على خاطر ربي..."
ت"... على خاطر ربي..على خاطر ربي.."عندما يتعبها اليأس تسكت قليلا لترتاح . و ما إن يقترب منها أحد المارين على ذلك الرصيف و بجانبها طفل صغير أرمد العينين يعبث بجلبابها الأسود الوسخ.. حتى تعود إلى التوسل و الأمل ينشطها من جديد:"على خاطر ربي.." لكن لا أحد يلتفت إلى هذا الصراخ المستعطف, كأنها لا تقول شيئا أو كأن الناس صم. لولا خوفها من السيارات و سرعتها الجنونية لتوسطت الشارع و وقفت صائحة:"على خاطر ربي "و لولا عجزها أوقفت الراجلين ونادت:"على خاطر ربي ..أعطوني صدقة."
قادتني الصدفة ذات مرة و أنا عائد من العمل متعبا عبر الشارع الرئيسي مارا بذلك الرصيف و ما إن رمقتني حتى نظرت إلي تتوسلني:"على خاطر ربي".. كغيري من الناس لم أعر هذا النداء إهتماما, بل حاولت أن لا أسمعها و لا حتى أنظر ناحيتها..رغم وجود بعض الدنانير بحوزتي.. وددت أن أقول لها "جيب ربي" ثم امتنعت.
و انا اسارع الخطى ,استمرت تضرعاتها تلاحقني فأثارت عبارة"على خاطر ربي" إهتمامي فتساءلت بيني بين نفسي: لماذا لا تقول هذه المتسولة "في سبيل الله" بدلا من "على خاطر ربي" قد تكون أمية ؟ .. لكن هذه العبارة يعرفها الأمي كما يعرفها المتعلم .. حى الصغار لقد حفظناها قبل الدخول إلى المدرسة من كثرة ترديدها من طرف المتسولين . خمنت أن صاحبة الجلباب الأسود يئست من هذه العبارة لأنها لم تعد تحرك إحساس الناس من كثرة تكرارها. علمتنا المدرسة لما منا صغارا و الكتب لما صرنا كبارا أن " في سبيل الله " وهبت لها الأرواح و الأولاد و الأموال.. غيرأن هذه المسكينة إستخدمتها سنين كما جربت بعدها عبارة أخرى " على خاطر الوالدين" لكن بدون جدوى ايضا , لهذا اهتدت أخيرا " على خاطر ربي" ظنا منها أنها تنفذ مباشرة إلى القلوب فتثير الشفقة , عكس ذلك المتسول العجوز الذي منذ طفولتي و إلى يومنا هذا ما يزال يكرر نفس الخطاب:" لله يا لمومنين" و في نفس الشارع , الشيئ الوحيد الذي كان يغيره هو طريقة التسول فكان تارة يمد يده و تارة أخرى يضع أمامه أناء حديديا.
بعد هذا الحوار الداخلي تذكرت تلك المرأة صاحبة الجلباب الأسود و الطفل الأرمد العينين , إنتابني شعور بالشفقة .. فكرت في الرجوع إليها لأجود عليها ببعض الدنانير لكن سرعان ما عذلت عن هذه الفكرة و قلت : فرصة أخرى إن شاء الله.
و خطواتي تتسابق بقيت صورة المرأة تلاحقني و تضيف إلى تعبي تعبا آخر و خاصة إمتناعي عن إعطائها صدقة. فعدت إلى محادثة نفسي محاولا التبرير: هذه هي سنة الحياة فيها أغنياء و فقراء .. مترفون و متسولون .. فلماذا أتأسف على وضع موجود رغما عني و عن الذين يعيشونه .. هكذا الحياة.
تعلمنا أن إختلاف الناس في المال و العلم و القدرات يخدم الحياة .. إذ لايعقل كما تعلمنا أيضا أن يكون كل البشر من صنف واحد و طبقة واحدة... رغم هذه القناعات بقي الأسف يرهقني و السؤال لماذا يعذبني.