قصيرة :- ود ممدود
*******************
تمشى ... تتقدم خطوة وتتأخر خطوة ... تقدم وتحجم عدة مرات ... تنظر يميناً ويساراً ... تركت ساقيها العاريتان الحافيتان تقوداها حيث تشاء .. لم تستسلم قط ... كان يساورها إحساس أنها ستجده أمامها سالماً معافاً من أى سوء ... ربما تجده بعد قليل ... وربما بعد أن تجهد نفسها وتلف حول بيوت جيرانها ... قررت أن تستأنف رحلة البحث عن ولدها التائه .
أحست فى قرارة نفسها أنها لو رجعت للبيت لوجدته جالساً على عتبتها ... نائماً وقت القيلولة ... كانت واثقة أنها فى نهاية المطاف أنها ستجده لتأخذه بين أحضانها ... ترفرف عليه بجناح المودة والرحمة ... كانت تشعر أن صفارة بدء رحلتها الشاقة قد انطلقت منذ أن كانت فى السادسة من عمرها ... وأنها ستنزل الحلبة وأمامها هدف واحد لا غيره وهو ... الانتصار !
فى طريقها للبيت سرح خياله ... هى مع أولادها وأحفادها داخل هذا البيت ... هم بجوارها ... لا يبرحون المكان أبداً .. فرحين ... يلهون بالألعاب الطفولية الممتعة .
تهدهد أحد أحفادها لينام ... تحنو على الآخر بنظرة عطفٍ وحنان ... تخرج من تحت " إشاربها " الأسود خمسة قروش تعطيها لآخر ليكتم بكائه ... ويضحك كما تضحك هى والأطفل دون العاشرة .
تمادت فى الحلم ... رأت أحدهم مقبل عليها ... يقبل جبينها ... ينحنى على كفيها ... تأخذه فى أحضانها ... يبكى ... تهدهده لينام ... وهو لم يتخط بعد الخامسة والعشرون !
أفاقت على ضجيجٍ مفتعل من طفلٍ يلهو مع رفيقه فى الشارع ... مرت على بيوتٍ قديمة مثل عمرها ... دارت حول بيتٍ قديم .. وقفت تتأمل نوافذه المغلقة ... وهذا الباب الخشبى الموصد ... أرادت أن تنفذ فكرةً قد طرأت على بالها ... أن تفتح هذا الباب ... قبل أن تتقدم نحو الباب أدامت النظر إلى تلك النوافذ المتهالكة النخرة ... استدارت ... تراجعت ... صممت أن تفتح هذا الباب ... وبكل ما أوتيت من قوةٍ فتته ... ثم أغلقته خلفها .
وجدت سلم داخل هذا البيت ... جالت بنظرها على المكان ... وبنظرةٍ دائرية ثاقبة ... رأت الكثير من خيوط العنكبوت المتكاثرة فى كل ركن من أركان هذا البيت .
الدرجات السلمية الخشبية تئن تحت وقع قدميها .
ارتجفت ... أحست بالخطر يحاصرها من كل اتجاه ... يكاد السلم ينخفض بها تدريجياً ... وأخيراً صعدت بسلام .
وصلت لمكانٍ لم تتبين معالمه فى العتمة .
عند ركن الدرابزين الشمالى يأتيها ضوء خافت فيضئ جزء من المكان ... فيكشف عن غرفٍ أمامها ... أصرت أن تمضى مجتازة هذه الظلمة بكل ما سوف يواجهها من مصاعب وكوارث .
يأتيها صوت من داخل إحدى الغرف المغلقة... صوت قوى يخترق المكان ... وينفذ إلى أذنها :-
- حذارى يا ريم ... ولا تصدقى !
فزعت من السكون الذى ساد المكان ... وعلى أى حال ... فكل ما بداخل هذا البيت مليئ بالدهشة والرعب .
قررت الهروب من الحصار الذى فرض عليها ... ارتدت درع الرعب ... انطلقت عبر درجات السلم ... اعترضها قط أبيض رافضاً استسلامها وهروبها ... ركلته بقدميها ... فسقط صريعاً وسقطت جواره على أرضية البيت الرملية .
فاتت ساعة أو ساعتان ... فريم .. لا تدرى كم مضت من الوقت فى هذا البيت ... جلست القرفصاء ... دقات قلبها تتزايد ... تتصاعد أنفاسها ثانيةً بعد الأخرى ... أدركت أنها النهاية ... وأنه الموت الذى يدنو منها .
أيعقل هذا ... أتموت ريم هنا ... لكم تمنت أن تعيش هنا .
ولها صوت كأنه أمر واجب التنفيذ :-
- اصعدى مرة أخرى إلى أعلى !
قاومت ... نصبت قامتها ... ارتجفت ... فقدت الاتزان ... حاولت الوثوب ... لم تفلح ... حاولت مراتٍ ومرات ... كتمت نشيجها ... ثم اندفعت خارج البيت لتوالى رحلة البحث عن ولدها .
حل الظلام ... جاءها هاتف :-
- ريم ... إننا نعيش حياتنا فى تناقص ... كل يومٍ تغيب فيه شمس يغيب معها يوم من أيامنا ... فلا تنسى أبناءك لحظةً واحدة ... فراعيهم وكونى لهم الخادمة المطيعة .
فى اتجاهها للبيت أسرعت خطاها ... أسرع إليها طفل يرتدى سروالاً أبيض وقميصاً من نفس اللون ... ووجهه يشع أشعةً وأنواراً قمرية ... كأنه ولد فى أحضان القمر وتشبه به .
قال لها وابتسامة تعلو ثغره :-
- أم صالح ... سيد رجع الدار .
( تمت )
( انتهت المجموعة )
صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة
إقليم شرق الدلتا الثقافى
ثقافة كفر الشيخ
اشراقات
5
الطبعة الأولى / 2003م
سامح عبد البديع الشبة
sameh_ss_center@yahoo.com