الوحش
قصة قصيرة
بقلم : د . محمد أيوب
تبدو القرية هادئة كعادتها .. يلفها ضوء القمر الخافت ..ساكنة ! لا صوت و لا حركة .. كان كل شئ فيها ينام مع نوم سكانها بعد صلاة العشاء .. لعل هذا السكون علامة من علامات الأمن والطمأنينة في هذه القرية الهادئة .. ليس هناك ما يعكر صفوها .. كأن سكانها أسرة واحدة .. لا ترتفع أصواتهم مهما كان السبب ، ومهما كان الأمر الذي يتناقشون فيه .
كان من عادة علي عبد الرحمن أن يصلي العشاء كل ليلة اثنين في المسجد .. يدعو الله أن يوسع له في الرزق وأن يسهل أموره ثم يعود إلى البيت .. يحزم بضاعته .. يرصها بعناية في عربته التي هي عبارة عن صندوق خشبي له عجلتان خشبيتان يحيط بكل منهما إطار حديدي متين ، ويجرها حمارُ أسود ، أذناه لا تستقران على وضع معين .. كأنه يحاول سماع شئ ما .. يشغله باستمرار ... وما إن ينتهي من إعداد البضاعة حتى يبدأ رحلته الطويلة إلى سوق القرية المجاورة التي تبعد عن قريته بضعة كيلو مترات ، والطريق بين القريتين وعرة كثيرة التعاريج والارتفاع والانخفاض .. على جانبيها أشجار طويلة أشبه ما تكون بالأشباح حين يمر بجانبها الظلام ، فقد كان حفيف أوراق هذه الأشجار أشبه بالهمس المجنون ! يهز أعصابه باستمرار فيندفع في قراءة بعض الآيات ويتمتم ببعض التعاويذ التي حفظها عن جدته - التي كثيرا ما كان ينام على حكاية من حكاياتها الشيقة - كان يقرأ ويتمتم باستمرار كي يدفع عن نفسه هواجس مخيفة تغزوها ، وتغزو قلبه كلما عبر الطريق الوعرة إلى السوق .. آه .. لو كان هناك طريقُ آخر .. إذن لاختلف الأمر ، ولما كان مجبراً على المرور من تلك الطريق المزروعة بالهواجس والمخاوف ... لكن ما باليد حيلة ! رزق العيال يحتاج إلى السعي .. همس لنفسه وهو يستعد للصعود إلى مقدمة العربة ، هز في يده عصاً في نهايتها قطعة من المطاط ، كأنما يصدر أوامره للحمار بالمسير .. شارةُ تعود عليها الحمار منذ زمن ، فما إن يرى بطرف عينه قطعة المطاط تلوح في الهواء حتى يضرب حوافره بالأرض إيذانا ببدء المسيرة الطويلة والمرعبة .
تبدأ المسيرة .. ثلاثتهم .. هو والحمار والبضاعة .. يتحركون تجاه الطريق المؤدية للقرية المجاورة .. يتحركون كقطعة من الليل الذي يتحركون في جوفه .. لا يشق سكونه سوى وقع حوافر الحمار على الأرض وصوت همهمة تصدر من فم على عبد الرحمن كتلك التي تصدر عن القط حين يجلس أمام المدفأة في ليلة بردها قارس .. كان يحس أن البضاعة نفسُ حية ! مثله تماما .. فهي في نظره واحداً من أفراد العائلة يعمل معه في سبيل الحصول على لقمة العيش ، ولذا فإنه حين يقرأ القرآن في سره إنما يطلب الحماية للبضاعة والحمار في الدرجة الأولى ولنفسه بعد ذلك ! إنه بدونهما كشخص بتر ذراعاه ، بدأت العربة تعبر الطريق المنحدر بين القريتين ، وأخذت عجلات العربة تقفز هنا وهناك فوق حجارة الطريق ... زاد القلق في نفسه .. نظر حوله فإذا الأشجار واقفة على جانبي الطريق كأنها تترصد له ، وإذا بفرع أحد الأشجار يميل قليلاً نحو الأرض وكأنه يسترق السمع إلى صوت وقع حوافر حماره وعجلات عربته على حجارة الطريق المتناثرة.. ومع ذلك فقد حاول التغلب على الخوف الذي تسربلت به نفسه، وهز قطعة المطاط ثم هوى بها على ظهر الحمار حاثاً إياه على الإسراع أكثر وأكثر ، وتمني لو أنه يصل إلى سوق القرية في غمضة عين .. فهو لا يشعر بالأمن إلا حين يرى شبح المئذنة .. مئذنة القرية الأخرى من خلال اختلاط الليل بالنهار في الفجر ، أو عندما يسمع صوت المؤذن يشق سكون الليل فيبعث الطمأنينة في نفسه ! عندها يكون قد عبر طريق الرعب ، وأسقط جدار الخوف.. تركهما وراءه إلى الأسبوع القادم.. بعثه من أحلامه عينان تشعان ببريقٍ مخيف من بين الأشجار ، شعر وكأنه سمع صوت زمجرة خفيفة ! قال لنفسه : إذن محمد أبو حسين على حق .. هذا هو الوحش الذي حدثنا عنه !
مال قليلا نحو حماره .. ما عاد يجد في نفسه الجرأة ليهوي على ظهره بقطعة المطاط .. مال عليه هذه المرة ليسأله : هل رأيت؟ انظر ، ما هذا البريق ؟
حاول أن يلفت رأس الحمار نحو العينين المشعتين في الظلام .. بدا علي الحمار أنه فهم فالتفت نحو العينين .. انتقلت عند ذلك الرعشة التي أصابت علي إلى الحمار !! تسمر الحمار في مكانه .. أخذ يحاول التراجع إلى الوراء ، ومؤخرته تقترب من الأرض .. لم يشأ أن يضرب الحمار لكنه حاول أن يشجعه كأنما ليبث الشجاعة في نفسه :
- نحن ثلاثة وهو واحد ! تقدم ولا تخف ! ..
لكن تراجع الحمار استمر ، وبدأت البضاعة تتخلى عن نظامها الذي عهدته ، وبدا لأول وهلة أن رزم البضاعة تحاول القفز من العربة طالبة النجاة .. حدثته نفسه بالهرب .. يترك الحمار فريسة للوحش وينجو بجلده .. ياه .. السلامة غنيمة ! والمال معوض ... لكنه حاول أن يطرد هذه الفكرة من مخيلته .. وماذا أقول للناس حين أعود للقرية : تركت حماري وبضاعتي للوحش ؟ لكنه عاد وتساءل : وماذا في ذلك ؟ ألم يتحدثوا عن الوحش في نفس الوقت الذي عاد فيه كل منهم سالماً ؟! لماذا يقاتل الوحش وحده ؟ كان يجب عليهم مقاتلة الوحش ! وهزه خاطر من أعماقه : لكنك أنت الآن أمام الوحش وعليك أن تتصرف أو تخسر كل شئ .
أفاق علي عبد الرحمن على صوت الوحش الذي أخذ يتقدم نحوه بسرعة مذهلة ، شعر كأن بريق عينيه سهامُ تنطلق في كل اتجاه .. إنها ساعة الامتحان .. أشهد أن لا اله إلا الله ... حاول أن يستسلم .. بحث عن ريقه فلم يجده .. جمدت عيناه في محجريهما .. لم يستطع إكمال الشهادة .. إنه لا يريد أن يموت .. قفز بسرعة من العربة .. أصبح الوحش على بعد أمتار منه .. لا بد أن يتصرف .. التقط حجراً ضخماً .. طوح به في الهواء عدة مرات ليعطي الحجر قوة اندفاع كما كان يفعل بالمقلاع وهو صغير .. قذف الحجر ليستقر في جبهة الوحش .. بين عينيه .. بدأت سهام البريق تتراجع وارتد الوحش إلى الوراء .. أطلق صوتاً مرعباً بينما أمسك بحجر آخر استعدادا للهجمة الجديدة ... لن أموت ... سأعود لزوجتي وأولادي .. خاطب نفسه بثقة ، وسأفخر أمام أهل القرية بأنني خلصتهم من الوحش .. عاد الوحش يهاجمه من جديد بينما أخذ العرق ينز من جميع مسام جلده.. على الرغم من أن الليلة لم تكن شديدة الحرارة ..حاول أن يستعين على الخوف في نفسه ببعض الآيات التي حفظها في كتاب القرية وهو صغير .. حاول استجماع قوته ليقذف بالحجر الثاني مسافة أطول ... بينما أخذت أصوات عجلات تطرق مسامعه .. همس : إذن فقد وصلوا .. كنت آمل أن أسبقهم .. أن أختار أفضل مكانٍ في السوق ، ومع ذلك سيكونون عوناً لي على الوحش إذا عاد .. سنعمل يداً واحدة .. اقتربت العربات منه.. وقف بعضها خلفه وبعضها بجانبه ، قال أحدهم : لم تأخرت يا علي ؟
قال وقد لفه ارتياح شمل كل جزء من جسمه : إنه الوحش ! وقد أصبت منه مقتلًا .. ربما عاد .. آمل أن تساعدوني عليه .. حاولوا الانتظار ، وطال انتظارهم .. بدأت خيوط الفجر تنتزع نفسها من نسيج الظلام لتصنع ثوباً للنهار .. حاول أحدهم التقدم على الطريق الذي سار فيه الوحش وعلي بعد خطوات غير قليلةٍ وجدوه راقداً وسط بركةٍ من الدماء .