لماذا الآن ؟
أبكيتني أيها العجوز وأنت تتحدث إلى الجمهور عن التضامن .. أحسست بأن جسدى ينتفض وأنا أحاول حجب دمعات تكورت فى عينى ، أصرت كلماتك على اجتذابها .. فخرجت من البيت مسرعاً وفى ركنه البعيد عن الأعين أطلقت لعيني العنان كنت أنهنه .. نعم .. بعض مره حدث لي ذلك ، لكن ليس كهذه المرة ، فى كل مرة أتغلب على عواطفى وأمارس تحكمى ، أما هذه فقد أحسست بقطرات عينى تنزل على صدرى وجسدى ، تتفتح أجزائى .. وأشعر بانتعاشة جسدى .. لا أستطيع التحكم فى شئ .. فقط أشعر بارتياح ..
لماذا الآن ؟
فلكم حدثنى جدى عن الكثير والكثير من صور التضامن .. هو الرافد الأول الذى عرفت منه هذه الفكرة ، كان يعرف ما يحكيه لأنه عايشه .. لم يكن يعرف شيئاً عن المفردات الرنانة .. فقط كان يحكى متأثراً .. أدركت عندما كبرت أن جدى كان يدرك القيمة تمام الإدراك .. لكنه أبداً ما أكترث بالمسميات رحمك الله يا جدى .. وعاودت بكائى ..
ربتت زوجتي على كتفي .. جذبتني من يدي بعدما مسحت بطرف خمارها دموعي .. أبيت الدخول .. اجتذبتها وجلسنا سوياً ..
قلت .. : أنت لا تعرفي جدي مثلي .. فقد تربيت فى حجره ,وشربت منه كل شئ, آه لو رأيته فى ذلك اليوم الذى اشتعل فيه جرن القمح .. كان يركض على عكازه الخيزران ، يحفز هذا ويوبخ ذاك .. أبصرنا جميعاً وسط الميدان ليلتها اجتمعنا حوله رجالاً وأطفالاً .. رغم الحزن الذى خيم على وجوه الجميع ، كان وجهه يلمع بالبشر وينبض بالسعادة .. جميعنا أسموه اليوم الأسود بينما أسماه جدى اليوم الأبيض .. وراح يمارس هوايته المحببة فى صب الشاى .. أصر جدى على أن تكون السهرة فى الجرن وبين الأعواد المحترقة .. ليلتها أطلق كلمته التى لاصقت عقلى .. " لكل شئ ثمن " .. وقد يكون باهظاً ..
نعم ياجدى لقد كان باهظاً وكنت تدرك ذلك جيداً .. أنت وحدك الذى يعرف القيمة .. جميع الجالسين يسيرون على سجيتهم تحفزهم كلماتك يستمدون منها كل ليلة جلاء الصباح ..آه .. لو رأيت جدي هذا عندما عاد من الحج .. كان محملاً بالهدايا .. نعم بسيطة لكن ما من بيت فى قريتنا إلا ويحتفظ بهديته .. قد تكون معلقة فى أحد الأركان لكن الواحد منا لو لم يبصرها يومياً يشعر بأنه يفتقد شيئاً كبيراً ..
الآن فقط .. تستطيعين تحديد الفارق ..
************
كان أخى منذ بضعة أيام يستصرخنى .. لم أجد ما أنقذه به .. أحسست بالعجز يسيطر على كيانى .. ساعتها لم أستطع حتى إخراج دمعة ..
كنت بعد كل تلك السنوات التى قضيتها هناك قد نسيت رائحة المكان ، اختلطت على عقلى الذكريات .. كلمات جدى أصبحت فى سراديب عميقة ..كادت أن تتلاشى .. لولا صرخات أخى ..
كنا سوياً نلعب فى النهر ونسقى شجيراتنا الصغيرة ، نصنع أرضاً ، ونصنع من الطين جراراً يحرثها ، وساقية تسقيها .. ونعود إلى البيت وقد تحولت أثوابنا إلى قطعتين من الطين .. تهرول أمى خلفينا، نرتمى فى حضن جدى الذى يفتح ذراعيه عن آخر هما .. يحتوينا قائلاً : مرحى .. مرحى .. تضحك أمى وتعود إلى حيث كانت ..
أنا هنا .. آكل وأشرب وأستمتع بالحياة .. انتفخت جيوبى وأصيبت بالتخمة من كثرة ما بها .. أتابع الأخبار من مكانى .. تعودت هذه الحياة كثيراً ما راسلنى أخى يحذرنى بأن الأرض ستغتصب .. أهدئ من روعه وأمد يدى فى جيبى أخرج دفترى وأكتب له شيكاً .. كان يصمت ويعاود مراسلته .. حتى شعرت أنه يستنزفنى .. فما عدت أقرأ رسالاته وما عدت أخرج شيكاً من جيبى ..
آه منك أيها الرجل العجوز .. لقد نبشت بكلماتك فى بركان الذاكرة .. والآن فقط عرفت لماذا أنا أبكى الآن ؟
نعم .. الآن فقط ..