بدأتها خاطرة .. ودون أن أدري ، وجدتها تحيك نفسها قصة تحكي واقعا أليما ، وها أنا أضعها بين أيديكم .
صدى الموت .....
ينظر بذهول إلى نشرة الأخبار ، يرى الركام الساقط للمباني على من فيها ، جثث أطفال ونساء ورجال ، من بين الأنقاض تنتشل ، أي فزع هذا ، لا يدري ما يفعل ، يشيح بوجهه ليخفي دموعا تتساقط رغما عنه .
أحس أنه بينهم ، بين هذه الأنقاض ولكن ، لا هو ميت ولا هو على قيد الحياة ، سمع أصوات الأنين والصراخ والفزع ، أحس التراب يملأ عينيه ، وفمه وأذنية ، الأحجار تجثم فوق جسده الممدد عجزا ، نظرات الأطفال ، بكاءهم ، صوت الأمهات اللاتي يحاولن النهوض لنجدة أطفالهن فلا يستطعن ، ترى أي لحظات ألم مرت هنا ، وحشرجات الموت صلاة ، أي أب كان هناك يعتصره الركام ويمنعه من النهوض لنجدة طفل أو زوجة ، أب أو أم ، جار أو وصديق ، كيف بات الكل في قيد واحد .
تراءت له كل تلك الصور ، وهو غائب في اللاوعي من هول المشهد ومن هول الصدمة ، سمع أصوات زوجته وأبنائه كأنها تأتي من هناك ، من تحت الأنقاض تستغيث ، التفت إليهم وبقايا من دموع حاول تجفيفها لا زالت عالقة في عينيه وسيل منها خرج من أنفه وهو يحاول ابتلاعها .
لا يدري ما يقول ، استعصت الكمات وعلقت على أحباله الصوتيه ، انتفض كالذبيح يهذي بصراخ هستيري ......... لهول ما تراه عيناه ، يقفز ، يضرب بكلتا كفيه على رأسه يدور حو نفسه لا يدري كيف يذود عن أبنائه هذا الخطر الهاجم كالإعصار يقتلع الأرواح ، يدمر كل ما يمر عليه .
بات يسمع هدير محركات الطائرات المغيرة يقترب فيزيد من هياجنه ، يلملم أبناءه تارة ويبعدهم أخرى حتى باتو في فزع على فزع ، يقترب الصوت ويبتعد ودوي الإنفجارات يهز المكان وكأنه الزلزال تحت قدمية ، يحاول مسك الجدران يثبتها حتى لا تنهار عليهم ، لا يدري ما يفعل ، يعاود النظر إلى التلفاز الذي يبث أخبار الهجوم الكاسح ، جثث أطفال محترقة ، بيوت مهدمة ، نيران تشتعل في كل مكان ، يتابع الأصوات المنبعثة
صوت يأتي صارخا من التلفاز ، لرجل فقد كل سيطرة على نفسه ، يقف وسط الركام يحمل بيده دمية مزقها القصف ، يلوح بها في الهواء المشبع برائحة الموت والغبار والدمار .
يا نساءنا ،، البسوا أثواب الحداد ، اعتبرونا أمواتا ، اهجرونا واتركونا حتى نستعيد الرجولة المفقودة فينا ، ولتتركوا لنا البكاء ، احبسوا الدمع علّه يكون في حبسها الرجاء ، أشعلوا نيران الغضب ، واحقنوا الغل لتفجروه سعيرا ولهب .
يا أطفالنا ،، لسنا لكم قدوة ، هي الحياة لكم فشقوا الدرب ، ولا تنظروا إلى ماضينا ، ما تركنا لكم سوى الذل والتخاذل ، العنصرية والفرقة ، حين تركنا عدونا لتشغلنا خلآفاتنا ، أبحنا دماءنا وحفرنا قبورنا بأيدينا ، وفتحنا بيوت العزاء فينا ، استمرأنا الخمول والكسل ، لسنا ندري على من نلقي اتهاماتنا ، تجول أبصارنا علّنا نجد فينا من ينقذنا من حيرتنا ، أو يقيل عثرتنا ، هو ذا حالنا ، حين تفرقنا ، وحين تثاقلنا ، والدين تركنا ، وتبعنا أهواءنا ، نبتغي المال والسلطان ، نتمسح بأعوان الحكام ، بأصوات جوفاء نهتف للظالم والسجان ، من هزيمة إلى هزيمة ، ومن نكسة إلى نكسه ، ومن مجزرة إلى مجزرة هذا تاريخنا ، حتى ضاعت الأرض منا ، وضاعت كرامتنا .
كلماته تناثرت مع زبد الإختناق من بين شفتيه ، تغير لون وجهه حتى بات قطعة من الليل ، وكان لسقطته دوي .. انفاسه تتلاحق ، صدره يعلو ويهبط ، وأزيز شخيره يشتد ، يحاول فتح عينيه ،، لا يرى سوى الغبار ، اختنقت أنفاسه ، صوت الأنين الساكن في أذنية بدأ يخبو شيئا فشيئا ، وساد الهدوء .