سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته
تحيـة ضمّختُها بأسمى آيات الامتنان
الكريم الشاعر د. حسّان،
|
هاقدْ ذوى خوفي من الظلْماء |
والفجرُ عادَ لدوحةِ الأضواءِ |
ياشاعراً سكبَ العطورَ بشرفتي |
زرعَ النجومَ بقبّةِ العلياءِ |
دامتْ حروفُكَ للمكارمِ وردةً |
بالعطرِ تقطُرُ، بالنّدى الوضّاءِ |
ممتنّةٌ لرقيقِ ردّكَ يا أخي |
دمتَ الرحيقَ بواحةِ النّعماءِ |
|
|
سعيدةٌ بمروركَ الأول، سعيدةٌ بمروركَ الثاني، سعيدةٌ بهطول حرفكَ بشرفات حرفي الفقير، أشكركَ مرةً أخرى، بلْ مراتٍ، وسيظلّ شكري لكَ قاصراً عن إيفائك حقّك وحقَّ حرفك الكريم.. باركَ ربّي بكَ وأسعدكَ في الدنيا والآخرة .
بالنسبـة لاستفسارك بخصوص البيت :
وقلـوبُ كـلّ الراحليـنَ برُفقَتـي:
هـي موطنـي ومدينتـي وخبائـي
فقد قصدتُ توظيف ضمير الفصل قصداً، فمن المعروف أنّ ضمير الفصل لايفيد الفصل بين ركني الجملة وحسبُ، بلْ يكون قطباً أساساً لتحقيق أغراض أخرى غير الفصل بين ركني الجملة، مثل تأكيد الخبر، وهذا ماأردتُه من توظيفه هاهنا :
وقلوبُ ( كل الراحلين برُفقَتي ) /هي / موطني + مدينتي + خبائي
وكما هو معلوم أيضاً، أنّ الجمل الخبرية ليست لوحة اعتيادية الخطوط والألوان والملامح، بل هي شحنة معنى، قبل أن تكونَ تركيبة لغوية، وهي لوحة تتناغم خطوطُها وألوانُها، ويتضافرُ مبناها مع معناها، ليقدّم للمتلقي طبقاً دسماً متكاملاً من المعنى والمبنى. فكلّ زيادة في المبنى، هي أيضاً زيادةٌ في المعنى، وتوظيفي لضمير الفصل في هذا المثال بالبيت، لم أضعه فقط للمحافظة على وتر الوزن، ولكني عمدتُ إليه عمداً للغرض الذي بيّنت، إضافةً إلى أني بذلك أيضاً أمحو أيّ شكّ لدى المتلقي بتوكيد الخبر، فالجمل الخبرية كما هو معروف هي التي يصحّ لقائلها أن يقال له : إنه صادق أو كاذب، وبتوظيف ضمير الفصل، أكون قد أخرجتُ الخبر من دائرة الشكّ إلى دائرة اليقين، ولو في درجة متوسطة من درجاته .
فقولي : وقلوبُ (كل الراحلين برُفقتي) موطني ومدينتي وخبائي
غير : وقلوبُ (كل الراحلين برُفقتي) هي موطني ومدبنتي وخبائي
خصوصاً وأن ثمة أمرا آخر شدّ من أزر التأكيد، وهو الجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والاستمرارية أيضاً، وبذلك يتضافر العاملان معاً : (ضمير الفصل + دلالة الجملة الاسمية) لجعل المتلقي يسكن معي بيتَ التصديق، في أنّ قلوبَ الراحلين برفقة الوحدة، هيَ بحقٍّ موطنها ومدينتها وخباؤها، وكأنّ الوحدةَ بذلك أقسمتْ أنْ تُلصِقَ / أنْ تُثبتَ ملكيتَها للقلوب العاشقة لها/ الراحلة رفقتَها، وتثبت في الوقت نفسِه، دوامَ ذلك واستمراريتَـه. وهذه أيضاً طريقةٌ من طرقها الخاصة، في إشعال نار الغربة والاغتراب .
أُشيدُ بالمعنى الجميل الذي عبّرتْ عنه "لي" كما بيّنتَ في الاقتراح الكريم ، فهي تعطي للبيت معنى يفيدُ التنقل والانطلاق والترحال المستمرّ، وذاك أيضاً معنى آخر من معاني الوحدة أو نوارس الوحدة . وهذه البدائل الأسلوبية هي التي تفتح للمتلقي وللكاتب في الوقتِ نفسِه، شرفاتِ آفاقٍ مفتوحة على مصراعيها، ليُبحرا معاً في بحار الخيال والإمكانيات المُتاحة، بعد أن ركبا مركبَ النصّ، وسكنا كلّ زاويةٍ من زواياه . ولَعمري، هذه هي إحدى جماليات لغتنا الأمّ، وأجمل دليل على أنّ ذاكرتَها غنيّة، مفتوحة، متدفّقة، بلا حدود، متسعة الآفاق باتساع السماوات والأرض .
أشكر لكَ أيضاً غوصكَ إلى عمق كل حرف وكلمة وجملة ومعنى، ولَعمري هذا دليلٌ على أنك تعيشُ الحرف حتى أقصاه، وتعيش مع النصوص بالروح . فقد أردتُ من خلال توظيفي لكلمة : "خبائي" ماعبّرتَ عنه مشكوراً، إضافةً إلى التدرّج : الموطن / المدينة / الخباء، بكل ماتحمله كل المفردات الثلاثة من دلالات، لتكونَ كل تلك الأمكنة بماتُظِـلّ وتُقِـلّ : مكانَ إقامة الوحدة الثابت والدائم والمستمرّ..
بالنسبة لتساؤلك الثاني بخصوص البيت :
مازلتُ أوقِـدُ غربـةً، بطريقتـي !
أصحـو، فَتُوقَـدُ وحشـةُ الغربـاءِ
هنا المتحدّثة ليست أنا، بل الوحدة التي بدأتْ الحوارَ معي من أول القصيدة، حتى صفعَتْني بخبرها هذا، وهو أنها حينَ تصحو، توقِدُ وحشةَ الغرباء، وبطريقتها الخاصة، أيْ أنها تتفنّن في أساليب التعذيب النفسي، ولاتزور عاشقيها وبيدها الهدايا نفسُها، بل تختار بطريقتها الخاصّة مايناسبُ كلَّ فردٍ (كلَّ راحلٍ برفقتِها)، حسبَ قدرته وطاقةِ احتمالـه، وحسبَ طاقةِ عشقه لها أيضاً ! وكلّما زادَ تعلّقُ عاشقيها بها، وزادوا بها كلفاً وصبابة، زادتْ هي من هداياها وعطاياها لهم (التنكيل النفسي بمختلف صوره ). بذلك تكونُ هي متفرّدة في اختيار الطريقة معنىً، كما كانت متفرّدة في اختيار الطريقة مبنىً، من خلال تحكّمها أيضاً في بناء الجملـة خدمةً لطريقتها تلك : توظيف ضمير الفصل/الجملة الاسمية لإثبات ملكيتها لتلك القلوب الراحلة معها(= إثبات المِلْكية مبنىً ومعنىً)، فتكون متحكّمةً متفرّدةً في القطبيْن معاً . بينما تظلّ الغربة عامةً، لأنها حالة كون الإنسان مغتربا أو مفارقا لشيء ما أو شخص ما، كما عرّفها الفيلسوف ريتشارد شاخت، تتجدّد بتجدّدِ الأحداث والوقائع، وهنا أحبّ أن أذكرَ مقولة أحبّها جدا جدا بقدْرِ ماتؤلمني جدا جدا، أحفظها مذْ فتحتُ عينيّ على نوافذِ الحرف، وهي لأبي حيّان التوحيدي – الذي أحبّه كثيراً- وقدْ تحدث عن حالة الغربة، وعن وجوهها المتجددة حيث قال :
"قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب، وأنا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحقّ نصيب .." حتى ينتهي إلى قولـه : "وأغربُ الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محلّ قربه " .
أمّا بالنسبة لتساؤلك المتعلق بالبيتيْن :
مابالُ وجهكِ غارق فـي حيـرةٍ ؟!
كُفّي! فأنـتِ فجيعتـي وعزائـي !
إنّـي بقمّـةِ هـدْأَتـي، فتكلّـمـي
مابالُ صوتـكِ غائـم كمسائـي !!
فأنت على حقّ، لأن حقَّ المفردتين النصبُ على الحالية. غفلتُ وماكان عليّ أن أغفل، وأعتبر ذلك جرماً عظيماً اقترفتُه ! فلكَ الشكر الوافر والامتنان المورق. سأقوم بتعديل ذلك بعد ردّي بإذن اللـه .
وأخيراً، أطرّز لكَ منديلَ شكرٍ، وأوقّع في دفترِ العرفان بمدادٍ لاينضب .. ولن ينضب ماحييت ..
حفظكَ ربّي وباركَ بكَ وبحرفك
تقبّل خالصَ تقديري وعظيمَ امتناني وإكباري
وألفَ طاقة من الورد والندى