امرأة وألف وجه
امرأة وألف وجه
قصص محمد عبد الله الهادي
بقلم
محمود عبد الوهاب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
محمد عبد الله الهادي أديب مصري مقيم في فاقوس بمديرية الشرقية بعيداً عن أضواء العاصمة وتجمعاتها الثقافية ، ومن هناك ظلَّ يواصل الكتابة الأدبية منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي .
وقد كتب القصة القصيرة ، وصدرت له ثلاث مجموعات قصصية ( عيون الدهشة والحيرة 1989 ـ الحكاية وما فيها 1995 ـ حلقة ذكر 2002 ) ، وكتب الرواية وصدرت له ثلاث روايات ( أنشودة الأيام الآتية 1990 ـ الأحلام تتداعى 1997 ـ عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي 2003 ) ، وكتب أيضاً مسرحيات وقصصا للأطفال ومقالات في الأدب والنقد .
وهو دائماً ما يحصد الجوائز عن قصصه ورواياته من نادي القصة بالقاهرة وبالإسكندرية ومن المجلس الأعلى للثقافة وللشباب والرياضة ومن مسابقات تنظمها صحف ومجلات وإذاعات ونوادي أدب .
وقد صدر له هذا العام عن مديرية الثقافة ومحافظة الشرقية مجموعة قصصية بعنوان ( امرأة وألف وجه ) .
أول ما يلفت انتباه القارئ من القراءة الأولى للمجموعة هو أن محمد الهادي كاتب لا يزال مؤمناً بأن القصة القصيرة رسالة من الكاتب للقارئ هدفها إضاءة وعيه وإرهاف حسه والارتقاء بقيمه وفكره . وذلك يعني أن انتماءه الوطني وأصالته حالا دون وقوعه في غواية الألاعيب الشكلانية وافتعالات الحداثة ، والانكفاء علي هموم الذات الفردية أوالدوران حول الاستجابات الحسيَّة للجسد .. ألخ .
هو كاتب ينتمي إلي أرضه وتراثه ومجتمعه وما يكتبه ينتمي إلي أدب الواقعية النقدية .
وهو كاتب يعرف حق المعرفة تفاصيل الحياة في قرى الدلتا .. تفاصيل علاقة الفلاح بأرضه ودواره وماشيته ، بالسوق والمسجد والجبانة وضريح الولي ودراويش المولد وعلاقته بالأفندية المستورين وبكبار كملاك الأراضي الذين يتناوبون فيما بينهم منصب العمدة وعضوية الحزب الوطني ومقعد الدائرة في البرلمان . وقد صاغ فهمهم لكل تلك العلاقات في لغة عربية فصيحة وبليغة ، وبقدرة علي الانتقال بسلاسة بين أزمنة الحكي ، وعلي رسم ملامح الشخصيات باتساق مع سياقهاالمكاني والزماني والاجتماعي .
ولأن المساحة المتاحة لمناقشة قصص المجموعة لن تكفي لذا سوف اكتفي بالتوقف أمام قصتين هما في تقديري من القصص التي اتسمت بالحيوية والإحكام .
في قصة ( أبو الوجوه ) عمدة يسخر الفلاحين للعمل في أرضه دون أجر ، ويحصل علي محاصيلهم بأبخس الأسعار ، تزداد ثروة العمدة وتنمو فدادينه فيمعن في الظلم والبطش بالفلاحين . يغضب الفلاحون ، لكنهم يخفون سخطهم عليه ولا يظهرون له إلاَّ الوجه المنافق الكذَّاب .
الوحيد الذي كان قادراً علي مواجهة العمدة وزجره وتأنيبه كان الشيخ أبوجريدة الدرويش الهائم في موالد أولياء الله الصالحين .
كتان الدرويش يستمد قوته من زهده ، ولذا وقف أمام العمدة في مقهى السوق وصاح في وجهه : كفاك ظلماً .. اتق الله .
أخذت العمدة العزة بثروته وجاهه ، وهاله أن يتطاول عليه ـ أمام جمهور المقهى ـ هذا البائس الفقير ، ولذا فقد هبَّ غاضباً وصفعه علي وجهه .
مرض العمدة وزاره طبيب البندر وطبيب العاصمة ، وفحصه الدجال والعراف ، وتعاطى أدوية الصيدلية ووصفات العطار ، لكنه لم يشف من مرضه . أمر العمدة خفراءه أن يبحثوا عن الدرويش ليعتذر له ويطلب منه السماح .
كان شرط الدرويش كي يرضى ويصفح أن يضرب العمدة وجهه ببلغة قديمة يملكها أفقر فلاح في القرية .
أحضر الخفير البلغة المطلوبة فانهال بها العمدة علي وجهه في هستيريا من البكاء والضحك والصراخ والدماء والدموع .
هذه القصة تلخص بأساليب الفن وجمالياته واقع الظلم الذي يمارسه كبار ملاك الأراضي علي فقراء الفلاحين الذين يحصلون بعافية البدن علي خبز الكفاف ، والذين يرغمون علي السخرة في أراضي الأغنياء ، والذين يرزحون تحت نير الظلم ، دون أن يتمكنوا من مواجهة ظالميهم ومستغليهم في تنظيمات نقابية أو تعاونية أو حزبية .
في قصة ( جولدن فنجرز ) يعود ضابط الشرطة الشاب إلي بلدة طفولته وصباه بعد سنوات من الاغتراب ، يعود ليبحث عن شوارع طالما لعب فيها مع أصحابه ، لكنه يلاحظ أن معالم الشوارع قد تغيرت ، بقالة العربي صارت سوبر ماركت ، وصالون العروبة صار صالون جولدن فنجرز ، ومحلات جديدة ظهرت ، مطاعم تيك آواى ومكاتب لتسفير العمالة ، أما التقاليد والأصول فقد شحبت وتوارت :
في طفولة الضابط الشاب كان مجرد إطالة الشعر أمراً شاذاً لا يليق بصبي ومشروع رجل ، وكانت كرامة الابن الصغير تواجه بالاستنكار والغضب ، وكان الانتقال من مدينة مصرية إلي مدينة مصرية أخرى إجراء يجلب الوحشة ويستدعي الدموع .
هذه قصة بنيت علي المفارقة بين زمان الانتماء لبيت الأسرة وفصل المدرسة وملعب الشارع ودكاكين الحي وهواء المدينة ، وعلاقات الجيرة ووشائج العشرة ، وبين زمان الأفراد المتجاورين المنكفئين علي همومهم الفردية .
يتخلص محمد عبد الله الهادي من كل ما أضافته له سنوات التعليم المدرسي والجامعي ، ومن كل ما اكتسبته شخصيته من انتسابه لذوي الياقات البيضاء ، ومن انتسابه لمجتمع المثقفين الذين يقرأون الكتب ويطلون من عليائهم علي المحيط الجاهل المتخلف ، يتخلص حين يكتب من كل تلك الأقنعة ويتحول إلي فلاَّح بسيط يرى العالم من فطرته السويَّة :
يرى بساطته ومسراته الصغيرة ، ويرى قسوته وخشونته وشظفه وظلمه وانحسار العدل والمساواة عنه منذ زمان الجدود .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس