فرحة الطفل الحزين
قصة للأطفال : بقلم سها جلال جودت
خرج منير من منزله متوجها ً إلى مدرسته وقبل أن يخرج نظر في وجه أخيه فؤاد الذي كان ما يزال يغط في نومه .
ما يجعله حزيناً دائماً وهو في طريقه إلى المدرسة أنه لا يستطيع أن يرافق أخيه كما أنه لا يمكنه أن يراه مع جموع التلاميذ المتهافتة مثل الفراش في فصل الربيع على حقل أخضر أورقت فيه الخضرة والعبير فترى ألوانها الجذابة كما ثياب العذارى في عرس بهيج فأخوه طفل مريض لا يمكنه أن يدخل المدرسة لأنه لا يدرك أهمية ذلك في حياة الطفولة ، إنه مزعج هكذا شاع من حوله ولأنه كذلك فإن منيراً لا يعرف إن كان هؤلاء الصغار يمازحونه ، أمْ يسخرون منه ؟! إنهم وبعد انصرافهم من المدرسة يركضون إلى حيث يعرفون أنه يقف ، إنه يقف على رصيف الشارع أمام العمارة التي يسكن فيها مع أهله ، وكم من مرة تشاجر فيها والد منير مع جيرانه من أجل أن يكف هؤلاء الصغار عن العبث معه من أجل صفارته التي كثيراً ما حاول أحدهم أن يختطفها من عنقه !!
ما حصل هذه المرة طاش بعقل منير الذي سرعان ما ركض بلهفة نحو أخيه كي يحميه ، فقد كانوا يضربونه بالحجارة وهم يصرخون (( الأبله أهو ... أهو ... المجنون أهو ... أهو )) .
بعد فض الجمهرة وخزت صدر منير دموع فؤاد التي كانت تؤكد على فشله في الدفاع عن نفسه وقد تدلى لسانه فبدت شقوقه واضحة ولعابه يزين شفتيه الغليظتين السمراوين .
بيده الصغيرة الدافئة احتضن كتف فؤاد العريض ودعاه إلى المضي معه إلى المنزل ، لكن فؤاد رفض الإصغاء في ملازمة أخيه فبدا رأسه المائل نحو الأمام أكثر عنادا ً من كل مرة ، هاهو يرفض الصعود ... يفضل البقاء في الشارع وقد تشبثت يده بصفارته المعلقة في عنقه بشريطها الأسود .
إزاء غضب فؤاد وحنقه احتارَ منيرٌ ما يفعل فتركه على مضض ٍ وانعطف نحو منزلهم والكآبة تزين ملامحه البريئة .
في المنزل سألته أمه إن كان شاهد فؤادا ً أم لا ، فأجابها وغصصٌ من دموع ٍ محتجزة في المقلتين تنفر :
- نعم رأيته وأنقذته من عبث أولاد الحي .
لم تستطع أم منير أن تنظر في عيني ولدها ذلك لأنها تحاول دائما ً أن تهرب من ذلك السؤال الذي يؤرق الأسرة !.
- لماذا ولد فؤاد على هذه الشاكلة من خلق الله ؟ - لمَ لا يحظى كغيره من الأطفال الصغار برعاية التعليم ؟.
انزوى منير على الأريكة وهو حزين ، كل مايفكر به حالة أخيه المأزومة نفسيا ً واجتماعيا ً ، فضجر الجيران يرهق أعصابه أكثر ويزيده توترا ً خوفا ً على أخيه من الضياع ، ذلك لأن شكواهم هذه المرة قد تسببت بصناعة فجوة بينهم وبين أبيه الذي أثقلته هموم الحياة بولادة طفل "منغولي " ، يزعج الجيران بأصوات صفارته حين يصعد الدرج .
كلّ مساءٍ ينتظرُ والده على الرصيف وما إن يراه مقبلا ً ، يُطلق العنان لصفيره المعهود (( توت.... توت )) ثم يركض نحوه بجسده الثقيل وهو يبتسم ابتسامة عريضة تزيد من سيلان اللعاب على شفتيه الغليظتين .
يُمسك الولد بيد أبيه ويصعدان الدرج ويده الأخرى تظل متمسكة بشريط الصفارة هذا التمسك الذي لم تجد الأسرة له مبرراً سوى أنه يريد أن يكون شخصاً ذا أهمية ما ولأنها عجزت عن ردعه فقد تركته وشأنه .
ما أفزعه ذات مرة أنه حاول أن يرفع الصفارة عن عنقه ثانية فتبدى له شخصا ً غير أخيه حين أنشب أظافره في وجهه فتسبب بجرح صغير مازالت ندبته تعيد صورة الرعب الذي انداح في أوصاله لحظة انتفض في وجهه مثل جن يعزف الخوف !.
في إحدى المرات والتي سكنت ذاكرة منير وجد أخيه في ساحة المدرسة يتمشى على مهل ٍ وهو يفحص الطوابق ويحدق كثيرا ً في النوافذ كان ذلك عندما طلب منه المدرس أن يحضر إصبع الطباشير من الإدارة فارتعب وخاف وسأل نفسه: "كيف دخل فؤاد ؟ وهل تسلل من فوق السور ؟ وإن عرف المدير بوجود غريب ٍ مثل أخي تُرى ماسيفعل ؟ هل سيتصل بالشرطة ؟ أم أنه سيرسل في طلبي بعد أن يعلم من البواب أنه أخي ؟ ".
دقائق مرت سحقت بأعصاب التلميذ وبلبلت أفكاره التي بدت في الآونة تلك متشابكة تشابكا ً عقيم الخلاص .
ما حصل بعد هذه الدقائق الثلجية أنه وجد أبيه في غرفة المدير فانفرجت أساريره واطمأنت نفسه ، فقد كان قادما ً من أجل السؤال عن تقدمه الدراسي.
وحين طالب الأب فؤادا ً في المجيء من ساحة المدرسة رفض أن يصغي، ما فعله أن وضع الصفارة في فمه وراح يصفر مثل الريح في أرجاء الساحة وهو يركض ، كانت سعادته لا توصف ونظرات أبيه الغاضبة كانت لا توصف أيضا ً ، وبعد أن تمكن منه قرص أذنه ثم وبخه فمال برأسه ومدَّ لسانه فبانت شقوقه .
بعد هذه الحادثة أيقن منيرٌ أنه لابد وأن يفعل شيئا ً مع أخيه ... أي شيء يجعله يكره الصفارة والشارع فنبتت في ذهنه فكرة ... دقق النظر في مضمونها فاستراح خاطره.
أعد حزمة من الأ قلام الملونة ودفترا ً يكاد أن يكون مهملا ً ...ثم صرخ : - تعال إلى جانبي أنظر ما سأعطيك .
استشعر من ابتسامته العريضة فرحا ً كان خافيا ً .... اقترب بهدوء ..... نظر إلى مجموعة الأقلام ..... دقق النظر في ورق الدفتر ..... خمن منير أنه لم يعجبه أن يكون الدفتر مهملا ً ، لكنه جلس على الأرض وحاول أن يمسك بالقلم بعد أن عاينه متفحصا ً ذؤابته الرفيعة .
جلس قربه وفتح دفتر الرسم على بعض رسومات ٍ ..... تركه يحدق بها فأخذها فؤاد من أمامه..... ثم جاست عيناه الصغيرتين المدورتين في رسومات أخيه التلميذ المجد ، فابتسم ابتسامة عريضة .
بين فينة وأخرى كان يسترق النظر إلى وجه أخيه كأنه يحاول أن يجد استفساراً لمعنى هذه الأشياء ليدرك منير ما لم يدركه أبواه .